أوقفوا التعذيب ٤
أوقفوا التعذيب ٤
الشعب ٢٩-١١-٢٠٠٢
الرايــــة الــبيـــضاء "2"
وطــن الدّمــــــــــــى
أوقفوا التعذيب
أوقفوا التعذيب
أوقفوا التعذيب
الشعب ٢٩-١١-٢٠٠٢
**
هل قرأت أيها القارئ، وهل تستطيع أن تواصل؟..
بل هل أستطيع أنا أن أواصل؟..
لكن، ترى: بم أحس محمد عفيفي مطر وكيف تحس أنت أيها القارئ عندما تقرأ أو تسمع تصريحات الدكتور أسامة الباز الأخيرة، تلك التي عرفتها من وسائل الإعلام الأجنبية لا المصرية، والتي يقرر فيها أن مصر لا يمكن أن تخوض حربا مع السودان بعد النتائج الوخيمة لحرب الخليج، هاهو ذا واحد من المسئولين يعترف أخيرا بوقوع ما حذرنا منه، بالكارثة والخراب التي أسفرت عنها حرب الخليج، بالفعل الذي تعلمنا منه ألا نعود لمثله، هل تضحك أيها القارئ أم تبكي أم تلطم وجهك، أم تسفح دمعك عاجزا مقلبا وجهك بين جبروت الأمم المتحدة على العراق وليبيا وعهرها في البوسنة والهرسك وفلسطين..
بعد محاولة الاغتيال أملت أن يعود سيادة الرئيس إلينا، أملت في عتاب يطول ويهطل بدموع التوبة علها تغسل كل هذا الدم والظلم، عندما حمدت الأمة الله على سلامته خشية المخاطر المحدقة بالوطن، خشية الحرب الأهلية وتقسيم مصر بالتحديد، كنت أدرك مدى الألم الساحق الذي يتضمنه هلعنا عليه، فبرغم كل ما حدث في عهده، ما لم يحدث مثله في عهد غيره، فقد كانت البدائل بعد اغتياله هي الخراب والدمار، برغم الذل والهوان والقهر وافتقاد المنطق حمدنا الله على سلامته كي يروى من نهر الحب الذي تدفق من قلوب الناس شجرة الندم والتوبة في قلبه، لماذا أغفل الجانب الآخر، الاحتمال الأمرّ..
كنت أتمنى ألا يدع الرئيس فرصة لخصومه، الذين قد يرون أنه بعد محاولة الاغتيال، التي يعرف أن أمريكا و إسرائيل حتى لو لم تتورطا مباشرة في تدبيرها، فهما دوما قادرتان على إبلاغه - أو عدم إبلاغه- بتفاصيلها، وعلى حمايته، و أنه لذلك سيختار الأمان في كنفهما مهدرا مشاعر أمته، التي لا تستطيع - من وجهة نظره - إلا الحب والأمل أو خيبة الأمل لكنها لا تستطيع تقديم الحماية والأمان.
كنت أتوقع، أو على الأحرى أتمنى أن يصدر سيادة الرئيس الذي ولد من جديد قرارات هائلة، تنقض كل ما مضى، فإن الأمة التي بايعت قد بايعت على الأمر بالمعروف لا المنكر، و أخطر ما يمكن أن يهدد الاستقرار في مصر، هو أن تكون نتيجة طوفان المحبة والأمل العارم في التغيير خيبة أمل.
كنت أستعيد ذكرى جمال عبد الناصر بعد أن غيرته الهزيمة، فراح ونياط قلوب الأمة تتمزق غارقة في يأس مشرئبة لأمل، راح يقسم- مستشعرا عبء وزره وفداحة مسئوليته عن كل ما جرى - أن نحرر الأرض المغتصبة شبرا شبرا، رحت أتخيل الرئيس حسنى مبارك، وقد اصطحب معه محمد عفيفي مطر وإبراهيم نافع ووزير الداخلية والنائب العام، و على شاشات التليفزيون يقسم - مستشعرا عبء وزره وفداحة مسئوليته عن كل ما جرى - ألا يحدث تعذيب بعد اليوم، وأن يحاسب كل من مارسه وكل من تستر عليه، ويقسم ألا تزوّر الانتخابات بعد اليوم، و أن يحاسب كل من مارس التزوير ومن تستر عليه، ويقسم غير حانث ألا يصادر في عهده رأى ولا يقصف قلم، ويقسم أن يحاسب الذين ورطوا الأمة في القانون 93، و أن يكون القانون الجديد عكس ما أرادوا، ويقسم أن يتم التغيير، و التنوير أيضا لكن ليس تحت ظل النعال، ويقسم أن يحارب الفساد أينما كان و أيا كان مرتكبوه، و أن يقيم العدل.
رحت أتخيل عشرات ومئات وآلاف الأشياء التي سيقسم الرئيس عليها، مستعيدا صورة قائد الطيران البطل، وصورة الرئيس الحكيم وهو يستقبل ضمائر الأمة الذي كان السادات في نهايته قد اعتقلها، وصورة الرئيس الناضج إثر محاولة اغتياله، رحت أستعيد تلك الصور الثلاث - دون سواها - كي أطمئن قلبي الواجف أن التغيير وشيك، وفجأة طالعت مع الأمة تصريحات سيادة الرئيس الأخيرة.
شملني حزن ثقيل، حزن الفقد والبتر والموت، أدركت أن الفرصة الأخيرة التي ما كادت تلوح تخبو، وارتد علىّ الحب الذي وجهته الجماهير إلى سيادة الرئيس صفعة، لقد أهان المصريين[14]، و أمام أجانب، ولقد جاوز الحق في وصفه لأحداث نقابة الصحفيين، ولقد صرح بأن تزويرا في الانتخابات لم يحدث قط، ولم يكن ذلك القول حقا..
ولأن الأحزان لا تأتى فرادى فما لبثت أن طالعت تشكيل اللجنة الجديدة لصياغة قانون الصحافة..
سمير رجب وثروت أباظة و إبراهيم سعدة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
أشهد و أقر وأعترف، أن سيادة الرئيس قد أدار المعركة مع الصحفيين كممثلين للأمة بذكاء طيار محارب يتقن كل حيل المناورة والمراوغة والمفاجأة والكر والفر والانقضاض والخداع التكتيكي والإستراتيجي.. فقط، حدث خطأ واحد في الحساب، هو - للمأساة - أننا لسنا العدو، أن القاتل قتل أخاه، و أن القائد أسقط طائرات سربه..
لسنا العدو..
بل نحن الأمة..
أتساءل، إذا كان هذا هو رد الرئيس على طوفان المشاعر التي أحاطته بعد محاولة الاغتيال، ترى ماذا كان يفعل لو كان هذا الطوفان ضده.
يا مرارة اليأس في ملح الدموع ..
يا انهدار مشاعر أملت في الخلاص..
يا توبة ارتجيت ولم تتحقق..
لو إنني أعرف عبد الحليم رمضان لرجوته أن يرفع أمام القضاء دعوى ضد سيادة الرئيس..
لكن هل يمكن في نظامنا - الذي يقارنون ديموقراطيته وقوانينه بألمانيا وفرنسا - هل يمكن أن يحاكم الرئيس؟..
هل بقى أي أمل؟..
أعترف للقارئ أنني فقدت كل أمل في الحوار أو الفهم مع سيادة الرئيس ..
وفقدت أيضا كل رغبة..
وليس ثمة مناص من التوقف، لكن بعد مقالين أو ثلاث أبرئ فيها ذمتي أمام الله والتاريخ والأمة ..
أرفع الراية البيضاء..
لا طلبا للأمان وللسلامة.. فلا سلام ولا أمان ولا أمانة..
ولكن نكوصا عن مواجهة أعرف أن الوطن في نهايتها هو المهزوم..
أرفع الراية البيضاء، لا استسلاما بل اعتراضا واحتجاجا ورفضا لم تعد تدرى كيف تعبر عن نفسها وقد فقدت الكلمات كل قيمة وانقطع للحوار كل جسر، ولست أملك غير الكلمة سلاحا، فإن فقدت قيمتها فلماذا أكتب؟..
ولست أوافق تحت أي وضع أن يرفع أبناء الوطن السلاح بعضهم على البعض..
أرفع الراية البيضاء، فقد سدت السبل وهدت الطرق وليس ثمة منفذ ولا منقذ..
إلاك يا رب..
ليس لنا سواك سحقنا الأبعد وخذلنا الأقرب ..
ولم تردع الظالمين آياتك ..
فارحم ضعفنا وذلنا وهواننا على العالمين..
يا صبور.. قد أريتنا صبرك فأرنا عدلك..
يا قادر.. في جبروتك رحموتك..
إنهم يحسبون أنهم قادرون علينا ولا يأبهون بقدرتك عليهم..
ويحسبون أنك لا تستجيب دعاءنا ..
فاللهم، إن كنت تعلم أننا على الحق و أنهم على الباطل فارحمنا، فإنك عزيز مقتدر
واللهم إنها مصر، فمن أرادها بسوء، فاقصمــــــــه..
