فخر وانبهار.. وخزي وعار..

فخر وانبهار.. وخزي وعار..

 ٢٠٠٢/٣/٨

بقلم د. محمد عباس



هل كان يمكنني أن أفعل شيئا آخر سوى أن أجهش في البكاء على الفور..؟؟ فأترك الصديق الذي نقل إلىّ الخبر مندهشا ومحرجا في الوقت ذاته.. ولأقضى أنا بعد ذلك اليوم كله متحاشيا الناس فقد كان كل ما ألقاه ومن ألقاه ينكأ الجرح في قلبي فتمتلئ بالدموع عيناى..

كان الصديق قد نقل إلىّ ذلك الخبر الذي أذاعته قناة الجزيرة مرة واحدة دون أن تجرؤ على إعادة إذاعته.. فربما لو أذاعته مرة أخرى لقصفها قائد جند الشيطان – مجرم الحرب – بوش بالصواريخ..

***

هل كان يمكنني أن أفعل شيئا آخر بعد ذلك المشهد.... لم أر المشهد بنفسي.. فكثيرا ما أتجنب رؤية المشاهد الأليمة فلم يعد في القلب متسع لمزيد ألم .. لكنني كنت قد استمعت لتوى من ذلك الصديق إلى ما حدث مع الشهيد الفلسطيني..

***

في واقعة  هذا الشهيد يعيد التاريخ نفسه بصورة لا تقل جلالا أبدا.. يعيد واقعة أسماء بنت أبى بكر مع عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما..

هل أسئ الأدب حين أقول أن واقعة الشهيد  و أمه قد تفوق الواقعة الأولى؟! على الأقل كان لديهم من الإيمان ومن السمو الجماعي والاجتماعي العام أيامها ما يشكل وقودا دافعا.. أما نحن فليس لدينا شئ.. ما حدث مع الشهيد   هو أنهم التقطوا له فيلم فيديو وهو يتلو وصيته الأخيرة .. وهذا حدث من قبل كثيرا حتى تعودت القلوب العمياء الصماء الجرداء  القاحلة عليه.. الجديد في المشهد.. ما أذابنى وصهرنى وروعني وأبهرني.. أنه في هذا الشريط .. تظهر إلى جواره: أمه.. نعم.. أمه..

هل يمكن أن يكون هذا المشهد قد تكرر في التاريخ قبل ذلك.. وهل يمكن أن يتكرر..؟؟..

***

كيف..

كيف يا أختاه فعلتيها..

أي نبل .. أي .. سمو .. أي رفعة .. أي فداء .. أي عظمة .. أي تضحية .. بل أي إيمان بأن ما عند الله خير و أبقي..

أي مستوى يمكن للكائن البشرى أن يصل إليه..

***

كيف كنت يا أختاه..؟؟

كيف كنت  وأنت تضمينه إلى صدرك الضمة الأخيرة.. تدركين أنه بعد قليل قد لا يتبقي منه شلو تتعرفين به عليه..

كيف كنت و أنت تقبلين جبينه قبلة تعلمين أنها القبلة الأخيرة..

كيف وجف قلبك.. وكيف اختلجت مشاعرك..

وعندما غادرك و أنت تعلمين أنك لن تلقيه بعد هذه اللحظة في هذه الدنيا أبدا.. كيف كنت..

كيف كنت؟!..

كيف انتظرت دوى الانفجار..؟!..

كيف مرة الساعات بل الدقائق بل الثواني..

أم أنه ليس من حقي أن أسأل هذا السؤال فليس لأمثالنا أن يفهموا مثلك.. وما تمثلينه.. وما يمكن أن يدور في نفس أبية شامخة مثلك.. نحن المدنسون بحكامنا.. المقيدون بعجزنا.. المسربلون بخزينا  والغارقون في بحر من العار..

***

هل كان يمكنني أن أفعل شيئا آخر..

هل كان لي – على سبيل المثال – أن أخفى عنكم يا قراء دموعي تلك؟!..

أن أستخفي منكم خجلا..

بل أولى بكم فأولى.. ثم أولى بكم فأولى أن تخجلوا أنتم لأنكم لا تبكون.. فإذا بكيتم أولى بكم أن تخجلوا لأن الدموع لم تكن دما..

***

هل كان يمكنني أن أفعل شيئا آخر .. أن أحتفظ – على سبيل المثال – بسمت الكاتب الوقور..  الذي يدعى الحكمة فيستخلص العبرة وينطلق ليحلل وينظر وكأنه يملك بين يديه ميزان الصواب والخطأ والحق والباطل..

كاتب وقور؟!..

ما من أحد منا كاتب وما من أحد منا وقور و إنما نقف على أعتابك يا أم البطل الشهيد كي ننبهر وكي نتعلم .. وما أقل من يتعلم..

كاتب وقور..

وهل تبقى منا كتاب؟ وهل تبقى لدينا وقار .. وما من أحد منا إلا وقد أجرى حساباته كي يتعايش مع نظم حكم خائنة وعميلة.. فخان الأكثر ون وهانوا وباعوا ونافسوا الحكام في كل ذلك.. وراح الباقون – مثلى – يجترون العار والعجز في صمت مخزىّ..

أنت يا أم الشهيد لم تستسلمي للصمت ولا أتخزى ولا للعجز ولا للعار..

فعلمينا يا أم الشهيد كيف فعلتيها و إن كنت أشك أننا يمكن أن نتعلم نفس شكى في أن تنبت الأرض الخراب مهما هطل عليها المطر..

نحن الفخورين بسلامة أبناء لا يصيبهم خدش ولا يفقدون حتى قلامة ظفر..

نحن الفخورين بسلامة أبناء نرى أن مقتضيات سلامتهم لا تأتى إلا بمحو هويتهم..

نحن الصامتين حتى على ذلك النداء العاجز الصارخ الذي انطلق من فلسطيننا الحبيبة أمس الأول والمرأة تصرخ مستنجدة بالعالم الداعر أن يرسل طبيبا يخترق حصار الدبابات الإسرائيلية كي ينقذ أمها من الغيبوبة.. أما بالأمس.. فقد كانت المرأة تواصل الاستنجاد بذات العالم الداعر.. لا لكي يرسل طبيبا .. بل " حانوتيا " يدفن الأم.. كانت الأم قد ماتت.. وكان الشرف فينا يموت.. وكانت قنواتنا الفضائية تهزل وتدعر..

فلنهنأ ونحن نخب في عار النجاة الدنيء..

