أوقفوا التعذيب ٢

أوقفوا التعذيب ٢
الشعب ٢٩-١١-٢٠٠٢
السيد رئيس الجمهورية :

أرفع إليك اختلافي مع سيادة النائب العام لتحكم فيه


هل أنا مضطر يا سيادة الرئيس أن أبدأ حديثي معك بالمديح فيك؟
هل أنا مرغم على ذبح كينونتي الإنسانية، وإحساسي ككاتب وكمواطن بالكرامة كي أقدمهما قربانا بين يديك؟.
وهل استنزل الرحمات على عصور خوالي، لو أنني عشت فيها لتمكنت أن أطلب من فرعون أو قيصر أو كسرى الأمان فيمنحنيه فأقول ما أريد، دون أن تكون آخر كلمة ينطق بها لساني، هي بالضبط آخر كلمة مسطورة في كتاب حياتي..
هل الكاتب هو خليفة مهرج الملك إن فشل في إرضائه وإسعاده وإضحاكه، أو أغضبه، حكم عليه بالموت أو أمر بإلقائه في غياهب السجون..
وهل أستطيع يا سيادة الرئيس أن أناشدك، لا أن تمنحني أنا وحدي الأمان، ولا للكتاب والصحفيين فقط، بل لأمتك جميعا..
هل يمكن يا سيادة الرئيس أن تكسر بيت شعر الشاعر - لا قلمه ولا عنقه - فيتحول باب الحرية عن لونه الدامي، ويفتح مغاليقه لأياد غير مضرجة بالدماء.
هل يمكن أن أكتب إليك، و أن أفتح لك قلبي بينما يقبع داخلي شرطي ورجل قانون وسجان، يتربصون بي، لا مجرد أن أتجاوز في كلمة، بل أن نختلف في رؤاها كي يطبقوا علي القوانين الأخيرة، وهم الذين تجاهلوا القانون وحطموه، عندما كان تطبيق القانون يفيد الأمة، كما حدث في قضايا التعذيب، وتزوير الانتخابات وإهدار أحكام القضاء، وتجاهل حيثياتها..
هل يمكن يا سيادة الرئيس أن أكتب إليك دون خوف، فلكم هو مذل ومهين ومدمر أن يخضع الكاتب إذ يكتب لخوف غير خوف خالقه، ولسلطان غير سلطان ضميره، فهو والأمر كذلك إما أن يسجن أو يتحول من كاتب إلى إرهابي، أو إلى مسخ بشري، لا مبدأ له، ولا حرام عنده، ولا ضمير..
الكاتب يا سيادة الرئيس هو عين أمته التي بها ترى، و أذنها التي بها تسمع، ووسائل إحساسها التي بها تحس، وعقلها الذي تستشرف به المستقبل وتخترق الدياجير المدلهمة، فماذا ترى العاقبة لأمة تسمل عينها، وتصم أذنها، وتكبت إحساسها، وتسجن عقولها..
هل يمكن أن ألجأ إليك، رغم اختلافي معك، فهذا الاختلاف لم يجعلني أجهل قط، أنك أفضل ممن من حولك، و أن الخلاف معك، بل ومهاجمة سياساتك، أكثر أمنا من الاختلاف مع معظم مرءوسيك أو مهاجمة سياساتهم..
أنت كبير يا سيادة الرئيس، نحن نراك كذلك، ولذلك نهاجم بمنتهى العنف أولئك الذين لا يرونك كبيرا كما نراك فلا يألون جهدا في محاولة دفعك إلى صدامات لا تنتهي مع فئات الأمة، صدامات لا تستفيد منها الأمة ولا أنت..
أنت كبير يا سيادة الرئيس لكن الله أكبر منك، و إن كان لك علينا حق الطاعة، فان ذلك مشروط بأن تشاورنا في الأمر وأنت مكلف بالعدل فينا حتى و إن عارضناك، مكلف بالعدل..حتى فيمن يحمل عليك سيفه فكيف بك مع من لا يملك إلا قلمه ..
فهل يمكن أن ألجأ إليك في اختلاف مع السيد النائب العام، الذي أكن لمنصبه الجليل ومقامه العالي كل إجلال واحترام، ولله الحمد من قبل ومن بعد أن خلافنا ليس على مظلمة خاصة أو مصلحة شخصية، ولكنه أبعد من ذلك بكثير، وقد يكون الخطأ في جانبي، قد يكون لساني عييّا، وقد يكون بياني أبيّا، وقد تكون حجتي ضعيفة ومنطقي متهاويا، وقد يكون ذلك كله هو السبب الذي جعلني أفشل في إقناع سيادة النائب العام بخطورة القضية التي لجأت إليه فيها،.. حين وجهت له عديدا من المقالات، كي يسهم من أجل الله والوطن والأمة، في مسح وصمة عار التعذيب عن جيلنا..
 لقد كتبت يا سيادة الرئيس - حتى الآن - عشرة مقالات متتالية، ست منها في صحيفة الشعب، وفوجئت على غير توقع برد من سيادة النائب العام ومن وزارة الداخلية. كانت لي مآخذ كثيرة على الردّين لكنها لم تنل من قيمة تطور محمود في الرد بدلا من التجاهل، كان من المآخذ مثلا أن الرد قد اقتصر على حادثة واحدة مما أوردته،حادثة واحدة لم تشغل سوى سطور محدودة، حادثة واحدة من مئات الحوادث، وكنت قد نوهت في المقالات إلى أنني لا أنشر سوى نزر يسير مما احتوت عليه كتب وتقارير منظمات حقوق الإنسان، والتي تنوه هي الأخرى أنها لم تنشر سوى نزر يسير مما يحدث في الواقع، يقول أحد تقارير المنظمة: ( إن ظاهرة التعذيب أكبر من الطاقات المحدودة للمنظمة على التقصي والتحقيق والتوثيق، و أن ما تنشره المنظمة هو مجرد قطرة من محيط، هو مجرد حالات نموذجية موثقة ومحققة تشير إلى أبعاد الظاهرة ومدى شيوعها دون أن تستطيع الإحاطة بكل مظاهرها، والوصول إلى كل ضحاياها )، أي أن ما نشرته في عشرة مقالات طويلة، لم يشمل سوى نزر يسير من قطرة في محيط، ورغم ذلك لم يشمل الرد سوى سطور محدودة، وفي هذه السطور القليلة لم ينف الرد ما ذكرت، لم ينف التعذيب، كما لم يتعرض مطلقا لما ورد في بقية المقالات، وبرغم أن رد وزارة الداخلية يعاتب برقة، ورد السيد النائب العام يدينني بحزم، ويحذر الصحيفة التي أكتب فيها، من نشر مقالات لا تتحرى الدقة فيما تنشره مثل مقالاتي مرة أخرى، مقالات تتعمد إغفال ذكر بعض الحقيقية، ولا تنشر الحقيقة كاملة، و دون أن تقف عند القدر الذي أراد الكاتب أن يذكر للقارئ، ولا يغفل جهد النيابة العامة في ممارستها لعملها مما لا يسمح أن تكون مجالا للتشكيك فيه..
