عادل حسين قتلته الفئة الباغية
عادل حسين
قتلته الفئة الباغية
بقلم د. محمد عباس
٢٠٠٢/٣/٢٢
دافئة، بل حارة ومتدفقة ومستمرة وطازجة وحميمة كانت المشاعر في الاحتفال بفكر عادل حسين، ولا أقول بذكراه، والذي عقد في نقابة الصحافيين يوم الثلاثاء الماضي..
دافئة وحارة ومتدفقة ومستمرة.. كدم الشهيد.. الذي لا يكف عن النزيف أبدا حتى يأتي الله بجرحه النازف يوم القيامة.. سعيدا به وفخورا..
***
في طريقى إلى الاحتفال راحت أحداث الماضي – ولا أقول ذكرياته فهى ما زالت حادثة وحية- تقتحم مساحات الوعي وتستولى عليه..
ورأيتنى – وقد حل الماضي مكان الحاضر فكأنما أعيش الحدث من جديد – ألتقى بعادل حسين في منزله في ليلة من ليالى شهر رمضان من عام 1990.
كان اللقاء الأول.. وكان قد دعانى.. وقال : تكلم حتى أراك..
كنت قبلها بزمان طويل قد حصنت نفسي من الانبهار بأى بشر.. وربما كانت هذه النعمة من الله ترياقا ضد سموم الشرق والغرب.. بل كثيرا ما كانت تحول الرموز المقدسة عند البعض إلى مثار سخريتي.. كالكتاب الأحمر على سبيل المثال.. والذي كان الشيوعيون في مطلع الستينيات يقدسونه بدلا من القرآن.. وكماركس الذي جعلوا منه صنما ولينين الذي منحوه تبجيل الوصى على أفكار الصنم .. كذلك كان الحال أيضا مع وهم ديموقراطية الغرب وحضارته.. و .. و .. و .. الخ..
وكنت قبل اللقاء قد بنيت داخل نفسى قلاعا كى تحمينى من الانبهار بعادل حسين..
رحت أتحدث في البداية..
كانت تجربته الفكرية بالغة الثراء والعمق.. وكنت قد رأيت فكره من ثنايا مقالاته وكتبه.. ما كنت أريد أن أراه الآن – 1990 - أبعد من ذلك.. كنت قد قرأت الكلمات و أريد أن أقرأ أيضا ما وراء الكلمات.. كنت أريد أن أري قلبه وروحه!!.. أن أصل إلى الجمرة المتأججة في أعماق روحه.. وكنت أدرك مدى صعوبة الوصول إلى هذا خاصة مع شخصية هائلة كعادل حسين.
كنت أدرك أن هذه الجمرة كالكنز الخفىّ.. و أنه علىّ أن أصل إلى مفتاحه كى أتمكن من الولوج إليه.. وأننى سأكون مبتئسا جدا إذا لم يسمح لى عادل حسين بتعدى الجلد والنفاذ إلى الروح..
وكنت أدرك أن عادل حسين نموذج فريد فقد امتزج فيه الفكر النظرى العميق كأعمق ما يكون العمق بالتجربة العملية التي طالما حطمت الفكر النظري لمفكرين وعباقرة .. لكنها مع عادل حسين قدمت نموذجا باهرا لنجاحهما معا.. فالفكر النظرى والتجربة الحياتية كجوادين يجران عربة لو تعثر أحدهما لأنهى الرحلة وحكم حتى على الجواد الذي لم يتعثر بالفشل.. وكنت أدرك أن رحلة عادل حسين قد استمرت. وكنت أريد أن أستكنه منه سر ذلك..
كنت أعلم أنه مع مفكر في حجمه فإن الكلمات تنحت لها معانى أخرى.. ليست ضد المعنى العادى بالطبع لكنها المعنى الشامل.. تماما كما تقول على سبيل المثال عبارة : " طبقات الأرض" فإن كل الناس سيفهمونها.. لكن عالم الجيولوجيا سيفهمها بطريقة أخري لا تتعارض مع الفهم العام لكنها لا يمكن أن تقارن به.. و أنني لكي أفهم عادل حسين الفهم الجدير به يجب أن أجعله يتكلم.. ولكي أجعله يتكلم لابد أن أقنعه أنني أفهم مفاتيح لغته..
نعم.. كنت أريد أن أرى ما وراء الفكر.. وكيف حدثت تلك التحولات الصاخبة الدامية.. من الشيوعية إلى القومية إلى الإسلام.. كنت دائما أراه و إن لم أكن معه.. كنت أراه كفكر حتى قبل أن أعرفه كمفكر .. وأننى أدرك أن تلك التحولات الفكرية الهائلة التي خاضها لابد أنها كانت بالغة الألم.. ذلك أن الانسلاخ من فكر إلى فكر آخر مؤلم كالانسلاخ من الجلد.. الناس العاديون لا ينسلخون من أفكارهم العادية أبدا.. فترى الواحد منهم – مدللا على حكمته – يتباهى بأنه : منذ ثلاثين عاما قال كذا وكذا.. وهو يعنى أنه كان يعرف الحقيقة طيلة هذا الوقت حتى أتى الآخرون ليدركوها بعد كل هذا الزمن.. وهذا في حقيقة الأمر لا يعنى إلا أن هذا المتباهى متخلف قد تجمد و لم يتطور أبدا ولا اتسعت معارفه ولا تعمق إدراكه لذلك فهو لا ينسلخ من فكره أبدا .. تماما كما لا تنسلخ مومياء محنطة من جلدها.. فليس ثمة جلد آخر يمكن لها أن تكونه.