فليهنأ أيضا الكتاب الكذابون والصحف العميلة والحكام الخونة أما ذو الدين والكرامة والنخوة فليجرع غصص الهزيمة والعار..

ولتهنأ أيضا تيك الداعرات اللائى يدعين ريادة حرية المرأة فلا يتنادين إلا بالحفاظ على بظر وغلفة ، ولا يفهمن من الحرية إلا حرية العهر..

فلتهنأ الداعرات اللائى لم يفهمن ولن يفهمن أبد أنه لم يكن لأم شادي أن تضحى هذه التضحية لولا عهرهن وعهر مجتمعاتهن وحكومات تتستر عليهن لأنها مثلهن.. و أن أم شادي  هي الأخرى امرأة كان عليهن لو احتفظن من الشرف بمثقال حبة خردل أن يدافعن عنها..

***

يا أم الشهيد..

أقسم أنك قد آمنت وأوفيت..

أقسم أنك لمعة نور وسنا برق من ذلك الذي انفجر في غزوة الخندق فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم مصارع كسرى وقيصر..

أقسم أن امرأة مثلك لو أقسمت على الله لأبرها..

أقسم أن شعبا تنتمين إليه لا يمكن أن ينهزم..

أقسم أنك في الدنيا من يمسح  عنا أمام التاريخ بعض عارنا..

وأن عملك يوم القيامة كفيل بالشفاعة لجيل..

أقسم أنك أعدت إلينا إيمان الصحابيات الألى..

تماما كما أعاد أسامة بن لادن عصر الصحابة والتابعين..

فخبرينا يا سيدة نساء أهل الأرض الأولى:

كيف نتعلم منك..

لكن..

أنى لنا.. أنى لنا.. أنى لنا..

***

يا سيدة نساء أهل الأرض:

أعطيتنا الفخر والانبهار..

حتى لو كنا غارقين في بحور العجز والعار



***

***

***

حاشية لها ما بعدها


رواد التنوير، الذين لا يختلفون في شئ عن رائدات التحرير، الذين ينتمون معا إلى أمهم الروحية الملكة نازلى التي تنصرت، يقيمون الدنيا ولا يقعدونها عند مصادرة كتاب يجترئ على الذات الإلهية والإيمان، بحجة حرية الفكر المطلقة، وليست إلا حرية الكفر المطلقة، لكنهم في نفس الوقت يحرضون ويباركون مصادرة أي كتاب يدافع عن الإسلام.

الواقعة خطيرة.. ولها ما بعدها..



***




حادثة القطار مرة أخرى






لو أن مخرجا عبقريا مجنونا غارقة أفلامه في دم ضحاياه مثل ألفريد هتشكوك‏..‏ أراد أن يصور أو يخلد في ذاكرة السينما العالمية مشهدا للرعب كله‏..‏ وللانتقام كله‏..‏ وللقسوة كلها‏..‏ يحرق فيه قاتل مأجور منزوع الضمير‏..‏ خرب العقل‏..‏ ممزق الوجدان‏..آدميين الذين لا ذنب لهم ولا جريرة ساقهم قدرهم ليكونوا تحت رحمته المفقودة وضميره الممزق‏..‏ لما وجدوا مشهدا أكثر شرا وأبلغ رعبا من مشهد قطار تشتعل في عرباته السبع النيران التي جلبت من جهنم الحمراء‏..‏ وهو منطلق بأقصي سرعة بعد منتصف الليل يخترق القري والسواد يلف كل شيء‏..‏ الحياة والناس‏..‏ ولا صوت إلا صوت فرقعة النيران وصراخ المحترقين المتألمين المحبوسين في سبع علب سردين تحترق ورائحة الشواء الآدمية تصنع سحابات حزن فوق القطار المذعور‏..‏ وتخنق الأنفاس في صدور النائمين في مخادعهم بالقري والنجوع و‏..‏ ولا مجيب ولا مغيث‏..‏ والقطار سائر هائم وسط السبات والعربات تحترق والناس تحترق والضمائر تحترق والحقائق تحتريا له من مشهد لم يخطر علي بال أكثر المخرجين ابداعا لأفلام الرعب والشر والجريمة والقتل مع سبق الإصرار والترصد‏..هذا المشهد الغارق في الدم واللحم الآدمي المحترق وصرخات وأمهات اللاتي يحتضن أطفالهن وسط الجماهير لتأكل النيران الأمهات والأطفال دون رحمة ودون تمييز‏..‏ وأمهات أخريات ينتظرن قدوم أطفالهن‏..‏ ولكن النيران التي أوقدناها بإهمالنا وغفلتنا‏..‏ أبت إلا أن تقنين في بطن أمه حرقا‏..‏ فلا خرج الجنين إلي الحياة ولا عاشت الأم لتري مولودها ليحترق الاثنان معا داخل قطار أحمق خطاه‏..‏ ينطلق مشتعلا وسط الحقول النائمة والليل الغارق في الظلام والظلمة ..

لقد فجر قطار الصعيد ومن بعده قطار المناشي مكامن الحزن في أعماقنا‏..‏ وأغلقت ألف دار أبوابها علي الحزن وحده في ليلة عيد‏..

***

هل تظنون يا قراء أنني أقسو على رجال  السلطة حين أتهمهم بأن كل واحد منهم: قاتل مأجور منزوع الضمير‏..‏ خرب العقل‏..‏ ممزق الوجدان‏..؟..

هل يخطر ببالكم أنني إذ أفعل ذلك أفعله ككاتب معارض يصطاد الأخطاء للسلطة ويشوه صورتها..

لا..

ليس الأمر كذلك..

و إليكم هذه المفاجأة:

فالفقرة السابقة كلها ليست كلماتى ولا هي كلمات صحيفة الشعب ولا أي صحيفة معارضة أخري..

إنما هي كلمات عزت السعدنى.. وفى صحيفة الأهرام الناطقة باسم الحكومة العدد 2002  الصادر يوم السبت 9 مارس..

فلنواصل مع عزت السعدنى تحقيقه.. ونحن نوافقه فيما فيه من إدانة وكشف كما  نعترض على كلمة نفاق هنا أو تبرئة مسئول هناك  حيث نرى أنهم المسئول الأول ليس عما حدث فقط.. بل عن تهيئة كل السبل التي أدت إلى حدوثه.. عن تدمير الوطن.. نعترض على ذلك ونتفهمه فلولاه ما أمكن نشر التحقيق في صحيفة الأهرام..كما نعترض على ما سميته قبل ذلك ببعض المحاولات الخسيسة لتمييع الموقف .. لكننا لا نتوقع من صحيفة حكومية أكثر من هذا.. لا نتوقع أبدا منها أن يكون كل كلامها صدق.. بل يكفينا أن يكون في التحقيق الطويل كلمات صدق قليلة ووحيدة.. وهو ما لا نظفر به في صحفنا الحكومية إلا في أحيان نادرة.. منها هذا المثال..

