بلاغ إلى :... ما من أحد
بلاغ إلى :...
ما من أحد ..
ما من أحد..
ما من أحــــــــــــــــد..
بقلم د محمد عباس
الشعب ٤-١٠-٢٠٠٢
ليس بيني وبينك أيها القارئ إلا الصدق مهما بلغت مرارته.. لن أحاول خداعك أبدا.. ولن أقتنع مهما كان الأمر بدعاوى تقول أن روح الأمة المعنوية في الحضيض و أنها تحتاج إلى من يبث فيها الأمل ويداوى لها الألم ويهون من الخطوب حتى لو غابت عن واقعنا بشائر النصر اعتمادا على الوعد الإلهي..
وما أشد يقينى بالوعد الإلهى ولكن لأمة تستحقه..
لذلك لن أحدثكم عن المبشرات يا قراء..
لذلك.. ولسبب آخر أيضا..
لأنني أدينكم..
و أدينك يا أمة..
***
من أجل ذلك جلست يوما بطوله أمام عنوان مقال هذا الأسبوع:
بلاغ إلى النائب العام..
واحتشدت الأحداث والقضايا والخطوب في قلبي.. تهاطلت من سماوات للألم وفاضت من بحور للتعاسة والشقاء وفارت من عيون لخيبات الأمل.. نعم.. احتشدت الخطوب.. انفجرت انفجار البراكين وهبت هبوب العواصف و الأعاصير.. وانهملت انهمال سيول لا تبقى في طريقها ولا تذر.. ولم يقتصر الأمر على الانفجار والهبوب والانهمال والانهمار والانهيار.. فقد بقيت آلام أصغر.. تسللت من الشقوق كالحيات والعقارب.. فراحت تلدغ الإحساس والشعور.. وتسمم النفس والضمير..
ولم أكن أستطيع أن أشكو إلى النائب العام كل هذا..
***
انفجر العنوان في قلبي عشية الأربعاء الماضي.. كانت قناة الجزيرة تقدم الأستاذ يوسف ندى الذي تحدث عن كمال السنانيرى..
كانت معلوماتى عن كمال السنانيرى شذرات أخبار سمح بها إعلام فقد عذريته وباع عرضه منذ زمان طويل.. وظل الأمر كذلك حتى شرعت في إعداد كتابي : "بل هي حرب على الإسلام" وهو الكتاب الذي صادرته سلطة فقدت بكارتها وباعت عرضها منذ زمان أطول.. و أثناء إعداد الكتاب تنبهت إلى الدور الهائل الذي اضطلع بالقيام به كمال السنانيرى.. كانت الحرب الأفغانية قد انتهت باندحار الروس.. وتدخل الشيطان الأمريكي فوسوس في النفوس فبدأت الحرب الأهلية بين فرقاء الأمس.. وطار كمال السنانيرى إلى هناك.. واصطحب قادة الفصائل المتحاربة الخمس إلى المسجد الحرام في مكة و أقسم عليهم ألا يتركوا المسجد الحرام حتى يتفقوا ويعودوا إلى الاتحاد من جديد.. ونجحت خطته.. وتوقفت الحرب الأهلية.. وعاد كمال السنانيرى إلى مصر.. وتلقفه الزبانية.. و أعلنوا بعد القبض عليه: انتحاره..!!
هل تحدثت عن فقدان العذرية والبكارة؟..
هل تحدثت عن بيع الأعراض..
هل تحدثت عن القوادين والمومسات..
هل تحدثت عن المجرمين واللصوص والقتلة..
ما أشرفهم و ما أشرفهن بالنسبة لرعاتنا ..
ما أشرفهم ما أشرفهم ما أشرفهم.
***
في كتابى قلت أنني ألمح أصابع اختراق من المخابرات الأمريكية لجهازنا الأمني وراء اغتيال كمال السنانيرى..