قلت لعادل حسين أنني أدرك أن مثل هذه التحولات الفكرية لا يمارسها إلا نبي أو غبى أو دعىّ أو عبقري: نبي يرى برهان ربه.. أو غبى لا يفهم مم تحول و إلام تحول.. أو دعيّ مزور يقبض ثمن تغيير ولائه.. أو عبقري يدرك أن الحقيقة أغلى من أي ألم.. فيمشى على الشوك ويقبض على الجمر.. وتتضاءل أمامه زينة الحياة الدنيا .. فيعزف عن الشهرة والمجد والمنصب والمال والبنين موليا وجهه شطر الحقيقة فقط.. ليبدأ رحلة دامية مروعة الألم يغشاها الاكتشاف الرهيب لحقيقة أولية وبديهية مسلّمة يغفل الناس عنها .. ألا وهى أن الإنسان يخلق في كبد ويعيش في كمد لا ينتهى إلا بالموت حين يبدأ إما كبد أكثر وكمد أعنف أو يبدأ انعتاق.
هل كان هذا هو المفتاح الذي قرر عادل حسين بعد أن قدمته له أن يعرض علىّ كنزه؟. أن يحكى لى رحلته الفكرية الروحية بكل ما فيها من ألم وعذاب..
هل كانت حرارة الجمر هي التي صهرتنى فما عدت أدرى من المتكلم منا ومن السامع وانفصل المعنى عن المبنى وتجرد القول من القائل لتصبح الكلمات لبنات مجردة تساهم لبناء صرح الحقيقة لا يهم من وضعها..
هل كان هو الذي يتكلم و أنا أسمع؟ هل كان العكس.. ساعتها – التي هي الآن – لم يكن ذلك مهما .. لم يكن مهمّا من القائل بل ماذا يقول.. وفى هذه الدنيا التي حولها شياطين الجن و الإنس إلى متاهة للحق وإلى سجن للمؤمن وجنة للكافر و إلى ظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض .. في هذا الوضع في هذه الدنيا لا يهم من قال بل المهم ما قال.. ما يهم هو القول نفسه مجردا..
كنت قد نويت ألا أمكث سوى ساعة أو بعض ساعة فهذه هي الزيارة الأولى.. ولابد أن أحترم آداب الزيارة.. لكنني بعد دقائق كنت كأننى أعرفه العمر كله .. وانساب عادل حسين في الحديث .. وامحى الوقت كى نكتشف بعد أكثر من أربع ساعات أن الفجر يكاد ينبلج..
وكانت كل القلاع التي بنيتها لمنع الانبهار قد تداعت..
رأيت إيمانا وعقلا وفكرا وروحا وشفافية ونقاء وذكاء وصفاء وبطولة و إقداما على الاستشهاد .. فعادل حسين لم يستشهد عندما مات فقط.. بل كان يستشهد كل معركة.
رأيت قدرة مذهلة على تأليف الأفكار وتجميع البشر.. ورأيت أكثر من ذلك كيف تبدو الأشياء متناقضة حتى يجلوها بفكره فإذا الجذر واحد تفرع منه فرعان.. فرع للشرق وفرع للغرب لكنهما ينتميان لنفس الجذر.
رأيت عقل فيلسوف وقلب أم وبراءة طفل وإقدام بطل..
رأيت منطقا تحليليا يبز أعظم الفلاسفة.. ورأيت قلبا خاشعا لا أزكيه على الله.. ورأيت وطنية متأججة مشتعلة وقلبا ينزف على ما صرنا إليه.. ورأيت علما يتفوق به على كبار المتخصصين.. ليس في فرع من فروع العلم بل في فروع عدة.. ورأيت شجاعة لا تجبن حين تواجه الظالم الجبار صارخة: "التغيير أو شاوشيسكو"..
***
على الباب و أنا أودعه.. تأجج الألم.. وتعانقنا.. وكانت عين كل واحد منا مغرورقة بالدموع..
***
كنت ما زلت في الطريق إلى الاحتفال المنعقد في نقابة الصحافيين..
***
لقاء آخر بعدها بأعوام .. يقتحم الحاضر ليصير : " الآن " ..
كان ذلك في منزلى..
لم أندم على شئ قدر ندمى على أنى لم أسجل حديثة في تلك الليلة..
كان يدافع عن أجيال وراء أجيال.. كان قلبه الكبير قادرا على استيعاب أخطائهم وتفهم دواعى انحرافهم بل والصفح عنهم جميعا.. وكنت قد سألته عن مسألتين تستبد بى الحيرة كلما فكرت فيهما : ألا وهما كيف انحرفت النخبة هذا الانحراف الجماعى .. ثم هو نفسه .. كيف أنه بعقله الموسوعى ذلك.. وبنقائه وطهارته قد انخدع بالفكر الشيوعى ذات يوم وهو فكر مسطح – حتى على مستوى الفلسفة - لا يقتنع به إلا جاهل أو عميل.. والجهل والعمالة ينطبقان على معظم النخبة لكنهما لا ينطبقان أبدا على عادل حسين فلماذا انخدع مثلهم؟..
وابتسم عادل حسين بسمته الحبيبة التي لا تحتوى على تعالى الفيلسوف بل على معنى آسر تحار العقول في فهمه .. فكأنما هي ابتسامة طفل عبقرى يستطيع أن يحل مسائل الحساب كلها بسهولة ويسر ويواجه بتلك البسمة الساحرة أقرانه الذين لا يستطيعون حل هذه المسائل .. وكأنه ببسمته تلك يدارى خجله من ذكائه الذي ميزه به الله عليهم أو من غبائهم!!..
وانطلق يتحدث هادرا ..
أربع ساعات وهو يتحدث و أنا مذهول مبهور..
كان يدافع عن أجيال وراء أجيال ويحل لى مشكلة فكرية وراء مشكلة..