 في هذه المقالات التي تفضل سيادة النائب العام بالرد عليها كنت قد أوردت يا سيادة الرئيس نماذج مروعة للتعذيب، موثقة من جهات عديدة، منها حيثيات أحكام المحاكم، ومنها تقارير الطب الشرعي وهو هيئة حكومية، ومنها التقارير الصحفية، وتقارير منظمات حقوق الإنسان، كنت أدرك أنني أخوض في مجال خطر، الخوض فيه خطر والخطأ فيه أخطر، لا أمام القانون فقط بل أمام الله أيضا، لذلك كنت حريصا في انتقاء الكلمات والحروف والجمل، لم أنقل إلا ما ورد في تقرير لمنظمة معروفة أو كتاب منشور، وكنت أدرك أن أي تجاوز لما هو منشور وموثق قد يدفع بي إلى السجن، وليس عيبا يا سيادة الرئيس أن يخاف الكاتب السجن وأن يسعى جاهدا لتجنبه، لكن العيب كله ألا يكون مستعدا في أي وقت لدخوله في سبيل إعلاء كلمة الله، في سبيل الحق والعدل والخير والضمير، ثم أنني في نفس الوقت كنت حريصا على أن يكون سجني إذا سجنت، لأنكم ظلمتموني لا لأنني ظلمتكم.
حرصت أيضا في معظم ما ذكرت، أن أتجنب ذكر الانتماء السياسي، بل و أن تكون معظم النماذج التي أتعرض لها نماذج لا علاقة لها بالسياسة، وكنت أعلم أن التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم، لذلك أسقطت التواريخ، وكان حريا بي أن أسقط أسماء الضحايا أيضا، لولا أنني أردت أن أضرب الأمثلة، كي يبدو الواقع المروع في صورته الدامية، لم تكن الأسماء تهم، ولا التواريخ، فالقضية ليست تعذيب فرد في مكان وزمان معينين، بل قضية شيوع المنهج نفسه..
ذكرت في المقالات بعض وسائل التعذيب التي تمارس - وسأكملها إن شاء الله في حلقات قادمة - منقولة من كتب وتقارير منظمات حقوق الإنسان، ومن كتب أخرى منشورة، لم تكذبها الشرطة ولم تصادرها السلطة..
ذكرت قصة شاب عذب حتى الموت لعدم امتثاله لأمر ضابط شرطة طلب منه الانصراف من حفل زفاف فتلكأ، وكتبت عن خفيرين من رجال الشرطة ماتا من التعذيب من رجال الشرطة، وكتبت عن المواطن حسام الدين عبد الشافي الذي عذب بقصد انتزاع اعتراف منه بارتكاب جريمة سرقة، وقد قامت نيابة دمياط بمعاينة حجرة ضباط المباحث وأثبتت آثار الدماء الناجمة عن تعذيب المواطن المتهم، كما قامت بتصوير الجثة قبل تشريحها نظرا لبشاعة الإصابات الواضحة بالقتيل، ومنها خروج جزء من العين اليمني للخارج، وانفصال الساق اليمني من عند الركبة من جراء التعليق لفترات طويلة، مع انتفاخ بالرقبة، وكدمات بجميع أجزاء الجسم، وانفجار في الخصيتين..
كتبت أيضا عما حدث لمواطن في قسم باب الشعرية، وكتبت عن المواطن مخلوف عبد العال أحمد، وعمره 22 عاما فقد اختطف - هكذا في نص تقرير منظمة حقوق الإنسان - بواسطة ضباط مباحث قسم الظاهر بالقاهرة بدعوى تنفيذ أحكام صادرة ضده، وهناك تعرض لتعذيب وحشي تعرض فيه للضرب في مؤخرة رأسه بكعب طبنجة ودبشك بندقية فضلا عن ركله بالأحذية الثقيلة في صدره، ويقول أهله أن ضابط الشرطة فقأ عينه وهتك عرضه وحطم عظامه، وساءت حالته، فنقل في اليوم التالي مباشرة إلى المستشفي القبطي، حيث مات. ويشير تقرير الطبيب الشرعي بشأن إصاباته أنها: كسر بالجمجمة وضلوع الصدر والجبهة والرسغ الأيسر بسبب الضرب بجسم صلب .
وتحدثت عن القضية المعروفة بقضية الأطفال الذين ضربوا وأهينوا وحجزوا لمدة يومين، كانت أعمارهم يا سيادة الرئيس تتراوح ما بين ست وعشر سنوات ورغم ذلك تعرضوا لذلك الهول كله..
تعرضت أيضا لما حدث لآباء الأطفال، وذكرت ما نشرته صحيفتا الوفد والجمهورية عن أطفال آخرين اعتقلوا ..
كتبت عن أماكن حجز المسجونين والأطفال أيضا، و أوردت ما ذكره تقرير للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان على لسان أحد المحتجزين بقسم شرطة قصر النيل في أعقاب ندوة نقابة الأطباء عما سمّي بتنظيم الأطفال فكان " هناك نحو خمسين شخصا في حجرة لا تتعدى مساحتها 4 في 5 أمتار مما اضطر البعض للنوم في دورة المياه القذرة، من بين المحتجزين لاحظت انفراد شخص واحد ضخم الجثة بنحو ربع مساحة الحجرة يتمدد فيها ويحيط نفسه بمساحة خالية يتصرف فيها، بينما تكدس بقية المحتجزين في المساحة المتبقية في وضع القرفصاء، وكان لهذا الشخص الذي يبدو من عتاة المجرمين سطوة بالغة على كافة المحتجزين، وينادي على بعضهم بأسماء مؤنثة، فيلبون النداء بسرعة بالغة خوفا من بطشه، كان هذا البلطجي صاحب الكلمة النافذة في شئون الحجز، ويقوم بتأديب بعض المحتجزين في حالة مخالفتهم لأوامره وأحيانا بدون سبب واضح تحت سمع وبصر المسئولين عن القسم من ضباط وجنود الشرطة، بعض المحتجزين، من أصحاب الأسماء المؤنثة كانوا يضطرون لتلبية رغبات البلطجي بممارسة الجنس بالإكراه معهم أمام بقية المحتجزين، وأغلب هؤلاء الضحايا صبية لا تتجاوز أعمارهم 15 أو 16 عاما" .
لقد تعمدت اختيار نماذج بعيدة عن السياسة، لأنني كنت أريد يا سيادة الرئيس أن أقول أن تعذيب أي إنسان مهما كان انتماؤه ومهما كانت جريمته، هو بنص حكم محكمة: إجرام في إجرام، وأن القائمين بالإجرام مجرمون.