***
في برنامج بلا حدود كان الأستاذ يوسف ندا يقول أن لديه ملفا كاملا بالمستندات عن اغتيال كمال السنانيرى.. ملف كامل يحوى اسم المجرم الذي قتله.. وكيف أن اللواء أحمد رشدي وزير الداخلية آنذاك قد نقله من فرق الأمن إلى شرطة السياحة..
( عقاب أم مكافأة؟!)..
***
اكتملت الصورة في رأسي.. وتجسد تمثال الخيانة والعمالة والاختراق..
تذكرت كيف أن حكمدار القاهرة كان يتجسس على الملك فاروق لحساب السفارة الإنجليزية.. وتذكرت كيف تم اختراق هواتف رئيس الجمهورية في قضية الباخرة أكيلى لارو.. وتذكرت العملاء والجواسيس والخونة.. وقلت لنفسي أنني سأهدى قضية مكتملة الأركان إلى النائب العام.. فما عليه إلى أن يطلب الملف والمستندات حتى يتساقط المجرمون مجرما خلف مجرم والجواسيس جاسوسا خلف جاسوس..
وبلغ انفعالي ذروته واقتناعي غايته وجلست لأكتب:
بلاغ إلى..
كنت أنوي أن أكمله: بلاغ إلى النائب العام
لكنني لم أكمله..
تسلل التساؤل كوحش مسعور فعقرنى:
- أتظنه لا يعلم؟.
***
ومن الكهف الذي تسلل منه الوحش انسابت ذكرى مقالات طويلة ساخنة تجاوزت الحوار إلى الهجوم في عام 1993 و1994.. كان ذلك مع النائب العام الأسبق.. وكانت القضية أيضا هي التعذيب.. وكانت النتيجة مرارة ما بعدها مرارة .. اضطررت على إثرها إلى أن أشكو النائب العام لرئيس الجمهورية.. ( نشرت هذه المقالات في صحيفة الشعب حينذاك، كما نشرت بعد ذلك في كتابي: إني أرى الملك عاريا، ويمكن للقارئ الرجوع إليها على موقعي:
***
قلت لنفسي أنني إذا لم أستطع أن أقدم بلاغا بشأن مثل هذا للنائب العام فهل أستطيع أن أقدم له بلاغا بشئون أخرى..
لقد هربت من القضايا الكبرى كي أتناول قضية أستطيع أن أدلى فيها بدلوي..
هربت من العراق وفلسطين و أفغانستان..
وهربت حتى من قضية الفساد الداخلي.. ومن قضايا تتعلق بيوسف والى وبشيخ الأزهر.. وعزمت أن أتناول قضية مكتملة الأركان كقضية الشهيد كمال السنانيرى.. وها أنذا أفشل مرة أخرى..
قلت لنفسي أن الفساد والخيانة طرف لخيط طويل تنتظم فيه السلطة جلها.. والنائب العام جزء من السلطة لا يستطيع مهما صدقت نواياه أن يقوم بعمل دولة.. وهو من ناحية أخرى لا يستطيع أن يغير الحديث النبوي الشريف: قاض في الجنة وقاضيان في النار..
ماذا سيفعل النائب العام إذا ما جاءه كل متهم ليقول له : أنا مجرد سكرتير لسيادته لا أفعل سوى أن أنفذ تعليماته وسياساته!!..
***
أسقطت إذن تلك القضية.. وقلت لنفسي عد إلى قضايا الأمة .. إلى المخاطر التى تتهدد وجودنا كله .. لكنني لا أستطيع أن أحيل تلك القضايا إلى النائب العام.. لا أستطيع أن أقدم إليه بلاغا ضد من قتل روح الأمة.. ولا ضد من سلبها الإحساس بالعزة والكرامة.. وحتى بالأمن .. كما لا أستطيع أن أقدم له بلاغا أطالب فيه بالتحقيق مع من استدعى القوات الأمريكية في عام 91.. وراح يفخر بما فعل.. لا أستطيع أن أتقدم بذلك إلى النائب العام.. وبقى العنوان ذو الكلمات الشاغرة:
- بلاغ إلى.............