وكانت إحدى المشاكل الفكرية الكبرى التي واجهتنى في ذلك الوقت أنني إذ أراجع رموز الفكر في عالمنا العربي والإسلامى، اكتشفت خللا جسيما في عقيدتهم.. ففي القرنين الماضيين، فيما عدا استثناءات نادرة، ما من عربي سطع نجمه وانتشر ذكره وعلا صيته، إلا وكان قد سبق وقدم القربان، هجوما على الإسلام، ليتكفل الغرب وصنائعه من الحكام و أجهزة الإعلام بعد ذلك بتسويقه كنجم، ومفكر، وفيلسوف، وقائد، وملهم، وبطل، ووطني، وقومي، ومنقذ، ورائد تنوير، وشعلة تثوير، ومشعل تنوير، وزعيم، وعميد أدب، ومعلم جيل؛ ففي إبهار كل تلك الصفات أو بعضها، تعشى الأبصار فلا ترى خلفها ماهية القربان الذي قدمه هؤلاء إلى الغرب وصنائعه من الحكام، ولم يكن هذا القربان سوى الإسلام. وما من أحد هاجم الإسلام منهم إلا وحاولوا إحاطته بهالة من التقديس، حتى أن الهجوم عليه يعتبر جهلا ورجعية وظلامية وتخلفا، أما الرقى والعلم والتقدم والاستنارة فتكمن جميعا في الهجوم على القرآن الكريم ( يسمونه في أدبياتهم، أو على الأحرى في كفرياتهم: النص) والحديث الشريف ( يسمونه: التراث) والرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضى الله عنهم ( يسمونهم: البدو الرعاة). لم يكف الغرب و أعوانه عن إعلاء شأن هؤلاء وتقديمهم للناس على أنهم صواب مطلق، فلا تجد وسيلة إعلام واحدة تنشر عن أخطائهم و مخازيهم. وفى نفس الوقت، لم تكف هذه الأجهزة عن تجاهل تام لكل من يدافع عن الإسلام، فإن ارتفع بالرغم منهم صيت أحدهم، نسبوا إليه كل نقيصة وتجاهلوا فيه كل ميزة ونسبوا إليه ما لم يقل كى يتسنى لهم مهاجمته وتسفيه ما يقول، وسعوا خلفه في الصحف ودور النشر ووسائل الإعلام كى تقاطعه.
راح عادل حسين يقدم عرضا تاريخيا وفكريا هائلا على مساحة القرنين الماضيين.. كيف بدأت الهزيمة.. وكيف وصلنا إلى هذا الحال.. وكيف أن معظم هذه النخب معذور في الموقف الذي اتخذه.. كان الهجوم عاتيا وشرسا وشاملا.. وحتى من قاوموه لم يكونوا يدركون كل مراميه.. في الحرب قد نخسر معركة فنبادر للاستعداد لمعركة أخرى.. لكن خطورة ما حدث في القرنين الماضيين أن العدو لم يكتف بغزو الأرض.. بل لجأ إلى غزو العقول والقلوب وحتى الأرواح.. ولجأ في غزوه ذلك إلى سبل لا تخطر على بال.. كانت الدولة الإسلامية تتهاوى.. وكان المعروض من تطبيقاتها يثير أقصى درجات الحنق والغضب.. وكان عجزها عن المواجهة يثير الازدراء.. في البداية كان الغضب والازدراء مرتبطان بأسبابهما.. ألا وهو عجز الدولة عن المواجهة وعن تصويب مسارها.. كانا بهذا الشكل حبا مقلوبا يمكن أن يعود كاملا لو أصلحت الدولة أحوالها وانتصرت .. وعن طريق الغزو الفكري والزخم الإعلامى استطاع الغرب أن يفصل السبب عن النتيجة.. فأصبح الازدراء مطلقا دون العودة إلى أسبابه.. وتوسل الغرب إلى ذلك بوسائل عديدة.. منها سياسة التجهيل المنظمة.. ومنها استقطاب عناصر من المجتمع لتمثل دور القائد والرائد.. ومنها ربط كل سمات الدولة الإسلامية العثمانية بالتخلف.. وعلى رأس هذه السمات الإسلام.. ومنها التوسع في إصدار مئات الصحف.. ليتشتت المجرى الأساسي لفكر الأمة.. تماما كما يتشتت مجرى النهر إلى مئات الجداول والبرك حيث كل الماء آسن..!!.. في عهد كرومر على سبيل المثال ارتفع عدد الصحف الصادرة في القاهرة إلى 300 صحيفة!!.. كنت تجد كل شئ.. الفكر وضده.. المبدأ وعكسه.. من يحول الشياطين إلى ملائكة والملائكة إلى شياطين.. من يجعل العهر طهرا والطهر تخلفا ورجعية والوطنية حماقة والعمالة تحضرا ورقيا.. وكانت الكارثة التي نجمت عن ذلك هو تخلخل الثوابت.. تراجع المطلق ليكون نسبيا بين نسبيات أخرى.. أصبح القرآن الكريم نفسه كتابا من الكتب يمكن نقده.. و أصبح الدين حزبا سياسيا يمكن الهجوم عليه .. تزلزلت الثوابت.. و لم يفعل الغرب ذلك كله دفعة واحدة.. بل بأناة وصبر شديدين.. استولى على الإعلام والتعليم .. اصطاد أعضاء البعثات في الخارج.. نعم.. كانت الرشوة أحيانا سافرة والخيانة ظاهرة.. لكن.. في معظم الأحوال كانت الرشوة تجرى بصورة لا يدركها حتى المرتشى نفسه.. وتدخلت آلية صناعة النجوم أو فرض التعتيم.. كانت كل الأجهزة الاستخبارية والثقافية والتبشيرية والأمنية تتضافر ضدنا.. وكنا محاصرين لانرى.. وتكاثرت علينا الهزائم والنكسات والخطوب .. ولم يخل الجو من أبطال صمدوا للدفاع عن الإسلام ولكن جرى التعتيم عليهم.. لا توجد وسائل نشر لنشر ما يقولون.. فإذا جرؤت مطبعة على ذلك حوربت وحوصرت.. ثم كان أن تكفل الآخرون بالهجوم عليهم وهم محاصرون.. نجح الغرب في إفقاد الأمة ثوابتها.. وكان ذكيا في ذلك.. فلم يكن كل من يتعاون معهم من الخونة.. بل كان أحيانا يدفع الضرر الأكبر بالضرر الأقل.. أنظر على سبيل المثال تعاونهم مع سعد زغلول ومحاربتهم لعبد العزيز جاويش.. انظر عند جلائهم من معظم الدول الإسلامية كيف كونوا نخبة كاملة تنتمى إليهم.. نخبة تضم الحكام والمفكرين وقادة الجيوش وضباط الشرطة والصحافيين.. نخبة كاملة تنتمى بفكرها وعقيدتها إلى الغرب وترتبط مصالحها بمصالحه وقد تدرك هذه النخب أو لا تدرك أنها إذ تدافع عن نفسها تدافع عن الغرب ضد أمتها في نفس الوقت.