تحدثت عما حدث للأستاذ الدكتور زكريا الشامي حين احتكت سيارته بسيارة ضابط شرطة، وتحدثت عن المضيفة ميرفت عبد الحميد التي حاولت الانتحار من قسوة التعذيب، وتحدثت عن الاختفاء القسري، وعن هتك عرض سيدة وطالب، وتحدثت عن نوارة الانتصار أحمد فؤاد نجم، وعن مصطفي محمد عبد الحميد، وعن نصرة فتحي إبراهيم، وعن العقاب الجماعي وانتهاك القرى وكيفية مواجهة العمال والطلبة، وأنهيت مقالي المنشور بتاريخ 5 مايو بما حدث للدكتور محمد السيد سعيد، والذي كان قد أصدر بحثا قيما عن سياسة العقاب الجماعي التي تمارسها الشرطة، فقلت :
كان من المقبوض عليهم الدكتور محمد السيد سعيد، الباحث المرموق المعروف على النطاق العالمي، والمحاضر في عدد من الجامعات في مصر والخارج، والمراكز البحثية وبينها الأكاديمية العسكرية التابعة لوزارة الدفاع، والمعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية، وله عديد من المؤلفات وعشرات من الدراسات والمقالات المنشورة..
كان سلاح محمد السيد سعيد القلم والفكر، وكان ردهم عليه جرعات مكثفة من التعذيب تعرض خلالها للإغماء أكثر من مرة بسبب عنف التعذيب، سحلوه من قدمه اليمني عشرين مترا على أرض السجن أجبر على غمر وجهه أكثر من مرة في برميل مملوء بالمياه القذرة استعملوا معه ومع زملائه العصي العادية والكهربائية والهراوات والكرابيج بالإضافة إلى الضرب بالأيدي و الركل بالأقدام وتعرضوا لتهديدات بينها الاعتداء الجنسي فضلا عن توجيه أقذر أنواع السباب لهم، استعملوا كذلك الكلاب البوليسية لإرهابهم أثناء التعذيب الذي قام به عشرون ضابطا يرتدون ملابس عسكرية بين رتبة العميد والملازم أول، فضلا عن عدد مماثل من الضباط يرتدون ملابس مدنية وكان ثمة ضابط يحمل رشاشا في تهديد صريح بالموت.
أجبر محمد السيد سعيد وزملاؤه على المرور بين صفين من جنود الشرطة والكلاب البوليسية وراح الجنود يتناوبون ضربهم بالأيدي والأقدام والهراوات والعصي المكهربة..
و تصادف أن وفدا من نقابة الصحفيين قد توجه لزيارة زملائهم المسجونين بعد ساعة واحدة من تعذيبهم بهذا الشكل الوحشي ..
قيل أن مكرم محمد أحمد أصيب بنوع من الانهيار العصبي، وأنه انصرف إلى بيته عازما على الاستقالة من مناصبه احتجاجا صارخا على ما رأى.
لكن السلطة والشرطة صالحاه، و أفرج عن محمد السيد سعيد دون محاكمة، فلم تكن هناك قضية..
لقد كنت حريصا يا سيادة الرئيس أن أتناول فترة زمنية واسعة، أدلل أنه قد تم خلالها تعذيب مروع لمختلف فئات الشعب، ولم يكن ما أكتب حصرا لما تم، وإنما فقط، بلاغا إلى المسئولين بما علمت، ولأنني أعلم أن ما أنشره من وقائع بشع حتى أنه يعز عن التصديق، كما أن موقف الدولة من منظمات حقوق الإنسان قد يكون دافعا آخر لتكذيب ما تنشر، وهو موقف ليس له ما يبرره، سوى الرغبة في الهروب من اللجوء إلى الحوار والمصارحة في مواجهة مشاكل الأمة، ومن أجل ذلك حرصت على تدعيم ما أقول بالعديد من حيثيات المحاكم وتقارير الطب الشرعي وكان مما أوردت في مقال بتاريخ 2 مايو حيثيات حكم قضائي عن التعذيب جاء فيه :
"إن التعذيب المادي وصل إلى حد وضع قطع خشبية في دبر بعض المتهمين، فذكر أحدهم ذلك، ولعل الآخرين أمسكوا عن هذا القول بالذات، صيانة لأعراضهم من الفضائح ..
إن ضمير المحكمة ليفزع، وضميرها يجزع، وهي ترى أن أي متهم قد تعرض للتعذيب المادي أو النفسي أو العقلي، ويزداد الفزع ويتضاعف الجزع، أن التعذيب حدث بصورة وحشية فظيعة، كوضع قطع خشبية في دبر المتهمين، وهو أمر وصفته محكمة النقض في الثلاثينيات من هذا القرن بأنه :إجرام في إجرام، ولا تجد المحكمة في عصر حقوق الإنسان وزمن حرية الوطن والمواطنين وصفا ملائما تصفه به، ولا تريد أن تتدنى لتصفه بوصفه البشع، غير أنها ترى في التعذيب عموما عدوانا على الشرعية من حماة الشرعية.. "
وتحدثت عن حيثيات حكم المحكمة في قضية التعذيب المتهم فيها 44 ضابطا، فحكمت المحكمة ببراءتهم، لأن الضحايا قد عجزوا عن تحديد أي من المتهمين هو الذي قام بالتعذيب، ونعت المحكمة على النيابة تقصيرها في وقائع التعذيب .
وتحدثت عن منطوق حكم يقول: أن المحقق قد أثبت إصابات المتهم منذ استجوابه وأن جميع المتهمين الماثلين لم ينج أحدهم من التعذيب وأثبت المحققون إصابات بهم كما أكدت التقارير الطبية تعرضهم لأبشع أنواع التعذيب من ضرب بالسياط وتوصيل شحنات كهربائية إلى أجسامهم وموطن العفة من أجسادهم وتعليقهم وهم معصوبي العينين بقصد انتزاع الاعترافات منهم، وتكرارها بعد كل استجواب . وانتهت المحكمة إلى استبعاد كافة الأدلة المستمدة من اعترافات المتهمين باعتبارها قد صدرت تحت وطأة التعذيب بهذه الصورة النكراء التي وردت بتقارير الطب الشرعي ..
سيادة الرئيس: حرصت فيما أكتب لسيادة النائب العام أن أنحي جانبا كل انفعال، و أن أبتعد عن تصوير ما كان يعتمل داخل نفسي من غضب هائل واحتجاج، تاركا لتقارير المنظمات والمحاكم أن تعبر بأسلوب علمي عما أود قوله..
وقلت لسيادة النائب العام :
 تزعم منشورات المنظمة أن ثمة تعليمات منكم ألا يتم التصرف في الجرائم المنسوبة إلى أي من رجال الضبط - ضباط مباحث أمن الدولة - ضد الأفراد إلا من خلال مكتبكم ثم تردف فإن هذه التعليمات تغل يد باقي أعضاء النيابة عن التصرف في تلك القضايا وهم ما يمثل استثناء ينافي أبسط مقتضيات العدالة والمساواة بين الأفراد..
