هل يجهل الحكام العرب ما حدث فى الضفة الغربية وما سيحدث فى غزة.. أم اتفقوا عليه واشتركوا فيه؟!..

إن كنت لا تدرى فتلك مصيبة ..

و إن كنت تدري فالمصيبة أعظم


هل يجهل الحكام العرب ما حدث فى الضفة الغربية وما سيحدث فى غزة.. أم اتفقوا عليه واشتركوا فيه؟!..



بقلم د .محمد عباس
الشعب ٩-٥-٢٠٠٢




كان الهاتف فى يدى يكاد ينتحب..

وكانت الحروف تبكى  والكلمات تصرخ واللغة تنزف..

وكان على الطرف الآخر محمد الأخرس.. والد الشهيدة آيات الأخرس..

***

أحسست بالإعياء..

ضاقت أنفاسى تحت وطأة الخزى والعار..

رحت أسأل نفسي: كيف هم شامخون هكذا.. وكيف نحن منبطحون إلى هذا الحد..

كيف هم منتصرون رغم كل هذا الدم والدمار.. وكيف نحن الذين خضنا آخر الحروب وانتهينا منها منذ ربع قرن مهزومون كل هذه الهزيمة..

كيف وليس تحتهم إلا الأنقاض يبدون فى عنان السماء.. وكيف وحكامنا يعتلون الديباج والذهب يبدون فى حضيض الحضيض..

كيف لم ينكسروا كما انكسرنا..

كيف عجز شارون أن يهزم أرواحهم ..

وكيف نجح حكامنا الوطنيون والقوميون فى هزيمة أرواحنا.

***

سألت نفسى: لماذا نجح إخوتنا فى فلسطين – إن كان يحق لنا أن نرتفع إلى شرف إخوتهم – فى أن يحافظوا على ثوابت عقيدتهم بينما غرقنا نحن فى مستنقع الضلال..

ولماذا خدعنا أنفسنا فافترضنا أن هناك فارقا بين شارون وبين حكامنا..

من عظمة الإسلام أنه لا يميزك عن الآخرين بكونك عربيا أو أوروبيا أو أمريكيا.. بل بكونك تقيا.. وفى نفس الوقت فإنه لا يخفف جرم المجرم أن يكون عربيا..بل لعله يزيد.. فثمة فارق بين من لم يتبع الهدى لأنه لم يصل إليه وبين من وصله الهدى فازورّ عنه..

نعم لا يفرق الإسلام بين مجرم عربي ومجرم إسرائيلي ومجرم أمريكي..

و ..

هذه أمتكم أمة واحدة..

قاتلوا الذين كفروا كافة كما يقاتلونكم كافة..

***

هل يخفى على حكامنا ما يريده الغرب بنا؟..

أنقل لكم ما تناقلته الأنباء:

سئل أحد الأمراء الذين زاروا الولايات المتحدة وأجروا محادثات مع كبار المسؤولين فيها:

- ماذا تريد الولايات المتحدة؟!، فأجاب الوضع خطير جداً، إنـهم يطالبوننا بتغيير ديننا.

الجدير بالذكر أن هذا الأمير كان ضمن وفد رفيع المستوى.

***

أصرخ: ماذا أعددنا لدفاع عن مكة والمدينة لو شاءت إسرائيل احتلالهما..؟.

***

هل يعلم حكامنا أم لا يعلمون..

وهل ما يحدث على الساحة أمامنا مجرد فعل ورد فعل أم مسرحية وملقن وممثلون وكومبارس..

فى أحد كتبه روى هيكل عن السادات أنه استيقظ ذات صباح فسأل منتشيا:

-         ضربوهم علقة سخنة والا لسة؟..

-         وكان يقصد هل ضرب الإسرائيليون الفلسطينيين..

كان السادات – بمفهوم الولاء والبراء-  خائنا بلا شك.. لكنه بالنسبة لكل حكامنا الآن ولى من الصالحين وبطل وطنى!!..

وكان يعلم أن الفلسطينيين سيضربون..

كان يعلم..

وكان يشمت..

فكم من حكامنا كان يعلم وكان يشمت بما حدث بالأمس فى الضفة الغربية وما سيحدث غدا فى غزة..

***

هل يعلم حكامنا أم لا يعلمون..