الرايــــة الــبيـــضاء "2"
هذا حديث ثقيل على كاتبه ثقيل على قارئه ثقيل على السلطة، حين أحاول قدر ما أستطيع أن أعرى الحقيقة، مدركا إنني لا أكتب للفاجعة كمعارض، ولا أنافح النظام كي أسقط الحكومة أو أضعف حزبها حتى تظفر المعارضة بمقاعد الحكم - رغم أن ذلك حق - لكنني - وكثير من المعارضين - في إطار خلل شامل مروع للسلطة، نحاول - لا أقول يائسين - أن نرتق الصدع ونرمم البناء كي لا ينهار البيت على من فيه، كل من فيه من حكومة ومعارضة، فعندما يتصدع بيت غـــيـــّـب مالكه الحقيقي، وعندما يتهدده الحريق، في غيبة مسئول رشيد، لا يتصرف قاطنوه بحكم وظائفهم وتخصصاتهم، لا يتصرف القاضي كقاض ولا الطبيب كطبيب ولا الصحافي كصحافي، و إنما يحاول كلّ منهم قدر جهده، ربما - للأسى والتخلف - دون تنسيق مع من حوله، أن ينقذ ما يستطيع .
الأزمة الآخذة بخناق الوطن والأمة أبعد بكثير من خيبة أمل فاجعة في ضياع فرصة أخيرة للتغيير، وأعمق بكثير من خلاف مع السيد الرئيس أو مع نظام الحكم.
أبعد بكثير من أن تكون أزمة القانون 93 أو أزمة الصحافيين وحبسهم أو أزمة الأحزاب والانتخابات والنقابات والفساد والانهيار الاقتصادي واتساع الفجوة بيننا وبين إسرائيل.
الأزمة أزمة الرئيس - ليس كفرد - وإنما كرمز للسلطة و رأس لها، وأزمة المجتمع كله، فبرغم أن مصر هي أقدم دولة في التاريخ، ومنها تعلمت القبائل كيف تصير دولا، إلا أن المأزق الذي يخنق الدولة ويكاد يهدد وجودها، يكشف مباشرة عن أزمة شاملة في العلاقة بين السلطة والمجتمع، واحتياجهما معا على مراجعة المبادئ الأولية لقيام السلطة والدولة، مصر: أقدم دولة في التاريخ، عليها أن تتعلم من جديد كيف تكون دولة، فكأن على أستاذ الجامعة، أن يراجع أبجديات اللغة من البداية، بعد أن فسدت حروف لغته، وكأن على عالم الصواريخ، أن يراجع من جديد وضع كل مسمار وكل ترس في صاروخه، التي تكشف الظواهر أنه يوشك على الانفجار، رغم أن قائده يصر على السير به في ذات الاتجاه دون تغيير، غير مدرك ولا مصدق أن الانفجار وشيك.
لست أعنى أزمة نظام سياسي يحكم بحزب مزور الأصوات، ولا خلل بنيان اجتماعي وفكري جعل تطبيق كل فكرة يؤدى عكس المستهدف منها تماما، فالاستفتاء الذي يقصد به أن تعمل الأمة كلها رأيها وفكرها وعقلها في مشكلة تواجهها قد أدى في التطبيق إلى تغييب الأمة وتغليب رأى الطاغية وقمع معارضيه، والقطاع العام الذي قصد به الحفاظ على حقوق العمال، قد أدى إلى نشوء طبقة من كبار المنحرفين تحالفت مع السلطة بل وسيطرت عليها ، حيث أدت الآلة الاقتصادية الجبارة إلى تقوية السلطة لتسحق بهذه القوة العمال، ونسبة الــ50% عمالا وفلاحين قد استخدمت لإهدار حقوق العمال والفلاحين، وقوانين العيب صدرت لتستر العيب ولتحمى مقترفيه، وقانون الطوارئ الذي صدر بحجة حماية الوطن ينخر كالسوس في جسد الوطن، وقوانين التعليم لإفساد التعليم، وتحت راية العدالة تسحق العدالة، ويصفي المعارضون جسديا، وترتكب السلطة أفدح الجرائم التي يؤثمها قانونها الموضوع، وقوانين الصحافة لتفريغ الصحافة من كل قيمة، لا أعنى كل ذلك، رغم خطورته، بل قد لا أتجاوز في القول حين أقرر أن فشل كل محاولات كل الجبهات الوطنية للإصلاح ترجع أصلا إلى تناولهم هذه الظواهر كأصول، فكانوا أشبه بطبيب مبتدئ، يعالج ظواهر المرض، فيعطى المسكنات للصداع، والمقويات للأنيميا، والمطهرات كي تقتل الفطر والميكروب، والمضادات الحيوية للحمى، والمجلطات للنزيف، ثم يعالج بكل همة قرح الفراش، ويروح يشغل نفسه في جهد لا جدوى منه، في دراسة أحدث الطرق لمعالجة تلك الظواهر، دون أن يفطن إلى أن كل هذه الظواهر ترجع إلى سبب واحد تختفي تلقائيا بعلاجه، و أن مريضه مصاب بالسرطان ومهدد بالموت إن استمر في عمائه وانشغاله بعلاج الأعراض دون المرض، و أن جسد هذا المريض الموشك على الموت أمامه، لو لم يكن مصابا بالسرطان، لاستطاع حتى دون حاجة لمعونته، التغلب بقواه الذاتية على الصداع والضعف والنزيف.
من هذا المنطلق أعتبر - على سبيل المثال - أن أزمة الصحافيين مع السيد الرئيس، مجرد عارض لأزمة أخطر بكثير، سوف نقع في نفس خطأ ذلك الطبيب المبتدئ، الذي لن تغنيه نيته الطيبة عن ولوج جهنم، إذا عالجناها كأزمة يكفي لحلها إلغاء القانون 93 أو .. أو .. أو..
الأزمة أبعد حتى من وقف التعذيب والتزوير، بل لعل التعذيب والتزوير مجرد عارض، ونتيجة لعدم حل الأزمة المستحكمة والمستفحلة.
الأزمة أبعد بكثير من محاولة حصرها في نطاق ضيق نستطيع أن نشير عليه لنقول هذا هو الداء فهاتوا الدواء، إنها أزمة الأسس التي يقوم عليها توازن السلطة وتوزيع الصلاحيات والمسئوليات ومعايير التداول الطبيعي والسلمي للسلطة، أزمة بناء السلطة ونموذجها وقيمها، و طريقتها في ممارسة القيادة الاجتماعية في الحكم وفي المعارضة معا، فلو كان نظام الحكم سليما، لو لم يكن مصابا بسرطان يعبر عن نفسه بآلاف الظواهر التي قد تخدع بأن المرض سيزول حين نعالج الظواهر، ولو توفرت سلطة حقيقية راشدة عاقلة موضوعية، لما قاد إخفاق الحكومة في فترة ما إلى أزمة في الحكم، ولما أدى فشلها إلى تفجر أزمة في الحكم والسلطة والمعارضة والمجتمع، بل إن هذا الإخفاق حين يحدث في نظام سليم الأسس، مكتمل المعايير، قد يمثل فرصة تاريخية للتغيير الإيجابي، و إلى انتقال السلطة دون مشكلة إلى: فريق آخر أكثر كفاءة والتزاما.
لست أقصد بالسلطة شخص الرئيس مبارك، بل أعتقد أنه هو الآخر - في بعض من الجانب الفاجع للمأساة - ضحية لذلك الخلل الجسيم في النظام، لا أقول ذلك خوفا من بطشه ولا مجاملة له، ولا ائتلافا لقلبه كما فعلت عقب محاولة اغتياله، ولقد فشلت – كما فشل الجميع تقريبا في ائتلاف قلبه لمحاولة إقناعه بأن يقود هو نفسه التغيير كي يوفر على الأمة أنهارا من الدم وجبالا من الألم وبحارا من التوتر وحقبا من التخلف والصراع، لقد بذلنا هذه المحاولة صادقين مخلصين، ولقد فشلنا، لكننا بالرغم من خيبة أملنا لا نقصده حين نتحدث عن السلطة، كما لا نقصد أيضا عاطف صدقي ولا وزراءه، ولا حتى السلطات الثلاث، بل نقصد - كما يعبر الدكتور برهان غليون في كتابه نقد السياسة - جملة المبادئ والمعايير العامة التي تحدد العلاقات بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع، والتي تتجسد عبر مؤسسات مختلفة ومحددة الصلاحيات، تضبط إيقاع المجتمع، وتساعده على تنظيم علاقاته وجنى ثمار نشاطاته وجهوده في تراكم كمي وكيفي، كما تمنع إهدار جهد الأمة، ونزفها في العمولات والرشاوى والفساد والتهريب والتصرفات الطائشة والقرارات الحمقاء واستغلال السلطة.
مفهوم السلطة الذي نقصده أوسع بكثير من منصب الرئيس وقواد جيشه ووزرائه وكبار مسئوليه، ولقد سبق الحديث النبوي الشريف علوم السياسة والاجتماع حين قال: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالسلطة التي نقصدها تشمل ضمن ما تشمل سلطة الأسرة والمدرسة والحي والقرية والمدينة والجماعة الدينية أو المذهبية أو الحزب، ثم الجماعة الوطنية ثم القومية ثم الإسلامية، وفي كل سلطة من هذه السلطات تتبلور المعايير التي تصوغ في النهاية وجدان الأمة، وتقوم كل سلطة من هذه السلطات على أنماط ومعايير لا يجب الخلط بينها، كالنمط الأبوي في الأسرة، والنمط العلمي في المدرسة أو الجامعة، والديني في المسجد والسياسي في الحزب والدولة، بيد أن كل هذه الأنماط والمعايير لا تتحرك في فراغ، وإنما يحكمها جميعا، يكفلها وينظم العلاقات بينها سلطة الدولة، وهى في النهاية الضامن الرئيسي لسلامة كل السلطات الأخرى، ومتى ضعفت هذه السلطة السيادية الكبرى، أو فقدت رشدها، ومقاييسها الأخلاقية والعقلية، تعرضت جميع السلطات الأخرى للاهتزاز، وفقد معها المجتمع اتزانه ووسيلته لترتيب أوضاعه وحسم خلافاته وتحديد أولويات نشاطه وتحقيق توازنه العام ومعرفة طريقته ووجهته.