واستطرد عادل حسين:
في بداية الأربعينيات كان الوضع هكذا.. أمة إسلامية مهزومة.. إسلام مشوه محاصر لا يسمح لنوره بالنفاذ إلينا ووعى قاصر وجهل قد خطط له.. التعليم شوه الدولة الإسلامية وقدم معلومات قاصرة مبتورة لا تغنى ولا تسمن من جوع في أي مواجهة.. والإعلام واصل مهمة التعليم بالتشويه ونشر الأكاذيب حول الإسلام والمسلمين.. والعناصر التي كان يمكن أن تواجه ذلك مقموعة ممنوعة وقد حيل بينها وبين الناس.. والمؤسسات التي كانت دوما حصنا للدفاع عن الإسلام – كالأزهر - حوصرت واخترقت وشوهت بل و أسبغ عليها فوق الحصار والاختراق والتشويه صفة التخلف.. و أخذت أجهزة الإعلام تتعامل مع هذا التخلف كحقيقة مسلمة لا ينكرها إلا متخلف يستحق ذات الازدراء .. وبعد هذا كله لا يوجد نموذج واحد لدولة إسلامية نتمحور حولها.. وكان الغضب موجودا وقد انفصل عن مسبباته.. ونظرنا حولنا في الدنيا فلم نجد من يستطيع مواجهة الغرب سوى الشيوعية .. ومن هنا كانت البداية.. كيف لا نستطيع الغفران لمن أخطأ وكل المعلومات التي كانت عنده خطأ..
واستمر عادل حسين يتكلم.. كان يدافع عن أجيال وراء أجيال.. كان يبرئ الأمة ويلتمس الأعذار للنخب.. وأحسست في لحظة وكأنما هو يعد دفاعه هذا لكي يبديه أمام الله يوم القيامة متوسلا إليه حتى تشمل رحمته كل الخطاة من الأمة..
كان يعيد رسم العلاقة المطمورة بين النتيجة وبين السبب.. بين الفروع وبين الجذور..
بعد الحديث تمنيت عليه أن يكتب ما قاله كى يكون كتابا بين الناس..
***
أثناء الحديث تطرق الحديث إلى رفعت السعيد..
قلت له أنه كان أولى من حسين أحمد أمين بالوصف الذي أطلقه عادل حسين عليه.. حين قال أن الشيطان لو تجسد في رجل لما كان هذا الرجل غير حسين أحمد أمين..
أخرجت له من مكتبتى عشرات الكتب لرفعت السعيد لم يفض أبدا مظروفها الشفاف.. كانت كلها مهداة إلىّ.. لم أشتر منها كتابا.. قلت له أنني اكتشفت أن هذا الرجل يكذب عندما قرأت كتابه الأول فلم أقرأ له بعدها أبدا.. وأن أخطر ما في كذبه أنه يتعدى كذب اللسان إلى كذب الروح..
هناك دنس للجسد يمكن للإنسان أن يتطهر أما دنس الروح فكيف يمكن علاجه ممن ارتضى الشيطان هاديا؟!..
ولدهشتى راح عادل حسين يدافع عن رفعت السعيد.. فأخذت أواليه بالحجة تلو الحجة.. ورويت له على سبيل المثال ما نشرته روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عن العملاء الذين كانوا يتقاضون منها دخلا ثابتا.. وكان منهم رفعت السعيد.. ولقد نشرت صحيفة الأهرام ذلك..
وكان يواجهنى بتلك البسمة الساحرة.. وكأنما يريد أن يقول لى أن انحراف رفعت هو انحراف فكرى نتيجة الخطأ في التفكير وليس انحرافا أخلاقيا.. فقلت له: بل هو الانحراف الأخلاقي والعمالة والموقف المبدئى ضد الدين.. ولقد عامل كل المحيطين به تعامل المقاول الذي يورد " الأنفار" ليقبض ثمن كل رأس.. بل تعامل القواد الذي يورد الداعرات.. وأسوأ ما في الأمر أن الداعرات لم يكنّ داعرات لكنهن انبهرن بالرجل ووثقوا به دون أن يدركوا أنهن لسن بالنسبة له سوى أدوات لا يهمه منهن إلا أن يقبض ثمنهن..
ولم يقتنع عادل حسين بكل ما قلت وبدا واثقا من أن رفعت السعيد سيعود ذات يوم إلى جادة الصواب..
كنت مندهشا تماما لكنني أدركت أن عادل حسين يحب الرجل ويشفق عليه ويتمنى له الهداية.. لكنه لم يفصل الحب عن التوقع فتحولت أمانيه إلى واقع سيحدث في المستقبل..!!