إن كانوا لا يعلمون فتلك مصيبة و إن كانوا يعلمون فالمصيبة أعظم..

فهل أستطيع والحال ذاك أن أوجه أي انتقاد لياسر عرفات..

لقد اقتصر دور الرجل على أن يُحاصر.. وقام غيره بالمهمة.. وهى مهمة لم يكن يستطيع هو القيام بها مباشرة و إلا امتنع عليه إكمال الدور..

لكنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من تساؤل دام:

-         كم من حكامنا شارك في التمثيلية.. وكم منهم كان يحفظ السيناريو والحوار و الأدوار.. وكم منهم كان يعلم التفاصيل – كل التفاصيل – عن المذبحة قبل أن تحدث بشهور.. وربما بسنين..

فالمشكلة كانت ببساطة في مجموعة من المجاهدين لا تؤمن بأن أمريكا أكبر من الله.. مجموعة من المجاهدين كان الموت بشرف أحب إليها من الحياة بذلة وعار.. مجموعة من المجاهدين كانت لا إله إلا الله  عنهم أغلى من كل شئ في الوجود فعليها يحيون وعليها يموتون.. مجموعة كان يوجد مثلها في كل بلادنا العربية والإسلامية لكن أجهزة حكمنا الوطنية والقومية تكفلت بالقضاء عليها بالوكالة لصالح أمريكا و إسرائيل.. بقيت هذه المجموعة في فلسطين.. ولم يكن ياسر عرفات – لأسباب يطول شرحها – بقادر على القيام بالدور الذي قام به أقرانه من الوكلاء من حكام العرب.. ولذلك كان ضروريا للوكالة أن تتنحى وللأصالة أن تتقدم لتنهى إسرائيل المهمة بنفسها..

فكيف يمكن أن نتصور أن حاكما فعل بالمجاهدين في بلاده ما فعله بهم شارون في فلسطين يمكن أن يكون غير راض عما حدث.. بل كيف يمكن أن نتصور أنه لم يكن يعرف بتفاصيل كل ما حدث قبل حدوثه..

وكيف يمكن والوضع ذاك أن ندين ياسر عرفات قبل أن ندين حكامنا؟!..

***

هل يظن حكامنا أن في الجبن والصمت السلامة؟..

أظن ذلك..

و أظنهم جميعا يملكون بعض حصافة تمنعهم من الاعتراف بما اعترف به رئيس الوزراء المصري عاطف عبيد، ليس في جزئية الفضيحة المتعلقة بالمائة مليار، والتي أهان فيها شعبه وبلده وحكومته وجيشه، والتي لم يكن يقصدها على أي حال، فالرجل يعرف، أنه بعد أدائه في الاقتصاد المصري، وفى بيع القطاع العام، فإنه من الصعب عليه أن يجد من يضع في يديه مائة دينار ويأتمنه عليها لا مائة مليار دولار، ليست هذه الجزئية الهزلية إذن هي ما أتحدث عنه، بل عن قوله ويقينه أنه لا مصر ولا غير مصر ولا أي أحد يستطيع أن يقول لأمريكا: لا.

في بلادنا.. يقولون : "لا " هذه ليس لأمريكا بل يقولونها لله.. فتدافع عنهم حكوماتنا الوطنية والقومية وتعتبرهم رواد تنوير وتحرير وتسند إليهم أرفع مناصبها وتنكل بمن يعترض عليهم.. ولا تفعل حكوماتنا ذلك محاباة لهم ولا تأييدا لمواقفهم .. بل تفعل ذلك لأنها تؤمن بذلك قبلهم.. وما أتت بمثل هذه الحثالة لتبوئها أعلى مناصبها إلا لكي يدافعوا لها عما تؤمن به لكنها لا تجرؤ على طرحه.

لذلك فإنني أقول، أنه بقدر ما كان رئيس الوزراء المصري هازلا في جزئية المائة مليار بقدر ما كان جادا ومعبرا عن الجميع في جزئية الاستسلام.

***

لكن هل ينجى حكوماتنا الاستسلام؟..

هل نجى الاستسلام الهنود الحمر؟..

***

الإجابة معروفة.. فالوحش الأمريكي المسعور لن تردعه إلا القوة..