عندما تفقد السلطة الكبرى المعايير والمنطق تفقد كل السلطات الأخرى اتجاهها كما تفقد القافلة المرتحلة قائدها ودليلها فتفقد الطريق، لتسير كل مجموعة في اتجاه مختلف، يسبق ذلك ويصحبه ويعقبه، صراعات دامية حول أيهم على صواب، و على اقتسام زاد الرحلة.
يشكل الرئيس - ليس كمجرد فرد - عنصرا من عناصر السلطة السيادية الكبرى، عنصرا تختلف نسبة تأثيره فيها أو تأثيرها فيه طبقا لقوته، لا نقصد بالقوة هنا قوة الحرس ولا مناعة الحصون ولا ضخامة المخابرات والجيش والشرطة، بل نقصد بها قوة مبادئه ومعاييره وقيمه الأخلاقية و المعنوية وشخصيته، وقدرته على إقناع الأمة في الداخل والعالم في الخارج بمنظومته الفكرية، والتي تتشكل من مجموع المنظومات الفكرية لمختلف الاتجاهات في الدولة، إنه كالمايسترو في فريق موسيقى، يمكن بسوء إدارته أن يفسد عمل المجموعة كلها مهما بلغت براعتها.
إن عجز الرئيس في مثل تلك المجتمعات، وافتقاد ه للمنطق والمشروعية، ونزوله إلى حلبة الصراع بدلا من أن يظل حـكـما، يعتبر عاملا من العوامل المهمة التي تؤدى إلى عجز السلطة السيادية الكبرى في المجتمع حيث يترتب على هذا العجز انفلات عناصر السلطة جميعا، وبحثها، كل على حدة، وحسب ما تقع عليه يدها على نسق جديد تستطيع من خلاله أن تعيد بناء علاقاتها بالواقع، وأن تعين معايير جديدة لسلوكها كي لا تفقد توازنها الكامل وتفنى، ذاك العجز وهذا الانفلات، وانعدام القيم والمعايير والمنطق والمنهج تؤدى في النهاية على نوع من التشتيت والضياع وفقدان القدرة عند كل مؤسسة على أن تتعرف على مكانتها ودورها ومسئوليتها في مجمل النظام الاجتماعي، خطورة هذا الخلط، أن كل مؤسسة تفقد معرفتها للوظيفة الخاصة بها، فتسعى إلى القيام بكل الوظائف التي يمكنها من خلالها أن تثبت نفسها، وتضفي على وجودها الشرعية والنجاح وتؤمن لنفسها السيادة، وهنا ينفرط عقد الأمة، فمجلس الأمة أو الشيوخ مثلا بدلا من أن يمثل الشعب ويحتفظ بعلاقات سليمة من الأخذ والعطاء و إرساء المعايير والقيم يصبح سيد قراره، يتحدى أحكام القضاء، ويسن القوانين التي تهدر حق الأمة في السيادة، و يفقد وظيفته كعين للأمة على السلطة، نفس الشيء يحدث لجهاز الشرطة، إنه يكف عن تطبيق القانون العام، مهمته الأساسية التي أنشئ من أجلها، كي يصوغ لنفسه قانونه الخاص، الذي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في البلاد، يعز ويذل ويعذب ويعفو ويحمى نهب السادة لممتلكات الآخرين بالسلاح - أرجو مراجعة تقرير د. محمد السيد سعيد عن ذلك، وهو الذي اعتقل بسببه وعذب تعذيبا شديدا كما أوردته في مقالات سابقة - .. إنه يستولي أيضا على اختصاص القضاء، ويصبح السلطة العليا في الجامعة فلا يعين فيها من لا يرضى عنه، وهو مع ذلك كله يتخلى عن واجبه الأساسي في حماية الناس وضبط العملية الانتخابية وتحقيق الأمن بمفهومه الذي يعرفه به العالم.
في ظل غياب السلطة، يتصرف المجتمع بكل هيئاته ومؤسساته وأجهزته، وحتى أحزابه المعارضة، تصرف طلاب مدرسة غاب عنها المدير والناظر والمدرسون والموظفون أو انشغلوا بمصالحهم الذاتية، حيث ينتفي الغرض، تتوقف العملية التعليمية وهى الهدف، ورغم وجود اللوائح والكشوف فلا شئ ولا أحد يبقى في مكانه، وحتى المعارضين لما يحدث، لا يبقون في أماكنهم، بل يحاولون شغل الأماكن المعنوية الخالية للناظر والمدرسين، فإذا أضفنا إلى ذلك، أن إدارة المدرسة، تقمع بكل الشراسة والعنف، وتفصل كل طالب ينادى بعودة النظام إلى المدرسة، استطعنا أن نكمل عناصر التشبيه، ليس الأمر أمر معارضة إذن، بل نداء بائسا لعودة السلطة والحكومة إلى أداء واجبهم الحقيقي، كي يكون هناك أمة حقيقية، تؤيد فئاتها حين تؤيد بحق وبمنطق، وتعارض حين تعارض في إطار حزب معارض تظله سلطة تعتبره حقا - لا كذبا وافتراء وادعاء - أحد عناصر السلطة وليس مجرد ديكور أمام العالم .
في هذا الصدد، لا مناص من تناول نقطتين هامتين، الأولى: هي إنني حين تحدثت في الفصول الماضية عن الشرطة لم أكن أقصد أنها هي الوحيدة التي فسدت، وكنت أنوي لولا ما أصابني من يأس، وصدمة، بعد موقف الرئيس بعد محاولة اغتياله، أن أتناول عشرات المؤسسات والهيئات الأخرى، لكي أثبت أن ما أصابها من انحراف لا يقل، و أن هذا الانحراف موزع، و إن لم يكن بالقسطاس على كافة أجهزة الوطن ، فليس شئ في الوطن بخير، يجب أن نواجه أنفسنا بالحقيقة، إن كثيرا من أساطين القانون يقرون الآن أنه حتى القضاء والنيابة قد أصابهم بعض ما أصاب المجتمع، الجيش أيضا، والجامعات والهيئات والمؤسسات والأحزاب والقوى، حتى المؤسسة الدينية، التي كان منوطا بها أن تفتى مثلا بتحريم الظلم، فنسيت ذلك، وراحت تحرم الاحتجاج على الظلم أو مقاومته، وكانت مهمتها أن تنبه إلى أن تزوير الانتخابات من أكبر الكبائر، فتجاهلت ذلك وراحت تفتى بحرمة عدم حضور الانتخابات التي تعلم علم اليقين أنها مزورة فلا تنطق بكلمة لفضح هذا التزوير، وكانت مهمتها أن تدين ولا تكف عن إدانة السياسة الحيوانية المجرمة للتعذيب، لكنها كرست معظم جهدها لتبرئة القاتل وإدانة القتيل.
النقطة الثانية: هي أنني حين أثرت كل ذلك، لم أكن أقصد فضح جهاز ولا تقليص سلطاته، ولا وصمه بالعار، و إنما كنت أدرك دائما، أن القيم الخلقية والفكرية للأفراد أسمى بكثير من الهيئات التي ينتمون إليها، وذلك وضع مقلوب، يؤدى دائما إلى أن يطحن النظام بعجلته الدوارة الصالح ويبقى الطالح، و أنه في كل جهاز من هذه الأجهزة، قليل من الأخيار وقليل من الأشرار و أغلبية تتبع من بيده الأمر، موجهة قرون استشعارها للاتجاه الذي يؤيده الرئيس، و أن هذه الأغلبية، تفقد كيانها الإنساني وتوازنها مع كل ممارسة للشر والكذب والخطيئة، حين تلحظ انعدام المعايير والأسس، ليتجه كل منها بعد ذلك، مقابل ما فقد من شرف، إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب الشخصية والوظيفية، حين يصبح كل فرد منها: "فاوست" الذي باع للشيطان نفسه، فيكف عن الإبداع لرفع شأن المؤسسة التي ينتمي إليها، وينهب منها أو بواسطة سلطتها ما يستطيع أن ينهب، ويستغل ما يستطيع أن يستغل، والمحزن أن هذا النمط من السلوك نفسه يؤدى في النهاية إلى انهيار الجهاز أو الهيئة أو المؤسسة التي يسلك أفرادها ذلك المنهج.
إن السلطة السيادية العليا هي الحـكم بين السلطات، وهي التي تملك آلية تنظيم وتحديد وترتيب العلاقات والمسئوليات بين مختلف سلطات المجتمع، وهى ذلك الكيان المعنوي الذي يجب أن يترفع عن لعب دور المؤسسات الأخرى، فإذا فقدت هذه السلطة قدرتها على أن تكون حكـما، وغاب كيانها المعنوي، الذي يكفل ويضمن وينظم انسيابية وسلامة العلاقات بين الكيانات الأخرى، فإن ذلك يدفع المؤسسات المختلفة إلى أن تبحث لنفسها عن قيمها الخاصة ومعاييرها، و أن تتحول إلى مقر لسلطة رئيسية تشكل نموذجا مصغرا من الدولة، فهذا هو شرط بقائها و إلا انفرط عقدها، يصبح الكل سيد قراره، وتصبح كل محاولة للإصلاح تهديدا بالهدم أو حتى إرهابا، إنه الشكل الجديد من تفكك الدول القديمة وانفراطها إلى ولايات ومقاطعات، لم تعد الجغرافيا هي التي تحكم الحدود بل مناطق النفوذ، فقديما، عندما كانت سلطة الدولة تضعف، كانت تنفصل عنها الولايات، الآن تنفصل الوزارات والهيئات والمؤسسات، محتفظة بمجرد الشكل لمضمون خــرب، لم تعد إقطاعية قليوب ومنية خصيب و إمارة حلب بل إقطاعية الشرطة وإقطاعية مجلس الشعب و إقطاعية التعليم و إقطاعية الجباية، وإقطاعية الجامعة العربية، وتلك الإقطاعيات لا علاقة بينها ولا تكامل بل تربص وتوجس.