فكرت أن أعبر ما بيني وما بين رئيس الجمهورية لأكمل العنوان:
بلاغ إلى رئيس الجمهورية..
قلت لنفسي ماذا أكتب له الآن مما لم يسبق لي كتابته إليه.. لقد كتبت له حتى قصف قلمي و أغلق صحيفتي في الوقت الذي يتباهى فيه أركان حكمه بأن نظامه هو النظام الذي لم يغلق صحيفة ولم يقصف قلما..!!..
قلت لنفسي كيف أكتب له فأخدع القراء و أخدع نفسي.. لأنني بكتابتي له أضع افتراضا أن إمكانية حل المشاكل عنده.. بينما أراه في الحقيقة جزءا من المشاكل لا حلا لها..
ثم أنني أظلمه – كما كنت سأظلم النائب العام – حين أحمله فوق طاقته..
***
قلت لنفسي: اكتب إذن بلاغا إلى الملوك والرؤساء والأمراء العرب..
لكنني تذكرت مقالات طويلة بعنوان: " جلالة الملك.. فخامة الرئيس" كتبتها عبر أسابيع و أسابيع.. وليس هناك ما يمكن أن أقوله الآن لم أقله فيها..
قلت لنفسي: اكتب لهم شيئا آخر.. لا تناشدهم الإسلام فما بينهم وبينه بعد المشرقين.. ولا تناشدهم الأوطان فليس لهم فيها إلا القصور والقبور.. ولا تناشدهم القضاء على الفساد فليس الفساد سوى أعمدة ملكهم.. ولا تناشدهم نجدة أحبابنا المجاهدين في فلسطين ولا إخواننا الذين سيذبحون في العراق غدا.. لا تناشدهم أيا من ذلك.. اطلب منهم فقط أن يدافعوا عن عروشهم لا كما يدافع الملوك عن ملكهم بل كما يدافع رؤساء العصابات عن عصاباتهم..
لكن الأمر أدنى حتى من أمر رؤساء العصابات..
والأمر له سوابقه..
***
نعم .. له سوابقه فيما فعله جدهم.. جد فخامة الفخامات وجلالة الجلالات..جدهم: السلطان أبى عبد الله أخر ملوك غرناطة..
فهل أطلب عقد مؤتمر قمة لمجرد أن أقدم لحضوره بلاغا يحتوى على سطر واحد: ابكوا كالنساء ملكا لم تحافظوا عليه كالرجال..
أم أطلب عقد مؤتمر قمة لبحث شروط التسليم لأمريكا و إسرائيل..
أم أكشف لكم يا قراء عن الملحق السرى لاتفاقية تسليم غرناطة.. وما أظن مفاوضات حكامنا ورحلاتهم إلى أمريكا تتجاوز بنود تلك الوثيقة..
***
نعم..
اتفاقيات سرية..ككل الاتفاقيات السرية التى تعقد الآن ليس ابتداء بكامب ديفيد ولا انتهاء بمبادرة الأمير عبد الله..
ففي نفس تاريخ ومكان توقيع معاهدة غرناطة، تم توقيع ملحق سرى للمعاهدة الأولى يتضمن الحقوق والامتيازات والمنح التى تعطى للسلطان أبى عبد الله ولأفراد أسرته وحاشيته متى نفذ تعهداته المنصوص عليها في المعاهدة الأصلية وتم تسليم غرناطة والحمراء وحصونها، ويمكن إيجاز هذه المعاهدة السرية فيما يلي:
- يمنح الملكان الكاثوليكيان لأبى عبد الله وأولاده وأحفاده وورثته إلى الأبد، حق الملكية الأبدية لما في حوزتهم من محلات وضياع (...) لتكون كلها له ولأولاده وأعقابه وورثته بحق الملكية الأبدية، ويتمتع بكل ريعها وعشورها وحقوقها، ويتولى القضاء في النواحي المذكورة باعتباره سيدها وباعتباره في الوقت نفسه تابعا وخاضعا لجلالتهما (...)..
