أوقفوا التعذيب ٣

أوقفوا التعذيب ٣
الشعب ٢٩-١١-٢٠٠٢
سيادة الرئيس

عندما بدأت هذه السلسلة من المقالات، عن بطش جماعات منحرفة  في قطاعات الشرطة بالناس، متَّهمين وغير متهمين، سياسيين وغير سياسيين، ذلك البطش، الذي وصفه حكم محكمة بأنه إجرام في إجرام، كنت أنتوي ألا أكف عن الحديث فيه وفضحه وتعريته أمام الناس والعالم، والحقيقة أنني وكأنما وقع السياط علىّ، ولهيب النار تحتي، والكلاب تنهشني، كنت أود أن أواصل الكتابة، حتى يدرك كل كاتب في هذا البلد أن كل ما يكتبه هراء وحقوق الإنسان تستباح بهذه الحيوانية والبشاعة، أنه ليس من حق مبدع أن يبدع، ليس من حق شاعر أن ينظم قصيدة، ولا روائي أن يكتب رواية، ولا قصاص أن تجود قريحته بقصة، ولا مثال أن ينحت تمثالا، ولا كاتب مقالة أن يكتب مقالة، ولا ناقد أن ينقد، ولا.. ولا.. ولا.. واخوتنا في البشرية أيا كان ما فعلوه يعانون هذا الذي نعرفه من الجلادين الذين لا نعرفهم..
وحتى عندما تمزقت نياط قلبي مع الطبيب المصري محمد كامل خليفة، الذي انتهكت براءة الأعوام السبعة من عمر فلذة كبده، ثم جلد بالسياط وسجن وعذب لأنه تجرأ وتحدى الإجرام والقهر، قلت لنفسي في مرارة أن العلة واحدة و أن الوباء عميم، وتساءلت، هل من حقنا أن ندين المملكة العربية السعودية على انتهاك حقوق مواطن مصري ؟ دعونا من أي تقييم آخر لدور المملكة منذ نشأت وتأثيرها على الأمن القومي، وهل كان دورها إضافة إلى الأمة أم طرحا منها ؟ وهل لعبت دور النواة الصلبة التي تجمع حولها العرب والمسلمين وتحميهم من التفتت أم كانت حصان طروادة الذي نفذ من خلاله الأعداء إلينا، دعونا من ذلك، دعونا أيضا من التساؤل هل هي أول مرة تنتهك فيها كرامة مواطن مصري هناك، وتذكروا أننا عندما اختلفنا سياسيا مع العراق انتشرت حكاية النعوش الطائرة، وعندما اختلفنا مع اليمن انتشرت حكايات اضطهاد المصريين هناك، فدعونا من التساؤل ما هو الأصل وما هو الفرع، ما هي الخلفيات وما هي الحقيقة، دعونا من التساؤل في كل ذلك، فليس للرعاع الدهماء من أمثالنا نحن الكتاب  والمفكرين والصحفيين التساؤل عن تلك الشئون، شئون السادة، ولو أن أحدا هاجم السعودية منذ عام لاتهموه بتكدير العلاقات وتعريض العلاقات للخطر، ولو دافع عنها اليوم لاتهموه بخيانة أمه مصر، ونحن في الحالتين، لا نعرف سبب المحبة الحقيقي حين تحابوا، ولا سبب البغضاء حين تباغضوا، وهل كان ذلك حبا في الله أم في من سواه، انسوا ذلك إذن، تذكروا فقط كيف أغلقت صحيفتا صوت العرب ومصر الفتاة  ولماذا، ثم عودوا معي إلى الطبيب المصري الذي مزقت حكايته نياط قلبي، هل من حقنا أن ندين السلطات السعودية على انتهاك عرضه وكرامته وحقوقه ؟ هل من حقنا ؟ نحن الذين تنتهك أعراضنا وكرامتنا وحقوقنا كل يوم ؟ ألم تؤكد أحكام المحاكم  التعذيب وانتهاك الأعراض ؟ ألم تؤكد انتشاره وذيوعه ؟ لماذا نلعن العار في بيوت الآخرين وهو ملء بيتنا..
كنت حريصا على أن أظل أكتب عن التعذيب حتى يدرك كل كاتب في هذا الوطن أنه مدان  بالمشاركة بالصمت عن الجريمة، وأنه مجرم فعلا إن لم يتوقف عن الكتابة في أي شيء إلا عن التعذيب فلا يتوقف الكتاب جميعا عن الكتابة عن الإجرام  الذي يمارس ضد الإنسان في بلادنا، لا يتوقفوا  حتى يتوقف التعذيب.
أعددت مادتي وجمعت كتبي، يؤججني ضريم ويشعلني عذاب، منتويا ألا أتوقف، ألا أسمح لأي عارض آخر مهما بدت أهميته أن يشغلني عن وصمة العار التي تدنس كل واحد منا..
وفجأة صدرت القوانين الأخيرة..
وفجأة أيدها الرئيس ودافع عنها[8]..
كيف سيستجيب لي الكتاب إذن  ليكتبوا عن إهدار حقوق الإنسان، وحقوقهم تهدر؟.
وكيف سأواصل أنا دعوة الآخرين إلى إطفاء النار في بيوت الآخرين وبيوتهم تحرق ؟.
ولمن سأكتب إذن، وكيف أواصل الكتابة ؟
           ***
ينساب علىّ خيال حزين، ربما كان رؤيا، وربما كان من خلال أستار الزمن رؤية، عن فارس، ربما كان في الأندلس أو في العراق أو في سيناء أو في البوسنة والهرسك،فارس يحاول الدفاع عن قلعة تهدمت حصونها ونقبت ثغورها، وانشغل ولاتها الخونة عن الدفاع عنها بجمع ما سرقوه منها والهرب، ويقف الفارس حيرانا، هذا الثقب أولى بالدفاع أم ذاك النقب، تلك الثلة من فرسان العدو أم تلك القلة، إلى اليسار أم إلى اليمين، إلى الأمام أم إلي الخلف، كلما اتجه إلى مكان اكتشف أن الخطر في المكان الآخر أشد، وكلما عزم على أمر وجد أن فرصة تنفيذه قد ولت، تدور عيناه، تسعر عيناه، يجرى لكن في نفس النقطة من المكان، يلهث، يدور حول نفسه، يظل يدور، ويدور ويدور..
هل هذا خيال، أم أنه هو ما يحدث للكتاب والمفكرين في عالمنا العربي والإسلامي الآن، ما أن يتصدوا للدفاع عن قضية حتى يفاجئوا بقضية أهم منها، وما أن يتمترسوا لمواجهة مصيبة حتى تدهمهم مصيبة أشد.. 
هل هو مخطط أن نظل نلهث هكذا، أن نظل دائما ندور حول أنفسنا، ألا نكمل دراسة موضوع، أو بحث أمر أو الدفاع عن قضية، أن يتسلل إلينا دائما من يفرق شملنا ويشتت انتباهنا، من يحرمنا من لحظة استقرار ننجز فيها أمرا..
في بداية الخمسينيات، والوطن مشتعل بقضية الفساد والتحرير، والحركة الوطنية تتأجج، فاجأ موسى صبري الأمة بمقال يطالب فيه بإباحة البغاء، عندما ندرس هذا الأمر الآن، عندما نمحصه، نكتشف أن الأمر لم يكن أمر البغاء الجسدي بل شغل الأمة عن قضيتها، فالبغاء مستمر، كان وهو كائن وسيكون، وليس محتاجا لقانون لإباحته، لكن هذا المقال استدرج الكتاب والمثقفين إلى قضية ليست قضيتهم، لدفعهم إلى الجري والدوران حول أنفسهم في نفس المكان.
باخت حماستي إذن، ووجدتني أترك الثغرة التي حاولت سدها وهى ثغرة التعذيب، لأتحدث عمن كنت أستدعيهم لمعونتي فإذا بهم يحتاجون العون.
ووجدتني مضطرا إلى اللهاث في اتجاه آخر، حزينا، يائسا، وقد فقدت الأسباب علاقتها بالنتائج، وليس الحوار والفكر سبل الاقتناع، بل تصدر القوانين في جوف الليل، ويمهرها الرئيس في الصباح، وعلى من لا يقتنع أن يصمت أو يغامر بالسجن خمسة عشر عاما، لا بالبطش ولا بالقهر ولا بالظلم بل بالقانون، فهل القانون وثن نسيده ونعبده بينما تتوارى خلفه أياد خفية، فنصبح عبيد هذه الأيدي، أم أنه خادم للمجموع لتحقيق مصالحهم.
من المحزن أن من صاغ القوانين الأخيرة، ومن وافق عليها ومن أيدها ومن أخرجها، لم يضعوا النظام فقط في مأزق، بل وضعوا الرئيس مبارك شخصيا في اختيارين أحلاهما حنظل، فهو بين أن يتراجع عن هذه القرارات وهو الأسلم، لكن التراجع ليس من سماته، فضلا عن أنه استبق بالحكم أن التراجع من صفات باعة الترمس، وبين أن يواصل المضي في ما أمضاه، ليكرس الوضع  الذي دفعه إليه - دون أي مبرر- من دبج تلك القوانين، و أن يعرض شخصه، لأول مرة منذ تولى الحكم، لأول استفتاء حقيقي..
لست أعرف ما هي الحسابات التي دفعت بالرئيس للنزول بشخصه إلي الحلبة وهو الحكم بين السلطات، لكنه وقد نزل، قد أتاح الفرصة للمرة الأولى لشبه إجماع من الأمة أن يقولوا له:لا.. للمرة الأولى، الجميع، المؤيدون والمعارضون وحتى المنافقون.. لا... ليس لمجرد تأييده للقانون،  لن نكون متعسفين في الحكم، إذا حسبنا أن كل مقالات الاعتراض وإن توارت أو اتقت، موجهة  للرئيس مبارك، كل المقالات، الجاد منها والساخر والمعاتب والغاضب وحتى الجارح، كما أن جرأة رسامي الكاريكاتير وإن ظلت على هيبتها للرئيس، إلا أنها تتناول بمنتهى القسوة مهاجمة وضع أعلن الرئيس أنه يؤيده، وربما كان رأى رجل الشارع العادي لا يقل أهمية عن كل ما سبق، وهو أقسى و أشد وضوحا ومرارة وقسوة وصرامة في الحكم من كل ما صدر ونشر حتى الآن، و أعتقد أن الرئيس يستطيع أن يستوثق من ذلك  بأجهزته،  تلك الأجهزة التي ربما تنقل له نبض الأمة، أن " لا " هذه ليست مقصورة على القرارات الأخيرة، أن الكيل قد طفح، لم يعد الناس يحتملون المزيد، إنها " لا "  شاملة جامعة  موجهة لمجمل سياساته ونظام حكمه، " لا "  من الكل علي الكل، " لا " تعيد تقييم كل " نعم " سابقة، وتراجع كل تبرير مضى، وترفض كل اعتذار سبق أن قبلته،" لا " تحسم كل تردد وحيرة بعد أن انتهى كل أمل،  لم ينكشف الخبئ بعد، سينكشف في عهد رئيس لاحق، وساعتها سنرى وسنسمع أولئك الذين زينوا للرئيس أفعالهم وقوانينهم كيف سيتملصون منها ملصقينها بالرئيس، لم ينكشف الخبئ لكن هناك ما يدل عليه، فمجلس الشعب يصدر قانونا من أجل دموع فتاة تركها خطيبها حين نشرت الصحف عن فساد أبيها، والرئيس يوقع في لحظات والجريدة الرسمية تنشر في ساعات، فيلجأ كاتب إلى سخرية تنزف دما، ساخرا من الكل، متوسلا أن يدله أحد على تلك الفتاة التي تتمخض دموعها عن رج الدولة كلها، كي يتزوجها أو يزوجها ابنه  ، فهي المرأة الثانية في تاريخ مصر التي تغير دموعها التاريخ منذ إيزيس وأوزوريس..
ترى هل كان في حسابات الرئيس أنه عندما يعضد تلك القوانين بنفسه سيدفع الآخرين إلى التراجع إما هيبة وإما إيثارا للسلامة؟..
هل حسب من صاغوا القانون أن رد فعل الصحفيين والكتاب وخلفهم الأمة، سيكون كرد فعل قبيلة بدائية أو بدوية، سيستثيرهم الاستفزاز ليفرقهم سوط ؟..
نفس نظرة إسرائيل و أمريكا لنا..
المدهش أن القوانين لا تضيف شيئا ولم تكن بالنظام إليها حاجة فهو يسجن من يشاء حين يريد، ويعتقل من شاء حين يريد، رغما حتى عن أحكام المحاكم بالإفراج، ويمارس التعذيب والبطش في السجون، متحديا حتى استهجان العالم ممثلا في منظماته..
هل بنى من حول الرئيس حساباتهم على مدى حب الناس للنظام ؟ هل جهلوا أن كثيرا من الطاعة العمياء والانصياع والتصفيق قد تكون صورة مقلوبة للحقيقة، فالكراهية الشديدة وتمنى الموت والإزاحة من طريق الحياة  قد تتبدى في عكس صورها..
يقول الدكتور ميخائيل أسعد في كتابه سيكولوجية الشك  أنه إزاء القهر وسد منافذ التعبير عن الذات فليس من سبيل إلا على التقوقع على الداخل، ليظل الإنسان مذبذبا بين الخضوع والتمرد، وقد يلجأ إلى السمع والطاعة، لكنه إذ يلجأ إليه لا يملك إلا ازدراء ذاته  واحتقار نفسه، وينعكس هذا الإحساس على الكيان الشخصي أو القومي، فهو يخشى أن ينتقل هذا الإحساس منه إلى الآخرين فيقوموا بازدرائه واحتقاره، وهذا بحد ذاته قد يدفعه إلى التطرف بعد ذلك، فخشيته من احتقار الآخرين قد تدفعه إلى النقيض، إلى الحساسية المفرطة، بحيث أن أية حادثة عادية قد تصبح إهانة لا تغتفر، لكنه يصبح كالنعامة، إنه يخفي احتقاره لنفسه عن الآخرين بتكريمها، كما أنه يعزى نفسه بأن من يزدريه أشد منه استحقاقا للازدراء، و أنه رغم ذله وخضوعه، أشد احتراما من الطغاة البغاة، الذين ينشئون  جيلا من الأطفال الكبار، كل منهم مازال طفلا، كبرت جثته وترامت أطرافه، وظهرت عليه ملامح الرجولة أو الأنوثة لكنه لم يزل طفلا، طغاة بغاة  جبارون يواصلون هدم كل استقلال أو تباين أو اختلاف في وجهات النظر، وكلما كان المواطن أكثر تطابقا و أكثر خضوعا وخنوعا ومسخا لشخصيته فإنه يكون بالتالي أكثر قبولا من جهة النظام، فإذا حاول إبداء رأيه اعتبر النظام ذلك شقا لعصا الطاعة  وعصيانا وتمردا والتواء أخلاقيا بشعا، وهو يستحق الطرد والتشنيع وسن القوانين لسجنه  بسبب المروق عن الأخلاق الكريمة والعصيان والفجور..
لطالما ساءلتك في خيالي يا سيادة الرئيس  لماذا يحدث ما يحدث؟ إنه ليس في صالح الأمة ولا الوطن ولا الدين ولا في صالحك أنت أيضا..
لطالما ناديتك كما نادى أمل دنقل السادات أنك فارس هذا الزمان بين العمائم والدشداشات المتهاوية التي ملأتها الشروخ، وأن عليك أنت ينعقد الأمل:لا تكن كالآخرين..
ماذا ستخسر أنت شخصيا إذا منعت إهدار حقوق الإنسان وتزوير الانتخابات و أطلقت حرية الصحافة كي تستطيع مواجهة الفساد المستشري وصياغة وجدان الأمة كي تواجه معاركها..
لماذا وافقتهم على القوانين الأخيرة، إنهم يدعون حمايتك، وهم والله يحتمون بك، كي تنقذهم من الكشف والعقاب..
ولماذا حين ذبحوا لم تأمرهم بأن يحسنوا الذبحة ؟..
لماذا لم تدعهم يصدرون قوانين مباشرة بإلغاء جميع أحزاب المعارضة، و إغلاق جميع صحفها، لأن ذلك إن تم، سيتيح لنا معشر الكتاب الاحتفاظ ولو بقدر ضئيل من الشرف، فساعتها حين لا نكتب، وحين لا نصرخ بكلمة حق في وجه سلطان جائر، سنستطيع الزعم أمام أنفسنا بأننا لا نكتب لأن صحفنا مغلقة، ولا نصرخ لأن ألسنتنا منزوعة، و أناملنا مقطوعة، لكن، والأمر كما حدث، فعلى كل كاتب أن يدرك أن النظام  قد ترك له كل الصحف وكل الأحزاب و على الرغم من ذلك  فهو لا يكتب لأنه جبان رعديد خائف، و هذا الإحساس باحتقار الذات سوف يقضى على الكتّاب ليبقى الكتبة، كما أنه سيعطى أي نظام غاشم الحق في أن يدّعى أن صمت الكتاب دليل رضاهم، و أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.
لماذا يا سيادة الرئيس ؟؟..
يقول الدكتور برهان غليون[9]  أن السبب في التراجع العربي منذ قرون ليس تكنولوجيا ولا عسكريا، ولكنه سياسي اجتماعي، إنه فشل للحكام، لمجموع التصورات السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية لهم، أن هزائمنا لم تكن بسبب تخلف الأمة، ولا عقابا من السماء على نقص في دين البسطاء العفوي الفقير، و إنما كانت بسبب تخلف الساسة، ونتيجة منطقية لدينهم السياسي العلماني الدنيوي الأناني الوضيع، و أن الدولة القهرية هي أساس وقاعدة التدهور القومي، و أنه من السهل دائما على كل طاغية أن يخلق في كل حقبة شيطانا  يرميه بكل اللعنات ويلبسه كل خيباته، يمكن أن يكون هذا الشيطان أي شخص أو جماعة أو أفكار، طالما كان من الممكن تبرير الفشل عن طريقه.
ويصرخ برهان غليون:"إن ما يحدث الآن هو تحديد معالم أمة وتزييف وعيها كي تتأقلم مع الغزو الخارجي بدلا من أن تتصدى له، تخلق مسخا للشعب والوطن وكاريكاتيرا للتاريخ"..
إن مصالح الفئات الحاكمة وليست مصالح الشعوب هي التي ظلت سائدة تحدد مجرى التطورات الاجتماعية والسياسية، و أن كل الجرائم الاقتصادية الجوهرية اليوم  هي سرقة المسئولين وسطوهم، تلك الطبقة العليا التي تخلت عن القيم القديمة، وظهر أن القيم الحديثة التي تتستر بها لم تكن إلا ذرا للرماد في العيون والصعود إلى المناصب العليا، وكلما أتقن مسئول السرقة، و أصبح خبيرا بها، ارتفعت أسهمه عند المسئول الأعلى، الذي يفكر عندئذ  بالاستفادة منه، بشرائه أو مشاركته، لا تحكم قيم   هذه الطبقة  أخلاقيات  الرأسمالية التي تدرك أن السرقة ليست محرمة فقط، و إنما هي مدمرة للنظام بأجمعه.
يا سيادة الرئيس:
إنني لا أدافع عن الصحفيين كفئة ولا عن الصحافة كسلطة، بل أدافع عن الدين والأمة والتاريخ والمستقبل، مدركا أن تقييد حرية الصحافة هو أثمن ما نقدمه لأعدائنا، فالصحافة في جو الحرية هي القادرة على أن تصوغ وجدانا جماعيا لأمة تستطيع أن تقاوم وتنتصر، ونحن، في اللحظة التي نقيدها فيها نفتح الأبواب أمام كل عدو، و إننا نريد أن نواجه بها معك عدوا يحاول تحطيمنا  ليس بالقمع الخارجي والداخلي فقط، بل بالتحطيم العقلي الذي تقوم به  وسائل الإعلام ومراكز البحث الأجنبية والدعاية الحكومية وحيدة الجانب التي تحتكر الإعلام، والنخبة المثقفة المنحطة التي تنتج أدبا غثا وفنا تجاريا رخيصا يهدف في النهاية إلى سلخ  الأمة من تاريخها ومن شعورها بالعزة والكرامة، إنهم يزرعون عقلية أنانية وحقيرة، منحطة ومادية تضع كل فرد من أفراد الشعب في وجه أخيه، وتجعله عدوا له، وستكون هذه العقلية هي القاعدة الفكرية الضرورية لهيمنة طبقة ونظام اجتماعي قائم على النهب والسرقة والغش والاختلاس والأنانية وعبادة المصلحة الفردية والمادة.
يا سيادة الرئيس لن يحمينا من ذلك كله إلا صحافة حرة .
ولقد كانت القوانين الأخيرة ضد الصحافة الحرة، إلا إذا كان عندك من يوهم نفسه أنه يفهم في شئون الصحافة أكثر من الصحفيين أنفسهم.
فأعد الأمر إلى نصابه يا سيادة الرئيس وقلها:أصابت الصحافة و أخطأ مبارك ..
 قلها يا سيادة الرئيس فإن الاعتراف بالخطأ - لا الإصرار عليه- هو الذي  يحقق  هيبة النظام وجلال الحكم..
 قلها، فإنه لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار..
 يا سيادة الرئيس .. يا ابن آدم، إن ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون .
فـــــــتــــــب...