كتشبيه آخر، فإن الأمة التي تفقد السلطة العليا فيها وجودها الحقيقي، تتصرف على النحو المأساوي الفاجع، الذي تصرف به الجيش في عام 67، كان أشخاص القادة موجودين، ومكاتبهم موجودة، وأجهزة الاتصالات، والسيارات الفارهة وكل مظاهر العظمة والأبهة لكن السلطة الحقيقية نفسها كانت غائبة، تركوا الجيش، يتصرف كل قائد فرعى فيه كما ترغمه الظروف، لكن القادة الصغار تصرفوا على نمط القادة الكبار، فتفتت الجيش[15] إلى فرق، وتفتتت الفرق إلى كتائب، والكتائب إلى سرايا، والسرايا إلى فصائل، والفصائل إلى أفراد ضائعين هائمين، كان على المدفعية أن تقوم بواجب الطيران، و المشاة بدور المدرعات، حيث لم يبق في الساحة إلا بعض أبطال نجحوا في الصمود والانسحاب المنظم نذكر منهم - كرمز - الفريق سعد الدين الشاذلي، مفخرة العسكرية المصرية، الذي أفلت من سجون إسرائيل، ليؤسر بعد ربع قرن في سجون القاهرة.
الكارثة أن ما حدث للجيش في 67 هو ما يحدث للأمة التي تنهار فيها السلطة الحقيقية لتبقى الهياكل والأفراد.
يقول الدكتور برهان غليون[16] - الذي يشكل كتاباه نقد السياسة ومجتمع النخبة مرجعا رئيسيا لهذا البحث- أن ما يحصل للمؤسسات يحصل للأفراد أنفسهم أيضا، فلا يعرف الفرد ما هو دوره وما هي مسئوليته الخاصة في إطار النظام الاجتماعي، ما هي مسئوليات الأسرة وما هو دور المدرسة، و أين تتعين مسئولية الدولة و أين تتعين مسئولية الدين، و أين يقف دور كل منهما، ما هي مكانة المصلحة العامة وما هي مكانة المصلحة الشخصية، ما هو الحق الذي لابد من المطالبة به وما هو الواجب الذي ينبغي القيام به، وبدون التحديد الفاصل لذلك يصبح من الطبيعي أن يجور كل فرد على الآخر.
إن غياب السلطة السيادية الكبرى بمفهومها الشامل يدفع لخلل في كل البنى، لانهيار وتفتت، لا في القوى المعارضة للدولة أساسا، بل في أجهزة الدولة نفسها، في حزبها الذي تحكم به الحكومة، الذي يعرف كيف نجح من نجح من أعضائه، ويدركون أكثر من غيرهم مكامن الفساد، في وزرائها وكبار مسئوليها، وفي جميع أجهزتها الأخرى. وفي مثل هذا الوضع، لا يحرص أحد على الوطن بل على علاقته برئيسه وعلى التغلب على خصمه بالدس والوقيعة والفتنة والمواجهة، لا بالقيم، بل بالقوة والبطش وسلوك الغابة، يتسلط العسكري على دور السياسي، ويستخدم السياسي السياسة في التجارة، ويلبس التاجر مسوح الرهبان والشيوخ، ويتحول موظفو الدولة الكبار هم وعائلاتهم إلى مرتشين رسميين يجنون ثروات شخصية هائلة من استغلال نفوذهم في الدولة التي يصدر مجلس الشعب فيها من القوانين ما تشاؤه السلطة، بدون أن يشعر الجميع أن مثل هذه الأعمال يمكن أن تسئ إلى الممارسة السياسية أو تتناقض مع القانون أو حتى تتنافي مع الأخلاق، غير أن ذلك لا يعني أن ذلك هو مفهومهم للسلطة، بل يعنى - وهو الأدهى والأمر - إدراكهم لغياب السلطة، غياب مفهومها الحقيقي، وانعدام نصابها الفعلي بمعناه العميق الذي لا علاقة له بالسيطرة الشخصية أو النفوذ، فإذا كان من السهل تحويل الحكم إلى استغلال للنفوذ، فذلك لأن السلطة نفسها غير موجودة إلا بمعنى النفوذ، أي النفاذ إلى مصادر القوة التي تمكن من الاستغلال والسيطرة والتحكم بمصائر الآخرين.
لا أتحدث كمعارض، لا أدافع عن الصحافيين، ولا عن حزب العمل أو الوفد أو الحزب الناصري، ولا أهاجم الحزب الوطني، بل أدافع عن المنهج والمبادئ، والتي بدونها، يتبوأ الحزب الحاكم ذلك الموضع البغيض في ضمير الأمة، لينهار مع أول بادرة لتخلى الرئيس عنه، أو لمجيء رئيس آخر يقرر أن يقود حزبا آخر. أدافع عن الرئيس كمثل وكرمز، وعن الجيش والقضاء والنيابة والجامعات والهيئات، أدافع عن الوطن.
ليست الدولة حسنى مبارك، ولم تكن السادات أو عبد الناصر، وإن غياب المعايير والأصول التي تحدد الدور الحقيقي للرئيس، وماهية الدولة قد أدى إلى زوال المقاييس التي تحدد ميادين السلطات المختلفة وحدودها، و قد أدى كل ذلك إلى خلق جو من الفوضى وتضارب السلطات، ودفع أي من ممثلي تلك السلطات إلى المطالبة لنفسه باحتلال كل حقل السلطة الذي تتيحه له قوته المادية، وتجاوز كل الحدود والصلاحيات فيفرض نفسه كسلطة قائمة بذاتها لا تنافس، وليس لها، لا في داخلها ولا في علاقتها مع السلطات الأخرى من قاعدة تستهدى بها سوى القوة، وبهذا تتشرذم الأمة، تفقد روابطها، فالروابط هنا لا تتعلق بالقيم ولا بالدين ولا بالوطن، بل بالفئة التي ينتمي المرء إليها، وهذا هو أساس تفكك المجتمع، وبروز مراكز القوى، كمراكز قائمة بذاتها ومهددة للدولة بالفعل، ومتحكمة في أكثر الأحيان بها، فلم تعد الدولة ولا السلطة السياسية إلا السيد الأول بين أسياد بدلا من أن تكون مرتكز السيادة للجميع، لذلك، فبنفس الدرجة التي تبدو بها الدولة على غاية القوة والبطش من الناحية المادية فإنها في الواقع على غاية الهشاشة والضعف من الناحية المعنوية والأخلاقية والسياسية، تلك الهشاشة وذلك الضعف يدفعان الحكومة إلى العنف حيث يجب الحوار، وإلى توجس الخطر من كل معارضة، والاستسلام أمام كل معركة خارجية، والحرب حتى النهاية والتصفية في كل معركة داخلية، يتعدد الأعداء باختلاف الزمن لكن التهم واحدة وثمة فئة يحاول النظام دائما أن يستأسد عليها، متهما لها بالإرهاب، بينما يمارس هو الإرهاب بكل صوره، حتى الإجرامي منها، إنه يدرك أنه لهشاشته سيسقط أمام أي حوار منطقي عادل، وذلك ما يفسر ميله إلى المبالغة في العناد وإظهار القوة كتعويض عن الشعور بالنقص والضعف.
عند هذه المرحلة تتحول أزمة الدولة إلى سلسلة متعاقبة من التفجرات التي تنطلق من تضارب المؤسسات والسلطات والقوى التي تحاول رسم حدود جديدة بينها تتناسب مع قوتها الفعلية، وليس هناك أي مبدأ ثابت يمكن أن يحكم هذه المنافسة إلا القوة والقرب من السيد الأول والأسياد الخارجيين. ذلك أن المجتمع لا يستطيع التصرف في غياب المبدأ الجامع الأول كوحدة، أو أن يضع نزاعاته وانقساماته في إطارها، لأن الدولة تحاول أن تخمد مثل هذا التنافس، أو أن تجمده بوضع يدها على كل المؤسسات، بتقويض أحزاب المعارضة والضغط عليها وبث الفرقة والخيانة والانقسامات في صفوفها، بهدم النقابات أو استئناسها، بتعيين العمداء والعمد، بتشويه المنظومة الفكرية للمجتمع، وللكذب الصريح البواح دون خشية من الاتهام بالكذب في ظل قانون يدين بالازدراء من يواجه الكذاب بأنه كذاب، و تسعى الدولة بديلا عن كل ذلك وتعويضا له إلى إضفاء طابع القيم التي بقيت فاعلة فيها على مجموع النظام، وهى قيم التكنوقراطية العسكرية والمدنية، لكن مثل هذه القيم لا تستطيع وحدها أن تسير أمة ولا تضمن أيضا بقاء واستمرار السلطة، التي تفقد القدرة على الهيمنة الرشيدة، فتلجأ، لإدراكها مدى ضعفها وهشاشة وضعها، إلى محاولة دائمة لا تفتر، لا إلى إنهاء التوترات التي تتهددها في المجتمع بعلاج أسبابها، وإلى رسم الحدود الفاصلة بين اختصاص المؤسسات، بل تلجأ إلى إضعاف هذه المؤسسات جميعا، واختيار الضعاف المشبوهين لقيادتها، حيث لا يمكن أن يشكل أي أحد منهم، لضعفه، ولقيمه الشخصية، أي تهديد بالمنافسة على السلطة العليا، إلا أن رئيس هذه المؤسسة نفسه، والذي يفتقد أي قيمة معيارية يسوس بها جهازه أو مؤسسته، يلجأ إلى نفس الطريقة، في تقريب المشبوهين و إبعاد العناصر الملتزمة التي تعترض على ما يحدث، إن المؤسسات بهذه الطريقة تقضى في النهاية على نفسها، كما حدث للجيش في عام 1967.