يقول تقرير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان: لقد تخلت النيابة عن مسئوليتها التي أناطها القانون بها من تحقيق في شكاوي التعذيب، لتكتفي في أحسن الأحوال بإثبات آثار التعذيب في محاضرها، دون أن تقدم مبررا لوجود هذه الآثار المثبتة بتقارير الطب الشرعي في كثير من الحالات..
و لقد تجلى تخلي النيابة عن اختصاصاتها بالتحقيق في وقائع التعذيب في اضطرار محكمة أمن الدولة العليا طوارئ في قضية اغتيال الدكتور رفعت المحجوب على ندب عضو اليمين بالمحكمة للتحقيق في وقائع التعذيب التي تعرض لها المتهمون على ذمة هذه القضية جاء بنص هذه الحيثيات أنه : رغم أن المحكمة أحالت وقائع التعذيب التي تعرض لها المتهمون إلى النيابات المختصة لتحقيق هذه الوقائع، إلا أنه حتى تاريخ حجز الدعوى للحكم، أي بعد 3 سنوات من التعرض للتعذيب، لم ترد هذه التحقيقات من النيابة العامة ولم تشأ المحكمة الانتظار أكثر من ذلك حتى لا يتعطل الفصل في الدعوى..
و تقول حيثيات حكم محكمة: إنه تيقن لها أن المدعي قد لاقى صنوفا من العذاب أثناء فترات اعتقاله متمثلة في ضربه بالعصي والسياط والأسلاك الكهربائية، والحرمان من الطعام والشراب وإطفاء السجائر المشتعلة في جسده مع تعريضه لصدمات كهربائية في الأماكن الحساسة في جسده، وكذا تهديده بالقيام بأعمال غير مشروعة مع زوجته ووالدتها.
ذكرت أيضا يا سيادة الرئيس تفاصيل نماذج تقارير الطب الشرعي عن آثار التعذيب..
وتوسلت إلى سيادة النائب العام فقلت: أتوسل إليك، أن يصدر مكتبك بيانا فوريا تفصيليا يكشف لنا ما غمّ علينا فمن المستحيل أن تكون الأمور بكل هذه البشاعة التي توردها تقارير منظمات حقوق الإنسان، وتؤكدها حيثيات أحكام المحاكم وتقارير الطب الشرعي لا مجرد أقوال الصحف أتوسل إليك، من أجل هذه الأمة، وفي سبيل الله، و أتوسل أيضا إلى رئيس الجمهورية ومجلس القضاء الأعلى، والمحكمة الدستورية العليا، ومحكمة النقض، و أتوسل إلى كل كاتب ومفكر في هذا البلد..
قلت لسيادته: لكنني أعلم يا سيادة النائب العام أن هذه الوقائع لا يمكن أن تكون قد اتصلت بعلمك، لا دون رد فقط، بل دون أن تقلب الدنيا علي رؤوس الجبابرة..
سيادة الرئيس :
كان قلبي إذ أكتب لسيادة النائب العام ينزف، وكنت أدعو الله أن يستجيب لندائي، و أن يصدر بيانا شاملا جامعا يرد على كل هذا لا على واقعة واحدة، لم أتجاوز حين نشرتها الصدق قيد أنملة، والشاهد على صدقي فيها رئيس النيابة، لم يشمل الردان أيضا ما ذكرته منسوبا إلى تقرير منظمة حقوق الإنسان المزلزل: إن تقاعس النيابة في إجراء تحقيق سريع وعاجل في بلاغات التعذيب، أو طول المدة التي تستغرقها التحقيقات، وتأخر عرض المجني عليهم على الطب الشرعي يؤدي إلى إفلات المسئولين المتورطين في جرائم التعذيب من المساءلة والعقاب الرادع، كما يؤدي إلى إهدار حق المجني عليهم في إثبات آثار التعذيب، حيث أفضى تقاعس النيابة في هذا الصدد من جانب ومماطلة مصلحة السجون في الإحالة إلى مصلحة الطب الشرعي من جانب آخر إلى زوال المعالم الإصابية أو التئامها..
تحدثت أيضا عن سحب المعتقلين من السجون، وعن تفتيش النيابة عليها، حيث يزعم العديد من المعتقلين أنهم طوال شهور عديدة لم يلتقوا بأعضاء النيابة العامة .
 كتبت أيضا :لقد شاهدت النيابة نفسها بعضا من الإجرام الذي يحدث..
ثم تحدثت عن الواقعة الأخيرة، وهي الواقعة الوحيدة التي تصدى لها الردان معا - رد النائب العام ورد وزارة الداخلية- حيث اتفق الردان على الاقتصار على نفس الواقعة في مصادفة أصابتني بالإحباط، وهي واقعة ما حدث للمواطن عبد الناصر عبد الغفار علي، الذي قامت النيابة نفسها بضبط الشرطة أثناء قيامها بتعذيبه، وقلت :
 احتجزت الشرطة المتهم: عبد الناصر عبد الغفار علي: 34 عاما في قسم أول الزقازيق لسؤاله في جريمة قتل، حيث أجبر على خلع ملابسه، وتم تعصيب عينيه بقطع قماش وتقييد يديه من الخلف وتعليقه على باب و الضرب بعصا خشبية - ساق كرسي - وخرطوم سميك مبطن على الرأس والظهر والمؤخرة والقضيب الذكري والقدمين وقصبة الساقين وتنقل مذكرة النيابة عن الضحية قوله إنه تم وضع وإدخال عصا في دبره ثلاث مرات متفرقات في يوم واحد، و أن الضباط غرسوا إبرة معقوفة في معصم يده اليمني ثم قاموا بتوصيلها بالكهرباء، مما سبب آلاما مبرحة، كما صعقوه بالكهرباء، خلف الأذنين وفي حلمة الثديين والأعضاء التناسلية..
وعلى إثر بلاغ تقدمت به أسرته إلى نيابة الزقازيق، انتقل رئيس النيابة إلى قسم أول شرطة الزقازيق إلا أن الضباط قاموا بتهريب الضحية إلى نقطة شرطة بردين المجاورة، وعندما علمت النيابة بذلك بادر رئيسها بمفاجأة نقطة الشرطة حيث شاهد بنفسه الضحية وهو معلق على الباب في حالة يرثي لها ويوثق التقرير الطبي رقم 488 الصادر من مصلحة الطب لشرعي التابعة لوزارة العدل آثار التعذيب..
فهل كان يمكن يا سيادة النائب العام أن تجد النيابة على شيوع التعذيب دليلا أوضح من ذلك؟.؟.
هل كان يمكن؟.؟!!
وهل هو ممكن ألا تتخذ قرارا تهتز له الأمة كلها، لا إزاء هذه القضية فقط بل إزاء جريمة التعذيب، والمجرمين المرتكبين لها، والمجرمين المتسترين عليهم؟.
إننا لا نريد أن نصدق ما أوردته صحيفة متحالفة مع الحكومة، وبرغم ذلك تقول أنه بات من الصعب التفريق بين النيابة والشرطة!!.