نحن مدينون بالاعتذار لمصر "1 "


الجموع الحاشدة، التي  خرجت - أو حتى أخرجت - في 9 و 10 يونيو 1967 لم تفعل ذلك لتبايع جمال عبد الناصر على استمرار سياسته و أداء حكمه، لم تخرج لتؤيد الهزيمة بل  خرجت لتنادى بالحرب لتحقيق النصر  على العدو في الخارج و على الفساد في الداخل، و تكليفها له أن يصلح أخطاء نظامه.  ولم تكن هذه الثقة ولا هذا الحب ينسحبان على أعضاء حكومته ولا على قواد جيشه، بل على العكس تماما، لقد منحته الجماهير هذه المشاعر لأنها أدركت أنه ليس مثلهم.
والجموع  التي  أخرجت - أو حتى خرجت - منذ 27 يونية[10] وحتى الآن لم تخرج لمبايعة حسنى مبارك على الاستمرار في نفس السياسات السابقة، لقد عبرت - كجل الأمة - عن  الخوف عليه ورفض اغتياله، لكن ذلك لا يعنى أبدا موافقة تلك الجماهير على مجمل  سياسة  الحكم، على القبض العشوائى والتعذيب وتزوير الانتخابات، ولا  عن تأييدها للفساد وإدارة الاقتصاد ، وإن  المشاعر التي  منحتها الأمة للرئيس  لا تنسحب أبدا على من حوله، على الإطلاق، بل  و ربما كانت تحمل في طياتها عتابا مريرا: لماذا تترك من لا يحبونك ولا يحبوننا ولا يحبون مصر ولا حتى الله يفعلون بنا ماتعلم، بل وربما كانت هذه الأمة ترى - آيسة - أنها تستحق  اعتذارا لن تناله، فلقد زرعت الحب دائما لتحصد شوك القتاد.
لقد كان حسنى مبارك في مؤتمره الصحفي صبيحة يوم محاولة اغتياله أفضل مما كان في أي يوم منذ تولى، حين بدا رابط الجأش قويا، لم يفقد القدرة حتى على المرح، خاصة، حين تغلب على هوى النفس ونوازع الغضب  وذهول الصدمة وصدمة الذهول، فأوحى بعدم اتخاذ إجراءات قمعية، وعدم الرجوع عن الديموقراطية، كما رفض أن يوجه اتهاما لأحد، وبدت تعبيراته موضوعية  حتى في شكوكه..
هكذا بدا الرئيس حين لم تتداخل مع أفكاره أفكار من حوله..
 في الأيام التالية ساد الابتذال المستفز الذي يكاد يظهرنا أمام العالم شعبا من البلهاء، لقد تعرض زعماء كثيرون في العالم للاغتيال، ومات بعضهم بالفعل، ونجا آخرون، وفي كل الأحوال كانوا يحتفظون للدولة بهيبتها، ولمنصب الرئاسة بوقاره.
انتظرت أن يتحدث أحد عن الوجه الآخر، عن القدر، عن النذير، عن توبة الإنسان حين يرى آية من آيات ربه.
لقد كان حسنى مبارك شجاعا حين واجه الموت بلا وجل، حين لم يخف، فماذا عن خوفه من لقاء ربه، أم لم يخف، أم أَمـِنَ مَـكْـرَه؟
ما هي الأشياء التي  ود لحظتها لو كان أقلع عنها، لو كان منعها، التي  خجل وخاف وارتعب من أن يسأله الله عنها، التي  ندم عليها فعزم ألا يعود إليها أبدا، وفي الطائرة وهو عائد: ماذا انتوى أن  يفعل شكرا لله على النعمة التي  أسبغها عليه.
في الأيام التالية أيضا تغيرت لغة الخطاب، وتسرب الخوف إلى قلبي من أن نفلت لحظة تاريخية  ما أظن أن تتكرر عندما اجتمعت في سويعات أمام الرئيس قدرة الله عليه، واجتماع الأمة حوله، فهو ابنها ، الذي قد تختلف معه أشد ما يكون الاختلاف، لكنها في لحظات تعرضه للخطر، تحدب كلها عليه، قلت لنفسي إن لم يتغير الرئيس ويغير إزاء قدرة الله ورحمته، و عزاء مشاعر أمته، فسوف نفقد الفرصة الأخيرة.
أجل يا سيادة الرئيس..
يجب أن تتغير و أن تغير..
عندما كان كتاب الأمة ومفكروها يحصون  الكوارث التي   كان يمكن  أن تحدث لو لا قدر الله ذهبت، كان ذلك إقرارا بواقع، لم يكن كله مدحا، بل ربما ترى العين الفاحصة معظمه قدحا، فبعد عشرين عاما و أنت في الحكم نائبا ورئيسا، لم تصغ بعد  آلية تمنع انهيار الدولة لو شاء الله و ذهبت أنت،  و أنت تعلم أن الحياة وديعة أودعكها الله ليستردها حين يشاء، و أنك حين تمسى لا تدرى  هل ترى صبحك، وحين تصبح لا تدرى هل تدرك مساءك، أما و الأمر هكذا يا سيادة الرئيس فقد كان من أهم أولوياتك، أن تصوغ الآلية التي  تكفل انسيابية انتقال السلطة بعدك، دون هزة للوطن، ودون تلك المشاعر الفاجعة، الجديرة بالرثاء لا بالتقدير، التي  تتشكل في وجدان قطاعات عريضة من الناس في الإحساس باليتم دون الرئيس.
إنها مشاعر تدين الأمة وقد نعاتبك عليها يا سيادة الرئيس أيضا فأنت تعلم  أنه مما يذكر من مناقب الرجل - حتى على مستوى الأسرة - أنه ترك خلفه رجالا، و أن الانهيار لم يصب أسرته بعد رحيله.
عندما نعود أيضا على تأكيد الرئيس - الذي حمدته له الأمة - أنه لا عودة عن الديموقراطية، عندما ننظر على هذا التأكيد بعين  فاحصة، ندرك على الفور أن الديموقراطية التي  ترتهن بقرار حاكم - أي حاكم - ليست بالتأكيد ديموقراطية، ربما كانت شيئا شبيها، أو مسخا، إن كلينتون أو ميجور مثلا لا يستطيعان تهديد أمتيهما أو المن عليها بشأن الديموقراطية، فهناك، حيث النظام الذي تدعوننا لانتهاجه، والذي نرتضيه، تسقط الأمة فورا ذلك الحاكم الذي يبدو منه أي خدش للنظام الديموقراطي هناك  فالديموقراطية ليست منة الحاكم يسبغها حين يشاء ويسحبها حين يريد.
نناشدك يا سيادة الرئيس أن تغير، وليكن دافعك للتغيير حمدك لله، وامتنانك لمشاعر الأمة التي  أسبغتها عليك . غير يا سيادة الرئيس ولا تصدق أبدا أولئك المنافقين  أو المخدوعين الذين يزينون الشر والبعد عن الله والناس  والمصالح الحقيقية للأمة.
لقد أصابني الذعر يا سيادة الرئيس حينما قرأت ما راح البعض يكتبونه  - وعلى رأسهم الأستاذ إبراهيم سعدة - في  أخبار اليوم، وهو وهى مقربان عليك، إنهم لا يتركون فرصة لخصام مع بلد عربي أو إسلامي إلا اهتبلوها، ولقد طفقوا يحرضونك على السودان،  ولولا إنني  ناشدتك - مقتنعا - بضرورة خفض درجة حرارة الخلاف التي  أوشكت على الاشتعال قبيل محاولة اغتيالك، لانفجر فيّ الغضب وضاع منى الحلم ..
الآن، ونحن نحاول أن نمنطق كل شئ، علينا أن ننظر بهدوء بائس إلى ظواهر المرض الذي راح يستشري فينا، كالبرص، حين تتساقط أعضاء المريض عضوا عضوا، بعد أن تموت فيها أعصاب الحس والحركة، فتتآكل وتذوي، حتى تسقط والمريض لا يحس، على مستوى الشعب  يحدث هذا كما سبق  أن حدث على مستوى الدول.. وقبلها الأمة..
الآن، علينا أن نتجنب اتهامات العمالة والخيانة، أن نرصد الظواهر و أن نحاول علاجها..
إن  رأي الأستاذ إبراهيم سعدة بلا شك يمثل قطاعا من الأمة مهما كانت   ضآلته، وعلينا أن نواجه هذا القطاع بكل الجدية ، لا يثنينا عن ذلك حتى ما حدث في نقابة الصحفيين مؤخرا، حين لم توات الجرأة  والشجاعة   واحدا من هذا القطاع، لكي يذهب إلى الجمعية العمومية في 10 يونيو  لكي يدافع عن وجهة نظره، لم يجرؤ واحد فقط، ذهبوا إليك و إلى التليفزيون وإلى صحافة يتحكمون فيها، لكن لا أحد جرؤ على مواجهة زملائه في نقابته، فهل وصلتك الرسالة يا سيادة الرئيس؟ .. لكأنهم جلسوا في بروجهم المشيدة  هاتفين بك : اذهب أنت  وجندك فقاتلوا إنا ههنا قاعدون..  لكن ذلك لن يثنينا  عن محاولة الفهم، فربما كان الخطأ فينا.
 لقد سادت مصر حين كانت النخبة الحاكمة فيها  تملأ مكانها، حين كانت تدرك قيمتها ووضعها، أنها القلب الذي تجتمع حوله الأطراف، وليس لكليهما عن الآخر غنى.. أنت تعلم يا سيادة الرئيس أن كثيرين ممن يقتربون من الحكم عبء  عليه، أنهم غير جديرين بذلك، و أن مقعد  النخبة الحاكمة  يمكن أن يكون فضفاضا عليها، ويمكن ألا تدرك هذه النخبة قيمته ولا حقّه، و أن هذه النخبة حين تسود ويغلب فكرها يهوى الوطن ويهون..
 إن مصر يا سيادة الرئيس  تمثل  جذوة حضارة مختلفة عن حضارة الغرب التي  هزمتنا، والتي  تدرك أن ضمانها في استمرار هزيمتنا أن تكون مصر معزولة عن عالمها الذي تستطيع أن تتحرك فيه وأن تجمعه كي تنهى زمن الهيمنة والانكسار، أن تكون دائما وحيدة ذليلة ضعيفة ومنكسرة، و لأن الدول - كالأفراد - لا تستطيع أن تعايش مشاعر الهزيمة الدائمة النهائية  التي  تدفعها إلى احتقار نفسها، فثمة طرق عديدة لخداع الذات، أهمها أن نتبنى وجهة نظر أعدائنا فينا، فنحن مهزومون لأننا نستحق الهزيمة، لأننا متخلفون، لأن حضارتنا فاسدة ولا سبيل أمامنا إلا سلوك سبيل حضارتهم، لكن الحضارة ليست ثوبا يستبدله المرء بغيره، الحضارة قلب وعقل وإحساس وعمق في التاريخ ودين، الحضارة كينونة، نستطيع أن نعالجها لنتقدم بها لكننا لا نملك أبدا اختيار التخلي عنها إلا كما يملك امرؤ التخلي عن قلبه وعن عقله، فمعنى ذلك ببساطة: الموت..  ومن طرق الهروب إذن من المواجهة نتبنى وجهة نظر أعدائنا فينا، أن نعجب بما يعجبون به وننفذ ما يخططون له، أن نقلدهم، ونكرر آراءهم، حتى تلك التي  تديننا وتبخسنا، و أن يكونوا هم المقياس والمعيار.
عندما نطبق هذا على موقف الأستاذ إبراهيم سعده من ندائه بضرب السودان نجد أنه تبنى تماما ما يريده أعداؤنا لنا ويحاول من خلالك  يا سيادة الرئيس أن ينفذه، ليس لأنه خائن ولا عميل، بل لأنه تعيس مثلنا لكنه يحاول الهروب من احتقار الذات في الاتجاه الخطأ، إنه لا يستطيع مواجهة عدوه الحقيقي، لكنه لا يستطيع أن يواصل الحياة بدون نصر حتى لو كان زائفا، إنه يتجاهل مثلا إمكانية أن تكون محاولة اغتيالك مدبرة من مخابرات أمريكا و إسرائيل ولو بعدم كشف تفاصيلها لك - نحن لم ننس بعد أن ما لديهم من التكنولوجيا ما مكنهم من تصوير ماركة ملابس صدام حسين الداخلية - هم الذين قالوا ذلك - !!فلا يتجاهل ذلك لأنه لا يستطيع التصرف إزاءه إن واجهه، هل يستطيع مثلا أن يتحدث عن حكام أمريكا و إسرائيل بذات العنصرية البغيضة التي  يتحدث بها عن حكام السودان، هل يستطيع النداء بالانتقام من أمريكا و إسرائيل، هل كان يقول ما قاله  لو كانت السودان أقوى من مصر عسكريا ؟..  أم أنه تبنى بالكامل وجهة النظر الغربية عنا، إنه يود أن تعامل مصر السودان كما تعامل إسرائيل جنوب لبنان، فلكي ينفي عن نفسه الإحساس الأليم بالهزيمة والفشل وعدم احترام الذات، فإنه يصدر كل هذه الاتهامات لبلد أضعف، هم المهزومون إذن وهم المتخلفون وهم من يستحق العقاب، حتى لو لم تثبت التهمة، أما نحن، فنتصرف كما يتصرف السادة، فنحن إذن سادة، والحق ليس العدل بل القوة، إنه يكون أقسى على مواطنيه وعلى حلفاء المستقبل حتى من عدوهم، تماما كما كان الناظر في رائعة الدكتور خليل حسن خليل: " الوسية "  يبالغ في قهر أبناء جلدته من الفلاحين، فيفعل بهم أقسى مما يفعله بهم "الخواجة" نفسه، فذلك هو السبيل الوحيد لكي يقنع نفسه بالوهم والكذب وخداع الذات أنه ينتمي لطبقة السادة، السادة الذين كل فعلهم وقولهم صواب وما دام اقتنع بفكرهم فهو منهم.
نعود لنقول، أنه حتى لو ثبت - و أستبعد ذلك  و أدينه أشد الإدانة لو كان حدث - اشتراك حكومة السودان في محاولة الاغتيال فإن مصر ورئيس مصر أكبر بكثير جدا من أن يتجاهلوا التاريخ والمستقبل، ويتنازلوا عن مكانهم ومكانتهم فيه لينتقموا انتقاما رخيصا من شعب السودان. ترى لو كان مدبرو المحاولة من القاهرة، أكان طيراننا يدك القاهرة؟!.