فلنواصل مع عزت السعدنى وليس مع محمد عباس.. مع صحيفة الأهرام وليس مع صحيفة الشعب:

***

لقد تأكدت وبصمت بالعشرة وخلفي طابور طويلا من عقلاء القوم فينا ومن الناس الغلابة الشقيانين الذين لا سند لهم ولا ظهر في هذا العصر‏..‏ أن الناس الغلابة فينا هم الذين يتحملون الصدمات وحدهم‏..‏ ويتحملون وزر المواجع‏..‏ وتقع فوق رءوسهم المصائب لأنها تهيم بهم حبا وغراما وهياما‏..‏ ولا تجد الأحزان مكانا آمنا مريحا صريحا تعيش فيه إلا دور الناس الغلابة‏..

الشيء الوحيد الذي أنزل في قلوب المصريين بردا وسلاما‏..‏ هو ما قاله الرئيس‏:‏ إن أرواح المواطنين أغلي علينا من أنفسنا‏..‏ وليس لدينا ما هو أهم من الحفاظ علي سلامومهما كانت التبريرات التي قدمها القلم الحكومي الذي يبرر كل شيء‏..‏ ويفلسف كل شيء‏..‏ ويخفي أكثر مما يظهر‏..‏ ويظهر أقل مما يخفي‏..‏ فإنه في هذا الحادث الذي أصابنا كلنا في مقتل لن يمر بسهولة‏,‏ ولن يعبر حياتنا مثل مسلسل الحوادث التي مرت علينا‏.. عب الرئيس مبارك عن هذه الحقيقة بقوله‏:‏ لن يتم السماح بأي محاولة لإخفاء الحقيقة‏..‏ لأن الخطب جلل‏..‏ والحادث خطير‏..‏ والفاجعة لقد آن الأوان لكي نتخلص من وزر معلق في أعناقنا اسمه‏:‏ مواطن من الدرجة الثالثة.

هذا المواطن المغلوب علي أمره‏..‏ هو الذي يلون أسفلت الطريق بدمائه كل طلعة شمس‏..‏ حتي ان دماء هؤلاء الغلابة أصبحت تزيد علي الدماء التي فقدناها في حروبنا الأربعة ضد عدونا الأكبر إسرائيل ..هذا المواطن المغلوب علي أمره هو الذي مازال في كثير من قري ونجوع الصعيد يشرب ماء ملوثا‏..‏ ويستنشق هواء ملوثا‏..‏ ويأكل طعاما ملوثا..

هذا المواطن المغلوب علي أمره‏..‏ مازلنا نعامله في مناطق كثيرة من مصر علي أنه مواطن من الدرجة الثالثة‏..‏ في الخدمات وفي التعليم وفي العلاج وفي الوظائف وفي الاهتمام وفي التحضر وفي الرق فابنه قد لا يجد مدرسة مناسبة يتعلم فيها‏..وابنه هذا نفسه قد لا يجد عملا مناسبا‏..‏ بعد أن يحصل علي الشهادة‏..‏ وإذا حصل علي عمل بطلوع الروح أو بالواسطة أو بالمحسوبية‏..‏ إذا توسط له عضو محترم في البرلمان‏..‏ أو كبير أو عظيم ذو حصانة أو إمارة‏..‏ فإن دخله لا يكفي لكي يتزوج ويحصل علي شقة ‏..وابنه هذا‏..‏ بل وهو نفسه‏..‏ قد لا يجد علاجا أو حتي سريرا في مستشفي حكومي‏..‏ وإذا دخله سليما يخرج بألف مرض إذا لم يخرج علي نقالة..

وابنه هذا عليه أن يسافر بالمشاوير ما بين قريته أو بلده البعيدة‏..‏ وحتي يبلغ القاهرة العاصمة المسيطرة التي لا ترحم لكي يمضي ورقة أو يحصل علي فرصة للعمل أو للترقية‏..‏ لأن كل شيء في يد القاهرة حتي المدن الأخري ـ فيما عدا الإسكندرية العاصمة الثانية ـ هي في الحقيقة مدن من الدرجة الثانية أو الثالثة‏!..

فما بالك بالقري والنجوع في الريف الجواني أو في الصعيد البعيد عن العين‏..‏ والحاجب علي حد تعبير جدتي يرحمها الله .. يجري كل هذا رغم توجيهات وتحذيرات الرئيس حسني مبارك بالاهتمام بالصعيد المنسي وأهل الريف الجواني‏..‏ والذين لا تقع قراهم ونجوعهم علي خريطة الاهتمام الحكومي

‏................‏‏................

وشبح قطار الشؤم والهم والغم يمضي منطلقا بركابة المحترقين في آتون الاهمال الجسيم الذي يصل الي مرتبة القتل العمد مع سبق الاصرار الحكومي والترصد‏..‏ وسط الحقول الغارقة في السواد والضمائر النائمة‏ طرقت بابي منفعلة جذعة ملتاعة كمن لدغها ثعبان يتيم الأبوين‏..‏ شابة في مقتبل العمر لم تتجاوز الخامسة والعشرين علي الاكثر‏..‏ يلفها من شعر رأسها حتي أخمص قدميها حزن دهر بحاله‏..‏ يعبر عنه السواد الذي ترتيديه ثيابا والقهر الذي استقر في عيون لم تعرف النور  طويلة‏..

جلست امامي متبرمة متألمة‏..‏ قلقه ضجرة قلوقه ملولة لاتستقر علي حال ولايهدأ لها بال‏..‏ نظراتها شرود ولسانها حبيس..  فم جف منه الكلام ..لا أعرف كيف هبط علي خاطر أن هذا الكائن الحائر أمامي لابد أن يكون قد عاش مأساة قطار الشؤم والهم العظيم الذي اسمه قطار الصعيد‏..‏ والذي كانوا يغنون له في الماضي أيام أن كان قطارا بحق وحقيقي‏:‏ ياوابور الساعة‏11‏ يا مجبل علي الصعيد.. لم أسألها‏..‏ احترمت صمتها وآلامها‏..‏ لكنها لم تتأخر عني طويلا‏..‏ أنا اسمي تيسير محمود عطيو‏..‏ ضحية من ضحايا قطار الصعيد الذي حمل الموت والحزن إلي ألف دار ودار في بلدنا‏..‏ لا أدري كيف كتبت لي الحياة وكان من المفروض أن أكون واحدة من الضحايا الذين احترقوا حتي تفحموا في قطار الموت‏..‏ ولكن الله كتب لي النجاح بمعجزة ‏..‏ وان كانت نجاتي أشبه بالموت نفسه والذي أخذ معه وتحت منجله الأحمر القاني كل أفراد أسرتي وتركني وحيدة في الحياة‏..