وليس مهما أن نضاهيه فيها.. ذلك أن عالمهم المادي العلماني الشيطاني  الكافر الذي لا يتورع عن إبادتنا جميعا سيجزع أشد الجزع إذا ما أيقن أننا يمكن أن نلحق أقل درجات الأذى به.. و أننا صادقون ونطلب الاستشهاد ولا نخاف الموت كما يخافونه ولا نستجدى البقاء كما يستجدونه..

ليس مطلوبا منا قوة تهزم الولايات المتحدة.. ولو أننا وصلنا إلى نوع من التوازن نستطيع فيه أن نقتل ألفا منهم مقابل كل مليون يقتلونه منا لما جرؤت هي على إعلان الحرب علينا ولا على التنكيل بنا وازدرائنا.

***

القرار الإستراتيجي الذي يجب علينا الأخذ به على الفور هو إنتاج القنبلة النووية ..

نعم.. فإن أنجع الوسائل فى تجنب الحرب هى الاستعداد لها والقبول بمخاطرها وليست تبنى ذلك الشعار الخائن عن خيار السلام الوحيد..

***

هل تحدثت عن الحكام؟!

يا ليت..

يا ليت..

يا ليت..

كان لنا حكام..








***



حوار نشرته مجلة اليمامة السعودية مع  الدكتور محمد عباس


أجرى الحوار : الصحافى عبد المحسن القبانى

ــــــــــ

بعد أحداث 11 سبتمبر و محاربة أمريكا(للإرهاب) في أفغانستان، وما تلاها من أحداث  في الأراضي الفلسطينية المحتلة و بصمت أوربي و مباركة أمريكية، ظهرت دعوات شعبية في الأقطار العربية تطالب بمقاطع البضائع الأمريكية.. كيف ترى عقلانية الدعوات ؟؟ و هل يمكن أن تترك أثرا أو ضغوطا على أمريكا

ربما تسمح لى قبل أن أتناول عقلانية تلك الدعوات للمقاطعة، أن أتطرق إلى شئ آخر، يشكل لنا كمسلمين إطارا أشمل و أرحب من العقلانية، إطارا يمكن لنا أن نطلق عليه – بالطريقة الغربية فى التعبير، وهى طريقة لا أحبها على أية حال  - : يمكن لنا أن نطلق عليه : ما فوق العقلانية.. أو ما وراء العقلانية ، هذا الإطار هو إطار: الحلال والحرام، فذلك هو ما يميزنا عن الغرب، فعندنا كمسلمين الحلال  صحيح وعقلانى حتى لو عارض مصالحنا وهوانا، والحرام  خطأ حتى لو جنينا من ورائه المنفعة واللذة. ذلك إطار فاصل، مميز، مفاصل بيننا وبين الآخرين. إذن قبل أن نتناول المقاطعة كأمر عقلانى أو غير عقلانى علينا أن نتناولها كحلال أو حرام، فإذا وجد عند الأمة فتوى يجمع عليها العلماء الذين نثق فيهم أن المقاطعة فرض، فإن هذه الفتوى تمثل العنصر الحاكم والمحدد، وهنا أستدرك لأقول أن الفتوى نفسها لا بد أن تخضع للتمحيص العقلىّ، فإذا ثبتت كان على كل مسلم اتباعها، وكان كل مسلم لا يتبعها آثما، وكانت المنفعة التى يجنيها من ارتكاب هذا الإثم حراما، يزداد هذا الإثم كل تكرر ارتكابه، لينطبق عليه فى النهاية قاعدة ذهبية فى الفقه: لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار. أى أن إصرار المسلم على مخالفة فتوى يجمع عليها علماء الأمة ليس مجرد خطأ بسيط أو إثم عادى، بل يرتفع إلى مستوى الكبائر.

هذه بداية، ننتقل بعدها إلى عقلانية هذه الدعوات، وهى فى نظرى عقلانية تماما، كما أنها ستترك على أمريكا ضغوطا يمكن أن تدفعها إلى تغيير سياستها.

