أصمت.. أم أشمت .. أم أنوح..

أصمت.. أم أشمت .. أم أنوح..



 بقلم د.محمد عباس

الشعب ١٩-٧-٢٠٠٢  
أصمت..
أم أشمت..
أم أنوح و أصرخ..
فهاهي ذي أمريكا التي راهن حكامنا ومفكرونا عليها ،وخدعونا بها، بعد أن فعلت كل ما فعلت، تعلن في جبروت فاجر لا يوصف، أنها  توشك على ضرب العراق.
وهاهي ذي الأنباء تتردد على أن  الدور  بعد  العراق  على  السعودية.. التي تتلقى المهانة والإدانة فلا يدفعها ذلك إلا لمزيد من التفريط والاستكانة .. ويردد رجع  الصدى المهانة التي تتلقاها مصر مغلفة في  أوامر بما يجب عليها أن تفعل. . وليس مطلوبا منها سوى أن تقوم بدور الديوث المحلل لتمرير علاقات محرمة غير مشروعة..
***
مصر والسعودية..
فرسا رهان العالم الإسلامي اللذان جريا في عكس الاتجاه.. ولم ينالا مكافأة العميل بل جزاء سنمار.
فها هي ذي مشاريع التفتيت والتقسيم تملأ الأفق.. ليكتشف القارئ أن هذه المشاريع لم تكن في أضابير المخابرات تغلفها السرية والكتمان بل كانت منشورة منذ أكثر من سبعين عاما..
السابقة التي سمحت بها مصر والسعودية لأمريكا سابقة تبيح لها هدم العالم العربي كله..
فماذا يمنع من استدعى لقتل إخوتنا من المواصلة لقتلنا.. ونفس الانصياع لما يسمونه زورا قرارات الأمم المتحدة – ملعونة هي الأمم المتحدة – سوف يمارس فى الغد وربما اليوم ضدنا..
إن كنا لا نقاوم تقسيم العراق فلماذا نقاوم تقسيم السعودية..
و إذا كنا لا نقاوم ادعاءات أمريكا بحماية الأكراد فكيف نجرؤ على منعها غدا إن هي تقدمت لحماية الأقباط في مصر..
و إن كنا نقوم بدور المحلل الديوث في مسألة السلطة الفلسطينية اليوم فأنى لنا الاحتجاج على السيطرة على كل أمورنا من فصل الملوك وتعيين الرؤساء والأمراء إلى متابعة أصغر مخبر أو موظف..
***
مصر والسعودية فعلتا ذلك..
ومصر والسعودية هما أكثر من يتلقى الآن التنديد والتهديد والإدانة ومشاريع التقسيم والتفتيت..
فهل أصمت أم أشمت أم أنوح و ألطم..
***
يا إلهي.. لقد بلغت بنا المهانة، بدلا من أن نستشهد لطرد القوات الأمريكية من سيناء والظهران  أن نتوسل إليها لتبقى..
وبلغ بنا الأمر أن أمريكا تهدد بسحب هذه القوات فنهرع وقد ملأنا الهلع واستبد بنا الفزع نرجوها أن تبقى..
***
وكان ذلك تماما ما  حذرنا منه منذ  اثنا عشر عاما في بداية حرب  الخليج.. وهو مكتوب ومنشور.. ولست أدرى كيف  يفكر الذين فخروا ذات يوم بفجرهم آنذاك فراحوا  يتيهون فخارا على العالمين بأنه لولاهم لما استطاعت أمريكا أن تحشد قواتها في الخليج لتفعل ما تفعل..
نعم.. حذرناهم فما صدّقوا أبدا..
***
مصر والسعودية، أو السعودية ومصر كانتا أكثر الجميع عمى عن مخاطر دعوة الذئب ليحرس الحمل..
ولو أن الخطر كان بعيدا لالتمسنا المعاذير..
و لو أن فكرة قيام الذئب بالتهام القطيع كله لأمكن لنا أن نتسامح وأن نعفو..
لكن الخطر لم يكن ماثلا فقط..
كان أكيدا.. ويقينا.. وواقعا تراه البصيرة قبل البصر..
***
في علوم الطب توجد نوع من الأخطاء يسمى الأخطاء القاتلة:
Fatal mistakes
وهى تشمل تلك الأخطاء التي لا يمكن التسامح معها لأثرها البالغ الذي قد يبلغ حتى الموت.. و لأنها من الناحية الأخرى كان يمكن تجنبها.. من هذه الأخطاء على سبيل المثال أن يقوم الجراح بفتح ما يرى أنه تجمع صديدي، فإذا به تمدد دموي لشريان رئيسي.. فما أن يضع الجراح مبضعه حتى ينزف المريض دمه كله في دقائق معدودة..
وفى قانون الطب، فإن مثل هذا الطبيب الجراح يمنع من ممارسة الطب مدى الحياة، بالإضافة إلى السجن والتعويض المادي الهائل..
***
دعوة أمريكا للخليج كانت خطأ قاتلا استنزفت الأمة كلها وتكاد توردها موارد الهلاك..
وعلى الأمة أن تحاكم – ولو في  ضمائرها – كل من شارك في هذه الجريمة.. محاكمة لابد أنها أشد من محاكمة طبيب قتل مريضا.. مريضا واحدا وليس مئات الملايين.
***
كل من ساهم وروج وحبذ وفضل و أيد مجيء أمريكا إلينا.. وكل من راهن عليها  من حكام ومفكرين وكتاب يجب أن يلقوا ذات المصير..
***
يفيض بي الألم..
وتصبح أقصى و أقسى الكلمات غير كافية.. لا للتعبير ولا للإدانة..