إن فقدان السلطة العليا في المجتمع لقيمها ووظيفتها يعنى انفلات وتفكك المؤسسات التي تقوم عليها الدولة، وانهيارها، حيث يهدد هذا الانهيار الدولة نفسها بالانهيار.
إن الدولة هي السلطة الرابطة بين مؤسسات المجتمع، وافتقاد المجتمع لهذه القيمة الرابطة يؤدي إلي الميل المتزايد لجميع مؤسسات المجتمع للاحتماء بالأجهزة والسعي للسيطرة عليها، في سبيل ضمان البقاء أو النفوذ أو التحكم، وفي هذه الحالة تصبح القوة، أو التحالف معها، أو الاحتماء بها هي العقيدة الحقيقية للمجتمع، يصرف النظر عن مصادرها، داخلية أو خارجية، وفي وسط هذه الفوضى الشاملة، وافتقاد المعيار، تظل الكتلة الوحيدة القادرة على حفظ مظهر خارجي من الثبات والاستمرار والاستقرار هي الكتلة العسكرية شاملة الجيش المسيس والشرطة المجيشة، إنها تصوغ عقيدة خاصة بها تحفظ توازنها، وليست هذه العقيدة سوى سيطرتها وقوتها وهيمنتها البيروقراطية العسكرية والأمنية والمدنية نفسها، خارج نطاق أي تفكير موضوعي وأي منطق، متذرعة بقوانين شكلية تستطيع أن تسنها لتستتر بها حين تشاء، أو حتى خارج إطار كل قانون، إنها ليست بحاجة إلى عقيدة مقنعة خاصة بها، ولا لمبررات لفرض سيطرتها، مادامت تملك فعلا الأدوات اللازمة لفرض هذه السيطرة، لا لصالح الأمة ولا للدفاع عن الوطن، بل لصالح نفسها أولا، ثم لصالح السلطات الحاكمة والدفاع عن مقاعدها و أمنها بغض النظر عما يسببه منهجهم هذا من تفتيت للأمة ومخاطر للوطن، ليس التفتيت والمخاطر للمعارضة بل للأمة والوطن، إلا أن ذلك كله مهما تجبروا، و أتقنوه وبالغوا فيه، قد يخلق سيطرة الدبابة والمدفع والتهديد والقمع والقهر والتعذيب، وهو يخلق سيطرة مادية، لكنه لا يخلق سلطة معنوية مقبولة ومطاعة، وهذه السيطرة وضع لا يمكن أن يستمر.
وطــن الدّمــــــــــــى
يجتاحني حنين حزين، إلى ذلك الزمن الساذج المثالي، الذي تصورت العالم فيه مجموعة من الأخيار والأشرار، و أن الأشرار ليسوا أشرارا إلا لأنهم لا يعلمون، فإن استطاع الأخيار أن يكشفوا لهم الحقيقة فسرعان ما يعودون إلى الحق تائبين نادمين.
في ذلك الزمن البعيد الذي أهفو إليه، لم أتصور أبدا أن بعض البشر يحملون كل تلك البشاعة التي اكتشفتها فيهم بعد ذلك، بشاعة يلوثون بها الدنى، ويملئون الوجود الذي خلقه الله لنا طاهرا بالدنس، ويجعلون أفضل ما في الحياة الموت.
أعكس مسار الزمن، أستعيد القرون، أتأملها وأستقطر العبر منها وأعبرها، فتستبد بي الدهشة، كيف يفعل ابن آدم بابن آدم كل هذا، كل تلك القسوة، كل ذلك الفجور الفاحش والإجرام والجنون، وليس سوى أخيه وابن أبيه.
أتساءل والتساؤل أشلاء ودماء وقرابين ضحايا لسيوف باترة وفضائح سافرة و أوطان شاغرة ومعارك خاسرة وهزائم غادرة ووحوش كاسرة و وجوه باسرة وصدور زافرة وبطون زاحرة وجموع ذائرة ونفوس ثائرة وهموم زاخرة وهمم فاترة وصحائف داعرة وحناجر ناعرة وعقول خائرة و أرواح حائرة وجروح غائرة وخطوب دائرة ومصائب غامرة و آمال غائرة وأمجاد دابرة وزواجر فاجرة وروادع زاجرة ونهابر منكرة وحكومات مهذارة و أوطار مأزورة وفضائل مهجورة وبلاد مشطورة و آمال مكسورة وكلاب مسعورة ورقاب منحورة وجراح مفـــغـورة و أحلام مقبورة وشعوب مقهورة.. أتساءل :
أين الخطأ؟ : في طبيعة الحاكم أم في طبيعة المحكوم يكمن ؟.
أين الخطأ؟
وليس ثمة جواب جامع مانع، هي الفتنة وهو الابتلاء، ولم يعد الانقسام مجرد انقسام الدول والعشائر والقبائل والأحزاب بل كل منا منقسم داخل نفسه على نفسه، يتمزق كل شيء، وتئن الروح في نزعها الأخير متشوفة لخلاص لا يأتي متشوقة لنصر لا يجئ.
أين الخطأ و ما هي البداية ؟؟
أهي: "كما تكونون يولّ عليكم" و " لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " أم هي " الناس على دين ملوكهم " و " إذا صلح الراعي صلحت الرعية " و " تفسد السمكة من رأسها".
يبهت زمن الإجابات السهلة ويصعب الوصول إلى يقين.
تمنيت في بواكير صباي، أن أعيش عصر النبوة كي أحارب مع جند الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين، كي أموت على اليقين، لكن رعبا ما لبث أن استبد بي حين أدركت إنني كنت سأنضم إلى إمام المتقين في مواجهة أم المؤمنين، حيث يبهت اليقين، وكنت سأقف مع علىّ ضد معاوية، رضى الله عنهما، عنهما معا، فأين اليقين؟.
حين اعترض إمام المتقين على سيد المرسلين قال له صلى الله عليه وسلم: " سَـتـُــــسَـامُـهـَا ".. ومرت السنون.. فـَسـِـيمـَـهـَا..!.
كنت قد تجاوزت كثيرا قدري، حين رحت أسائل الصحابة الأجلاء الذين اعتزلوا الصراع: لماذا لم تحاربوا مع علىّ ؟ لماذا لم تقفوا مع الحق ضد الباطل، لماذا، الآن أسامها، لأجدني - والقلب حسير - ناكصا عن الصراع، عازفا عن المواصلة.
أسائل نفسي وقد عجزت عن تبين مكمن الخطأ : أين الصواب؟؟.
هل في الوقوف إلى جانب المظلوم الضعيف و إن أخطأ حتى أعينه على رفع الظلم عنه ثم أبذل له النصيحة كي يتوب عن خطئه، وهل إذا وقفت معه أعينه أو أضاف إليه، أم هو في الوقوف قريبا من الظالم الغاصب المستبد الجبار لعلّى أستطيع التخفيف من غلوائه، ومنع ظلمه.
أم إنني عاجز في الأولى عن الرفع وفي الثانية عن المنع.
لقد قر في يقيني منذ زمان طويل أن الإرهاب هو الوجه الآخر لإرهاب السلطة، و أن أحدهما لن يمتنع إلا بامتناع الآخر.
الإرهاب[17] في كل صوره جريمة، لكنه من السلطة الحاكمة جريمة أشد .
يعـز ى الفقيه "لاكاسين" كل الجرائم الموجودة بالمجتمع إلى أخطاء هذا المجتمع فيقول: " يوجد بالمجتمعات مجرمون تستحقهم هذه المجتمعات".. ويقول الفقيه "كيتيلييه" : "إن المجتمع يحوى بداخله جرثومة ما سيرتكب فيه من جرائم في المستقبل".
أما علم الإجرام الجديد فإن معظم فقهائه يرون جميع الجرائم والمجرمين من منطلق سياسي و إداري دون سواه، ويقررون أن العلاج الوحيد الممكن هو علاج الجبهة الأخرى، المجتمع والسلطة ونظام الحكم، لأنها هي المريضة، وهى المحتاجة إلى علاج، قد يشمل الاستئصال أو البتر.
في الخارج، في الدول الديموقراطية، التي يقارنون أحيانا بين ديموقراطيتنا وديموقراطيتها، لا يتركون البحث في طبائع حكامهم وأخلاقهم وسيرهم، من فضائح المال إلى الجنس إلى كل العورات الأخلاقية الأخرى، تكشف أمام الأمة قبل أن تختار، ربما لأنهم يدركون أن صفات الحاكم تنتقل إلى النخبة الحاكمة، وعيوب النخبة تنتقل إلى عموم أبناء الوطن.
ترى هل من حق ديموقراطية الجرعات المعدلة بالقانون 93 أن تبيح لنا التساؤل عن الصفات الخلقية للرئيس مبارك و عن ماهية المشاعر الحقيقية التي يحملها للأمة ؟؟.