ولنفصل الأمر، فعلينا أن ندرك أن اللغة بيننا وبين الأمريكيين مختلفة، لقد قلت لك أننا كمسلمين عندنا الحلال  صحيح وعقلانى حتى لو عارض مصالحنا وهوانا، والحرام  خطأ حتى لو جنينا من ورائه المنفعة واللذة، الأمر عند الأمريكيين – كما يعترفون هم أنفسهم –  على العكس طبقا للفلسفة البراجماتية والحداثية وما بعد الحداثية، فكل ما يجلب المنفعة والمكسب واللذة صحيح بغض النظر عن أى شئ آخر، فالبراجماتية وتسمى أحياناً (الذرائعية) أو (النفعية)، حيث يورد مؤصلو هذه الفلسفة من الأمريكان أن قيمة الشيء أو الفعل لا تكمن في ذاته، بل في مدى منفعته المحسوسة للفرد وما يمثله من عائد على تحقيق غايته بغض النظر عن تعارض ذلك مع القيم الأخلاقية ومع غايات الآخرين. ويقول (وليم جمس) في كتابه (إرادة الاعتقاد): «إن الحقيقة تقوم في مطابقتها للواقع الملموس؛ وهذه المطابقة تقاس بمدى نفعها». لكن البراجماتية كانت أفضل مما تبعها من حداثة، فالبراجماتية تعترف بقوانين عامة وتلتمس الذرائع للخروج عليها،  والحداثة تلغى هذه القوانين العامة لتعنى إلغاء أى تأثير لمرجعية الدين والأخلاق والتاريخ على القرارات التى تتخذها والمواقف الأخلاقية التى تتبناها والتى تقود خطواتك العملية، إنهم يلغون كل ذلك ليكون الإنسان الفرد هو مرجعية نفسه، ما يراه صحيحا هو الصحيح وما يراه خطأ  هو الخطأ، لكن الحداثة أيضا أفضل مما تلاها !،  فما بعد الحداثة تتقدم – أو على الأحرى  تتقهقر- خطوة أخرى فتلغى حتى الإنسان كمرجعية، وتجرد كل الأفعال والصفات من قيمتها، فالقتل والسرقة ليسا حراما فى ذاتهما، بل لا فرق بين أى تصرف وعكسه إلا فى الفائدة التى تعود علينا منه، فإذا كان القتل مفيدا لهم عليهم أن يقتلوا، وإذا كان ضارا بهم عليهم أن يجرموه ويحرموه، وهكذا دواليك.

ذلك هو الأساس العقلى الذى أناقش المقاطعة فى إطاره، فالمقاطعة هنا هى اللغة التى تفهمها أمريكا ، هى الفعل المضاد الذى يثبت لها أن سياساتها مع المنطقة العربية والإسلامية خطأ، إنهم لا يفهمون لغة أخري، وليست عندهم مقاييسنا للصواب والخطأ، وبالنسبة لهم، الطريقة الوحيدة المتاحة لنا ، والتى ستجعلهم يقتنعون أنهم مخطئين، وستدفعهم للإقلاع عن هذا الخطأ، هو أن نقاطعهم اقتصاديا.

2)* هل تعتقد أن أثر الحملات ضد البضائع الامريكية قد يحمل امريكا على القيام بدور مشابه من ايقاف تصدير بعض السلع الامريكية المؤثرة إلى العالم الإسلامي كالأدوية مثلا ؟؟ و هل هناك بدائل متوفرة لمثل هده السلع ؟؟