حاولت أن أخفف من حفرة الألم التي سقطت فيها هذه المخلوقة‏..‏ والتي هزني ما جري لها كما هز من الأعماق منابع الحزن في صدر كل مصري‏..‏ قلت لها مواسيا‏:‏ حمدا لله علي سلامتك يا أخت .. قالت‏:‏ لقد جئت إليك لكي تنتشلني من الغرق‏..‏ لا أعرف إلي أين أذهب‏..‏ ولا أعرف كيف أعيش بعد أن أصبحت وحيدة في بحر بلا  آخر..

تلمست في كلماتها عبارات من تعلمت وتثقفت وقرأت‏..‏ يبدو أنها قد قرأت في عيني سؤال لم أقله أجابت هي بفطنتها وفراسة بنات أهل الصعيد‏:‏ لقد تخرجت في كلية التجارة‏..‏ وتزوجت وأنا في السنة الرابعة وأنجبت طفلين واحد في الثانية من عمره والثاني في الخامسة‏. الحمد لله أنهما لم يكونا معي وأنا مسافرة في قطار الأحزان الذي احترق بركابه في ليلة عيد‏!!سألتها بلهفة‏:‏ هل كنت حقا أحد ركاب هذا القطار؟ قالت‏:‏ نعم‏.. قلت‏:‏ ومازلت حية.. ترزقين؟‏قالت‏:‏ كما تراني‏..‏ وإن كنت أقرب للموتي من الأحياء.. طلبت لها فنجانا من القهوة‏..‏ ولكنها أبت وقالت‏:‏ كيف أشرب القهوة وأنا لم آكل منذ يومين .. تداركت الموقف وطلبت لها كل ما عند عم عبدالصمد من ساندويتشات‏..عندما تبدد إحساس الجوع عندها بدأت تحكي قصتها الحزينة‏..قالت‏:‏ تركت الطفلين عند والدة زوجي حماتي في البلد القريبة من ملاوي‏..‏ وذهبت مع أبي وأمي واخواتي الثلاثة الذين تتراوح أعمارهم مابين الثانية عشرة والثالثة والعشرين‏..‏ أخت واحدة وأخوان‏..‏ والكل في مراحل التعليم المختلفة‏..‏ وقد أتمت أختي دراستها ذهبنا مع الأسرة لكي نبحث عن عمل في القاهرة‏..‏ بعد أن حصلنا علي كروت توصية من عضو في مجلس الشعب عن دائرتنا لأحد الرجال المهمين في مجال الصناعات والتجارة في القاهرة‏..

نسيت أن أقول لك إن أبي هو أحد رجال التعليم علي المعاش‏..‏ وأمي ست بيت اكتفت من التعليم بالمرحلة الابتدائية كعادة أهل الريف علي أيامها‏..‏ وكنا نعيش مستورين وعلي قد حالنا‏..‏ يادوب المعاش وريع من نصف فدان موالح ورثته أمي يكاد يكفينا عيشا وخبزا وتعليما..قضينا ليلتين في القاهرة‏..‏ والتي ليس لنا فيها أقارب وفي أحد الفنادق المتواضعة في حي العتبة‏..‏ تكربسنا كلنا في حجرة واحدة حتي استطعنا أن نقابل صاحب الواسطة ونسلمه الأوراق‏..‏ وصممت أنا علي السفر في القطار المشئوم حتي لا أغيب كثيرا عن ولدي الصغيرين..  حصلنا علي التذاكر بالعافية وبضعف ثمنها من سماسرة التذاكر في محطة مصر‏..‏ وركبنا القطار الذي تحرك بعد الحادية عشرة والنصف من محطة القاهرة في طريقه إلي الصعيد‏..‏ سأحكي لك ماذا حدث لنا في القطار.. لم نجد كرسيا واحدا نجلس عليه من شدة الزحام‏..‏ حتي ترفق شاب صعيدي شهم بالقيام من مقعده الذي حجزه من الورش في الساعة الرابعة بعد الظهر حتي يجد مكانا له‏..‏ وتركه حتي تجلس عليه أمي المجهدة‏..‏ أما نحن فقد وقفنا من حولها وافترش اخوتي الصبيان الأرض بجوار‏..‏ أما أختي فقد جلست علي الأرض أمام ركبتي أمي‏,‏ بينما اتكأ أبي علي ظهر الكرسي‏..‏ كان الجو خانقا ورائحة الكيروسين ودخان السجائر تملأ المكان كله‏..‏ وسرعان ما تبدد ذلك كله بعد أن تحرك القطار وبدأت الرياح الباردة تتسلل من النوافذ المفتوحة ومعظمها ‏..‏ حتي أننا شعرنا بلسعات برد تدخل إلي أجسادنا‏..‏ احتمينا منها بالبلاطي التي كنا نحملها معنا تحسبا لهذه المواقف الصعب..

بعد نحو ساعة أو أكثر‏..‏ استقر كل شيء في مكانه داخل العربات التي تئن جريا ولهثا فوق القضبان والليل يوغل في السواد والعربات التي تهتز بشدة مع لسعات البرد تسرق النوم من عيون الذين حاولوا أن يتغلبوا علي مشاق السفر بالاستغراق في النوم‏الباعة الجائلون يفرضون سطوتهم علي الركاب الذين أصبحوا تحت رحمتهم‏..‏ شجار هنا وشجار هناك‏..‏ حتي أبي نفسه لم يسلم من جبروتهم‏..‏ انما أرغموه علي شراء طقم شاي أسود بلون الحبر من صينية مرصوص عليها أكواب الشاي لم تر الصابون منذ صناع

لا أنوار في العربة إلا مصباح أو اثنين يرتعشان وهما في طريقهما إلي الإطفاء‏..‏ لا أمن ولا أمان ولا عسكري واحد يحرس قطارا مكونا من أربع عشرة مركبة وربما أكثر‏..‏ وحتي لا نظلمه ربما كان منزويا في أحد الأركان وحده مستغرقا في نوم عميق أمام دورات المياه‏..‏ فحدث عنها ولا حرج وتذكر معي حادث دورة المياه التي سقطت بالراكبة المسكينة وأنهت حياتها عندما حاولت أن تستخدمها في أحد القطارات‏..‏ وكانت موضع استجواب في مجلس الشعب قبل شهور‏..‏ وتحدثنا أيامها عن تطوير العربات وانتهي كل شيء بالتصفيق من الأعضاء للمسئول عن القطارات‏!!