ولأنني أدرك حساسية أجهزة الدولة تجاه "صحيفة الشعب"، و أن ما يقبل من غيرها لا يقبل منها، فقد ذكرت أن هذه الجملة مقتطفة من صحيفة أخرى، وبرغم ذلك كانت هذه الجملة محل عتاب في رد السيد النائب العام، لم أشأ حين نشرها ذكر اسمها فالأهم هو فحوى ما ينشر ويقوله الناس..
 سيادة الرئيس:
عندما وصلني رد من وزارة الداخلية انشرح قلبي لما ذكره الرد من اهتمام وزير الداخلية شخصيا بما ورد فيه، وكنت معجبا أيضا بذكاء الرد الذي لم ينف واقعة التعذيب، وكان عتابي أيضا، والذي وددت أن يسفر الحوار البناء عن تلاشيه، أن الرد اكتفي بهذه الواقعة وحدها من كل ما نشرت، وأنه لم يجب عن السؤال الجوهري: من الذي عذب المتهم الذي شاهده رئيس النيابة وهو يعذب، والذي وصف تقرير الطبيب الشرعي ما به من إصابات؟. وهل نجحت النيابة وقد شاهدت بعينها الجريمة في أن تمسك بالمجرم؟. السؤال الأهم هو: من المسئول أيضا عن التعذيب في كل القضايا الأخرى، ليس مئات القضايا بل الألوف المؤلفة..
 كنت أعلم أن ما أنشره يصيب بعض قطاعات الشرطة، وكنت مستعدا للقبول على المستوي الإنساني بمحاولة لدحض ما أقول أو لتخفيف وقعه في رد يأتي من الشرطة التي كنت أشكو بعض قطاعاتها بل ورأيت في مجرد الرد قبولا بالحوار، وعدم اعتبار ما حوته سلسلة مقالاتي كفرا يعاقب عليه بالنار أو اعتداء على المحرمات أرجم بسببه..
وبقدر ما كانت سعادتي يا سيادة الرئيس برد وزارة الداخلية كان إحباطي من رد سيادة النائب العام، فهو المشكو إليه لا منه، ولم يكن لي حيلة يا سيادة الرئيس في ذكر صرامة حيثيات أحكام المحاكم عندما تعرضت للنيابة العامة ولم أكن أستطيع أن أخففها..
لست أخفي عنك يا سيادة الرئيس إحساسي على المستوي الشخصي بالجرح من سيادة النائب العام، إحساسي بأنه يزدريني، ويتهمني بالـ: الإغفال المتعمد، و عدم ذكر الحقيقة الكاملة، و عدم تكرار مثل هذه المقالات التي لا تتحرى الدقة فيما تنشره، لكنني يا سيادة الرئيس تجاوزت سريعا عن الجرح الشخصي، محتسبا عند الله ما يحيق بي، ومدركا أن سيادة النائب العام لو أحالني إلى المحاكمة طبقا لنصوص القانون الجديد الذي يرفضه الصحفيون والكتاب والأمة، ولو اقتنعت المحكمة بهذه الاتهامات لكان الحكم سجنا لا يقل عن خمسة أعوام و أن سيادة النائب العام - من وجهة نظره - قد يكون رحيما بي وبمعشر الكتاب كأرحم ما تكون الرحمة، حين يقتصر على هذا الرد الحازم..
بيد أني يا سيادة الرئيس حين تجاوزت الخاص إلى العام، إلى القضية التي بدأت هذه السلسلة من المقالات من أجلها، وجدت نفسي غير قادر على مواصلة الحديث إلى سيادة النائب العام، لا لجرحي منه، بل لأنني أحسست بالعجز عن إقناعه، كما أن الأمر لا يستقيم حين أكتب إليه ما اعتبره سيادته: مقالات لا تتحرى الدقة فيما تنشره ، والحقيقة أنني أختلف مع سيادته فيما ذهب إليه، ولم أجد سواك يا سيادة الرئيس من أرفع إليه هذا الاختلاف ليحكم فيه..
لقد كان اقتصار الرد على واقعة واحدة من كل الوقائع التي كتبت عنها مثار إحباطي..
وكان توافق الرد مع رد وزارة الداخلية في الاقتصار على واقعة واحدة من كل ما ذكرت مثار دهشتي .
وكان اتهامي بالإغفال المتعمد لذكر تاريخ الواقعة - واقعة المتهم عبد الناصر عبد الغفار - مهيجا لشجوني، فأنا لا أعرف هذا المتهم قط، ولم أذكره بين مئات الأمثلة إلا لكي أثبت لسيادة النائب العام أن التعذيب يحدث، غير أن رد سيادته قد أضاف جزئية لم أكن أعرفها حين يذكر أن الواقعة حدثت في الفترة من 5-11-1991 حتى 21-11-1991، لقد حدثت الواقعة إذن، واستمر حدوثها ستة عشر يوما، ولقد كان موقف النيابة فيها عظيما ونبيلا، وقد أشرت إلى ذلك حين سردت الواقعة، ولقد قام رئيس النيابة بمفاجأة نقطة شرطة بردين التي هربه الجناة من رجال الشرطة إليها، وشاهده بنفسه معلقا، وفي حالة يرثي لها كما يذكر تقرير للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان، ولم ينف رد سيادة النائب العام كل ذلك بل يقول: أن النيابة بادرت بالتحقيق في الواقعة و إجراء تفتيش وقامت بإثبات إصابات المجني عليه وعرضه على الطب الشرعي وقدمت المتهمين من الضباط والشرطة السريين الذين اقترفوا الواقعة إلى محكمة الجنايات، لقد احتوي رد سيادة النائب العام على كل ذلك بل وما هو أكثر، فقد كانت التهم التي وجهتها النيابة للمتهمين من رجال الشرطة كما يتفضل خطاب سيادة النائب العام بسردها هي: جناية تعذيب، جناية هتك عرض بالقوة، جنحة القبض والحجز. ويذكر الرد أن المحكمة قد قضت حضوريا بجلسة 21-4-1994 ببراءة المتهمين مما هو منسوب إليهم، لعدم اطمئنانها إلى أدلة الثبوت التي قام عليها الاتهام..
لكن..هل معني حكم المحكمة أن الواقعة لم تحدث؟.؟
لقد تعرضت في تعقيبي على رد وزارة الداخلية إلى أن القضاء يحكم بما يري لا بما يعرف، وما يراه القضاة هو ما يقدمه إليهم رجال النيابة والشرطة من أدلة وشهود، ومن جهد لبتر كل من يحاول أن يؤثر على سير التحقيقات..
و أقرر هنا أن جريمة بهذه البشاعة تحدث، ويضبطها رئيس النيابة بنفسه ويراها بعينيه، ثم لا يتم التوصل فيها إلى الجناة تصيبني بالرعب من عجز آليات المجتمع عن حفظ كرامة الإنسان و إقرار العدالة..