عندما نلجأ إلى المقاطعة فإننا لا نلجأ إليها كفعل بل كرد فعل، ورد الفعل هذا يستهدف أن نتقى ضررا أكبر و أهم و أخطر، ألا وهو قيام الأمريكيين بقتل المسلمين، و إعانة أعدائهم عليهم وحصارهم فى كل مكان والتنكيل بهم والاستهانة بمقدساتهم، حتى بلغ الأمر أنهم يريدون  التدخل فى مناهجنا التعليمية، بل و أكثر من ذلك فى تفسير مصطلحاتنا الدينية كالجهاد مثلا، ويطلبون منا استنكاره رغم أنه ذروة سنام الإسلام، أنت تواجه محاولة قتلك، على المستوى الواقعى والمعنوى، وليس أمامك سوى أن تواجه، و أول وأبسط درجات المواجهة أن تقاطعهم اقتصاديا. بالطبع سوف يواجهونك، وقد يمنعوا عنا فى البداية بعض إنتاجهم، والذى نستطيع الحصول عليه من أماكن أخرى كأوروبا واليابان والصين وجنوب شرق آسيا، وفى حدود ما نحتاجه فإن كل شئ متاح فى السوق العالمى، نحن لا نحتاج منهم إلى تكنولوجيا الاستنساخ أو الهبوط على القمر، نحن نحتاج إلى منتجات عادية متوافرة فى السوق العالمى فى أمريكا وفى غيرها. أقول أنهم قد يمنعوا عنا فى البداية بعض إنتاجهم، لكنهم فى اللحظة التى يدركون فيها أنك جاد فى موقفك، وأنها ليست موقف ارتجال أو ثورة انفعال مؤقت فسوف يراجعون موقفهم، فماذا يفعلون مثلا إذا صعّدوا الأمر ووجدوك لا تتراجع، ستزداد خسائرهم، وسوف يقدمون إليك مبررا لكى تعاملهم بالمثل فتقطع عنهم البترول مثلا، أو على الأقل لا تعاملهم كدولة أولى بالرعاية.  ومرة أخرى: أنت لا تلجأ للمقاطعة مختارا، ومن المؤكد أنها فى بعض الجوانب على الأقل سوف تضر بنا، على الأقل فى مجال تغيير البنى التحتية كى تتوافق مع الأسواق الجديدة التى سنلجأ إليها،  لكنه الضرر الأصغر الذى ندفع به الضرر الأكبر. ومرة أخرى أيضا فقد ثبت لنا بما لا يدع مجالا لشك مستريب أن أمريكا لا تسمع لصوت الأخلاق ولا لصوت العقل أيضا، لا تسمع إلا صوت المصالح، تلك هى اللغة الوحيدة التى تفهمها  وعلينا أن نخاطبها بها.

3)* هل يمثل حجم الاقتصاد العربي قياسا إلى العالم شيئا ذي بال ؟ لتكون مقاطعة بعض صادرات بعض الدول مؤثرة و ذات جدوى ؟؟

علينا أن نناقش الإجابة على هذا السؤال فى محورين، الأول فيهما هام، والثانى أكثر أهمية!..

المحور الأول: علينا أن نعترف أن حجم الاقتصاد العربى بالنسبة للاقتصاد العالمى ضئيل بدرجة تدعو للرثاء – وربما الغضب- و أن حجم الناتج القومى لبلد أوروبى عادى كأسبانيا يفوق حجم الناتج القومى لكل الدول العربية. لكننا نخطئ خطأ جسيما لو فكرنا فى الأمر بهذه الطريقة. إن الأرقام صماء وتحتاج إلى من يقرأها ويفسرها، وكثيرا ما تكون النسب المئوية مضللة، وقد تدفعنا ضآلة حصتنا فى الاقتصاد العالمى إلى اليأس من جدوى المقاطعة، لكن الأمر لا يعتمد على النسب المئوية، إنه يعتمد على من يقوم بالمقاطعة ومن يقود الدعوة إليها. فهناك فى العالم عموما ، وفى عالمنا العربى على وجه الخصوص: دول رائدة كالمملكة العربية السعودية، ودول قائدة كمصر ( أنا هنا لا أتكلم عن أوضاع مؤقتة متغيرة لكننى أتكلم من خلال منظور شامل للتارخ). والدولة الرائدة أو القائدة لا تمثل نفسها فقط، بل إن تأثيرها الأخطر والأهم أنها تمثل الصوت الحادى والمنارالهادى  لأمتها، والدولة الرائدة أو القائدة عندما تتخذ موقفا فإنها تؤثر فى دوائر متتالية تضاعف حجم تأثير قرارها أضعافا مضاعفة، فالموقف الذى تتخذه السعودية أو مصر سو يؤثر فى العالم العربى ثم فى العالم الإسلامي، ولن يقتصر الأمر على ذلك، لأنك عندما تتخذ مثل هذا الموقف ستمثل نموذجا يمكن لدول العالم الثالث كلها أن تتبعه، و أخطر ما فى هذا الموقف، أنك فيه تتصرف تحت السقف الذى تسمح به القوانين الجائرة للنظام العالمي الجديد، ليس ذلك فقط، بل إنك عندما تقاطع أمريكا مثلا، وينتقل موقفك هذا إلى دوائرك المتتالية، فإن موقفك هذا ليس موقفا فى الفراغ، ولا أنت ستتوقف عن استيراد البدائل، كما أنك لن تستوردها من المريخ!! بل ستستوردها من دول أخرى كأوروبا واليابان، وسوف يكون من مصلحة هذه الدول أن تدعم موقفك، وتكون بهذا قد وسعت الشق وبثثت التناقض بين أمريكا و أوروبا واليابان والصين، بل ستحصل على مؤيد قوى لموقفك. ليس موقفك الاقتصادي فقط، بل والسياسي أيضا. وربما يكون كل ذلك هو ما يقصده كتاب الدول المحورية  الذى يتحدث عن دول محورية قليلة فى العالم، يمكن لها إذا غيرت مواقفها أن تقلب التوازن العالمي ضد أمريكا. ولقد وضع مؤلفو هذا الكتاب مصر من هذه الدول المحورية. و الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات في العمق بأقلام خبراء استراتيجيين حول مستقبل عدد من دول العالم الثالث جرى انتقاؤها بعناية دقيقة على أساس انها (دول محورية) .. بمعنى انها تقف حاليا على مفترق طرق وان توجهها مستقبلا في هذا الاتجاه أو ذاك سوف يقرر بالتداعي الجيوــ سياسي مصير دول اخرى.