بل ان معظم الدورات قد تحولت إلي بوفيهات احتلها البلطجية لعمل الشاي الأسود لركاب ليلهم أكثر سوادا‏..‏ وهمهم هو السواد بعينه‏ والأرفف التي كان من المفترض أن توضع عليها الحقائب والمتعلقات وما يحمله الركاب معهم من هدايا العيد لأطفالهم الذين ينتظرونهم بفارغ الصبر‏..‏ حتي يلبسوا ملابس العيد ويأخذوا العيدية من الأب الغائب شهورا طويلة‏..‏ وربما سنة بحالها‏..‏ وربما أكثر‏..‏ قليل وربما شحيح‏..‏ ولكنه لا يتوافر إلا في القاهرة‏..‏ هذه الأرفف تسلقها من لم يجد له مقعدا واتخذها منامة له ولا يهمه إذا سقط من فوقها فوق الركاب‏..‏ هو لن يكون أبدا أكثر ثقلا من الهموم والأحزان التي يحملونها فوق رءوسهم وفوق أكتافهم حتي أرذل ا

كنا كلنا نشتم رائحة شيء يحترق‏..‏ لا نعرف من أين أتت هذه الرائحة‏..‏ قال أحد الركاب‏:‏ يمكن بيحرقوا قش الرز اللي الوزيرة نادية كان كل همها علشان تبعد السحابة السودة من فوق وقال راكب آخر‏:‏ يمكن العجل بتاع الجطر مكلبش ودي ريحة الفرامل

وقال ثالث ورابع وخامس‏:‏ دي ريحة ماس كهربائي وسلوك مقطعة بتحترق في العربيات التانية جاء الكمساري ويحمل بطارية صغيرة ينظر بها إلي التذاكر وأخبرناه برائحة الشياط ولكنه لم يهتم وقال لنا‏:‏ يمكن سيجارة مولعة ولا واحد بيعمل شاي..

نامت أمي في مقعدها ونامت أختي التي تجلس أمامها بعد أن وضعت رأسها علي ركبتها‏..‏ ووجد أبي له ركنا يسند فيه ظهره‏وجلس شقيقاي يتحدثان ويتثاءبان في ركنهما البعيد‏..‏ وجاءت صديقة لي كانت معي في الكلية تبحث عن شقيقها الأكبر وطلبت مني أن نذهب معا لكي نبحث عنه في العربات الأمامية‏..‏ واستأذنت من أمي التي قالت لي في خوف‏:‏ يابنتي أنا خايفة لحسن يحصل حاجة ولا محتاجة واليل والبلطجية في القطر مبيرحموش‏..‏ خدي بالك من نفسك‏..‏ ثم ضمتني فجأة إلي صدرها كأنها تودعني‏..‏ ولم أعرف لماذا فعلت ذلك حتي وقعت الواقعة ..ينهمرجدول صغير من دمع فوق خديها‏..‏ ران بعده صمت ملأ المكان كله‏..

‏..................‏..................تيسير الفتاة الصعيدية الصلبة الصامدة الصابرة التي كانت أحد ركاب قطار الموت‏..‏ مازالت تتحدث:  ذهبت مع صديقتي نزاحم الناس ويزاحموننا ونحن ننتقل من عربة إلي عربة‏..‏ ونحن لا نكاد نبصر في عتمة العربات وهي تنادي علي شقيقها وما من مجيب‏..‏ حتي وصلنا إلي بداية عربات الدرجة الثانية..

كانت الساعة تقترب من الثانية بعد منتصف الليل‏..‏ عندما سمعنا صراخا هائلا قادما من العربات الخلفية‏..‏ والناس يتدافعون كأنهم يحاولون النجاة بأنفسهم وهم يصيحون‏:‏ حريقة‏..‏ حريقة يا ولاد‏..‏ القطر بيولع‏..‏ حاولت أن أعود إلي العربة التي كان أبي وأمي واخوتي يجلسون فيها‏..‏ ولكن تدافع الناس حملني كأنني قشة فوق أمواج بحر هائج لا حيلة لي وقذفني مع صديقتي تقي إلي العربة الأخري‏..‏ ضاعت حقيبتي وتمزق ثوبي‏..‏ وفقدت ساعة يدي‏..‏ والفردة اليمين من قرطي‏..‏ و الرأس وضاع تحت الأقدام‏..

ووجدت ما بقي مني ملقاة علي الأرض في ركن من أركان عربة الدرجة الثانية‏..‏ والناس تصرخ من حولي وكثيرون ألقوا بأنفسهم من النوافذ بعد أن كسروا زجاجها‏..‏ ورائحة الحريق والشواء الآدمي تخنق أنفاسنا‏..‏ ولم أدر بشيء ورحت في غيبوبة طويلة لا أعرف كم مضي من الي وأنا في عالم آخر نصف حية ونصف ميتة‏..عندما أفقت وجدت نفسي ممددة علي أرض عربة لا أعرف أحدا من ركابها‏..‏ وقالت لي سيدة تتشح بالسواد في عمر أمي‏:‏ يا ابنتي لقد كتب لك عمر جديد..

وقفت علي قدمي من هول الصدمة‏..‏ ولكنني سقطت من جديد وأنا أصيح‏:‏ أنا فين؟‏..‏ أمي‏..‏ أبي‏..‏ اخواتي سألتني الأم الصعيدية الحانية‏:‏ هما مش معاكي في العربية دي ؟.. قلت لها بصوت أشبه بالصراخ‏:‏ لا‏..‏لا‏..‏لا‏..‏ دول في العربية إللى ورا .. قالت لي بصوت مختنق العبارات‏:‏ ربما يلطف بيهم يابنتي‏ وقال أحد الركاب كأنه يعلن قيام الحرب العالمية الثالثة‏:‏ كل ركاب العربيات اللي ورا أصبحوا فحمة‏..