نحن مهزومون الآن نعم، لكن لدينا إمكانية النصر ووعد الله به، وشعب السودان وكل شعوب العالم العربي والإسلامي، بل وكل المقهورين في العالم إخوتنا ورفقاؤنا وجندنا حين يحين لحضارتنا أن تسود، إنني لا أدافع عن حكام السودان - لعل القارئ قد لاحظ ذلك في كل مقالاتي السابقة - لكنني أدافع عن أمة قلبها مصر، وهنا أتساءل أيضا، كي لا نمارس السياسة البغيضة للمعايير المزدوجة، ترى بماذا كنا نحكم على المعارضين المصريين لو ذهبوا إلى خارج مصر ليهاجموا  حكام مصر ويستعدوا عليها بلدا آخر ليهاجمها عسكريا، ماذا كنا نقول عنهم، وعن سيل المعلومات الذي ينهمر منهم، والذي لا يمكن أن يعرفه معارض بل مخابرات دولة.
إنني أناشدك يا سيادة الرئيس، مهما حدث، ومهما كان، لا تحمل مصر هذه الخطيئة أمام الله و أمام التاريخ، لا تفعل ذلك أبدا، مهما كان، فإن البعض، يحرص ككاهن مجوسي أن يشعل بين  دول العرب والمسلمين  نارا يود ألا تخبو أبد الدهر، فكأنما إشعالها تعبد لإلهه، وكأنما التوقف عن إشعالها ولو لبرهة كفر بآلهة  سيقذفون به في غياهب الجحيم إن جرؤ عليه.
هل أطمع يا سيادة الرئيس، الذي أعطاه الله عمرا آخر فكأنه ولد من جديد أن تراجع أشياء كثيرة، فكل شئ  تقريبا يحتاج إلى المراجعة، كل شئ، لا تصدق من يقول لك أن الأمور تسير على ما يرام، على العكس، لم تبد الأمة أبدا على هذا القدر من التشتت والتمزق والألم، من الحروب بين الدول التي توشك الآن أن تكون حروبا بين طوائف الأمة، فهل أطمع يا سيادة الرئيس أن تتصدى لذلك كله، فصلاح الأمة في صلاحك.
 هل أطمع  يا سيادة الرئيس أن تفتح فيما تفتح من ملفات  ملف التعذيب ؟ .. ربما وجدت أن ما نقوله نحن هو الصحيح و أن التقارير المرفوعة إليك هي الخطأ.
لقد سقت لك كثيرا من الأدلة يا سيادة الرئيس، ويبقى أكثر، لكن دليلا منها كان فاجعا حتى الذبح فذلك الذي حدث مع محمد عفيفي مطر لن ينساه التاريخ أبدا، لقد خلد التاريخ  كافور الإخشيدي لخلافه مع المتنبي رغم أن الحق كان مع الحاكم والشاعر كان على باطل، ترى كم ألف عام سيذكر التاريخ ما حدث للشاعر الكبير محمد عفيفي مطر في عهدك  فيستعيد ذكرك وقد ارتبط به.  لكنني أستميحك العذر أن أتطرق قبل مواصلة الحديث عن محمد عفيفي مطر إلى حديث  - ليس منقطع الصلة - عن نجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد.
عندما وقع العدوان الغاشم الأثيم على نجيب محفوظ كانت المدية التي  انغرست في عنقه تنغرس في قلبي[11]، لا لأنه أعظم روائي عربي، ولا لأنه هو الحائز على جائزة نوبل، ولا حتى  لأنه شيخ تجاوز الثمانين، ذلك كله صحيح، لكن  تلك كلها عوامل مساعدة قد تزيد الأسى لكنها لا تخلقه، إنما كان ما أصابني لمجرد السبب المجرد، لأن من يقتل نفسا واحدة لم يشترط حتى إيمانها فكأنما قتل الناس جميعا، لذلك فإن دم نجيب محفوظ  لا يتميز على دماء أي إنسان آخر، الإعجاز الإلهي في الخلق واحد، لا يتميز دم نجيب محفوظ إذن عن تلك الدماء التي  تسفح   كل يوم ولا تتميز دماء القاتل عن دماء القتيل، دماؤهم في أعناقهم، وفي أعناقنا وفي عنق  النظام، وهى دماء لست أدرى إن كانت التوبة إلى الله والاعتذار إلى الأمة ترفع عنا وزرها وعارها.
لا تتميز دماء نجيب محفوظ  إذن عن دماء محمد عفيفي مطر، الشاعر الكبير الذي لم أحظ بمعرفته إلا من خلال دواوين شعره التي  يشدو بها كأعذب ما يكون الشدو منذ الستينيات، محمد عفيفي مطر الذي يعدّ الآن  له أحمد عبد المعطى حجازي احتفالية بمناسبة بلوغه الستين من عمره .
وقبل  الاسترسال فإنني  أعترف أن تقدير موهبة نجيب محفوظ لا ينسحب  أبدا على نصر حامد أبو زيد، لكن ذلك لا يؤثر على الإطلاق على حقه في الكرامة كلها وفي الحياة الآمنة[12]، كما أبدى انزعاجي الهائل من تدخل أي سلطة غير دينية  لمصادرة فكر أي فكر أو لتكفير إنسان أي إنسان، و أختلف كل الاختلاف مع من يحسبون أنهم يدافعون عن الدين بمثل هذه المواقف، فالدين معدن نفيس غير قابل للخدش بل يجلوه كل من يحتك به ليزداد لمعانه.
إن نصر حامد أبو زيد مهما كانت وجهة النظر فيه أفضل من علاء حامد ومن عمله البذيء التافه الذي لا يشكل أدبا على الإطلاق ومع ذلك يذكر القارئ إنني  كنت ضد محاسبته حين حوسب وضد مصادرة عمله حين صودر.
لعلك تدهش يا سيادة الرئيس من إقحامي لنجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد وعلاء حامد  في حديثي إليك، ولقد قلت لسيادتكم أنه ليس منقطع الصلة، فنحن بغض النظر عـمـّن مـع ولمـاذا و عـمـّن ضد ولماذا نستطيع تلخيص الاتهام الذي وجه إليهم  خطأ أو صوابا في أنه: "الجرأة على الذات الإلهية والدين" ، وإزاء هذا الاتهام الخطير كان صدر الدولة واسعا كأوسع ما يكون، وأفقها رحبا كأرحب ما يكون.
كان هذا هو الموقف  المتسامح والمؤيد والمدعم  لنجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد - ولنسقط علاء حامد ازدراء لشأن عمله- .. إزاء اتهام خطير كالجرأة على الذات الإلهية والدين.
فلنقارن هذا الموقف يا سيادة الرئيس إذن  بما حدث مع محمد عفيفي مطر، الذي يتلخص اتهامه ليس حتى في الجرأة على ذاتك أنت بل في الاعتراض على سياستك.
الاتهام الأول يتعرض للذات الإلهية  والاتهام الثاني لا يتعرض لذاتك.
الاتهام الأول يتعرض للجرأة على الدين والاتهام الثاني يتعرض للاعتراض على سياستك.
فلنقارن الآن يا سيادة الرئيس الاحتفالية التي  حظي بها نجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد   باحتفالية " المومياء المتوحشة " وهو عنوان الديوان الثالث عشر للشاعر الكبير محمد عفيفي مطر الذي عبر فيه عن تجربته في لاظوغلى إثر معارضته لموقفك في حرب الخليج، ترى هل أخبرك صديقه وصديقك أحمد عبد المعطى حجازي بما حدث له، لقد رأينا في التليفزيون كم أن العلاقة بينكما حميمة، فهلا سألته إن لم يكن هو قد قال لك، لقد  أوجز  الشاعر الكبير ما حدث له في جملة يفوق تكثيفها أي شعر، ويزيد ألمها عن أي خيال:"عوملت في لاظوغلى كما تعامل الحيوانات" ، وربما يظن القارئ الذي لا يعلم حقيقة ما يحدث هناك أن الجملة تعنى بعض الإساءة اللفظية، أو دفعة باليد فذلك أقصى ما يمكن أن يجول في أذهاننا بالنسبة لشاعر بارز على المستوى الوطني والعربي، ثم أنه في العقد السادس من عمره، لكن ذلك لم يحدث، فالذي حدث أنه تعرض للتعذيب بشكل مكثف ووحشي على مدى عشرة أيام بمقر مباحث أمن الدولة في لاظوغلى، صعقوا الشاعر الكبير بالكهرباء، ثم علقوه لفترات طويلة من معصميه، ضربوه بجسم صلب على رأسه و أجزاء متفرقة من جسده، و خلال الأيام العشرة، ظل الشاعر الكبير، المشرف عمره على الستين، ظل، طوال الأيام العشرة معصوب العينين، ومقيدا بقيد حديدي يضيق كلما حرك الرسغين مما سبب له ألما فظيعا، ربطوا عينيه وأذنيه برباط ضاغط كثيف، مما نتج عنه تجمع صديدي تحجر تحت الجفنين، وتورم لحم الأذنين  والتصاقه بالرأس التصاقا قاسيا، مع الضرب، و إلقاء الجسد بشكل مفاجئ نتج عنه جرح عميق بجلد الرأس أخذ ينزف بالصديد لمدة شهر ونصف و أحدث له ضعف إبصار بالعين اليمنى، كما أجبر على تناول عقار عبارة عن برشامتين صغيرتين كانتا تسببان له اضطرابا وهلوسة بصرية وسمعية يفقد على إثرها الوعي، كما جرى تعليقه كالذبيحة لمدة طويلة من يديه المقيدتين ووضع رباط على قدمه مما يجعل جسمه كله مرتكزا على الرسغين، وتعرض أيضا للصعق بالكهرباء على الأماكن الحساسة، و أجبر على الوقوف عاريا أمام تيارات الهواء البارد، والتعرض لعدد كبير من حالات الضرب الشامل، ولفترات طويلة من التجويع.
لماذا بكينا نجيب محفوظ إذن ؟؟، ولماذا أدنّـــا ما حدث له ؟.
يا إلهي..  
ألا يحسب الذين فعلوا ذلك والذين سكتوا عليه أنهم  ميتون وأنهم ملاقو الله؟ .
 اسمح لي يا سيادة الرئيس أن أقولها، أن أصرخ بها:
إن الأمة كلها مدينة  بالاعتذار لمحمد عفيفي مطر، ولكل من حدث له ما حدث لمحمد عفيفي مطر، ولكل المصريين، فإهانة مصري واحد إهانة للمصريين جميعا، نحن إذن مدينون بالاعتذار لمصر، نحن جميعا و أنت معنا  يا سيادة الرئيس، ولست أنشد الاعتذار  منك  لبعدك بل لقربك، ليأسي من العلاقة بيني وبينك بل لأملى فيها، وما أطلبه لأمر يسير، بل لأمر عظيم  وطامة نزلت وطال مكثها و لخطب جلل  حان أن ينقشع، متوسما أن ما بيني وبينك يجب أن  يجرى مجرى العلاقة بين  حاكم حر ومواطن حر، تكمن حريتهما  في عبوديتهما لله الواحد القهار، لا لأحد سواه، حيث من العبودية الحقة تنشأ الكرامة الحقة، ويشمخ كل ما نعتز به في وجودنا الإنساني ونفخر، وبدونه يا سيادة الرئيس  لسنا سوى أجداث من التراب جئنا و إليه نعود، بلا كرامة ولا جاه ولا قوة ولا بنين ولا مال ولا عز  ولا سؤدد، ألا فانظر إلي كل ما نملك من زخرف الدنيا وزينتها، أنظر إليه  بعد ثلاثة أيام فقط في  القبر كيف يكون، إلي تلك السوائل الكريهة والعطن، إلي الدود والعفن، ساعتها يا سيادة الرئيس : ما هو الفرق بينك وبيني وبين محمد عفيفي مطر، أو بيننا وبين تلك النماذج البئيسة  التي  يسقط موتاها ضحية قوة غاشمة باطشة يتستر عليها آخرون و أنت عن الجميع أمام الله والأمة  والتاريخ مسئول، بعد سبعة أيام كيف نكون وكيف يكونون، وبعد عام، وبعد ألف عام، أم تراك  تملك لحظتها  عبيدا لك من دون الله يبطشون بي  أو أملك أنا قلما أنافحك به، أم أن الله قد خلق لك - يا عبد الله - جسدا  لا يبلى وعمرا لا يفنى؟!..
 يا سيادة الرئيس: كلنا لا يأمن مكر ربه فلا تستنكف مني أن أهدى إليك عيوبك، ولا تستنكر منى أن أحاول قدر جهدي أن أدفع بيديّ  الكليلتين  عار الدنيا وذل الآخرة.
لست يا سيادة الرئيس بمدع الشجاعة ولا بمنكر إنني  أخافك وأخشى بطش رجالك، لكنني عندما أجابه الأمر وعيني على الله يبتلع خوفي الأكبر خوفي الأصغر، ورعبي الأكثر رعبي الأقل، عندما أقارن الدنيا بالآخرة تهون عندي الدنيا بما فيها، لأنني ونحن يا سيادة الرئيس على أعتاب الآخرة  ليس بيننا وبينها - مهما كانت الأعوام والسنون - سوى طرفة عين، لحظة يرتد فيها علينا البصر وهو حسير، أتخيل تلك اللحظة، وما بعدها، حين نقف عراة مجردين، لا حول ولا طول ولا قوة ولا حيلة، ولا قول أيضا، حين تذوى حججنا، وتسقط ادعاءاتنا وأكاذيبنا وجرأتنا على الله، وتستّرنا بالفضيلة حين نرتكب الرذيلة، وتمويهنا للشر بالخير، خداعنا، أمرنا بالمنكر، حين نقف أيها الملك أمام مليكك، ملك ملوكك، فتكون أكثر  منا خوفا و أقل أمنا، حين يسألني الله عن نفسي ومن أرعى ويسألك عن ألف ألف ألف نفس.
لست طالب شيء من دنياك يا سيادة الرئيس، فعندما يعيش الموت في قلب إنسان لا يطيب له من الحياة طيب، وعندما يتمثل الله أمامه يهون عنده ما عداه ح لست طالب شئ من دنياك، لكنني أحاول أن أنصرك بردك عن ظلم   يسومه الناس  نظامك، وإنى لأعجب كيف تقسو على نفسك كل هذه القسوة وتحملها كل تلك الأوزار أمام الله والأمة والتاريخ.
يا سيادة الرئيس:
 لست بطامع بشيء من دنياك لكنى أطمع فيك أنت، ولعل طمعي فيك هذا  هو الذي أغراني على مواصلة الحديث إليك، وعلى أن أنتقى من الأوزار والخطايا - التي  أناشدك أن تتوب  معنا عنها  وعما سواها إلى الله و أن تعتذر  معنا  إلى مصر - خطيئة التعذيب، تلك التي  كرست لكشفها قلمي  منذ أمد طويل، يعلم الله لا لإحراجك ولا  لإدانة نظامك بل لأنها وصمة عار أغار عليك أن يتسم بها عهدك، فالله هو الذي يعذب  لا أنتم . . . .
الله لا أنتم . . . .
 الله لا أنتم..
 الله لا أنتم..