لقد ناقشنا المحور الهام، وعلينا الآن أن ننتقل إلى المحور الأكثر أهمية، وسوف نناقشه باختصار شديد لأن المجال لا يتسع له. وهذا المحور يتعلق بحقيقة مفجعة، وهو أن الضآلة البالغة لحجم الاقتصاد العربي مقارنا بحجم الاقتصاد العالمي ليست ضآلة طبيعية بل هى ضآلة مصطنعة وظالمة. نحن فعلا متخلفون.. ونحن لا ننتج كما ينبغى لنا أن ننتج.. لكن حجمنا فى الوقت نفسه ليس بهذه الضآلة، وذلك يعود إلى أداة أساسية من الأدوات الذى وضعها النظام العالمي وعلى رأسه أمريكا، هذه الأداة هى أداة : " التسعير" . وهذه الأداة التى تقود اقتصاديات السوق هى فى جانب كبير منها أداة سلب ونهب، حولت ما كان يسلبه الاستعمار بقوة الدبابة والمدفع إلى سلب ونهب شرعيين يحميهما القانون العالمي.  ذلك أن سعر السلعة ليس قانونا طبيعيا يمكن أن تقيسه أو أن تقيس عليه و لا أن تستنبطه بقوانين الرياضيات، كما أنه ليس حقيقة مطلقة فى الكتب المقدسة!( راجع فى ذلك جارودى وتشومسكى وليبرمان). إنه فعل بشرى، يتعرض لكل ما تتعرض له الأفعال البشرية من قصور ونقصان وظلم وغرض وهوى. السعر مقياس بشرى يمكن أن يكون غطاء للنصب والاحتيال ولمختلف وسائل الضغط الأخرى كشدة الحاجة إلى منتج معين أو لاحتكار اقتنائه أو صناعته، خاصة إذا واكب هذا الاحتكار قوة عسكرية تتيح لصاحبه أن يفرض رأيه. ولنضرب مثالا بسيطا على هذا فقد كانت قيمة البهارات التى تستوردها أوربا فى عصورها المظلمة – والتى كانت عصورنا الباهرة المبهرة- تتجاوز أحيانا قيمة الذهب وزنا بوزن. والآن اختلف الوضع تماما. السعر إذن ليس قيمة داخلية مطلقة للسلعة. وكل هذا يدفعنا للتساؤل: كيف تكفى ألف دولار لشراء خمسين برميلا من البترول ولا تكفى لشراء جهاز إليكترونى صغير. كيف تم تحديد قيمة هذا وقيمة ذاك؟!. ما أريد أن أقوله هو أن دول العالم الثالث ونحن منها لا تنتج كما ينبغى لها أن تنتج، لكن منتجاتها فى الوقت نفسه يتم تسعيرها بثمن بخس جدا. إن بعض الدراسات تقول أن سعر برميل البترول العادل يجب أن يتراوح بين مائة ومائتى دولار، وما ينطبق على البترول ينطبق على منتجاتنا الأخرى. مساهمتنا الضئيلة فى الاقتصاد العالمي إذن فى شقها الأكبر تعود إلى ظلم فادح، وقد يفيد سلاح المقاطعة فى رفع هذا الظلم، ولنتذكر أنه فى عام 73 تضاعف سعر البترول عشر مرات. كان البترول هو نفس البترول، لكن موقفك السياسي المدعم بأدائك العسكرى رفع عنك جزءا من الظلم الذى يحيق بك. وعندما يحدث ذلك فلن يعيرنا أحد بأن ناتج أسبانيا يفوق ناتج الدول العربية مجتمعة.