***
في تلك الزيارة كانت زوجة عادل حسين الدكتورة ناهد معه.. وهى شخصية شديدة النضج بالغة العمق واسعة الثقافة.. ولا أريد تكرار المثل الممجوج عن امرأة عظيمة وراء كل رجل عظيم لكنها كانت فعلا عظيمة وتضافرت عظمتها مع عظمة عادل حسين ليشكلا ثنائيا فريدا.. وقال لى عادل حسين أن وقته لم يعد يتسع لقراءة الأدب وأنه يقرأ أعمالى السياسية أما الأدبية فإنه يعطيها للدكتورة ناهد و أن باعها في ذلك أطول من باعه كثيرا..
والتقطت الدكتورة ناهد طرف الحديث لتعلق على روايتي الأخيرة التي كانت قد صدرت قبلها بقليل.. رواية " قصر العينى " لتجاملنى بأكثر مما أطيق حين قالت أنها رواية تستحق أعلى الجوائز العالمية لولا الانحراف الثقافى السائد في العالم كله.. وأغرقنى الخجل والامتنان لكنها استطردت في ملاحظات نقدية بالغة الذكاء والعمق كشفت لى عن مدى عمقها في القراءة..
***
حاشية.. رواية قصر العينى تتحدث عن يوم واحد في التاريخ العربي: 5 يونيو 1967.. وليس هذا مجال الحديث عن الرواية لكن هناك مفارقة يجب أن تروى.. فلقد كتبت هذه الرواية في السبعينيات ثم أعدت كتابتها في أواخر الثمانينات .. ,أحد أبطال الرواية اسمه عادل.. وهو بالطبع لا يمت بصلة إلى عادل حسين .. على الإطلاق.. لكن الناقد المشهور فاروق عبد القادر.. في إطار الهجمة الشيوعية السلطوية علينا بعد أزمة الوليمة تخيل ( وربما ادعى) أنني أتحدث في الرواية عن عادل حسين فهاجمها بعنف..!!
حاشية أخرى: لمست جانبا آخر من نضج الدكتورة ناهد في الأسبوع الأخير من حياة عادل حسين.. في المستشفى.. في الإسكندرية.. كان الرجال ينوءون تحت الحزن أما هي فكانت صامدة وصابرة وبطلة.. وقبيل الوفاة رأيت الكثيرين من أحباب عادل حسين يبكون أما هي فقد ظلت ثابتة كالطود الشامخ.
***
كنت ما زلت في الطريق إلى نقابة الصحافيين للاحتفال بعادل حسين..
اقتحمتنى أحداث الوليمة.. ولقد كتبت في مقالات سابقة عن مواقف البطولة التي وقفها عادل حسين في هذه المعركة.. لكنني هنا أذكر ما لم يسبق كتابته.
كنت قد وصفت من كتب ونشر الرواية الفاجرة بـ: الفاسق بن الفاسق الكافر بن الكافر.. وتحدث معى بعض علماء الدين ليقولوا لى أنني أثمت بسبّ الآباء و أنني يجب أن أستغفر و أن أعلن استغفارى علانية.. وحاججتهم بأننى لا أرى ما يرون.. لكنهم أصروا على موقفهم مشددين على أن هذا فارق جوهرى بين السلوك الإسلامي والسلوك غير الإسلامي.. فالمسلم رجاع إلى الحق.. وبرغم اختلافى معهم فقد رضخت لرأيهم خيفة أن أكون قد أثمت فعلا.. لكنني صغت الجملة بحرص شديد فقلت أنني أستغفر الله دائما حتى دون ذنب .. وأننى إن كنت قد أخطأت بسب الآباء فإننى أعتذر إلى الله.. أما الأبناء فإننى أصر على ما وصفتهم به كما أنهم غير جديرين بأن أوجه إليهم أي اعتذار..
في الأسبوع التالى كان مانشيت الأهرام العربي:" محمد عباس يقول: أعتذر إلى أبى حيدر".. وكان سقوطا أخلاقيا ومهنيا مشينا كتبت إلى رئيس تحريرها أكذبه لكنه رفض نشر التكذيب.. كان واحدا ممن أسميهم: "مثقف أمن دولة" وهو يقوم بنفس الوظيفة التي يقوم بها ضابط أمن الدولة لكن في مجال قمع الفكر.
وللمرة الأولى في تاريخ علاقتى بعادل حسين أتلقى اللوم منه. وتعلمت منه يومها درسا لن أنساه أبدا.. قال لى أننا نخوض معركة كبرى في قضية كبرى.. في أكبر قضية يمكن أن يخوضها مسلم.. و أن عورات خصومنا بادية ولا سبيل أمامهم إلا بأن يجرونا إلى قضايا فرعية يهربون بها من المقتل الذي حاصرناهم فيه بكشف خبيئتهم.. و أن الخطأ كله يكمن في الاستجابة لهم..
وواصل قائلا: ثم أنك لم تخطئ بسبهم ولا بسب آبائهم..
بعد ذلك عكفت على كتب الفقه كما عكف المحامون الذين تولوا الدفاع عنى أمام محكمة الجنايات في القضية التي رفعت علىّ بسبب عبارات: " الفاسق بن الفاسق الكافر بن الكافر" واكتشفت لدهشتى – ورغم نصيحة بعض العلماء من الأصدقاء- أنني لم أخطئ عندما وصفتهم بهذه الصفات.. لا على مستوى الفقه ولا على مستوى القانون ( حصلت على البراءة في القضية). والتفاصيل والأسانيد الفقهية والقانونية مكتوبة في مقالات أخري سبق نشرها في صحيفة "الشعب" الإليكترونية والراية القطرية والمجد الأردنية.
***
سوف تظل معركة الوليمة فخرى و أدعو الله أن تكون وجائى من النار يوم القيامة وإننى وحق جلال الله أتمنى أن أخوضها مائة مرة أدافع فيها ضد المجترئين على قداسة اسم الجلالة وعلى القرآن الكريم وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم..