يقول الدكتور مصطفي حجازي ف] كتابه " سيكلوجية الإنسان المقهور" أن المجتمع كله يقلد أخلاق السلطة الحاكمة والنخبة المتسلطة ومفاهيمها للحياة، فعلى مستوى الإدارة مثلا، نجد الموظف يتعالى على من هم دونه، ويشتط في معاملتهم، كما يتعالى على الجمهور ويقابله بالصد أحيانا وبالنبذ الصريح أحيانا أخرى، وهو إن قام بما يفترض أن يقدمه من خدمات يعتبر ذلك مـنـّـة من جانبه تجاه صاحب الحاجة وليس واجبا تمليه عليه وظيفته، إنه لا يكاد يعترف إلا في حالات نادرة، بحق المواطن في أن تلبى حاجته، وهو في ذلك يكرر موقف رئيسه منه، وهذا الأخير يكرر موقف المسئولين الأعلى منه، ويتخذ الأمر في النهاية طابع سلسلة علاقات استعلائية استعبادية، وليس حتى شكل العلاقة الرسمية التي تفرض واجبات وتضمن حقوقا لكل طرف وعلى كل مستوى، إن التشبه بالنموذج الذي يفرضه الحاكم المستبد في التعامل مع الآخرين، لا يدع مجالا للاعتراف بالواجبات والحقوق، لا يوجد حق سوى حق المستبد المتسلط، وواجب إذعان التابعين والمرؤوسين له.
ثم يضيف أن الإنسان المقهور يستخدم أسلوب السيد المتسلط نفسه ويخاطبه بلغته نفسها، الكذب والخداع والتضليل هي قوام اللغة التي يخاطب بها المتسلط الجماهير المقهورة، إن خطابه هو أبدا كذب ونفاق عندما لا يكون تهديدا صريحا، خطابه وعود معسولة وتضليل تحت شعار الغاية النبيلة فالوعود الإصلاحية،و الخطط الإنمائية، والأخلاق، والرقى والتقدم،و المستقبل الأفضل كلها هراء اعتادت عليها الجماهير، وهى بدورها تخادع وتضلل حين تدعى الولاء وتتظاهر بالتبعية
إن العنف الذي تمارسه السلطة لا تجاه أعدائها بل تجاه المجتمع كله هو الوجه الآخر لرفض النخبة الحاكمة للحوار، للاحتكام إلى القانون والدستور وصندوق الانتخاب، المجتمع عدو، أما هم، فلا شرعية حقيقية لهم في الحكم، وليسوا في الحق سوى حكام بدستور القراصنة، والعرش لمن غلب.
تنسكب طبائع الحاكم المتسلط على الأمة كما ينهمر السيل من قمة الهرم إلى قاعدته مرورا بكل أحجاره، تصبح أنماط حياة الطاغية مجالا للمحاكاة، والمثل الأعلى للمجتمع، الذي ينسى مشاكله الحقيقية، وتندفع فئات المجتمع فئة تحت فئة للتشبه بالسلطة الحاكمة، للاستعراض، لتبديد الثروة القومية في شراء سلع الوجاهة وتكديسها، حتى مالا يتلاءم مع الظروف البيئية والمناخية، فنجد في بعض أوطاننا ناطحات السحاب في صحراوات بلا حدود، ونجدها مطعمة بالمعادن والزجاج الذي لا يتلاءم قط مع الحرارة اللاهبة لشمس تصليها سعيرا، وفي مصر، عندما اندفع السادات إلى بناء الاستراحات الفاخرة، اندفعت كل النخب خلفه وما تزال، وفي الساحل الشمالي والشرقي أهدرت عشرات من المليارات كانت كافية لحل كل أزمات مصر لو أجيد استثمارها، كانت كافية حتى لحل مأزق الإرهاب بإنشاء ملايين الفرص للعمل ودفع الوطن كله إلى قيم يحركها الإنتاج والتنافس في بناء الوطن لا في بناء القصور.
إن المجتمع الذي يتعرض باستمرار للقهر المزمن يحاول أن يحل مأزقه الوجودي بوسائل مختلفة، ومن خلال تباين ردود أفعال الفئات واختلافها تتفتت الأمة، إن القطاع الأعظم يهرب من المواجهة بالانكفاء على ذاته، وثمة قطاع آخر يهرب من مأزقه الوجودي بمحاولة الانضمام إلى الفئة المتسلطة، الاحتماء بها وإغوائها والسيطرة عليها، ويحاول قطاع آخر، أن يعكس الدائرة، أن يمارس الإصلاح من خلال السلطة الحاكمة نفسها، بإقناع أفرادها و إصلاح أحوالهم، بالنفاذ إليهم، ومن المحزن أن معظم أفراد هذه الفئة يسقطون في براثن غوايات السلطة، القلة التي تبقى محافظة على فهمها للمأزق، تواجه بانسداد كل السبل للتغيير، الانتخابات تزور، محاولات توعية الجماهير تحاصر، الصحف تصادر والأقلام تكسر، وسائل الإعلام تكرس لتشويه من يتمردون على أخلاقيات النخبة الحاكمة، لا يبقى - في تصور بعضهم - أمام مواجهة القهر المزمن ثمة طريق سوى العنف، لغة التخاطب الأخيرة حين يحس المرء بالعجز عن التغيير بالحوار، وحين يترسخ الاقتناع باستحالة إقناع النخب الحاكمة بخطأ وخطورة الطريق الذي تدفع الأمة إليه.
يتناول الحمقى ظاهرة العنف كظاهرة مصمتة، ولا يلتفت معظم المنظرين إلى أن الرصاص هو محطة العنف الأخيرة، و أن ثمة مظاهر لا حصر لها من العنف، و أنه محاولة لاستعادة التوازن إلى الذات المقهورة وحمايتها من عنف النخبة الحاكمة، أنه قد يكون سويا أحيانا وغير سوي أحيانا أخرى، قد يكون عنفا مقـنّـعا، وقد يرتد هذا العنف المقنع إلى الذات متخذا شكل السلوك الرضوخي والميول التدميرية الذاتية التي تدين الذات وتحط من شأن المجتمع، إنه مجتمع متخلف يستحق أن يحكمه متخلفون، وهكذا تنتهي القضية بتساوي طرفي المعادلة، بيد أن ذلك العنف المقنع قد يتوجه إلى الخارج في شكل مقاومة سلبية، بالتكاسل عن عمل يدرك المقهور أن القاهر يمتص منه رحيقه ويترك له مرارته، أو العزوف عن انتخابات يعرف المقهور أن القاهر يزورها، أو إطلاق النكات والشائعات للتنفيس عن العنف الذي يعتمل في قلبه، في نوع من قلب الأدوار الوهمي، من الحط من قيمة الحكام والتعالي عليهم بينما يضحك هو ضحكة النصر، حين يحول - من خلال النكتة - المتسلط القوى إلى ساذج مغفل غبي عاجز بينما يتحول هو إلى مسيطر بشكل خفي.
و قد يكون العنف رمزيا، إن المجتمع الذي تحكمه سلطة لا تحترم القانون ينفلت بعض أفراده ليفعلوا نفس الشيء، إن مفهوم هيبة القانون في مجتمع القهر غير واضح، هناك فقط خوف من السلطة وبطشها، إن عدم احترام قوانين المرور و إشاراته ما لم يوجد جندي المرور - على سبيل المثال - ليست كما يشاع رمزا على تخلف المجتمع بل هو عنف مرتد على حكام لا يحترمون القانون، فتعلم المجتمع منهم أن القانون هو السيف الذي يمسك به القوى والسوط الذي يسوطه به، و أنه لا يطبق القانون إلا الضعفاء، إنه يقتنص فرصة لا يحترم فيها القانون كي يثبت لنفسه أنه هو الآخر قوى، لذلك أيضا تشيع تصرفات الاحتيال والغش والخداع والاستغلال بقدر ما تسمح به إمكانيات التهرب من الملاحقة، يضيع الالتزام ويغيب ما هو مشترك وينهار الانتماء الاجتماعي، في ظل سلطة باطشة قاهرة، وكل سلطة باطشة قاهرة هي سلطة هشة ضعيفة هزيلة، وتتحول ساحة المجتمع إلى ساحة للعنف، للصراع على السلب والنهب، ومحاولة البعض منع الانهيار.