أحاول التوسل بالأدب لتصوير ما نحن فيه بالرمز ما دمت قد عجزت عن تسجيل هوله في الواقع.. أكتب قصة في خيالي.. قصة لم يتح لي الألم والذل والإحباط والعار أن أتفرغ لتدوينها فأكتبها في خيالي.. قصة – أعترف - أنها تصور حال حكامنا.. قصة لا تستمد رموزها من الفكر ولا من الفلسفة بل تماهى الأدب الوضيع والفن الرقيع  الذي فرضه علينا حكامنا ونخبنا العميلة.. والقصة ككل القصص التي تروج لها مراجعنا الأدبية والثقافية.. قصة امرأة يغرر بها رجل.. يخدعها بمعسول الكلام.. يوهمها بأنه شريف راق متحضر ولا يكذب أبدا.. وتصدق المسكينة ما يقول.. تنخدع.. لا أطيل عليكم.. بل أستعمل الجملة المكررة الممجوجة.. إذ تستمر العلاقة والانبهار حتى: " يسلبها أعز ما تملك".. وبعدها لا يعود الرجل الداعر إلى إخفاء طواياه ولا ستر نواياه، و إنما يسفر عن حقيقته البشعة المجرمة.. والمرأة المسكينة تتحول من طور الإعجاب والانبهار والعشق والوله.. إلى طور آخر يعلوه شعار لمرحلة جديدة.. شعار لم يعد يطمح أو يأمل في إزالة آثار العدوان.. بل شعار يقول: " إنقاذ ما يمكن إنقاذه".. لكن الداعر الوقح، لا يكف أبدا، في كل مرة عن سلبها أعز ما تملك، بعد أن لم يعد عزيزا عليه ولا أثيرا لديه، والمرأة تعزى نفسها أنها ستستطيع إقناعه ذات يوم، إن لم يكن بتدارك الأمر، وتنفيذ ما سبق من وعود معسول الكلام بما يحفظ عليها كرامتها وعزتها، فبمجرد وثيقة تستر الفضيحة، لكن الداعر الوقح، الذي تحول إلى حيوان مجنون، لا يستجيب أبدا، بل يواصل ويواصل ويواصل، ويصل به الأمر، إلى اعتبار سلب المرأة أعز ما تملك مكرمة منه، عليها أن تشكره عليها، و أن في تكرار السلب  زيادة في التكريم، والمرأة التي فقدت شرفها لا تكف عن الاستجابة، في البداية على أمل ما، ثم تتلبسها شخصية المقامر الذي يطمع في تسوية كل خسائره بعملية واحدة تكون الأخيرة، فتعطيه مصوغاتها وثروتها،  وترهن عنده ممتلكاتها، و تأتمنه على كل أسرارها، وتعطيه مفاتيح بيتها، ولكن ذلك كله بلا جدوى، فالوحش المسعور يزيده كل شراب ظمأً وكل طعام جوعاً، وفى النهاية تصدق مرغمة أن اغتصابها مكرمة منه وفضل عليها ألا تكف عن التسبيح بحمد سيدها شكرا عليه.
وطوال هذا.. كان هناك من لا يكف عن الاحتفال بهذا الاغتصاب مدعيا أنه انتصار.. بالمهانة على أنها فخار.. بالمذلة على أنها عزة.. وبسفح الشرف على أنه شرف.. وكان أولئك للمأساة هم كتابنا ومثقفونا.
هل اكتملت القصة؟..
وهل يجوز لي أن أتركها بلا نهاية؟..
وكيف أسد ما بها من ثغرات..؟!..
ثم هل هربت المرأة إلى الرجل..؟!..
أم استدعته إليها.. في بيتها.. في حفر الباطن والنجم الساطع  أم ذهبت هي إليه في مضاجعه في كامب ديفيد ومدريد و أوسلو؟!..
وهل يجوز أن أغفل - في القصة- موقف أهل المرأة؟.. أولئك الذين لم يكفوا أبدا عن التغنى بأن الشرف الرفيع لا يسلم من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم. هل تتسع القصة لمقاومتهم المأساوية..  ولحكايات الدم الذي أريق لكنه كان دمهم لا دم الغاصب الداعر.. وكيف أحافظ على اتساق القصة والمرأة كانت هي التي كشفت لمغتصبها الداعر ثغرات أهلها وثغورهم وسلمته مفاتيح بيوتهم..؟.. وهى التي أتت به إليهم.. ليمارس الفحشاء في مخادعهم.. في البداية سرا.. وفى النهاية جهارا نهارا.. واتفقت الداعرة والداعر على عقاب كل من يحتج على ممارسة الفحشاء على مرأى منهم ومسمع.
وتستمر القصة.. وتنزف الحروف وتبكى الكلمات وتنوح المعاني.. لكن المعنى يتمرد فجأة: فهل كانت المرأة شريفة غلبت على أمرها خدعها داعر محتال فسلبها أعز ما تملك فراحت في مأساوية لا توصف تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟.. هل كان الأمر كذلك فعلا، أم أن المرأة كانت منذ البداية داعرة، خائنة وعميلة، و أنها دبرت الأمر كله مع العشيق الداعر، الذي سئمها في النهاية واشمأز منها، لكنها، كي تحتفظ ببعض تأثيرها عليه، تحولت من داعرة إلى قوادة، وراحت كل ليلة تقدم له فتاة جديدة، من بناتها و أخواتها.
هل تنتهي القصة عند ذلك.. أم أن المجنون الداعر كان شاذا أيضا.. فراح يطلب الغلمان والرجال.. وامرأة السوء لا ترفض له طلبا أبدا.. أبدا .. أبدا..
***
أصرخ أم أشمت أم أنوح و ألطم..
هذه الداعرة ليس لها إلا أن ترجم..
***
يا لها من قصة بشعة ملكت علىّ عقلي وسدت علىّ آفاق الكتابة في موضوع آخر..
نعم.. حاولت أن أكتب عن وزراء خارجيتنا وما يفعلون في واشنطن فلم أر إلا القصة..
حاولت أن أكتب مطالبا بمؤتمر قمة فلم أجد إلا القصة..
حاولت أن أناشد.. أن أفسر .. أن أشرح .. أن أحتج .. أن أندد .. أن أرفض .. أن أعترض لكن القصة ملأت علىّ أقطار الأرض فلا أجد أمامي إلا داعرا مجنونا وقوادة و أمة تغتصب.. ولم يكن لي أن أتوجه إلى أي منها..
لم يكن ذلك متاحا ولا هو مقبول ولا هو متصور..
لم يكن أمامي إلا أن أصمت.. أو أشمت .. أو أنوح و ألطم..!!
***
***
***
هوامش