أقول أنني أتمنى أن أخوضها مائة مرة مهما أصابنى في سبيل ذلك.
لكنني أيامها، وعندما بدت بوادر إغلاق صحيفة الشعب وتجميد حزب العمل رحت أراجع نفسى، ليس في صواب ما فعلت، فالله يعلم أنني لم أشك فيه لحظة واحدة. لكنني أردت أن أتحمل المسئولية وحدى و أن أفدى صحيفة "الشعب " و أستنقذها للناس.. وددت أن أفتدى ذلك الصرح الذي ليس كمثله صرح بنفسى… وكتبت أنني المسئول وحدى عما نشر.. و أكدت – ويعلم الله أنني كنت صادقا – أن الأمر كان دينا محضا وليس كما حاول عبدة الشيطان والسلطان أن يظهروه كما لو كان مناورة حزبية. وقلت أنني لست صحافيا ولا عضوا بحزب العمل، وطالبتهم أن يحملونى العواقب كلها.
وبادر عامر عبد المنعم بحذف هذه الجملة من المقال، وبادرنى بالقول أنه يفهم دوافعى لكنه يفهم أيضا كيف سيستغل عبدة الشيطان والسلطان ما أقول. و أنهم سيقدمونه إلى الناس بعكس ما أقصد تماما .. كما لو كنت أتنصل من مسئوليتى ومن الحزب والصحيفة.. تماما كما حولوا اعتذارى إلى الله إلى: اعتذار " إلى أبى حيدر!!.."..
***
حاشية: عامر عبد المنعم تلميذ وابن من أبناء عادل حسين.. انتظروا هذا الشاب في المستقبل.. فلقد حباه الله من العقل والحكمة والصفاء والنقاء والإخلاص ما أحسده عليه.. فانتظروه.. إذا لم تبادر أجهزة الأمن المصرية أو الأمريكية ( هل هناك فرق؟!) باقتناصه.
***
بعد إغلاق الصحيفة والحزب والموقف المخزى الذي وقفته صحف المعارضة معنا حيث غلقت أمامنا كل سبل النشر، وتهاوت ادعاءات البطولة والحرية والمعارضة إزاء إغراء بمنصب أو إعلان من وزارة الثقافة أو إسقاط دين مستحق للأهرام أو الأخبار.. أما صحف " كرومر" فكانت موغلة في الفسوق والضلال أكثر.. صحيفة فاسقة منها نشرت في المانشيت: " هروب عادل حسين إلى بيروت"..
***
حاشية: استمر موقف التشويه أو الحصار حتى الآن .. ومنذ أسبوعين عندما قاد مجدى حسين مظاهرة حاشدة تأييدا لفلسطين في الجامع الأزهر.. تجاهلت كل الصحف تقريبا هذا الخبر- فيما عدا صحيفة الأسبوع- .
صحيفة معارضة أخرى زاعقة دائما بالمديح في نفسها والتباهى بشرفها نشرت الخبر كمانشيت الصفحة الأولى.. لكنها لم تذكر أن قائد المظاهرة كان مجدى حسين.. وقد نفهم أن ذلك قد تم مجاملة للأمن أو السلطة في مصر.. لكن غياب القنوات الفضائية أيضا كان يوحى بأن المجاملة موجهة لأمريكا مباشرة .
***
بعد إغلاق صحيفة الشعب و إكمال حلقات الحصار والتشويه حولنا لم يهتز يقينى بصواب ما فعلت..لكن الشيطان راح يوسوس لى: لقد كان عادل حسين هو الذي فتح لك أبواب صحيفة الشعب لكي تكتب فيها و ها أنتذا تغلقها له.. لقد كان موقفك صوابا مطلقا لكنك لو فكرت أكثر لأدركت أنهم يتربصون بالشعب.. ولنشرت هذا المقال في صحيفة أخرى.. أنت كقائد فرقة في جيش خاض معركة مجيدة وصحيحة لكنه كشف بها قائده وعرضه للإصابة.. أنت كفرد من حقك أن تضحى بنفسك في عملية استشهادية لكن ليس من حقك أن تصطحب فيها أحدا غيرك.. فلهم حساباتهم كما أن لك حساباتك..
***
كانت العلاقة العاطفية التي تربطنى بعادل حسين بالغة العمق رغم أنني لم أقل له ذلك أبدا.. وبغض النظر عن الصواب والخطأ فقد كان مجروحا.. ومحاصرا وكنت أنا السبب.. كنت أتألم.. بل أكاد أقول أنني كنت أشعر بالخجل منه..
لم أبح بمشاعرى تلك لأحد..
لكنني فوجئت بعادل حسين: الشهيد العظيم.. وكأنما يقرأ ما في ذاتى في كتاب مفتوح..
***
حاشية: أعترف للقارئ أن ما كتبته متعلقا بالوليمة وبرفعت السعيد ما كان لى أن أكتبه في هذا المقال إلا لكي أزجى لمحات على شخصية فذة هائلة ندر أن يجود الزمان بمثلها.. هي شخصية عادل حسين..