في ظل هذا التوتر العنيف يفقد المجتمع منهج التفكير العقلي الهادئ الذي قد يمهد الطريق لحل مشاكله، كل أطراف المجتمع معبأة تماما، كذلك كل أفراده، يكفي أي اختلاف بسيط لتوليد انفجار عنيف، ففي ظل قهر السلطة تبدو تلك العدوانية المتفجرة كما لو كانت تتلمس الفرص كي تعبر عن نفسها وتفرغ شحنتها في مظاهر العنف المختلفة، ذلك أن انشغال الأمن بأمن السلطان دون أمن الوطن، وطريقة القهر التي تشربتها أدوات السلطة من سادتها، تجعل المواطن يحس أنه متروك وحده، وعليه أن يتدبر أمر نفسه كما يستطيع، ليس هناك من يضمن له حقه، فالشرطة ليست شرطة والنيابة ليست نيابة والقضاء ليس قضاء والأطباء ليسوا أطباء والمهندسين ليسوا مهندسين والجيش ليس جيشا وإنما الجميع دمى، أشكال خاوية لا تؤدى وظيفتها، أو تؤدى عكس هذه الوظيفة، على المواطن إذن أن يحصل على حقه، أو ما يظن أنه حقه بالطريقة التي تمكنه منها ظروفه، بالاحتيال أو التقرب من السلطان والتودد إلى ذوى النفوذ أو العنف والصراع من أجل الغلبة أو انتصار ما تظن كل فئة أنه الحق، عن باطل وعن حق، ذلك التوتر الوجودي ينبت هذا العنف، وهذا العنف يفرخ التعصب والفاشية والقسوة التي هي من سمات نظم الحكم المستبدة، التي لا تكف عن ممارسة العنف والإرهاب ضد فئات المجتمع من ناحيتها، ولا تكف في نفس الوقت، عن إدانة العنف والإرهاب إذا استعملته فئة من فئات المجتمع ضدها، إنها عملية إسقاط من الحكم الذي يمارس الإرهاب، إنه يتهم الآخرين بأنهم سببه ودعاته، أنهم هم المخطئون، وبهذا الإسقاط يجد الحكم راحته المزدوجة ويبرئ نفسه، إن الآخرين هم المجرمون لأنهم يمارسون الإرهاب، وفي نفس الوقت فإن إرهاب السلطة مبرر لأنه ضد مجرمين..
يتجاهل الحاكم المستبد أن كل عنف ينشأ عن توتر، و أن كل توتر ينشأ عن إحباط، و أن شدة العنف تتناسب مع شدة الإحباط، وأن العنف يتزايد مع اشتداد القهر وتنامي عناصر الإحباط واليأس من إمكانية التغيير، و أن قمع هذا العنف يولد إحباطا جديدا يولد بدوره عنفا لاحقا، وفي إطار الدائرة الجهنمية يسقط الضحايا قرابين بشرية للحاكم المتجبر، السادي، الهادف إلى السيطرة على الآخرين، إلى تجميدهم كي يتحرك هو، وهو لكي يفعل ذلك، يلجأ إلى فك الارتباط العاطفي بين فئات المجتمع وبين أفراده، إلى فك ارتباط العلاقات السليمة بين فئات المجتمع، إلى وضع هذه الفئات في مواجهة بعضها البعض، يدفع الجميع إلى الاغتراب والكراهية والتربص، ويسلخ عنهم القدرة على المشاركة الإنسانية، إلى التمهيد لاختيار ضحاياه بوسائل إعلامه، إنهم مجرمون إرهابيون يستهدفون الوطن والمصلحة العليا، لابد له إذن أن يتحرك لإحقاق الحق، عن طريق الشرعية أو بتجاوزها، وهو لكي يقدم المبرر للآخرين على ما ينتويه، لابد أن يلجأ إلى تحقير خصومه، إلى إفقادهم حقيقتهم الإنسانية، يسحب عنهم سماتهم البشرية ليحولهم إلى رموز للخيانة والسوء والتآمر، إنهم خطر على الجميع ولابد من إبادتهم، لا يصبح الخلاف خلافا فكريا أو حتى صراعا على السلطة، بل يتحول إلى صراع وجود، لابد فيه أن يتحول إلى جلاد قاتل، لكنه وقد ساق الأمور هذا المسار، يبدو القتل في نظره شيئا طبيعيا تفرضه الظروف وله ما يبرره، دون أن يثير أي إحساس بالندم أو الجريمة، لكن الجلاد وهو يفعل ذلك، ينسى أنه يمنح لخصومة ذات الآلية في التفكير، إنه يمنحهم شرعية القتل كأسلوب لفرض إرادتهم التي عجزوا عن فرضها بالحوار، لينحدر المجتمع إلى دائرة من عنف يتخذ طابع التشفي الذي لا يعرف الارتواء، لأن الجرح النفسي الناتج عن القهر لا يعرف الاندمال.
يقول الدكتور مصطفي حجازي " إذا كان القهر من خلال الإرهاب والقمع هو الحقيقة التي تعشعش في بنية المجتمع المتخلف تنخرها وتلغمها، فإن العنف على مختلف صوره لابد أن يكون السلوك الأكثر شيوعا حين تسنح الفرص، تلك هي كارثة الرباط الإنساني طالما لم تتغير العلاقة بأخرى أكثر مساواة تعيد الاعتبار إلى الحاكم والمحكوم.
ليس ثمة سبيل لقطع تلك الدائرة الخبيثة من القهر و التوتر والعنف سوى التغيير، لكن علة النظم المستبدة، وهلاكها، أن الحاشية المحيطة بالسلطان، والتي سيسلبها التغيير بعض مكاسبها إذا تم حتى ولو ذرا للرماد في العيون، تتعمد دائما أن تصرف نظر السلطان عن صمام الأمان الوحيد الذي يتيح للنظام الاستمرار ولو بأمل كاذب في تحسن الأحوال بعد تغيير صوري، لذلك فإن هذه الحاشية تلجأ دائما إلى إيهام الحاكم أنه على صواب مطلق، و إذا لم يكن السلطان ذكيا بالقدر الكافي، فإنه يصدقهم، فجرثومة الداء العضال كامنة فيه..
يقول الدكتور برهان غليون : " إن عقل المستبد عقل إطلاقي يرفض أن يكون هناك وجهات نظر مبنيّـة على تجارب شخصية ومعارف مختلفة، و أن يكون لكل فرد وجهة نظر مخالفة، و أن يعترف بأن ما يراه لا يمثل إلا جانبا من الحقيقة و أن بإمكان الآخرين أن يروا جوانب أخرى، تبدو الحقيقة كواقعة بسيطة واحدة والتعبير عنها وحيد، هو على حق والآخر على باطل، لا يقتصر الأمر على ذلك، بل يبدو ذلك الآخر الذي يعتبره على خطأ كما لو أن وجوده ذلك خطأ ولابد من اجتثاثه في أسرع وقت.
ترى، هل نستطيع أن نبحث أمور النخب الحاكمة في بلادنا كما يبحثونها في العالم؟.
هل نستطيع التطاول كي نبحث في الطبيعة النفسية والسمات الخلقية لحكامنا، هل نستطيع أن نساعدهم على إدراك أنهم ليسوا معصومين، وأن لهم أخطاء وعيوبا، وأن نساعدهم على علاج عيوبهم وتجنيب الوطن مخاطرها ؟ .. أن نفعل ذلك وهم أحياء وفي السلطة، لقد قيل عن الملك فاروق - لكن بعد أن طرد- أنه فاسق وعربيد، وأشيع عن عبد الناصر بعد أن توفاه الله الكثير، منها أن ظروفه الاجتماعية جعلته حقودا على الأغنياء، ومنها أن مرض السكر و البارانويا قد جعلاه غير صالح للحكم وغير أهل لاتخاذ القرار، وأشيع عن السادات شغفه بالحشيش والخمر والترف، وإنهم الآن في الخارج يتحدثون عن افتقاد ميجور للذكاء، وعن ولع يلستين بالخمر، وعن شغف كلينتون بالنساء، وعن مخاطر كل ذلك على أوطانهم.
هل نستطيع نحن أن نفعل مثلهم؟.
عندما حاولت بيني وبين نفسي أن أفعل ذلك فوجئت بنتائج غريبة، ولست مدعيا أنها فصل الخطاب لكن المجال مفتوح لفقهاء السياسة والاجتماع.
دعونا الآن من النخب الحاكمة، ولنحاول بحث الصفات النفسية والسمات الشخصية للرئيس مبارك.
الرجل نزيه، لم تثر حوله شبهة، أمين، لم يعرف عنه ما عرف عن بعض أقرانه من عمولات في السلاح أو البترول ( رغم ما تردده وكالات الأنباء الأجنبية كل حين و آخر.. أو كلما أراد الغرب ابتزازه) ، مخلص للوطن في حدود أفكاره و أفكار مستشاريه، لم يثر عنه ولا على أفراد عائلته ما يشين[18]، دمث الخلق، عف اللسان، وفيما عدا استثناءات نادرة لم يبدر من لسانه ما يسيء إلى خصومه، وللرجل ماض كريم وبطولة غير منكورة، قد ننقم عليه بعض العناد، لكنه يملك فضيلة العودة إلى الحق عندما يجد من يضع أمامه الحقيقة بقوة، وقد ننقم عليه أن مستشاريه يوقعونه أحيانا في أخطاء فادحة بالتحليلات الخاطئة، لكن ذلك كله لا يجعلنا ننسى فضائله، ومنها أنه صبور، وأنه أطلق جانبا غير منكور من الحرية، و أن احتماله أحيانا لانتقاد معارضيه ولعجز بعض معاونيه يبدو بلا نهاية.
لكن هل يتفق مع كل هذه الصفات والسمات أن يحدث لعادل حسين ما حدث له، وليتهم أجادوا تدبيج التهمة له كي لا يبدو الأمر مجرد انتقام من رأس من أرؤس المعارضة، فيتمخض الحبس والاتهام عن : " لا قضية " .
لشد ما أساءت الحاشية إلى الرئيس، فهل يتفق مع سمات الرئيس أن يضرب جمال بدوي بالقرب من قصره، وليتهم - إذا كان لا مناص ولا حل ولا طريقة سوى ضربه - ليتهم ضربوه أمام بيته أو أمام بيوتهم لا أمام قصر الرئيس كيلا يسيئوا إليه كل هذه الإساءة، وهل يتفق مع سمات الرئيس وصفاته أن يستمر التعذيب الوحشي الحيواني المجنون المجرم رغم كل صراخنا ورغم كل الأدلة، وهل يتفق أن يستمر تزوير الانتخابات، وهل يتفق أن يتصدى هو شخصيا لتأكيد أن الانتخابات لم تزور ولن تزور فيضعنا في الموقف الحرج بين أن نصدقه أو أن نصدق أحكام القضاء التي هي عنوان الحقيقة، وهل يتفق مع هذه الصفات كل هذا الصبر على الفساد وتدهور الاقتصاد وتناقص مستوى الدخل وتدهور الصناعة والزراعة وشيوع الغش والتحايل في تعاملات المجتمع، والتي تجعل كثيرا من المنظرين يرون أن ما حاق بالوطن والأمة في عهده أسوأ مما حدث في أي عهد آخر.