نحن مدينون بالاعتذار لمصر "2"


لماذا يا أحمد عبد المعطى حجازي  لم تشعل النار في الصمت، لماذا لم تسرج من صافنات القوافي مهرة  تطارد بها صمت الفيافي، لماذا  لم تضرب عن الطعام حتى الموت  حين  عذبوا إنسانا  - أي إنسان -.. فإن لم يكن من أجل الإنسان مجردا فمن أجل صديق عمرك ورفيق دربك  محمد عفيف مطر  حين فعلوا ما فعلوه به.
لماذا لم تقل  لسيادة الرئيس، الذي لما يحكم بيني وبين رجاله  منذ حكّمته، رجاله الذين  أنكروا  علىّ صدق الحديث  ويعلم الله - ويعلمون هم أيضا - إنني  لم أتجاوز الصدق  ولم أجرؤ على الحق، ربما كان يصدقك  أنت  ولو كذبوك، في وقف ما يحدث، ويمنع تكراره، ويحاسب المجرمين الذين ارتكبوه.
لماذا لم تترك مساحتك التي  تكتب فيها في  الأهرام بيضاء بلون الكفن، أو سوداء بلون الظلم أو حمراء بلون الدم .
لماذا لم تعلن أن مشكلتك لم تعد  أن ترى ما لا يرى بل ألا ترى ما يرى[13]، ولماذا  لم تحرق مجلتك.
لماذا يا فاروق شوشة لم تصرخ في المذياع أن لغتنا لم تعد جميلة  بعد أن تحطمت أبجديتها في صراخ شاعر.
لماذا يا أحمد عبد المعطى حجازي ويا فاروق شوشة لم تتأجج مشاعركما وتنثال ألفاظكما  وينهمر نظمكما على ما حدث لمحمد عفيفي مطر، لماذا ؟؟.
لماذا صمتم أيها المثقفون؟!
إن أكثر ما يبعث على العار في نصف القرن الأخير  ليس هزيمة 1967 ولا حرب الخليج بل  موقفكم المزري، لقد عجزتم  عن الدفاع عن القيم المجردة التي  لا يجب أبدا أن تتجاوز، عجزتم  واندفعتم  في مسارب فرعية وخلافات لفظية  وما ادعيتم أنه صراعات فكرية، ناكصين عن  إرساء المعايير والقيم الثابتة للأمة  ونظام الحكم معا، بحيث يمكن الرجوع إليها كما يرجع  اللغوي إلى المعجم  والرياضي إلى جداول الرياضيات كلما استشكل عليه أمر، التبس الأمر على الأمة فلم تعد تعرف من خلال تطاحنكم  من هو الكبير ومن هو الحقير، من الصادق ومن الكذاب، من الشريف ومن  اللص، من البطل ومن الخائن، من البريء ومن المجرم، من الجاني ومن الضحية، خنتم الأمة يا أمناءها و أضللتموها يا أدلتها   وفسقتم فيها يا أئمتها، تضخمت  ذواتكم  لتعويض خوائكم ونسيتم  الإنسان  الذي تدعون أن كل إنتاجكم موجه إليه، ولم يكن كذلك وكان أولى بمعظمه مقالب القمامة.   
لماذا لم تطرقوا الجدران..
في رائعة غسان كنفاني "رجال في الشمس"  يهرّ ب قائد شاحنة المياه الأفاق شحنة بشرية من ثلاثة باحثين عن الرزق في صورته البيولوجية الدنيا، بعد أن ضاقت بهم الدنيا، يضعهم في خزان المياه الفارغ، وعبر الحدود  العراقية الكويتية  تصليهم شمس الصحراء لهيبها  وهم غارقون في جحيم الصمت خوفا من أن يكتشفهم حرس الحدود الكويتيون، يصمتون قليلا كي يعيشوا بعد ذلك طويلا، لكن، بعد أن يعبر القائد الأفاق الحدود  يكتشف موتهم جميعا، فلا يملك إلا أن يتخلص من جثثهم  في مقلب قمامة العاصمة، وتستبد به الدهشة، فلو أنهم صرخوا فما ذا كان سيصيبهم أكثر من الموت الذي أصابهم فعلا   من جراء الصمت، لقد صمتوا لكي يعيشوا، فلماذا حين أوشكوا على الموت لم يتكلموا، لم يصرخوا، حتى الأفاق يصرخ :
 لماذا لم يطرقوا الجدران؟.
فلماذا لم تطرقا الجدران يا أحمد عبد المعطى حجازي ويا فاروق شوشة.
لماذا لم تطرقوا الجدران أيها المثقفون.
لماذا لم تطرقوا الجدران - فيما عدا طرقتكم الأخيرة - أيها الصحفيون.
هل تصدقون أن التعذيب يحدث أم لا تصدقون.
أم اقتنع بعضكم أن التعذيب مسلط على الإرهابيين فقط، وكأنهم ليسوا بشرا.
 هل تدركون الآن أن حجة الإرهاب كانت ستارا  يستر عورة منهج، فالإرهاب يمكن مقاومته بالقانون لا بإهدار القانون، ولم يكن الأمر  أمر إرهاب  ، فعادل حسين ليس إرهابيا وإلا فخبرونا أين القضية التي  سجن على ذمتها، محمد السيد سعيد  أيضا ليس إرهابيا ولا محمد عفيفي مطر  ولا مجدي حسين و لا عبد العظيم مناف ولا حمدين صباحي  و لا علي القماش و لا صلاح بديوي  ولا خالد الشريف ولا أيمن نور و لا عبد المنعم جمال الدين  و لا سيد عبد العاطي و لا مجدي حلمي ولا أحمد شحاتة و لا محمود شاكر و لا عبد الوهاب السهيتي  و لا محمود الشاذلي و لا محمد عبد النبي و لا مجدي حنا و لا حمدي شفيق و لا ثروت شلبي  و لا عامر عبد المنعم و لا محمد القباحى  و لا عامر عيد و لا مدحت الزاهد و  لا مصطفي السعيد  و لا  إبراهيم فتحي و لا الدكتور فخري لبيب  و لا صلاح العمروسي ولا  أحمد عبد الرازق ولاحسين بدوى  و لا محمد يوسف الجندي، كل أولئك  لم يكونوا إرهابيين بل صحفيين ومفكرين سجنوا وروعوا بلا سبب إلا اعتراضهم علي فساد السلطة ومباذلها.
لماذا لم تطرقوا الجدران إذن؟..
يجب أن أقرر  أن كل تعذيب مدان أيا  كان ضحيته  و أيا كان مبرره، التعذيب جريمة، والقائمون به مجرمون، وحتى لو غزا النظام الذي يقوم به أجواز الفضاء وحقق المجد والثروة والنصر للوطن، حتى لو لم يكن النظام القائم به نظاما فاسدا همجيا  يقود وطنه و أمته إلى الخراب، حتى لو ساد من يقومون به العالم فإنهم مجرمون أمام الله والتاريخ والإنسان.
لماذا لم تصرخوا بذلك أيها المثقفون؟ .. لقد كان أمامكم محمد عفيفي مطر، ليس له  - فيما أحسب - لحية ولا يحمل مدفعا ولا قنبلة  بل قلما وقرطاسا..
كان ينزف من أجل الوطن، وكان شعره نزيفه:
أرضك مفترق تتسع به أرض الأغيار..
وتعبره أمم وجيوش..
للأقوى وعبيد الأقوى، ميراث أنت لمن يرثون..
على كتفيك تكسرت الأمواج تواريخ مجاعات ..
وطغاة منكسرين ومزهــوّين..
تلك أيها المثقفون، تلك يا أحمد عبد المعطى حجازي ويا فاروق شوشة كانت وثيقة اتهام محمد عفيفي مطر، ذهبوا إليه واصطحبوه إلى لاظوغلى، وفي فجره الأول هناك ساموه سوء العذاب:
الليل صقيع و روائح لحم الإنسان المشوي طرائد..
منسرح الريح..
 الشاعر يتلقط لحم جوارحه..
ويسح دم..
والشاعر يركض  علّ المطر  الأسود يغسله ويذيب جوارحه في البرق وينثره خرزا..
انتبهت أعضائي في حلم المذبحة الكونية..
أبتدئ الركض لآخذ موضع أسمائي الحركية
والعلنية في قافلة المذبوحين وقافلة الأسرى..
أيقظني الفولاذ البارد..
كنت أميرا يمرق في  "تشريفة" صفين من الأشباح..
لا يصف محمد عفيفي مطر ما هي "التشريفة"   لكن كتاب  "دفاعا عن حقوق الإنسان"  يعرفنا بها، حين يتم تجميع  المحتجزين على ذمة قضية واحدة لدى وصولهم إلي السجن، حيث يتعرضون للضرب المبرح بالأيدي واللكمات والركل وكعوب البنادق  والسيور الجلدية وخراطيم المياه والعصي الخيرزانية والكهربية  والسياط، وعادة يتم الضرب على مرحلتين  قد تعقبهما مراحل أخرى بتكرارية عالية في بعض الحالات، وتكون عمليات التعذيب التمهيدي بالضرب داخل الأماكن التي  تسيطر عليها مباحث أمن الدولة  جزءا من عملية الاستجواب التي  يقصد بها أحيانا الحصول على اعترافات أو معلومات أو تجنيد أشخاص للعمل لصالحها، لكنها في أحيان أخرى تكون للعقاب والتأديب.
هل كان محمد عفيفي مطر إرهابيا، ألم يكن شاعرا كبيرا ومعروفا على مستوى الوطن العربي كله، ويعرف معذبوه أنه سيخرج بعد الإفراج عنه ذات يوم ليفضح ما حدث له، يعرف المعذبون إذن أن ثمة سلطة أعلى - غير سلطة الشيطان - تمنحهم الحصانة وتحميهم من أي محاولة للكشف أو للعقاب، مهما انكشف أمرهم، والأمة لا تهمهم  طالما ملكوا السياط والرصاص والسجن، والمثقفون عجزوا عن صياغة المعايير والدفاع عنها كما دافع الصحفيون عن قضيتهم وقضية حرية الوطن.  لماذا سمحوا بانقلاب الوضع، حتى أضحت  المعايير تطبق عليهم بدلا من أن يصوغوها، و أصبح الطواغيت هم الذين يحددون وضع المفكر ومدى صحة فكره، ما هو الصحيح وما هو الخطأ، ما هو  في  صالح الوطن وما هو ضده، وذلك وضع لا يضاهيه إلا أن  يقود اللئيم الكريم  و أن يحاكم المتهمون قضاتهم، و أن يضعوهم في السجون.
اعتزل محمد عفيفي مطر كل ذلك في تعال وكبرياء  طيلة حياته، فقد كان  - قبل أن يكابد الهول الذي لاقاه بنفسه في لاظوغلي  - يرى الشرطة  السرية وكأنها مبثوثة في الكون:
أرى عيون الشرطة السرية..
تلمع من وجه إلى وجه..
تنسكب في  الشوارع الخلفية..
كل قفا وراءه عينان تخرقان ظلمة النخاع..
تتحول الشرطة  السرية في وجدانه  إلى أشباح، ليست قادرة على اصطياده فقط، بل على غزو وجدانه أيضا، حين لا يكتفون بأسر جسده، بل يقطفون روحه، يشكلونها كما يشاءون، فالقمع الذي يكابده في أعماقه  يفعل به أسوأ ما يمكن أن يفعل بإنسان ، يسلبه هويته، قدرته على السيطرة على نفسه وتحديد مصيره، يشيئه، بل و يحول الوجود حوله  إلى شرطي كبير، فهل فعلوا بكم مثل ذلك يا أيها المثقفون ؟:
تخرج من دفتر الأعمال والأقوال..
أشباحها المرصودة..
كل جدار، كل معبر، كل زوايا الأرصفة..
أقدام شرطي يسير سيره المنتظما..
وبحجم ذلك الكائن الخرافي الوحشي يكون حجم خوفكم:
وقفت بين النطع والسياف..
مستجمعا مملكتي الخفية..
وارتعشت في يدي مواسم القطاف..
وانفجرت خلية خلية..
تحجرت وارتعدت مفاصلي من خوف أن أخاف..
 أيها المثقفون الذين لم يطرقوا الجدران فخانوا قضية الإنسان وخانوا أنفسهم، أيها المثقفون في المستنقع ( المستنقع ليس صفة، بل اسم مقصف حقيقي يذهب إليه معظم المثقفين)، ماذا فعلتم عندما  عذب محمد عفيفي مطر، لا كمجرد فرد بل كرمز لكل من ذهب هناك  ودليل لا يدحض على التعذيب، يا من صياحهم في الصغائر زئير أسود كواسر، ماذا فعلتم  في الفجر الثالث له في لاظوغلي حيث يصف ما حدث له:
أقسى من الموت ارتعاش الموت في الشلو الذبيح..
من معصميك لكاحليك..
كابدت وحدك أيها النحات..
ليس من شئ لشيء غير عصف الروح في عصف الرماد..
مستحدث الكيمياء يكشط من ظلامك طينة..
للخلق فالملكوت يسطع..
والحشود المبهمات، و أنهر الدم، والملوك..