- يمنح جلالتهما الملك المذكور مولاي عبد الله هبة قدرها ثلاثون ألف جنيه قشتالى من الذهب يبعثان بها إليه. عقب تسليم الحمراء وقلاع غرناطة الأخرى الواجب تسليمها في الوعد المحدد.
- يهب جلالتهما للملك المذكور كل الأراضي والحدائق والمزارع التى كان يملكها أيام أبيه السلطان أبى الحسن(...)
- ألا يطلب جلالتهما أو أعقابهما إلى ملك غرناطة أو حشمه أو خدمه رد ما أخذوه في سواء من النصارى أو المسلمين من الأموال والأراضي.([1])
***
هل تتصورون يا قراء أن مجهود حكامكم لمواجهة أمريكا و إسرائيل يتجاوز بنودا كبنود تلك الوثيقة.. هل تتصورون إلا أنهم قبلوا أن يحدث في فلسطين وما سيحدث للعراق وما يحدث للعالم الإسلامي كله مقابل بنود وثائق كتلك..
هل أقدم بلاغا إلى النائب العام ليكشف لنا الوثائق السرية للملوك والحكام..
هل أطلب من مؤتمر القمة أن يرغم أعضاءه على كشف الاتفاقات السرية التى عقدها أعضاؤه مع أمريكا و إسرائيل.
هل أطلب من وزراء اقتصادهم أن يحسبوا لنا كم يساوى ثلاثون ألف جنيه قشتالى بالدولار الأمريكي أو بالشيكل الإسرائيلي..
أم أترك الكلمات في العنوان شاغرة:
- بلاغ إلى...
***
لكن الأمر أفدح مما يمكن السكوت عليه..
هل ألجأ إلى الأمة..
الأمة.. الغنيمة التى يتصارعون عليها لاقتسامها..
القصعة.. التى يتداعى الأكلة عليها..
هل أكمل الكلمات الخالية فأكتب:
- بلاغ إلى الأمة..
لكن..
هل توقظ مقالتي أمة خانعة راكعة مستذلة كان عليها أن تؤدب حكامها كي تستطيع مواجهة أعدائها..
هل توقظ مقالتي تلك الأمة الغارقة في الغيبوبة بعد أن عجزت كل هذه الكوارث عن إيقاظها..
أم يظل العنوان خاليا حائرا تائها لا يعرف إلى من يتوجه..
***
فكرت أن أترك هذا كله.. و أوجه البلاغ إلى واحد يكاد يكون الوحيد من الرسميين الذين ما زالوا يحتفظون ببعض احترام.. إلى عمرو موسى.. كي أطلب منه الفرار بكرامته من هذا المستنقع الذي سقط فيه.. أن يعلن استقالته من جامعة لم توفر الحد الأدنى من الكرامة.. جامعة هي جامعة لمخازى وقصور وعجز أعضائها.. فجامعة التحفت بكل هذا الصمت المدنس إزاء ما يحدث في فلسطين والعراق لا تستحق أن تستمر.. ولا يشرفه أن يرأسها..
لكن عمرو موسى هو أيضا جزء من نظام تعفن لكنه ما يزال يحكم..
***
بلاغ إلى...
بلاغ إلى...
بلاغ إلى...
***
هل تدرك أيها القارئ مدى المأساة ومدى الفاجعة.. مدى البؤس ومدى الوحشة..
لا يوجد في هذه الدنيا من نستطيع التوجه إليه...
لا يوجد بين كل ولاة أمورنا من نستطيع اللجوء إليه..
ما من أحد .. ما من أحد.. ما من أحد..
ما من أحد..
ما من أحد..
ما من أحد..
تعليقات
إرسال تعليق