***
فوجئت بعادل حسين يهاتفنى وكأنما قرأ كل ما في ذاتى.. كان يهاجمنى بطريقته الحبيبة في الهجوم : أين أنت؟ لماذا لا تتكلم ؟ لماذا انطويت على نفسك وغرقت في الصمت؟.. هل ندمت على أعظم جهاد خضته في حياتك؟ هل تلوم نفسك؟ هل تظن أنك ورطتنى؟ أنت تغمطنى حقى إذن.. لقد كتبت أنت.. أما أنا فقد وافقت على النشر.. ولم أكن جاهلا بالعواقب.. أنت تنزلنى دون قدرى كيرا لو ظننت أنني كنت جاهلا بها.. هل تظن أنهم أغلقوا الشعب حقا بسبب قضية الوليمة؟ قرار إغلاقها صدر منذ زمان طويل وكانوا يتحينون الفرصة لإعلانه.. لم يكونوا يسمحون لنا أبدا بدخوا الانتخابات القادمة والشعب تصدر.. كانوا سيقلقونها لأي سبب.. ولقد دفعهم غباءهم لإغلاقها بسبب قضية الوليمة.. القضية التي التحم الشعب – الناس – بالشعب –الصحيفة - التحاما بلغ من قوته أن النظام استشعر فيها النظام الخطر على وجوده واستمراره.. أغلقوها وهى في قمة نجاحها وتألقها.. أغلقوها وهى تدافع عن أشرف قضية يمكن أن يخوضها مؤمن.. كان الإغلاق قرارا نهائيا لا رجعة فيه .. وفى هذا الحال يكون إغلاقها أعظم تكريم لنا.. هل تظن أنني حزين على الصحيفة أو الحزب.. نحن أصحاب قضية عليا.. وقضيتنا العليا ليست حزبا ولا صحيفة .. فليغلقوا لنا الصحيفة.. سنكتب في صحف أخرى.. فليجمدوا الحزب.. سننشئ حزبا آخر.. الصحيفة والحزب لم يكونا سوى وسيلة نحو غاية.. والغاية هي لا إله إلا الله.. ولو حاصرونا فسنصل إلى الناس.. سنخطب في المساجد والشوارع.. لقد فجرنا ثورة وقفت المد الإلحادى الذي يستشرى في البلاد منذ أكثر من قرن.. ما قمنا به ثورة حقيقية كان من المتوقع أن يسقط فيها عشرات الشهداء ويغيب في السجن مئات و ألوف.. لقد حققنا نصرا هائلا ولم يسقط منا شهيد واحد..
ولم يكن عادل الحبيب يدرك أنه سيكون ذلك الشهيد.
***
كنا محاصرين.. و أعلنت قناة الجزيرة عن مناظرة بين عادل حسين ورفعت السعيد..
قبيل المناظرة بساعة اتصلت بالأستاذ عادل.. قلت له أنني أعلم أنه مشغول جدا في مراجعة المعلومات التي يعدذها للمناظرة لكنني أريد عشر دقائق. وأخذت أنقل له معلومات عن رفعت السعيد حصلت عليها من مصادر شتى.. منها رقم وتاريخ صحيفة الأهرام التي نشرت خبر علاقته المالية بالمخابرات السوفيتية.. ومنها علاقته المالية بمطبعة الأمل التي طبعت رواية الوليمة.. ومنها أسرار خلافه مع الأستاذ جمال سلطان والكتاب الذي ألفه الأخير عنه.. عشرات التفاصيل الأخرى. قلت له أيضا أن من لديهم خبرة في التحاور معه على الفضائيات يقولون أنه يأتي قبل بداية البرنامج دمثا جدا.. ويستعطف محاوره باسم الصداقة أو الزمالة وينبهه إلى أن المذيع سيحاول استعداء كل منهما على الآخر و أنهما يجب ألا يستجيبا له .. يفعل ذلك فإذا بدأ الحوار انقض هو على شريكه في الحوار كما ينقض الذئب الغادر على فريسته.
استمع لى عادل حسين دون أن يعلق بحرف واحد.
وتابعت المناظرة.. وثمة تفاصيل كثيرة لكنني أتجنب منها ما ليس على علاقة مباشرة بعادل حسين..
كان عادل حسين قويا وشامخا وصادقا ودمثا ورقيقا في آن.. و أخذ رفعت السعيد يطلق الأكاذيب ويشوه الحقائق بقدرة عجيبة.. وكان يكذب وهو يعلم أنه يكذب.. وكان من بين أكاذيبه أن إبراهيم شكرى زار إسرائيل مع السادات.. كان غوغائيا عالى الصوت ويجترئ على الحقيقة بصورة مذهلة.. وواجه الكاميرا بصحيفة الشعب وعنوان كبير في أحد صفحاتها يقول: أنا مع الإرهاب.. ورفعت السعيد يصرخ: هذا اعتراف صريح منكم.. ولم يقل للمستمعين أن العنوان ليس من الشعب.. بل هو عنوان قصيدة شعر لنزار قبانى..!!..
وعلى هذا المنوال سار الحوار.. وتوقعت من عادل حسين أن يستعمل المعلومات التي أعطيتها له.. لكنه بدا جليلا ونبيلا وهو يتمسك بالرقة والدماثة والصدق والمنطق أمام هجمة غوغائية من رفعت السعيد. ولم يذكر حرفا واحدا مما قلته له ولم يجرح رفعت السعيد بالحق بشطر كلمة رغم أن الآخر لم يتوقف طيلة ساعتين عن تجريحه بالباطل..
بعد نهاية المناظرة كان تعليقى أن عادل حسين انتصر تماما.. لكنني كنت أخشى رد فعل البعض الذي قد يربط ما بين الانتصار في الحوار وبين الغوغائية وارتفاع الصوت والتشويش على الآخر وترديد الأكاذيب.
هاتفت الأستاذ عادل.. هنأته .. وقلت له أنه كان عظيما ورائعا.. و أنه لم ينتصر على خصمه فقط بل – وهذا أهم – انتصر على نفسه أيضا.. كان يمكنه في أي لحظة من لحظات الحوار أن يواجه خصمه بما لديه من معلومات عنه فيفحمه وينهى الحوار.. لكنه أبى إلا أن يكون نبيلا.. أبى إلا أن يكون من مدرسة على بن أبى طالب رضى الله عنه.. فيعرض عن عورات خصمه.