4)* هل هناك دور اقتصادي و غير سياسي يمكن أن تلعبه أو تقوم به الدول العربيةأثناء أزمة الاعتداءات الاسرائيلية و يكون له دور مؤثر و فاعل لإيقاف نزيف هذه الحرب ؟؟ ماهو رأيك ؟؟

دعنى أصارحك بأننا فى موقف بالغ السوء، موقف تلميذ أهمل مذاكرة دروسه طول العام ثم يأتى ليلة الامتحان ليسألك ماذا أفعل؟!. وعلى الرغم من ذلك ليس أمامنا من سبيل آخر. إن خطورة ما يحدث فى فلسطين لا يقتصر – رغم كل بشاعته – على وضع إنسانى والتزام أخلاقى تجاه إخوتنا هناك، ولا حتى على واجبنا الدينى تجاههم. خطورة ما يحدث من وحشية مسعورة وظلم مجنون هو أنه يشكل منهجا فكريا  أمريكيا تتعامل وسوف تتعامل به الولايات المتحدة الأمريكية - و إسرائيل - مع كل الدول الإسلامية إذا لم تجد من يردعها.  والدور الاقتصادي يمكن أن يكون مؤثرا وفاعلا لكن بشرط أن يكون جزءا من منظومة شاملة للمواجهة، ولست أقصد بالطبع المواجهة العسكرية – و إن كنت لا أستبعد الجهاد – لأسباب مفهومة. منظومة لها شقها الفكري وشقها التطبيقى، منظومة تشمل بين ما تشمل التكامل بين دول العالم الإسلامي وربط اقتصاد كل دولة منها بباقى الدول الإسلامية. وتشمل أن نحاول قدر ما نستطيع أن ننتج ما نستهلك و أن نستهلك ما ننتج. منظمة لا يتعارض فيها مجهود الأفراد ومجهود الدول فيبطل كل منهما الآخر. إننى أفهم مثلا أن تقاطع أسرة المنتجات الأمريكية، لكن إذا ما ذهب رب هذه الأسرة واشترى سيارة أمريكية فسوف تتحول المقاطعة إلى موقف هزلى يثير ازدراء الغرب بنا ولا مبالاته. نفس الموقف ينطبق على مستويات أخرى، فمثلا، إذا ما قاطع كل أرباب الأسر السيارات الأمريكية ثم ذهبت شركة ضخمة أو مؤسسة سيادية  لتبرم تعاقدا بمليارات الدولارات ، فهى أيضا تحول المقاطعة إلى مهزلة.

الأمل فى المنظمة الشاملة للمقاطعة أن تنتقل من أسفل إلى أعلى: من أفراد الأسرة إلى ربها، إلى الهيئات والمنظمات والمؤسسات والشركات، ومن هذه إلى الدولة.

لو أننا بدأنا هذه المنظمة حين كان يجب أن نبدأها لما جرؤت إسرائيل على أن تفعل ما فعلته، ولو أننا نبدأها الآن ، و أدرك الغرب أننا جادون فى مواصلتها، فإننى أشك كثيرا أننا سنكملها إلى نهايتها، لأن أمريكا ستتراجع ، وستصدر أوامرها لكلبها الشرس فى المنطقة، إسرائيل، أن يكف عن نهش لحم العرب.

نستطيع أن نفعل الكثير، و أن نؤثر فى العالم كله لا فى إسرائيل فقط..

نحن أقوياء.. لكننا لا نعلم..

والله أعلم..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

أيهم أولى بالاتباع: علماء السلاطبن فقهاء الخليج أم هؤلاء.

بعد مائة عام