حاولت أن أجري ناحية العربات التي كانت أمي وأبي واخواتي يركبونها‏..‏ ولكن قواي خذلتني‏..‏ وسقطت مغشيا علي مرة أخرتيسير مازالت تتحدث‏:

عندما أفقت وجدت نفسي كأنني في قطار آخر‏..‏ القطار ينطلق مسرعا في طريقه إلي قلب الصعيد‏..‏ حزن يخيم علي كل الوجوه‏..‏ والناس تضرب كفا فوق كف وهي تردد عبارات‏:‏ الإهمال‏..‏ التقصير‏..‏ الأمن‏..‏ الركاب اتحرقوا ياولداه‏..‏ القطر كله ولع ومفيش لحريق‏!!أخفيت وجهي بين يدي ورحت أبكي بحرقة والسيدة الحنون تربت فوق كتفي وتحتضنني‏..‏ وأنا أردد بهذيان‏:‏ هو أنا سيبتهم ليه‏..‏ حد يسيب أمه وأبوه واخواته يتحرقوا من غير ما ينقذهم‏..‏ سمعت صوت بكاء حولي‏..‏ لا أعرف هل يبكون من أجلي أم يبكون علي أقارب لهم ولنيران المشتعلة؟‏!..

بعد دقائق كأنها الدهر‏..‏ اكتملت أبعاد المأساة في رأسي وفي وجداني‏..‏ وبعد أن أخبروني أن سبع عربات قد احترقت بالكامل بمن فيها‏..‏ واحدة من هذه العربات كانت أسرتي تركبها‏..‏ لا أعرف من نجا منهم ومن قالوا لي‏:‏ لقد كتب لك عمر جديد عندما فصل السائق العربات المحترقة عن باقي القطار‏..‏ ثم ترك العربات المحترقة لمصيرها المحتوم‏..‏ وأنقذ بعمله البطولي هذا باقي ركاب القطار من الموت حرقا‏..‏ واستمر في خط سيره المعتاد في طريقه إلي قلب الصعيد‏..‏ نزلتوأنا مثل المجنونة‏..‏ كان كل همي أن أعود أدراجي إلي حيث توقفت العربات المحترقة لأبحث عن أهلي الذين فقدتهم في جنح الليل‏..‏ لا أعرف ماذا ركبت ولكن كثيرين ساعدوني وساعدوا غيري من ركاب القطار الذين يبحثون عن ذويهم المفقودين والمحترقين بقطار الإهمال والتقصلجسيم والقتل العمد لناس لا ذنب لهم ولا جريرة‏..

وصلنا بعد الفجر إلي حيث يقف القطار المشئوم والذي مازال يحترق ببقايا الآدميين الذين حشروا داخله كأنهم أذنبوا في حياتهم فأدخلهم الله جهنم الحمراء التي اسمها قطار الصعيد‏..منعني رجال الإنقاذ والإطفاء والشرطة من أن اقترب من العربات المحترقة التي كان مشهدها مهولا‏..‏ كأننا في يوم الحشر ورائحة الشواء الآدمي تملأ صدورنا وتهز مشاعرنا وتدمع عيوننا

تصور نفسك أمام مشهد يشيب له الولدان‏..‏ نيران مازالت تشتعل هنا وهناك‏..‏ فيما بقي من قطار يلفه السواد والحزن والموت وأغلي ما عندك في الدنيا داخله يحترقون أو احترقوا وماتوا وتفحموا أو قفزوا منه وهو يجري بأقصي سرعة وسط الحقول المعتمة في عتمة الليل الأسود..

أشار علينا من أشار بأن ننتهز الفرصة ونذهب لنقطع الطريق الذي جاء منه القطار لعلنا نجد أحدا من أقاربنا ربما قفز من القطار وهو يحترق‏..‏ وركبت مع من هم في مثل حالي‏..‏ ورحنا نتتبع فلنكات السكة الحديد ذهابا وعودة نتفقد الجثث المحترقة أو الممزقة فوق شريط الحديد أو التي عثر عليها الأهالي أو التي حملها رجال الإسعاف‏..‏ ولكنني لم أعثر علي أي من لحمي ودمي الذين تركتهم قبل ساعات في قطار الهموم المصري

‏....................‏................

كانت تيسير تنتحب‏..‏ تركتها تفرغ كل حزنها في الدموع‏ خرجت من الحجرة استنشق بعضا من الهواء النقي الذي لا يحمل رائحة الموت‏..‏ عدت بعد دقائق لأجد الصمت والهدوء‏..‏ ولكن بلا سكينة ليرتسم علي قسمات وجه هذه الفتاة الصامدة الصابرة التي كانت من بين ركاب قطار الشؤم والهم والمواجع.. سألتها‏:‏ وبعدين ياتيسيرقالت‏:‏ دوخت السبع دوخات وطفت بالمستشفيات بداية من العياط وأم المصريين ومشرحة زينهم‏..‏ بل وصعدت إلي القطار نفسه لأبحث بين ما تبقي من جثث أو حتي متعلقات أو حقائب أو حتي قطعة من ملابس أتعلق بها‏..‏ إلا أنني لم أعثر حتي هذه اللحظة علي أي أثر لأبي وأمي و إخوتي الثلاث‏..

لقد جمعوا ما تفحم من جثث وقالوا لنا ابحثوا عن ذويكم بينهم‏..‏ ياسيدي كل الجثث بعد الموت تتشابه‏..‏ فما بالك بالتي احترقت وتفحمت وأصبحت بلا شكل وبلا ملامح؟‏!..‏ وها أنا ذا بالقاهرة العظيمة المسيطرة المتحكمة التي تبدو أحيانا بلا قلب‏..‏ تائهة غريبة و أهل لا أعرف أين ذهب أبي وأين ذهبت أمي وأين ذهب اخوتي الثلاثة؟‏!هل أجد عندك الجواب؟..

وكيف أذهب إلي بلدتي وإلي أم زوجي وماذا أقول لها بعد أن فقدت كل أسرتي‏..‏ لقد اتصلت بأم زوجي وطلبت منها أن تسأل الجيران أو تذهب إلي بيتنا في البلدة لتسأل عن أبي وأمي ربما يكونوا قد نجوا من الحادث أو حتى أحد منهم‏..‏ ولم أخبرها بالطبع أنهم ربما يكونوا ضمايا الحادث‏..‏ ولكنها قالت إن الدار مغلقة ولا أحد في الدار..