على الأرائك يتكي الجلاد منتظرا سقوط الصقر محترقا بجائش حلمه..
ويقصد الشاعر بمستحدث الكيمياء  تلك الأقراص التي  أرغموه على ابتلاعها، والتي  كانت تسبب له اضطرابا شديدا في أحاسيسه وفقدانا للوعي، كان في السادسة والخمسين من عمره، وكان يعذب كل هذا العذاب. يصف الضابط  الجلاد الذي يجلس متكئا على الأريكة في انتظار انهياره، وتحت ظلام العصابة التي  عصبوا بها عينيه ينفجر الضوء بين قوائم عرش الجلاد:
ست وخمسون ارتمت عنها مهلهلة الثياب..
وصرصر هبت فخشخشت الضلوع..
لوّحت من هلع الذهول..
وصرخت فابتدرت يد الجلاد ناصيتي وشد وثاق عينىّ المشاكستين بالرؤيا
ومكنون التذكر والعناد..
فرأيت جوهرة الظلام على قوائم عرشه انفجرت نهارات مضوّأة  وأشهدنى مقام الذل  تحت يد الأذلاء المهانين:
الدهور تفجرت أجداثها بالثأر،
فالأمم المـؤبّـدة الذحول..
هبت دفائنها وقام الوحش وانتشر الجراد..
وتخشعت أمم الحشائش والهوامش والخواء المستذلّ..
تفاصحت في الموت أعلام الذبول..
وتحللت إرمٌ  وعاد
في الغائط الكلبىّ  والنفط..
البلاد وظلمة الملكوت عهن طائر،
وتخطفت جسدي المناسر والعصىّ
معلقا ومثبت الرسغين في الأفلاك
في أقصى الظلام..
***
يواصل تقرير منظمة حقوق الإنسان  - والمنشور في مصر - وصف أساليب التعذيب وقد يساعد ذلك على فك رموز الشعر وتكثيفه: "وبالرغم مما يتركه الضرب من آثار إصابية ممتدة، فإنه ليس أقسى أشكال التعذيب المتبعة في مصر الآن، حيث يجرى على نطاق واسع استخدام وسائل أخرى لتكثيف الألم الناجم عن الضرب أو لإحداث آلام لا تطاق    من بين تلك الأشكال التعليق العكسي على الأبواب، أو التعليق من السقف بواسطة كرسي يربط به جسم الضحية وهما في وضع مقلوب، أو حشر قضيب معدني بين اليدين  المقيدتين  بجانب القدمين المقيدتين وتعليق القضيب على قائمين مرتفعين أو كرسيين..
يصرخ محمد عفيفي مطر:
الأجواء غربان وبوم..
والخلائق محض قيء من جحيم الروح والهولات ترقص في فضاء الرعب..
خذي كفي من قيد الحديد  ألملم الشفّ المشقق..
كان جلاد بكعب حذائه يهوى علىّ فطقطقت ضلع
ارتميت..
وليس من وطن سوى هذا الرماد..
***
أين كنتم أيها المثقفون وذلك يحدث، لقد سقط الكثيرون منكم  في مقولة مقززة تهامس بها بعض اليساريين ليشوهوا  ماضيا  طالما احترمنا تضحياته، حين برروا التعذيب لأنه موجه لعدوهم التقليدي:الجماعات الإسلامية  مسقطين من جحيم الذاكرة أنهم هم أنفسهم قد تعرضوا للتعذيب ذات يوم، كان موقفا مزريا، وكان المبرر له أشد زراية، إنهم يدركون أنهم لا يستطيعون الوصول إلى الحكم حتى لو حدثت المعجزة ذات يوم و أجريت انتخابات حرة، وهم لا يستطيعون مواجهة الجماعات الإسلامية كما لا يستطيعون مواجهة الحكومة، فلينهك كل منهما الآخر إذن، أو ليقض عليه، وليشعلوا هم النيران كلما توجسوا منها الانطفاء  كي تخلو الساحة من عدويهما القويين : الحكومة والجماعات الإسلامية.  مرة واحدة يكسر الإنسان مبادئه و يخسر شرفه، كي يعيش بعد ذلك باقي عمره بلا مبادئ وبلا شرف، هل كان محمد عفيفي مطر  يا أيها اليساريون إرهابيا ؟ أم كان شاعرا فحلا نفيتموه من فردوسكم لأنه رفض طول عمره الانضواء تحت لوائكم كما رفض أن ينطق بالشهادتين شهادة لماركس وشهادة للينين..!!..كان قوميا عربيا إسلاميا، وتلك الأخيرة لم تغفروها له، وبرغم اتفاقكم معه  في توجهات كثيرة سكتّم عنه، لأنكم في صمتكم عن التعذيب المسلط على أعدائكم مستعدون  لتقبل أي تجاوز  و أي جريمة، فالغاية تبرر الوسيلة، لقد بلغ السوء - عذرا أيها القارئ فقد آليت على نفسي أن أستعمل أهدأ الألفاظ وأقلها حرارة كي لا أزيد من النار التي  تتأجج في قلب الأمة، لكن كلمة السوء هنا لا تعبر عن الحد الأدنى -  ليس السوء  إذن بل العهر، بلغ ببعضهم أن فسر علامات التعذيب التي  تصفها تقارير الطب الشرعي وتوردها حيثيات أحكام المحاكم، بأن المعتقلين  يلحقون بأنفسهم هذه العصابات كي يدّعوا  أمام المحكمة أنهم أدلوا باعترافاتهم تحت وطأة التعذيب، ولم يفسر لنا العــهّار كيف مات من مات من التعذيب، وكيف اختفي من اختفي فيمن تصف منظمات حقوق الإنسان اختفاءهم بالاختفاء القسري، وبلغ السوء بالبعض الآخر، أن راح يشكك في احتمالات  حصول منظمة حقوق الإنسان، على تمويل  من الإرهاب  كي يكتبوا عن التعذيب، ولمثل هؤلاء  لا أوجه حديثا، لكنني أقول للقارئ، أن سلطة الدولة  ممثلة في النيابة والشرطة وصحافتها، لم تكن لتترك أبدا حالة واحدة يمكن أن تخطئ فيها المنظمات، ولو بالصدفة، كي تنتهز الفرصة لتلحق بهم أقسى عقاب ولتشكك في جميع ما ينشرونه، و أنهم أيضا، لم يكونوا بتاركي كلمة واحدة في هذه المقالات  ما لم يكونوا واثقين  إنني  أعتمد فيها على مصادر شتى  كلها موثق، و أنه خير لهم أن يغضوا الطرف عنه ففي المساءلة عنه كشف للخفي..  يدّعى بعض اليساريين ذلك، رغم أن معظم أعضاء منظمات حقوق الإنسان من اليساريين، وربما كان أداؤهم هو الدليل الرئيسي الباقى على أن  بعض النضال اليساري كان نضالا حقيقيا، ولم يكن كما هو حاله عند معظمهم عمالة، أو نضالا مدفوع الأجر، فضح خونته جورباتشوف، عندما  كشف عن  الكشوف السرية للـ  KGB، وأسماء من كانوا يتقاضون منها نقودا.. هنا .. في مصر..
لكن هل ندين اليساريين فقط؟
أم أن العار يلحق  بكم جميعا يا مثقفو الطوائف، يا خدم؟..
 أين كنتم أيها المثقفون، يا حاملي راية الدفاع عن الإنسان والإنسان يذبح، لماذا عجزتم طيلة نصف قرن على الاتفاق على قيمتين فقط : منع التعذيب ومنع تزوير الانتخابات، ولو اتفقت  طوائفكم المتناحرة على هاتين القيمتين فقط لما وصل الحال بالأمة إلى ما وصل إليه..
 أين كنتم أيها  المثقفون النقاد حين صدر ديوان الشاعر  محمد عفيفي مطر: " احتفاليات المومياء المتوحشة" عن دار سينا للنشر، فلم يكد يتناوله منكم أحد، تكتمتم أخباره وتسترتم عليه كما تسترون عورة  وتتقون جحيما قد ينفتح عليكم إذا كتبتم عن عمل لا ترضى المباحث عنه، أين كنتم يا شيوخ النقاد، وهل أصبح من شروط النقد ومعاييره رضاء  المباحث عن العمل الفني، وهل يسبق تقييمها تقييمكم فعما أجازته تكتبون وعما ازرورت عنه تزورّون ؟..
 الآن أسأل  والتساؤل جمرات: أين كنت  يا أحمد عبد المعطي حجازي  ويا فاروق شوشة و يا رجاء النقاش ويا عبد المنعم تليمة ويا شكري عياد   ويا صلاح فضل ويا عبد القادر القط ويا جابر عصفور ويا فاروق عبد القادر وياعز الدين إسماعيل ويا أحمد كمال زكي ويا على الراعي، أين كنت يا جمال الغيطاني ويا يوسف القعيد، ولماذا يامحمد سلماوي لم تنقل لنا إدانة نجيب محفوظ لما حدث، لماذا حتى لم تستعد ما قاله في أحد أعماله الروائية، كي تبرئ ذمة الرجل من عار الصمت عن التعذيب أيا كان زمانه ومكانه ومبرره ..  ففي لحظة يفيض فيها ظلم الجهاز الباطش الجبار يصرخ نجيب محفوظ  هذه الصرخة في " حب تحت المطر" :
" رجال الشرطة شياطين، وهم يملكون جحيم الأرض وينفثون النيران في  الوجوه الشاحبة، يطرقون الأبواب بأيدي أليفة كالأحباب ثم يفتحون البيوت كالأعاصير، ويقف الكهل بين أيديهم مجردا من الكرامة فيفترس الخوف قلبه ويوقن بأن الحياة وهم وضياع، وينقبون الجدران والحشيات والجيوب والخزائن فتتلاشى المسرات والأخيلة، عند ذاك يسير بينهم بلا أرجل، بلا أعين، بلا غد.."
ثم ما يلبث أن يردف:
( أنه  قوة مخيفة تعمل في استقلال كلى عن القانون والقيم الانسانية)..
هل ذلك ما أخاف النقاد من الكتابة ؟..
 يصرخ حلمي سالم  ناعيا تجاهل النقاد للديوان:
( ألا ما أبأسها من حياة نقدية )..
لكن حلمي سالم، وفي مجلة حكومية أو شبه حكومية هي مجلة الهلال، بعد أن يقر بالتعذيب الذي تعرض له محمد عفيفي مطر، لا يدين هذا التعذيب صراحة، كما لو كان ظاهرة من ظواهر الطبيعة، كالبراكين والزلازل، شئ لا يجوز انتقاده، شئ أكبر حتى من القدر الذي يمكن للإنسان أن يدعو الله باللطف فيه..
يقول حلمي سالم:
" هذه القصائد هي ثمار تجربة الاعتقال والتعذيب التي  مر بها الشاعر أثناء حرب الخليج :  العراق - الحلف الأمريكي الغربي .. حيث تم حبسه بسبب رفضه لوحشية التدمير التي  قادها الأمريكيون ضد العراق - نظاما وشعبا - ورفضه للتواطؤ العربي مع هذا التدمير الوحشي .. وهو الاعتقال الذي مورست فيه على الشاعر ألوان ضارية من التعذيب والتنكيل"...
مجلة حكومية أو شبه حكومية، تتحدث بكل بساطة  عن ضراوة التعذيب والتنكيل، دون أن تنقلب الدنيا وتقال الحكومة ويصدر النائب العام أوامره فتتحرك الشرطة لإمساك المجرمين .. فلماذا يا أحمد عبد المعطى حجازي، حين عانقت الرئيس مهنئا، لماذا لم تجث على ركبتيك أمامه، تتوسل إليه بالدموع والألم، أن هذا الشعب الطيب المغلوب على أمره لا يستحق من نظامه كل هذا السحق، و أن الأمة التي  هرعت إليه تحيطه بانزعاجها حين تهدده خطر محاولة الاغتيال، تستحق منه، أن يقيل الحكومة و أن يحاسب المجرمين، لماذا يا أحمد عبد المعطى حجازي لم تجأر بالصراخ أمام سيادته، كي تنقل إليه صراخ المعذبين، فإن كانت تلك السنوات  التي  قضيتها في فرنسا، حين باعك  قطار الجنوب في الشمال، قد أنستك صراخ المعذبين، فهل أنستك أيضا صرخات  إخوانك، لماذا تخليت عن صديقك محمد عفيفي مطر، لماذا لم تتذكر  شيئا من شعرك القديم العذب:
يا ليت أمي وشمتني في اخضرار ساعدي
كيلا أتوه ..
كيلا أخون والدي ..
كيلا يضيع وجهي الأول تحت وجهي الثاني..
و لماذا لم تتل عليه بدلا من  مديحك له في كلمتك أو حتى معه شيئا مما كتبه صديقك  عن محرقة لاظوغلى في سادس أذان للفجر  له  هناك، حين راح يحلم  في عذابه الجنوني المجرم بشربة ماء:

تحت العصابة كان وقت من دم..
والأفق مشتعل بوهج حريقه الممتد..
أنت تهز  رأسك..
تستفيق من المخدر وانتهاك الذاكرة..
شيئا فشيئا تخرج النهر المخبأ تحت جلدك..
أغيمة تبدو أم الإبريق صلصلة من الظمأ المفضض في العراء..
قلت اغسل القدمين والرسغين، أطفئ جمرة الفولاذ تحت أساور الصلب المحبك..
وارتخت في القيد أطرافي..
وكنت أفيق من خلط المخدر وانتهاك الذاكرة..
شيئا فشيئا..
قبل أن تبتل أطرافي انتبهت على فحيح الموت
يفهق في العصي وفي كعوب الأحذية:
- قم، طأطىء الرأس، استدر، واصعد، وقف..
كان الهواء رطوبة وحرارة وزهومة تعلو عفونتها..
ورائحة الشواء كأنها نتن الخليقة في سهوب الموت..
وكان القيد في الرسغين جمرا نابضا:
- ( هيئه واحذر أن يموت فعهدة الأفراد كاملة الدفاتر)
كنت مشبوحا وسلك الكهرباء على يديّ
وكان برق من وحوش الطير ينهش ظاهر الكفّين..
تنبش ثم تلقط..
لا دمى يكفي ولا يكفي طحين العظم..
فانظر هل ترى..
 لا شئ يبقى من بلادك غير جير العظم..
هل وطن سوى هذى المسافة بين لحمك في الجحيم وبين سلك الكهرباء
***
فلماذا يا أحمد عبد المعطى حجازي، وقد حزت شرف الحديث عن المثقفين أمام الرئيس، لماذا لم تتحدث بوجهك الأول، لماذا لم تقل له أن ضمير الوطن والأمة والتاريخ يصرخ، و أننا جميعا، وهو أولنا: مدينون بالاعتذار لمصر..