إن التعذيب واقع لا يمكن إنكاره، والتزوير واقع لا يمكن إنكاره والفساد واقع لا يمكن إنكاره، فهل يمكن أن نتخيل أن الرئيس مبارك يمكن أن يوافق على كل هذا، وهل يمكن أن نرجع تلك الأحداث الفاجعة إلى صفات وسمات في شخصية الرئيس؟
الإجابة عند مؤيدي الرئيس :لا..
لكن ترى هل أخطأ فقهاء السياسة والاجتماع، هل يمكن أن تتمرد النخبة الحاكمة على الرئيس فتتصف بغير صفاته وتتسم بغير سماته وتنفذ عكس قراراته.
أزعم إنني كتبت شيئا من ذلك منذ أكثر من عشرة أعوام، حين قلت أن الأعداء الحقيقيين الذين نخشى منهم على الرئيس ليسوا معارضيه بل النخبة الحاكمة معه وحوله.
لا ينفي ذلك ما هو أكثر من العتاب على بعض تصرفات وتصريحات الرئيس، لقد انفجرت رغبتي في التوقف عن الكتابة بعد تلك آ الدردشة آ المقيتة مع وفد النسوة الكويتيات، التي انتثرت كالفضيحة[19].
تأكدت رغبتي في التوقف حين سمعت في الإذاعات الأجنبية تصريح الرئيس أن الإرهاب سبب ما يحدث في البوسنة، ساءلت نفسي: هل هذا هو أقصى ما استطاع أن يقول، كنا نأمل منه أن يجمع الأوطان ويحرك الجيوش ويسحب القوات حتى من حلايب كي يرسلها مع تلك الطائرات التي قال أنها يمكن أن تسقط نظام البشير إلى هناك، إلى البوسنة والهرسك، الجرح العاري الذي فضحنا وتركنا بلا كرامة ولا نخوة ولا شجاعة ولا شرف، قلت لنفسي ليته صمت.
قد تستطيع ترسانات القوانين وجحافل الشرطة وغياهب السجون منع الازدراء داخل الوطن، لكن كيف يمكن أن نقنع العالم ألا يزدرينا.
بالرغم من كل شئ يظل التساؤل فلماذا إذن ونحن نثق في صفات الرئيس وسماته تقودنا النخبة الحاكمة هذا المسار الوعر، الذي يحول الحكام والأعوان إلى قوم طلبوا الباطل فأصابوه ويحول بعض المعارضين إلى قوم طلبوا الحق فأخطأوه.
إن ذلك يدفعنا دائما للتساؤل: ترى ما هي المشاعر الحقيقية التي يحملها الرئيس مبارك للأمة ؟؟.
إننا نعرف آراء ومشاعر بعض النخبة الحاكمة ومنظريها والمقربين منها، نعرف رأى أنيس منصور مثلا، وفؤاد علام وحمزة البسيوني وزكي بدر، نعرف أيضا أفكارا أخشى أن تكون غلابة عن رأي بعضهم في الشعب، عن نظرة الاحتقار العميقة والامتهان لأفراده، وهم حين يفعلون ذلك، يشعرون بذات الفخر الذي يشعر به اللواء فؤاد علام، حين يسرد بطولاته كأنها عبادة لله، دون أي شعور بالخجل والعار مما ارتكبه هو و زملاؤه وتلاميذه، من ممارسات ليست إلا إجراما في إجرام، متجاهلا أن أي حيوان بشرى مجرم، يستطيع أن يحصل من اللواء فؤاد علام نفسه، على اعترافات أبشع بكثير مما نسبها إلى ضحاياه، إذا أخذه واستقبله بالتشريفة، وعلقه ساعات وساعات من معصميه أو كاحليه أو أغرقه في المياه القذرة أو علقه فوق النار كالخروف المشوي أو هتك عرضه وحقنه بعقارات الهلوسة ومزق جلده بالسياط وهشم عظامه وفقأ عينه، و أن هذا الحيوان البشرى المجرم، يستطيع بعد عشرين عاما أن ينشر هذه الاعترافات والإقرارات والخطابات، مدللا بها على ما شاء له الشيطان.
لكن: ترى ما هي المشاعر الحقيقية التي يحملها الرئيس مبارك للأمة؟؟
حتى لو كانت تلك الصحيفة الكويتية كاذبة، فقد انتثرت بذور شك لم يعد من المستطاع تجاهله، ولم يعد من المستساغ مواصلة الكتابة، تماما كما استحالت بعد لحظة الكشف المروعة مواصلة الحياة في بيت الدمية في مسرحية إبسن الشهيرة[20].
لماذا لا تسمع النخبة وجيب قلب الأمة الواجف، لماذا يزدرون الأمة، و لماذا يدعون رغم كل الخراب والهوان أن ليس في الإمكان أبدع مما كان.
يتناول البعض بغضب إصرار المسئولين على أننا نعيش أروع العهود وليس في الإمكان أبدع مما كان و أننا في برد وسلام بينما نحن في النار ولسنا إبراهيم عليه السلام، كنت أنذبح معهم نفس الذبحة، وكيلا أنهار، استبعدت الواقع واستحضرت الواقع البديل، و كان البديل على لسان عبد الوهاب مطاوع، صاحب أنجح و أشهر باب لبريد القراء في صحافة العالم العربي، حين نشر شكوى طويلة من طبيبة عما حدث لشقيقها المصاب بالسرطان في إحدى مستشفيات التأمين الصحي من إهمال و إصرار على تقاضى نفقات العلاج بالمخالفة للقانون، وبعد أسابيع جاء رد نائب رئيس الهيئة ينفي ما حدث مؤكدا أن المريض يلقى أفضل رعاية وعلاج في مستشفيات الهيئة التي ينزل الآن في قسمها الداخلي، و أن صحته قد تحسنت كثيرا تحت الرعاية المكثفة والعلاج الكامل، ورد عبد الوهاب مطاوع بجملة قصيرة، دامية، دامعة، مروعة، مبهظة، ثقيلة، مجسدة أحزان الأمة ممثلة تصريحات كل مسئول كبر أم صغر، قال عبد الوهاب مطاوع : شكرا يا سيدي، أما المريض فقد مات منذ أكثر من خمسة و أربعين يوما.
المريض مات يا أيها القارئ، والرئيس أو نائب الرئيس يؤكدون أنه في أفضل حال وليس في الإمكان أبدع مما كان، فهل تستطيع الآن أن تتفهم - خلال عتابك الرقيق عبر خطاباتك ولقاءاتك ومهاتفاتك - سبب عجزي عن مواصلة الكتابة، وهو عجز أدعو الله ألا يستديم، و ألا يسلمني إلى الخوض في بحار لليأس لا يبدو لها شاطئ، وانعدام للرجاء لا يبدو له انتهاء إلا أن يتغمدنا الله برحمته.
يخيم على نفسي ويجثم على قلبي شعور ثقيل ممض أن كل الكلمات سواء عند من به صمم، و إنني مهما رفعت صوتي، وصرخت، فإنه لن يسمعني، ليس لأنه أصم فقط، بل لأنه لا يريد أن يسمع أيضا.
أشعر أن التوقف عن الكتابة لون من ألوان الاحتجاج والاعتراض والرفض لابد أن نمارسه، و أن هذا التوقف كفرض الكفاية، إن فعله واحد فقط سقط عن الكتاب جميعا، و إن لم يفعله أثموا جميعا.
أتوقف عن الكتابة صارخا بآخر الحروف العاجزة:
أوقفوا التعذيب
أوقفوا التعذيب
أوقفوا التعذيب
و بين عجز الكلمات ورفض العنف لا أستطيع أن أقول كما يقول الشاعر أحمد مطر عندما اسودّت الرؤى أمامه فاندفع في سعير الغضب وجحيم اليأس إلى التكفير والثورة:
كفرت بالأقلام والدفاتر..
كفرت بالفصحى التي تحبل وهي عاقر..
كفرت بالشعر الذي
لا يوقف الظلم ولا يحرك الضمائر..
لعنت كل كلمة ..
لم تنطلق من بعدها مسيرة ..
ولم يخطّ الشعب في آثارها مصيره..
لعنت كل شاعر ..
ينام فوق الجمل الندية الوثيرة
وشعبه ينام في المقابر..
لعنت كل شاعر ..
يستلهم الدمعة خمرا ..
والأسى صبابة والموت قشعريرة ..
لعنت كل شاعر
يغازل الشفاه والأثداء والضفائر ..
في زمن الكلاب والمخافر..
ولا يرى فوهة بندقية ..
حين يرى الشفاه مستجيرة..
ولا يرى رمانة ناسفة ..
حين يرى الأثداء مستديرة ..
ولا يرى مشنقة ..
حين يرى الضفيرة..
في زمن الآتين للحكم ..
على دبابة أجيرة ..
أو ناقة العشيرة..
لعنت كل شاعر ..
لا يقتني قنبلة ..
كي يكتب القصيدة الأخيرة..
تعليقات
إرسال تعليق