اكتشفت أنها لم تذكر زوجها لا بالخير ولا بالشر خلال رحلة مأساتها‏..‏ سألتها‏:‏ وأين زوجك في كل ماحدث‏..‏ في كل ما يجرى.. قالت بنفس نبرة الحزن‏:‏ زوجي‏..‏ لقد رحل عن عالمنا قبل عامين حتي أنه لم يشاهد ابنه الصغير‏..‏ لقد ذهب في حادث سيارة فوق أسفلت طريق مابين المنيا وملوى

تأكدت لفوري أن المصائب لا تأتي فرادي‏..‏ انها مثل عربات قطار الصعيد‏..‏ تشد بعضها بعضماذا أفعل للأخت تيسير النموذج الحي لقطار أحزان أهل الصعيد‏..‏ وماذا نفعل لها كلنا..

وماذا نفعل لإهمالنا وتقصيرنا وهواننا‏..‏ وما نصنعه نحن للناس الذين اعتبرناهم مواطنين من الدرجة الثالثة.. لقد أرسلت جيشا من الصحفيين من رجال قسم الحوادث وقسم التحقيقات الصحفية تحت قيادة الزميلين أحمد موسي وعبدالعظيم الباسل‏..‏ لكي يحاولوا معها العثور علي ما تبقي من أسرتها‏..‏ إذا كان لهم بقايا‏..‏ أو حتي رماد متفحم في ثلاجة مشرحة كئيبة الج

..‏............‏..............

أعرف أنه ليس هذا وقت المواعظ‏..‏ وأعرف أنه ليس هذا وقت فتح محابس نهر الدموع‏..‏ وأعرف أن هذا ليس وقت البكاء علي اللبن المسكوب ولكن الذي أعرفه ويعرفه من خلفي طابور طويل من عقلاء القوم فينا‏:

‏(1)‏ أن كارثة قطار الصعيد هي بشهادة الخبراء أنفسهم إهمال يصل إلي مرتبة القتل العمد مع سبق الاصرار والترصد‏..

‏(2)‏ لم يعد مقبولا أبدا أن نستمر في حشر عربات قطار الفقراء البسطاء بالناس كالقطعان‏..‏ أو كعلب السردين‏..‏ ثم نحرقهم إهمالا وتقصيرا وعجزا وكثم بعد ذلك نفتح ميكروفونات التبرير الحكومي لكل خطأ فادح يمر بنا‏..‏ ونظل نشحن الرأي العام بأننا لسنا طرفا في هذه المصيبة وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان‏ وأن الأداء الحكومي علي خير ما يرام‏..‏ ونحاول أن نلصق الاتهام بالناس الغلابة‏..‏ كما أعلن المسئولون الكبار عقب الحادث مباشرة‏..‏ دون انتظار لتقرير الخبراء وسماع رأي اللجان الفنية باتهام إخواننا الفقراء البسطاء الذين يؤجرون عافيتهم في القاهرة لقاء جنيهات قليلة يعودون بها إلي الأهل والأحباب بمصاريف العيش أو بملابس العيد‏..‏ بأنهم السبب في حريق القطار الذي التهم سبع عربات كاملة بمن فيها‏,‏ لأنهم يشعلون مواقد الغاز والكيروسين‏..‏ وكأنهم بهذا الاتهام قد أحرقوا أنفسهم بأنفسهم..

‏(3)‏ لأن الوزراء والكبراء وعلية القوم لا يركبون مطية الفقراء المتهالكة التي أكل عليها الدهر وشرب‏..‏ بل ان المسئولين في السكة الحديد نفسها أقصد الكبار منهم لم يركبوا ولو مرة واحدة‏..‏ ولم يجربوا مشقة رحلة واحدة ـ ولو حتى ما بين محطتين صغيرتين داخل قطارها العتيق‏.فمن أين لهم اذن أن يعرفوا أن هذه القطارات ليس بها أي وسائل للأمان ولا حتى طفاية حريق واحدة ولا حتى كرسي مريح أو شباك يمنع برد الشتاء وحر صيف أو حتى كوب شاي من بوفيه نظيف وبسعر معقول لا يتحكم فيه البلطجية والباعة الجائلين‏..‏ ولا يحميهم من بطشهم عسكري..‏ ولا حتى شيخ خفر يهش علي قطيع البلطجية بعصاته‏ وعندما تقع الكارثة يظهر المنافستوا وهو السجل الذي يكتبون فيه مواصفات القطار المسافر وهل هو صالح للعمل وكامل الأوصاف أم هو مجرد سد خانة والسلام؟‏!

‏(4)‏ بدلا من الاحتفالات الأسطورية بمرور أكثر من مائة وخمسين عاما علي إنشاء السكة الحديد المصرية باعتبارها ثاني أقدم سكة حديد في العالم بعد انجلترا‏..‏ كان لابد من التأكد من الحالة المذرية التي وصلت إليها قطارات الناس الغلابة والتأكد من أنها تصلح للاستعمال الآدمي وليس لحشر الركاب مثل البضائع والقطعان المذعورة‏!.

‏(5)‏ لقد كان قرار الرئيس حسني مبارك باستبعاد وزير النقل بوصفه المسئول الأول عن مرفق السكة الحديد هو قرار حكيم للغاية نزل بردا وسلاما علي قلوب كل المصريين‏..‏ إلي جانب تعهد الرئيس للشعب بكشف كل الحقائق ومحاسبة كل المسئولين المقصرين ولكننا في الحقيقة ـ وكما قال الزميل الكبير صلاح الدين حافظ ـ تبقي المسئولية الحقيقية مسئولية الحكومة مجتمعة ومن ثم تبقي المحاسبة ضرورية ليس فقط لوزير أو لأحد مرءوسيه‏,‏ ولكننا ننتظر شجاعة اعتراف الحكومة بمسئوليتها عن هذه الكارثة وسابقاتها كما ننتظر شجاعة لبرلمان لمحاسبة الحكومة بجدية ودقة لمرة واحدة في تاريخ دوراته العديدة حتي تسجل في حسناته القليلة‏..