ماذا يحدث إذن في الأماكن الأخرى..؟.؟
سأقوله لك يا سيادة الرئيس، وسوف أعاتبك أيضا إن أذنت: ألم تكن هذه الجرائم المروعة، ومن يرتكبونها من حيوانات بشرية مجرمة أكثر قسوة وبشاعة من الوحوش الضواري، أولى بتشديد قانون العقوبات بدلا من سن قوانين تسجن الصحفيين و تغلق النقابات؟..
سيادة الرئيس :
أرجو أن تأذن لي بأن أوجه إليك مباشرة ما كنت أنتوي توجيهه إلى سيادة النائب العام، لا مجرد رد فعل للجرح الذي أصابني من رد سيادته، ولا مجرد عزوف عن اختلاف مع النائب العام أدرك خطورته، ولكن الأمر أبعد من ذلك و أشد هولا، أمر يضعنا أمام إشكال قانوني خطير لا يملك البت فيه سواك يا سيادة الرئيس .
فالنيابة صادقة لا شك في ذلك..
وحيثيات أحكام المحاكم صادقة ولا شك في ذلك أيضا، لكنها تشير في إحدى القضايا إلى عدم اطمئنان ضمير المحكمة إلى محاضر تحقيقات النيابة، و إلى أن وكيل النيابة بدا كما لو كان يمنع عن المتهم الاستعانة بمحام، و أن المطاعن التي كانت توجه إلى محاضر تحريات مباحث أمن الدولة قد استطالت حتى وصلت إلى محاضر تحقيق النيابة، مثل الاتهام بعدم الحيدة، وعدم إثبات كل الأقوال، والتهديد بالإيذاء، ومجاملة رجال مباحث أمن الدولة من كتاب: دفاعا عن حقوق الإنسان، الناشر المنظمة ومركز الحضارة العربية للإعلام والنشر،صفحة 143.
لا نلقي القول على عواهنه إذن يا سيادة الرئيس، وما نقول إلا الصدق، سيادة النائب العام يقرر أن النيابة قامت وتقوم بدورها، وحيثيات حكم محكمة تقول عكس ذلك، كلاهما صادق إذن، لكن ثمة تعارضا بين الصدقين، وهذا التعارض ينبئ عن فتق بالنظام لا يملك رتقه سواك، إنه ليس أمر النيابة والقضاء الآن بل همّ الأمة ودعائم المجتمع الذي وليته، لذلك أرجوك و ألح في رجائك، أن تشرك معك في التصدي لهذا الخطب: المحكمة الدستورية العليا ومجلس القضاء الأعلى ووزير العدل والنائب العام وكبار المفكرين..
منذ ستين عاما يا سيادة الرئيس كانت قضية واحدة مثل هذه القضية كافية لإسقاط الحكومة كلها، فهل تأذن لي أن أروي لك ذلك إن يشأ لي قاهر الجبابرة المعز، المذل، المهيمن، الملك..الله الذي لا شريك له والذي يأمرني أن أقول، فهل تسمح؟ هل تسمع؟ هل تصدع؟.
وهل يتيح أبناء الأبالسة المتكأكئين حول كل سلطان لي المجال كي أقول؟.
***
سيادة الرئيس:
ماذا أقول لك؟.
ماذا أقول لك؟.
كيف أستطيع أن أسمعك صوتي وابن سبأ بينك وبيني..
تتردد في حنايا الذاكرة أصداء حوار حزين ..
 والله ما أدري ما أقول لك، ولا أعرف شيئا تجهله، ولا أدلك إلى أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما أعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه..
فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبـصّر من عمى، ولا تعلّم من جهالة..
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور في جهنم كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنم .
بدأت الفتنة الكبرى يا سيادة الرئيس في تاريخ الإسلام والمسلمين بشيطان في بطانة ذي النورين أمير المؤمنين عثمان بن عفان منع تواصل الحوار بينه وبين جمهور الأمة، شيطان تجسد في بشر اسمه عبد الله بن سبأ، وشياطين آخرين أمروا بالمنكر ونهوا عن المعروف كانوا في بطانة ذي النورين، وهو من هو، فلا تستكبر يا عبد الله يا رئيس الجمهورية أن يكون في بطانتك شياطين سوء يدفعوننا جميعا إلى حيث بئس المصير..
كم سيفا من سيوف آلة الشياطين تشحذ الآن لذبحي بعد قراءتهم صدر مقالتي لك، و أي شيطان سيزين لهم سوء ما يزمعون حين يعرفون أني ما قلت إلا ما قاله إمام المتقين علي بن أبي طالب لذي النورين عثمان بن عفان..
ليس السيف ملكك يا سيادة الرئيس بل هو مرتهن لديك، زمن لك وأزمنة عليك، فانظر لغدك، فالحكم يتعشى به قوم ويفطر عليه آخرون..
إنني أضع أمر التعذيب الآن أمامك، لا أستطيع مجرد تصور أنك تعرفه وتسكت عليه، كما لا أقدر على خداع نفسي بأنك لا تعلم فهو تعذيب يدمر الأمة ويزلزل دعائم مشروعية أي حكم، في تعذيب أقل من هذا بكثير منذ نيف وستين عاما صرخ العملاق عباس محمود العقاد: " لقد فضح الحكم في قضية البداري شيئا قليلا من أوزار هذا الزمان، ولو افتضحت كل أوزاره لعجب الناس في غير هذه الأمة كيف بقيت في نفوس المصريين سورة للعدل ونخوة للغضب الشريف".. وكانت حيثيات الحكم في القضية تقول: " متي انتهكت الحرمات على هذه الصورة لم يقم للنظام في أمة قائمة، أليس في هذه الأعمال الشنعاء احتقار للشعب بتمامه"..
التعذيب هو الاحتقار حقا يا سيادة الرئيس وهو الازدراء بالشعب بتمامه وهو - لا حرية القول والنشر - ما يجب أن يسهر مجلس الشعب حتى الصباح كي يسن القوانين لمنعه فيرفعها إليك فتمهرها لساعتك فينشرونها في عدد خاص من الجريدة الرسمية في نفس اليوم..
تواصل حيثيات حكم المحكمة قولها أن التعذيب : "أفظع من الاعتداء على الحياة، لأن الأمة لا تكون أمة حقا إلا إذا تكاملت أخلاقها وتمتعت بحريتها في حراسة القانون" ..
ما حدث في البداري أيامها يا سيادة الرئيس لا يكاد يقارن بما يحدث الآن، فلا تندهش إذن للصخب والعنف بل اندهش لكل هذا الصمت، ترى هل دمر ما يحدث من بعض المنحرفين في النظام ما حذر منه العقاد وما تنبأ به، وهل انتهت في نفوس المصريين سورة العدل ونخوة الغضب الشريف..