الراية البيضاء "1"


ترى:هل تكره - مثلى  أفلام الكارتون والميكي ماوس يا محمد عفيفي مطر؟
كلما - بحكم الصدفة - شاهدتها تخيلت أنهم يسخرون منا، أن إسرائيل، - كرمز، ورأس رمح، يتخفي وراءه الغرب  كله   - هي الفأر الصغير الظريف الذكي، و أننا القط الكبير الغبي الأحمق الذي يقع دائما في نفس الأخطاء لتحل به ذات الكوارث  فيحملق في غباء ودهشة دون أن يعرف السبب، ودون أن يفهم، ويروح يكرر ذات الأخطاء، كلما تعرض لذات المواقف، حتى يصبح أمام عدوه مجرد دمية تحركها الخيوط، وكلما أراد الميكي ماوس أن يدفعه إلى فعل ما، يحطم فيه نفسه من جديد، لم يفعل إلا أن يشد خيطا من تلك الخيوط التي  تجمعت في يده، والتي  ساعده القط الغبي نفسه  في تجميعها، بل ونراه يهرع بإخلاص غبي، لتسليمه أي خيط يفلت من يده، ولتنبيهه لأية ثغرة لا يراها.
تبدو إسرائيل كفأرة كمبيوتر، لا تساوى في حد ذاتها الكثير لكنها تنفذ برنامجا هائلا لجهاز كمبيوتر عملاق  خفي، يرى الحاضر كله والماضي كله ويخطط للمستقبل كله، بينما القط الغبي الأحمق لا يرى حتى ما تحت قدميه، فقد أقنعه الفأر الذكي أن يلبس عوينات كي يرى أفضل، وكانت تلك العوينات أسوأ من العماء، فالعماء قد يتيح لوسائل الإحساس الأخرى، وللعقل  أن يروا، لكن تلك العوينات، لم تكن عوينات، بل شيئا كصندوق الدنيا، لا ترى به العالم بل وهما لا يوجد، يمنعك من رؤية العالم، وهكذا، لم تترك  العوينات الخادعة للقط الغبي الأحمق  المخدوع أن يرى سوى ما يريد له عدوه أن يراه.
في عام 1948 اندفعت القطط الغبية الحمقاء ليسحقها الفأر، وهى لا تفهم كيف، وعادت، لا لتلعق جراحها، بل ليصب كل قط منها جام غضبه على كل قط آخر، مدينا له، لا يرضى له دون الموت بديلا، والفأر يضحك.
في عام 1967، حين سحق الطيران المصري في أقل من ساعتين، صرخ موردخاى هود - قائد سلاح الجو في فلسطين المحتلة - أن ما حدث يفوق أعظم أحلامه جنونا، وسئل موشى ديان كيف فعلها، كيف استطاع، فأجاب أنه كرر ضربة 1956 بحذافيرها بعد أن ظل يدرب قواته عليها  عشرة أعوام كاملة، فسألوه كيف لم يخش أن يكون المصريون قد أدركوا خطأهم السابق و أنهم لن يسمحوا بتكراره، فأجاب إجابته التي  لما تزل بعد  أكثر من ربع قرن جرحا مفغورا: إنهم لا يقرأون، فإذا قرأوا لا يفهمون، فإذا فهموا لا يفعلون.
وكان القط الغبي يحملق دهشا،  والميكي ماوس ليس أنفا مقوسا ولا صوتا أخنفا بل قوة هائلة  كقوة الغيب والأساطير، سحقته، فلما سحقته راح يسبغ عليها صفات الأسطورة كي يبرر حجم هزيمته.
من 67 إلى 73 أدرك القط بعضا من حقائق قوته، و أخفي بعض الخيوط عن عدوه، حتى كاد أن ينال منه، لكن القط  الأحمق توقف  حين كان يجب أن يتحرك، وتحرك حين  كان يجب أن يتوقف، وأمسك في اللحظة الحاسمة  عن التفكير ليسرق منه الميكي ماوس ثمار نصره لتعود الأمور كما كانت  بل أشد سوءا.
وعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران كان ذلك انفلاتا لخيوط عديدة من يد الميكي ماوس، وراحت القطط الغبية تسعى لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، وراح الفأر يشحذ مخالب القط، ويسن له أنيابه، ويستثير حماسه، ونشبت الحرب بين العراق و إيران، وكانت العراق معتدية، لكن استمرار الحرب كان خطأ فاجعا من العراق و إيران معا، خطأ فادحا كان يسحق فيما يسحق أمن الأمة كلها، بل وربما وجودها، وكان القط الغبي الأحمق  يصارع في المرآة نفسه فيفقأ بمخالبه عينه، ويقطع بيده يده الأخرى، والفأر الذكي يقهقه مدعيا مساعدته، فيكيل له الضربات الساحقة، أمام المرآة، موهما إياه، أنه إنما يكيلها لعدوه، وكلما استشعر الغبى مزيدا من الألم ناشد عدوه، الذي يظنه صديقه وحليفه، أن ينتقم له و أن يحميه، بأن  يزيد من ضرباته.
أيامها، قلنا ذلك، وحذرنا الجميع، وتنبأنا بأن الميكي ماوس بعد أن ينهك الطرفان بعضهما، سيتكفل هو بسحق الطرف المنتصر.
وحرك الفأر خيوطه فغزا العراق الكويت، وكان خطأ فادحا، بل كان جريمة  و إن كان لها حساباتها  الحمقاء التي  تجاوزها الزمن  وقصرت عنها القدرة، وكنا نرى باقي اللعبة، فحذرنا، صرخنا، كان ممن صرخ معنا محمد عفيفي مطر، لكن كان ما كان، وكان جريمة أفدح لا حسابات لها، أو على الأحرى  كانت كل الحسابات تصب في جعبة العدو، وضدنا، واستعاد القط  الغبي بنفسه من نفسه كل خيط أفلت، وعقد كل أنشوطة ارتخت، وسلم الكل إلى الميكي ماوس مرة أخرى .
ما يحدث الآن تكرار فاجع، لقد انتهى الفأر أو كاد من تحطيم  جبهات كل العرب والمسلمين، بقيت مصر، وهى في حالتها الراهنة على ما يتمناه العدو ويكرهه الصديق، لكنها تظل مكمن الخطر، والجزء القادر إذا استيقظ على قلب المعادلة، لذلك فلابد من دفعه إلى حرب مع السودان تخرجه من المعادلة نهائيا لعشرات الحقب، حرب مع السودان تقضى عليه والسودان، ويعقبها حصار كحصار العراق لذلك أقول أن أي حرب مع السودان أمر بين الخيانة  الدنيئة والخطأ الغبي، و أقول أيضا أن بعض أنواع الخطأ وبعض أنماط الغباء أشد سوءا و أفدح تأثيرا من الخيانة.
بقيت مصر، المطلوب عزلها، حصارها، دفعها إلى حرب أهلية كالجزائر، و إلى حصار وسحق وتدمير كالعراق، و إلى خنق كليبيا، وترويض كسوريا، و احتلال كالسعودية والخليج، ثم على ثأر بينها وبين الأمة العربية والإسلامية، يجعلها حين تقع في براثن الوحش - الذي طالما سخر منا فأوهمنا أنه مجرد فأر صغير - لا يبكي عليها أحد ولا يسعى لنجدتها أحد.
بقيت مصر حتى الآن راسخة كدوله، طيلة التاريخ المكتوب حافظ حكامها على حدود الدولة، الآن نرى الخطر ونحذر منه، فبعد استنزاف الاقتصاد، وبعد السلب والنهب، وإهدار النصر الوحيد، والقضاء على معنويات الأمة، ودفع مصر ذات يوم أسود لضرب ليبيا، واستدراجها ذات حقبة سوداء لمحاربة شعب العراق، وبعد   وبعد   وبعد، وبعد أن نصل إلى حرب أهلية كالجزائر، وإلى حرب مع السودان، بعد ذلك كله، سيكون من اليسير جدا، ليس مجرد تقسيم السودان، بل تفكيك مصر إلى دول ثلاث، وهو مخطط قديم ومعلن، يستطيع أي قط غبي أن يقرأه في دوريات الميكي ماوس  ومجلاته، ولقد قرأتها منذ بدايات عهد الرئيس مبارك، عن المخطط أن تقسم مصر إلى دويلة مسلمة  في الشمال، ومسيحية في الجنوب، ثم دويلة نوبية تفصل بين مسلمي مصر في شمالها عن مسلمي السودان، التي  ستقسم هي الأخرى، لكن القط الغبي  لا يقرأ، فإذا قرأ لا يفهم، فإذا  فهم لا يفعل، أو فعل عكس المطلوب تماما تماما.
حين نشر هذا المخطط كان يبدو نوعا من الخيال، وضربا من المحال، الآن، بعد أن حارب نصف العرب نصف العرب في الخليج، وبعد أن هزم كل العرب كل العرب، وبعد أن حدث في الكتلة الشرقية ما حدث، ترى هل ما يزال الخيال خيالا والمحال محالا؟.
لعلها أول مرة في التاريخ يا أيها المثقفون، بل يا أيها الناس تكون وحدة الدولة ووجودها  - كمصر الكائنة منذ فجر التاريخ  - مهددة ومتآمرا عليها، أول مرة يا سيادة الرئيس محمد حسنى مبارك.
مصر هي أهم الدول العربية والإسلامية، لذلك يجب أن يكون المخطط ضدها شاملا كاسحا جامعا مانعا، أن يفعلوا معها، بها، كل ما فعلوه بإيران والعراق والخليج والسعودية والمغرب والجزائر وتونس، لقد حذرنا، ولقد تحقق دائما ما حذرنا منه، وهانحن أولاء نحذر من جديد، لكن القطط  العمياء تندفع إلى مصير ليس هو القدر، بل هو الحماقة والغباء، فلا جديد في مؤامرات الميكي ماوس ولا مخططاته، والقصة هي ذات القصة، كلحن موسيقىّ تعزفه آلات مختلفة.
 محمد عفيفي مطر أيضا حذر، ظل يحذر طيلة عمره، لكن القطط الغبية الحمقاء  - حين أدركت أنه يرى ما رأته  زرقاء اليمامة - أسرته في لاظوغلي، فلقد تجرأ ورأى العالم بعينيه لا بعوينات الميكي ماوس، فراح  يصف ما يرى، راح يدافع عن العراق، وعن الأمة،  فاقرؤوه، فغدا  - إن حييتم - تقرأون مثله لشاعر في اليمن أو في المغرب  يحتج على العدوان الأمريكي على مصر، على قصف الأزهر والحسين، وموت الآلاف في مخبأ في باب الشعرية:

...
خمسين عاما..
كلما نضجت جلود الميتين تقلبوا في الجمر
واتسعت مسافات الحريق..
الأبيض المتوسط انفجرت زعازعه بفيض الدمع والدم..
- ليس من نصر يجئ –
...
خمسين عاما كنت شاهدها الضحية..
والمقاود جررت فولاذها الريح العفية..
عسكر الثوار، حفارو القبور المخبرون..
نخاسة الأفكار في الزيف الأجير..
فخدّدَت  في نازف الأرض الطرائق للخيول وشاحنات السجن
وسّعت  المسالك للمدافن والنعوش..
...
أنصت إذن لدماك تنزف من فتوق الذاكرة..
أبناؤك التفوا - وهم ذبح سينضج وقته..
فاجدل منادمة من الدم والكلام..
هل ثم شئ كائن إلا نزيف الذاكرة..
ومسابح الدم والكلام ..
كان محمد عفيفي يحذر ويصرخ وكان  بعض السادة المثقفين قطا غبيا آخر كرس جهده للخلاف والصراع، لا مع العدو، بل مع بعضهم البعض، لا لتوحيد الأمة بل لتفتيتها، كان محمد عفيفي مطر يعلم - وبالطبع كان القط الغبي أيضا يعلم - أن الاسم الرمزي لحرب تدمير العراق ليس عاصفة الصحراء بل المجد للعذراء :Ave Mary، كانت هذه الترتيلة الكنسية في تحية وتمجيد العذراء مريم  هي الصيحة التي  أطلقها السفاح شوارتسكوف  مع أول صاروخ في حرب الخليج، و لقد كتبوا على صاروخ منها:إن كان محمدهم لا يستجيب لدعائهم فليدعوا المسيح، كانت الصواريخ تنطلق  لتدمير شعب العراق  لا لهزيمة صدام، لو كان مقياس نتيجة الحرب مصير صدام  فقد انتصر كما يقول، و إن كان المقياس تدمير شعب العراق واقتطاعه من قوة الأمة فخسئ النصر، وفي مخبأ العامرية في بغداد قتل  مئات المدنيين، من بينهم أكثر من أربعمائة طفل، بصاروخ من صواريخ المجزرة الأطلسية في حرب الخليج، يستعيد محمد عفيفي ذلك وهو معلق معذب مهان معصوب العينين في جحيم لاظوغلي:

كان الليل تحت عصابة العينين ينبض ملحه المسنون..
بالبرق المفتت والدخان ومشهد الموت الأخير..
...
ومئذنة يؤذن فوقها الجزار  :Ave Mary
ومريم كانت اتكأت تهز النخل لا رطب ولا نجم  سوى الفولاذ منصهرا..  يئزّ  يؤجّ يهطل..
والدخان معارج الموتى وقافلة الحجيج..
صوت المؤذن  من رفات العامرية طالع متوضئ..
باللحم  والدم وانصهار  الرمل والفولاذ بالموتى
و أنت تخب في عار النجاة  تقلب الكفين من مقهى إلى مقهى..
ومن عار الحداثيين  في لغو القراءات الدنيئة  والضمير المسترق..
من المهارشة الخصية من مصارعة الديوك على بقايا الغائط النفطي.. والتنوير في ظل النعال..
و أنت في عار النجاة تخب..
والصوت المؤذن رائق الترجيع..
كان يثوّب  (يوقظ) الموتى..
فينبعثون من روح الظلام..
جماعة يتقطر الدم من وضوئهمو ومن قتلى الظهيرة في الميادين التي  امتلأت كتائب من سرايا الأمن..
تبدأ ركعة الميعاد على ربوبيات لاظوغلي..
 ونهش الكهرباء على المعاصم والمحاشم..
***

القط، منذ هزيمته النهائية، منذ يأسه من تحقيق أي نصر حقيقي، أو أي تقدم في أي مجال، انقلب على أبناء جنسه يسومهم سوء العذاب، فلا مجال لتحقيق نصر إلا عليهم، ولا للتنكيل إلا بهم، ولا الاحتقار إلا لهم، ولا الحرب إلا معهم،  في دائرة خبيثة جهنمية، فولاة أمورنا يعذبوننا لأننا مهزومون، لكننا نرى أنهم مهزومون لأنهم يعذبوننا، كلما ازداد العذاب ازدادت الهزائم وكلما ازدادت الهزائم ازداد العذاب، ولم يفكر الحمقى أبدا في كسر الدائرة، وربما  كان محمد عفيفي مطر   مستعدا للاعتراف في أي وقت  وبأي شيء، تحت وطأة العذاب وعقار الهلوسة الذي أرغموه على تناوله، والذي جعله يخال أن الكلاب ملوك  و أن الملوك دمًى، و أن من حق كل القطط إذن أن تخاف  وتستسلم وتذعن:

واسـّــاقط الكفن المعقود ألوية: مجد ولا شرف..
والشعب تحت عراء  العار يرتجف -
قد يسلم الترف المأبون في زمن ديـّـــوثــه الصحف..
ها أنت تحت سياط الكهرباء وبين القيد والظلمات السود:
- تعترف ؟
- إن الكلاب ملوك، والملوك دمى..
والأرض تحت جيوش الروم تنجرف..
...
زحزحت في قيد التعذيب قيد يدي
فاشتدّ  واهتزت - في قطرة علقت تحت الجفون - سماء الله:
التقفت رأس القتيل جروح الصدع في كبدي
...
دهر من الظلمات  أم هي ليلة جمعت سواد الكحل والقطران من رهج الفواجع في الدهور..
عيناك تحت عصابة عقدت وساخت في عظام الرأس عقدتها..
و أنت مجندل يا آخر الأسرى ولست بمفتدى..
فبلادك انعصفت وسيق هواؤها وترابها سبيا..
 وهذا الليل يبدأ..
 تحت جفنيك البلاد تكومت كرتين من لحم الصديد..
الليل يبدأ..
والشموس شظـيّـة البرق الذي يهوي على عينيك من ملكوته العالي..
فتصرخ، لا تغاث بغير أن ينحلّ وجهك جيفة تعلو روائحها فتعرف أن هذا الليل يبدأ..
...
هذا الليل يبدأ..
فابتدئ موتا لحلمك وابتدع حلما لموتك..
أيها الجسد الصبور..

بعد عشرة أيام من التعذيب في لا ظوغلي  نقلوا الشاعر إلى معتقل طرة، فطفق يسترجع ملامح جلاديه، كأنهم قدّوا أجسادهم من صخرة واحدة على قالب واحد فلا استثناء في شئ، عيونهم لا يشبهها في شئ إلا عيون الكلاب الميتة في مجرور النهر ومستنقعات النتن الدهرىّ، فكأن " خنوم " : إلــه صناعة الفخار وتشكيل الطين في مصر القديمة صنعهم مرة واحدة واحتفظ بهم في مخازنه حرسا سرمديا لفراعنة كل العصور، إنهم لا يؤمنون بإلــه آخر غير خنوم، وفي تدفق جحيميّ يمزق القلب ويضنى الروح يصوغ محمد عفيفي مطر ما حدث من أولئك الخنوميين شعرا لست أجرؤ - في هذا السياق على الإشادة بعذوبته، حين يصبح الواقع المذاع في خطب رسمية هو الكذب المجسد وخيال الشاعر هو الصدق الوحيد، إنهم يستجوبونه:

س : ما الأسماء الصريحة لرفاقك الإرهابيين:
سقراط وابن رشد والسمندل والنفرىّ  وأورفيوس والسعلاة  إلى آخر ما وجدنا في أوراقك من أسماء حركية..
-  ...
سنعرف كيف تنطق حين نواجهك باعترافاتهم صوتا وصورة..
 وحين ووجهت بتقارير المخبر أفلاطون،
وجدالات التهافت ومناهج الأدلة، ونار الطقس المبدئ المعيد، وبشارة الإيذان بالوقت،
والملابس الداخلية لأوريديكي،
وزمزمة السفاد في بوادي الجن،
وسمعت تسجيلا لصرخات الهلع من زرقاء اليمامة..
اعترفت بأدق التفاصيل..
...
هل كانت بلادك أم جنونك - هذه؟!..
أم أنت من فجر الخليقة لازب الطين المقدر للغواية والجنون
متقلب الأشكال بين يدي " خنوم "..
طالع من وقدة الفاخورة العظمى..
ومصطف صفوفا كلما بليت أعيدت في براح العصف والخلق الرميم المستعاد؟!..
- : اخلع ثيابك..
(لفحة  الخوف المشوش بالحياء وزمهرير الفجر،
صفان خنوميان تلمع في أكفهما عصى الخيزران،
وحارسان يصلصلان برجفة الجنزير:
كلب في علوّ  البغل يقعى،
آخر في هيئة الوحش الخرافي اشرأبّ )..
- أدر إلى الجدران وجهك..
لا كلام ولا تلـفّت..
...
طأطىء  ولا تنظر وراءك واحتبس أنفاسك..
( الزمن انفجار الرعب :
هل سيمزق الكلبان لحمك من وراء أو أمامْ )
...
هذه كانت حدود العبقرية في المكان:
سجن وجلادون..
أدوار الخنوميين ما بين الهزائم والخراب..
 ضريت كلاب الصيد فانتظروا المواسم..
...
- :البس ثياب السجن، لا تنظر وراءك، لا كلام ولا تلــفّـت..
( لا كلام سوى دوى الإرث من ليل القراءة في دم التعذيب والهول المؤبد..
 في بلادك والخنوميين في منفي التواريخ التي  أبقت دم القتلى يبيد ويستعاد.. )
*


***

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

أيهم أولى بالاتباع: علماء السلاطبن فقهاء الخليج أم هؤلاء.

بعد مائة عام