ولكن‏..‏ المشكلة أن الحكومة ستخرج من الأزمة كالشعرة من العجين‏,‏ فتهرب من المسئولية علي طريقة الإسراع فور وقوع كارثة حريق القطار‏,‏ باتهام ركابه الفقراء بأنهم السبب لحملهم مواقد الغاز معهم في سفرهم‏,‏ وبالتالي تتهرب من مسئولية الرقابة والصيانة في وسائل النقل المختلفة‏..‏ والمشكلة الأكبر أن البرلمان‏,‏ سيمنح ثقته للحكومة علي عجل‏,‏ وبالتالي يعفيها من المسئولية ويتخلي عن المحاسبة ـ وهو الرقيب علي الحكومة صاحب حق محاسبتها ـ بحجة أن الكارثة التي وقعت ـ مثلها مثل غيرها ـ قضاء وقدر‏,‏ ويدعو لقراءة الفاتحة علي أرواح الشهداء وإلهاء الناس بصرف التعويضات الضئيلة‏!أما الإنسان الذي فقد ويفقد كل يوم إنسانيته من هول المعاناة‏,‏ فلن يثق بالحكومة المتهربة من المسئولية‏,‏ ولن يحترم البرلمان المرعوب من محاسبة الحكومة‏,‏ المتهرب من ممارسة حقه الأصيل‏,‏ الذي انتخبه الناس  ثم يطلبون من هذا الإنسان أن يصبر ويتحمل ويحب الحكومة ويثق بالبرلمان‏,‏ ويسبح بحمدهما صباح مساء..

‏(6)‏ لقد فرد النسيان والاهمال والتسيب طوله وعرضه في بر الصعيد كله‏..‏ الذي نسيناه سنوات طويلة بحكومات متعاقبة من أيام الخديو إسماعيل حتي يومنا هذا‏..‏ حتي اتسع نطاق البطالة وقلة الرزق وشظف العيش وأصبحت محافظات كثيرة في خط الصعيد تعيش تحت خط الفقر‏منها محافظة المنيا‏..‏ ونزح أهل الصعيد إلي الشمال في محاولة لبيع عافيتهم واستئجار قوتهم لمن يدفع أكثر‏,‏ وهم بكل أسف الذين يكونون أكثر من‏95%‏ من ضحايا قطار الصعيد الذي احترق في ليلة..  هل سألنا أنفسنا لماذا يهرب المستثمرون ورجال الأعمال من استثمار أموالهم وإقامة مشروعاتهم في صعيد مصر؟



هل سألنا رجال الأعمال أنفسهم بعد أن دللناهم وذللنا لهم الصعاب وفرشنا لهم الأرض ورودا ووعودا‏..‏ لماذا هربوا من الصعيد وتركوا شبابه يعيشون تحت هجير شمس البطالة ان الاهمال والتسيب والتقصير الذي كان السبب الأول في كارثة الصعيد هو مجرد مثال أو نموذج للخدمات التي تقدم لأهل الصعيد كلهم‏..‏ ثم بعد ذلك نسأل أنفسنا‏:‏ لماذا هم حانقون علينا؟‏..‏ ولماذا هم متوترون ومتطرفون؟..

‏(7)‏ أخشي ما أخشاه أن نظل نهلل ونعد ونسرف في الوعود ونملأ صفحات الصحف وشاشات التليفزيونات  وميكروفونات الإذاعة وعودا وورودا‏..‏ ثم بعد ذلك كعادتنا نهمد ونسكت وينقطع منا خيط الكلام وتعود ريما إلي عادتها القديمة في انتظار كارثة جديدة نصحو بها وننتبه لنكرر الشريط ونعيده من أوله ولا نتعظ ولا نتعلم أبدا‏!!والمطلوب هنا إعداد خريطة جديدة للتنمية في الصعيد وفي البلدان البعيدة وفي المحافظات المنسية‏..‏ إذا لم يكن لدينا خطة وإذا لم يكن لدينا خريطة تعمر بر مصر كله وليس العاصمة الأولي والعاصمة الثانية وحدهما..

‏(8)‏ آن الأوان لكي نفكر في إيجاد حل لنزيف الدم الذي ينساب صباح مساء فوق أسفلت الطريق حتي أصبحنا من أولي بلاد العالم لحوادث الطرق‏..‏ وهي البديل الوحيد للسفر بالقطارات التي أصبحت تحترق اهمالا وتسيبا وربما تعمدا واصراوكأننا لم نشبع حزنا ووجعا علي حوادث الطرق لتظهر لنا كارثة جديدة في صورة حوادث السكة الحديد وسيلة الناس الغلابة والمواطنين من الدرجة الثالثة للسفر إلي مقار عملهم والعودة إلي أهلهم بالفرحة والهدايا ولقمة العيش‏..‏ وليس بالموت ونصب سرادقات الأحزان

‏(9)‏ لماذا لم نحاسب المقصر ونثيب الذين  يعملون .. لماذا لا نحترم آدمية الإنسان وهل وصل ثمن الإنسان المصري إلي هذا الدرج الأسفل من الانحدار؟..

يموت العشرات منهم كل صباح علي أسفلت الطريق ولا أحد يتحرك‏..‏ ونفقد المئات في حوادث كثيرة للسكك الحديدية بسبب الاهمال والتسيب‏..‏ ولا أحد يتحرك .. ويموت الناس اهمالا في المستشفيات ولا أحد يتحرك‏.

وتسقط البيوت فوق رءوس سكانها وتلقي ثلاث عرائس مصرعهن في ليلة زفافهن مع أحد وعشرين فتاة وامرأة كما حدث في دمياط لنصحو من سباتنا ونبدأ في مراجعة كشوف المباني الآيلة للسقوط؟

وهكذا نظل نصرخ من الاهمال والتقصير واللامبالاة أياما ثم تعود مياه النهر لسابق سكونها وهدوئها في انتظار سقوط حجر لكارثة لنصحو من جديد‏..

‏(10)‏ علينا أن نراجع أنفسنا‏..‏ ونعترف ولو لمرة واحدة بأن مصر هي القاهرة وأن القاهرة هي كل مصر‏..‏ وان ماعدا ذلك يأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة أو الرابعة.. لابد أن تعيش القاهرة الأم آلام وأحزان أبنائها من القري البعيدة والعزب والنجوع في الريف الجواني‏..‏ وأن يحس المسئولين كل في موقعه بأن الإنسان المصري الذي يعيش في آخر قرية علي الحدود هو الإنسان نفسه الذي يعيش في قلب القاهرة وعلي الكورنيش وبجوار التليفزيون الذي يقدم له الأفلام والأحلام والمسلسلات والأغاني والأماني ومن سيربح المليون‏!!

‏..................‏..................

من يقف إلي جوار تيسير؟

من يأخذ بيد أهل الصعيد؟

من يحميهم من إهمال يصل إلي حد القتل عمدا؟..

من يساعد الرئيس حسني مبارك في إحساسه بآلام الناس باعتبار أن أرواح الناس هي أغلي علينا من أنفسنا؟..

متي نستيقظ ومتي نعتبر؟‏ ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

أيهم أولى بالاتباع: علماء السلاطبن فقهاء الخليج أم هؤلاء.

بعد مائة عام