كان أحمد جعيدي مواطنا من البداري، مثل عبد الناصر عبد الغفار ومخلوف عبد العال وزكريا الشامي وميرفت عبد الحميد وحسام الدين عبد الشافي ومحمد السيد سعيد ومحمد عفيفي مطر ومئات و آلاف ممن ذكرت وممن لم أذكر، وكان مأمور المركز ضابط شرطة اسمه يوسف الشافعي كان يسيطر عليه إحساسه كمعظم أقرانه بالتفوق والقوة والتعالي وربما الازدراء لمجتمعة، كان ضابطا كبيرا في جهاز الشرطة الذي يسود أفراده إحساس بأنهم السلطة الحقيقية والدائمة في الوطن، فالملك هو الملك، يتغير اسمه ورسمه لكنه يبقي هو الملك، والوزراء يأتون ويذهبون والمحافظون يتغيرون ويتبدلون أما الثابت الدائم مع الملك فهم تلك الشبكة من ضباط الشرطة التي تنتشر كخيوط العنكبوت فوق رقعة الوطن، وكان يوسف الشافعي كوزيره الجلاد إسماعيل صدقي حريصا على أن يبدو أمام الجميع نموذجا للحاكم المخيف الذي يرهبه الجميع، ومن سوء حظ المواطن أحمد جعيدي أنه لم يعجبه فوضعه على قوائم المشبوهين، حيث كان يقاد إلى مبني المركز ليتولوا عملية تأديبه، ليضرب بالسياط ومؤخرات البنادق ويجبر علي أن يقول (أنا مرة) ويطلق عليه المأمور اسم حمدية ويجبره أن يجيب إذا نودي به، ويربطه بالحبال إلى مرابط الخيل، ويوضع أمامه التبن ويؤمر بأكله ومضغه، ويمتطي الجنود ظهره، كما لو كان فرسا، ثم يضعون عصا في دبره..
وقرر أحمد جعيدي أن يثأر لكرامته.. فتربص بالمأمور وأطلق عليه الرصاص فقتله..
وأحيل أحمد جعيدي إلى محكمة الجنايات التي حكمت بإعدامه وأحيل ملف القضية بعد الحكم بالإعدام إلى رئيس محكمة النقض: عبد العزيز فهمي باشا، وكان من رعيل القضاة العظام الذين حفلت بهم مسيرة القضاء في مصر.. ولأسباب قانونية معقدة لم يكن من سلطة عبد العزيز فهمي باشا أن يلغي الحكم، فقبله على مضض ليوجه إلى الحكومة لطمة أصابتها في الصميم، حين وجه إليها النداء للتدخل لإصلاح وضع لا تمكنه بنود القانون من إصلاحه، و لقد عبر عن دهشته إزاء ما اعتبرته محكمة جنايات أسيوط من أن ما كان يفعله المأمور القتيل إنما هو من قبيل أداء الواجب، ووصفه بأنه تعليل فاسد يقوم على أساس مرتبك غير صحيح لأن محكمة الجنايات: اعتبرت شذوذ المأمور القتيل الإجرامي من قبيل قيام الموظف بأداء واجبه، مع أن البداهة تقضي بأنه شذوذ  يُحْـفِـظُ كل إنسان، ولو كان مجرما، ويدعو إلى معذرته والتخفيف من مسئوليته إذا هو سلك سبيل الانتقام .
وأضاف عبد العزيز فهمي باشا: "إن المعاملة التي كان المجني عليه يعامل بها المتهمين هي إجرام في إجرام، ومن وقائعها ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون بالأشغال الشاقة، وكلها من أشد المخازي إثارة للنفس واهتياجا لها، ودفعا لها للانتقام، إن مثله الذي أوذي واهتيج ظلما وطغيانا، والذي ينتظر أن يتجدد هذا الإيقاع الفظيع به، لا شك إذا اتجهت نفسه إلى قتل معذبه، فإنها تتجه إلى هذا الجرم موتورة مما كانت منزعجة مما سيكون، والنفس المنزعجة الموتورة هي نفس هائجة أبدا، لا يدع انزعاجها سبيلا لها إلى التبصر والسكون، حتى يحكم العقل هادئا متزنا، مترددا فيما تتجه إليه الإرادة من الأغراض الإجرامية التي تتخيلها قاطعة لشقائها"..
كان علي ماهر وزير عدل.. ترفع عن محاولات إفساد القضاء وعن اللعب بذهب المعز لإفساده، كما جاء في وصف بارع ورد على لسان المستشار يحيي الرفاعي إذ يسقط وصفه على وزير العدل الحالي.... وكان الطاغية الجلاد إسماعيل صدقي رئيسا للوزراء وزيرا للداخلية، وبدأت الأخبار تتسرب عن اختلافهما حول الطريقة التي تتعامل بها الحكومة مع حيثيات حكم محكمة النقض، أصر علي ماهر على الاستجابة للمحكمة بالطريق القانوني الوحيد المتاح وهو استصدار أمر ملكي بتخفيف العقوبة، ورأى الجلاد أن توصية محكمة النقض غير ملزمة ولم يرضخ وزير العدل لضغوط رئيس الوزراء، وانفجرت الفضيحة على صفحات الصحف فلم تكن الممارسة ممارسة مأمور شرطة بل ممارسات النظام.. وبدأ الكاتب الجبار عباس محمود العقاد سلسلة من المقالات العنيفة ضد النظام كله، ورفع وزير العدل التماسا إلى الملك بتخفيف الحكم.. وأمر بإجراء تحقيق في كل ملابسات القضية يشمل الذين تولوا تحقيقها، ومن كانت لهم صلة بوقائعها من رجال النيابة أو الإدارة لتحديد المسئولية الإدارية والجنائية ومحاسبة الذين تثبت ضدهم تهمة التعذيب أو تهمة الإهمال في تحقيق شكاوي المتهمين.. وعلى الفور بدأ التحقيق، وحاول إسماعيل صدقي أن يتم التحقيق من خلال رجاله.. ومرة أخرى تصدى العقاد لما حاول به الطاغية الجلاد أن يجري تحقيقا مزورا يبرئه، كان النظام هو المتهم وهو القائم بالتحقيق وفجأة تحركت الأمة كلها.. وانهالت على وزير العدل آلاف الشكاوي ضد السلوك الإجرامي لرجال الشرطة..
واحتدم الخلاف بين الجلاد وبين وزير العدل المصرّ على موقفه من ضرورة التحقيق في كل البلاغات وطلب الجلاد من الملك فؤاد التدخل، حاول الملك فعلا إثناء وزير العدل عن تشدده مع رئيس الوزراء.. فقال له علي ماهر:
- إنني لو كنت مكان أحمد جعيدي، وفعل بي المأمور ما فعله فيه، لقتلته أنا أيضا ..
ولم يشأ الملك فؤاد أن يتدخل في سير العدالة..
حتى الملك لم يشأ يا سيادة الرئيس أن يلوث عهده بدنس محاولة التأثير على القضاء..  حتى الملك ....