الشيخ على الجفرى.. مرة أخيرة..
في الأسبوع الماضي تحدثت  عن كيفية توريط الشيخ على الجفرى.. وهذا الأسبوع أكمل لكم الحكاية.. ليس غراما بالحكايات و إنما لأن ما حدث مع الشيخ على الجفرى هو نموذج لما يحدث ويحدث وسيحدث مع أي مفكر وكل داعية..
يتمتع الشيخ كما قلنا بذكاء نادر وبعلم موسوعى وبسماحة سابغة.. وكل هذا مطلوب مع كل المسلمين ومع كل المعاهدين ومع من لم يعتدوا علينا ولم يخرجونا من ديارنا.. أما مع الأعداء فى الخارج وطابورهم الخامس فى الداخل فكلا..
لقد تجنب الشيخ على أحيانا  أن يميز بين الخبيث والطيب وأن يفاصل بين الإيمان و بين الكفر.. و أظن أنه كان يحدوه أمل طيب فى أنه يمكن له أن يهدى هؤلاء الناس و كأنما الأمر أمر جدل حول آراء لا أمر أناس باعوا أنفسهم للشيطان وقبضوا الثمن .
كما قلت لكم بدأ الأمر بالإغراء والغواية وفتح قناة فضائية مصرية أمامه يتحدث فيها..  ثم بعد ذلك عرّضوه للابتلاء الأول في أزمة الوليمة.. ونكص الشيخ الجليل عن كلمة الحق القاطعة كي لا يقطع الخيط بينه وبينهم.. كان الابتلاء تمحيصا له هل هو معهم – مع الشيطان- أم مع الله.. وبرغم أنه تجنب إدانتهم لكنه رسب في الامتحان بالنسبة لهم.. فقد رفض أن يقبل إبداع الكفر و الفحشاء ..
وكان العقاب عاجلا.. فقد كلفت مجلة معروفة بصلاتها الأمنية الوثيقة لتشويه صورته.. واستدرج الشيخ الجليل لحديث أقرب للسلبية عن أسامة بن لادنرضى الله عنه.. و إلى قبول و إن كان مشروطا للتعامل مع إسرائيل..
هنا أدركت الأجهزة الأمنية أنها نجحت في أن تسلب من الشيخ الجليل تأثيره الواسع على القلوب.. وفى اليوم التالي.. صدر القرار بإبعاده من مصر وترحيله إلى جدة بالمملكة العربية السعودية!!..  أرجعت السلطات المصرية ذلك إلى مخالفة الحبيب على الجفرى لشروط الإقامة.

انتهت القصة!!..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

أيهم أولى بالاتباع: علماء السلاطبن فقهاء الخليج أم هؤلاء.

بعد مائة عام