من نبرات صوته أدركت أنه حزين.. ورد على حديثى الطويل بكلمة واحدة تقطر بالمرارة:
- لقد خُدعت..
لم يضف كلمة واحدة.. ولم نتحدث في هذا الموضوع بعد ذلك أبدا.. لكنني فهمت المعنى العميق المترامى للكلمة.. بالتأكيد لم يكن يقصد الخديعة أثناء المناظرة.. بل كان الأمر أبعد بكثير من ذلك.. كان أشبه بصدمة عاطفية.. ولعله لم يكن يتصور أن يكون رفعت السعيد بهذا السوء.. ولعل تلك الصدمة تشمل علاقته برفعت السعيد كلها.. بالفكرة التي كونها عنه والتي من أجلها أحبه.. ولعله اكتشف أن كل الصفات الجيدة التي ألصقها به كانت سرابا.. و أن أمله في هدايته كان وهما.. بل إننى أعتقد.. أن مفهوم كلمة : " لقد خدعت" يتجاوز حتى رفعت السعيد.. يتجاوزه إلى الحركة الشيوعية كلها.. أو على الأقل جلها.. ولعله اكتشف أن المفهوم الذي تعلق بذهنه عن الحركة الشيوعية لايمثل أكثر من 10% منها.. يمثل الاستثناء لا القاعدة أما النسبة الباقية فليسوا إلا أفاقين وخونة ومرتزقة لم تكن قضيتهم العدالة الاجتماعية ولا البحث عن الحقيقة قط.. كانوا مجرد أعداء مأجورين على الإسلام.. كانوا عملاء للسوفيت حتى انتهى السوفيت فنقلوا العمالة إلى أمريكا و إسرائيل.
نعم.. كانت صدمة عادل حسين صدمة عاطفية .. تماما كصدمة رجل اكتشف أن معشوقته القديمة التي صورها خياله ملاكا ليست سوى بغىّ تبيع نفسها لكل من يدفع الثمن.. أما الصدمة الأكبر والخديعة الأشد.. فهو أنها لم تصبح بغيا الآن فقط.. بل كانت بغيا حتى أثناء ولهه بها.. كانت بغيا وهو لا يعرف.. وكانت تخدعه طول الوقت وهو لايعرف..
***
وصلت أخيرا إلى قاعة الاحتفال..
كانت مصر النظيفة الحقيقية الأبية التي تتلوث هناك.. ولم يكن رفعت السعيد موجودا ولا أي من رؤساء تحرير الصحف.. وعلمنا أن الأوامر صدرت إليهم بعدم الحضور..
القنوات الفضائية أيضا لم تأت..
كان الحشد رهيبا ومهيبا.. وأظن أن القارئ سيجد في مكان آخر من الشعب تغطية للكلمات الرائعة التي قيلت.. والغريب أن أحدا من المتحدثين لم يتحدث عن موت عادل حسين.. كان الجميع يتحدثون كما لو كان حيا بيننا.. وعن حاجتنا لتطبيق فكره.
ما أريد أن أشير إليه فقط هو الكلمة الخطيرة التي ألقاها مجدى حسين والإنذار الخطير الذي وجهه لنظام.
قال مجدى حسين أن النظام يتاجر بنا.. و أنه يستثمر حتى المعارضة ليساوم بها أمريكا كى تخفف قبضتها على الحكام وضغطها عليهم من أجل مزيد من الاستسلام.. أو المساومة على ثمن أكبر للاستسلام لأنه يعرضهم لمخاطر في الداخل.. و أضاف مجدى حسين: نحن نهاجم أمريكا و إسرائيل ونتوقف.. وذلك غير مجد.. لا بد أن نطور هجومنا ليشمل أسماء كل العملاء مهما كانت مناصبهم.. لا بد أن نواجههم ونندد بهم ونقول لهم أن الأمة ضد أمريكا و إسرائيل.. أن الأمة مع الإسلام في كل مكان.. في فلسطين والعراق و أفغانستان.. و أن الأمة مع أسامة بن لادن أيضا..
حديث مجدى حسين كان بالغ الأهمية والخطورة.. لكن الأخطر منه كان استيلاءه على عقول وقلوب سامعيه.. قال لى جارى:
- لقد ألهبنا.. لو أمرنا أن نتوجه معه الآن لمهاجمة السفارة الأمريكية أو الإسرائيلية لما تخلف منا أحد..
وقال آخر:
- مجدى حسين هو السياسي الوحيد الباقى الذي يشكل خطورة على النظام.. إنه يمتلك الحكمة والعقل والانفعال والإخلاص والشجاعة والقوة والقدرة على الإقناع والحشد.. وما أحسبهم يتركونه أبدا.. سوف يلفقون له قضية كما دأبوا دائما.. وفى القريب العاجل..
***
بعد الاحتفال كنت منتشيا بعادل حسين وفخورا بأننى عرفته وتحادثت معه ذات يوم..
توجهت إلى الصامدة الجليلة زوجته كى أحييها و أنقل لها إحساسى بالنشوة والفخر..
لكن .. ما أن بدأت الحديث حتى تقلصت ملامحها وانخرطت في بكاء مرير فسارعت بالانسحاب..
اخترقت قلبى طعنه.. وتأججت فيه جمرة..
لكأنما اكتشفت اكتشافا مذهلا.. وهو أن عادل حسين قد مات.. قتلته الفئة الباغية.. نعم .. مات.. وهاهى ذى رفيقة عمره تبكيه..
لأنه مات..
واكتشفت اكتشافا مذهلا آخر..
أن خسارتنا فيه لا تعوض..
وماجت النفس وجاشت المشاعر وهاجت الأحزان..
ووجدت نفسى أتمتم في ألم لا يوصف:
- عادل حسين: لشد ما أوحشتنى..
تعليقات
إرسال تعليق