أما موقف النائب العام فقد كان وسام فخر ومنارة كبرياء أبىّ نبيل، يرى العدل الذي يمثله، الذي اؤتمن عليه، يسمو فوق كل هامة حتى هامة رئيس الوزراء والملك، و أبى الرضوخ لأي ضغط ولو حتى بمجرد تأجيل المحاكمات حتى تنتهي الأزمة ..
وكان ثمة وزير آخر حقيقي.. هو وزير الخارجية الذي تضامن مع وزير العدل، وزير خارجية يا دكتور أسامة الباز، يا واحدا من أفضل الوجوه في المؤسسة الحاكمة، يا سيد مدرسة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أيها الذكي الهادئ النظيف القادر حتى الآن على التجول في شوارع القاهرة دون حراسة ودون خوف، وزير خارجية أدرك أن المسئولية في الحكم متضامنة شاملة، و أن العار الذي يدنس أحد أطراف النظام الحاكم يمس كل أفراده، فكلهم مسئول، وزير خارجية يا دكتور أسامة الباز.. ويا دكتور عمرو موسى أيضا، وزير خارجية رفض امتهان كرامة إنسان ولو كان قاتلا .. ولو كان المقتول ضابط شرطة..
وإزاء موقف وزير العدل ووزير الخارجية اللذان رفضا المساومة في حقوق الإنسان رفضهما المساومة على شرفهما الشخصي، الوزيران اللذان لم يستجيبا حتى لوساطة الملك، اضطر الجلاد إلى إعادة تشكيل الوزارة وإخراجهما معا من الوزارة الجديدة..
وراح الطاغية يحاول أن يثبّت أركان حكمه الذي اهتز بعنف إزاء ما حدث.. لكنه إزاء المجهود العنيف والتوتر البالغ سقط مصابا بالشلل النصفي.. ليسقط بالوزارة كلها بعد ذلك..
يا سيادة الرئيس: لقد كان أحمد جعيدي قاتلا لضابط شرطة، ورغم ذلك سقطت بسبب تعذيبه الوزارة كلها وتغير نظام الحكم، والملك فؤاد لم يشأ أن يصمه التاريخ بالتستر على تعذيب ..
ولقد ذكرت في هذه المقالات أسماء أبرياء، فعل بهم أسوأ مما فعل بأحمد جعيدي مئات المرات..
لا سلامتك - رغم أنها مطلب مشروع - ولا استمرارية النظام - الذي ندعو الله ونحاول بالقانون أن تنقطع - يا سيادة الرئيس كانتا تقتضيان ذلك، فبالعدل لا بالظلم يؤمّن الحكم ..
حتى الفرعون رع مس سو " رمسيس الثالث " عندما تعرض لمؤامرة أصيب فيها إصابة كبرى كادت تقضي على حياته جاء في أمره لتشكيل المحكمة التي أمرها بمحاكمة محاولي اغتياله:" نحن رمسيس الثالث سيد هليوبوليس وملك الأرض قاطبة في الشمال والجنوب وسيد ما عليها من الناس والحيوان أقول :.... وعند قيامكم بهذه المهمة عليكم أن تبذلوا الدقة والعناية حتى لا توقعوا العقاب ظلما بمن لا يستحق العقاب.."..
لم أضرب لك الأمثال يا سيادة الرئيس بمثل ما فعله عمر وعلي رضي الله عنهما، وهما يريان قاتليهما يمشيان على الأرض فلا يستحلان حتى اعتقالهما توقيا للاغتيال، لم أضرب الأمثال بذلك، ولن أقص عليك تفاصيله رغم أنه حقي وواجبك..
هل أقص الآن عليك يا سيادة الرئيس ما يحدث في عهدك لمجرد الاشتباه، ما أوردته الكتب المنشورة لمنظمات حقوق الإنسان عما يحدث للمعتقلين في معسكرات الأمن المركزي، ما حدث مثله أو بعضه أو كله أو غيره، على سبيل المثال لا على سبيل الحصر دعني أسرد عليك ما حدث لأهالي قرية الكوم الأحمر، وهو بالمنطق أهون مما يحدث في لاظوغلي أو في السجون، خلاصة ما لدي من معلومات موثقة في كتب منشورة تقول:
قبل التعذيب توضع الغمامة على عيون الضحايا، ثم يجبرون على الجري بالضرب بالعصا فيسقطون على السلالم عدة مرات، وقبل دخول الغرفة المخصصة للتحقيق يجري ما يسمي ( تسخين الضحية ) للتعذيب بالضرب على القفا والوجه والإلية بالعصا وتستهدف أسئلة المحقق الحصول على المعلومات مع اللجوء إلى السب والتوبيخ والتهديد بهدف تحطيم المعنويات ثم يبدأ التعذيب بعد نزع ملابس الضحية، وتستخدم الأساليب التقليدية المعروفة في التعذيب من الضرب بالسياط والكابلات الكهربائية والتعليق في أوضاع مركبة من المعصمين لأعلى مع رفع القدمين قليلا عن الأرض، أو في وضع ( الشبح ) أو ( الذبيحة ) أو (الخروف المشوي) واستخدام الصدمات الكهربائية في أجزاء حساسة من الجسد كالخصية والأعضاء التناسلية واللسان وحلمتي الثدي وشحمة الأذنين ومقدمة الإصبع، فضلا عن نتف اللحية وشعر العانة، وغالبا ما يجري عقب جولات التعذيب أو ما بينها صب مياه ساخنة على جسد الضحية ثم إجباره على الوقوف عاريا أمام مروحة أو تيار هوائي..
 تستخدم أيضا كهربة المياه كوسيلة في التعذيب وذلك بوضع الضحية عاريا في حجرة مغطاة بالمياه بارتفاع حوالي خمسة سنتيمترات بحيث تغمر أقدامه، ثم توصل المياه بالكهرباء، فتسري الكهرباء في جسد الضحية المبتل، فيقفز لأعلي ليسحب قدميه من المياه لكنه سرعان ما يهبط، ليصعق مرة أخرى، وهكذا دواليك حتى يفقد اتزانه بفعل الكهرباء والإرهاق فيسقط بجسده كاملا في المياه فيصاب برعشات متتالية فيقطعون الكهرباء، ثم يجبرون الضحية على الوقوف مرة أخرى، لتتكرر دورة التعذيب..
ولكي لا يتعرف الضحية على المكان الذي يعذب فيه فيما بعد يعمدون أحيانا إلى إيهامه بعلامات مختلفة في الطريق بعد تعصيب عينيه، فيوهمونه أن أمامه سلك شائك يجب عليه أن يحني رأسه ليتفاداه، ثم يجبر على المرور في بركة مياه، ثم يستقل عربة تجوب به داخل المعسكر نحو نصف ساعة لتضليله وإيهامه بأنه خارج المعسكر..
من الوسائل الشائعة أيضا في التعذيب: ( المرتبة الكهربائية ) وهي عبارة عن مرتبة من الإسفنج مبللة بالماء يربط بها الضحية ثم توصل بها الكهرباء فتسري في جسده..
كما تستخدم المياه المثلجة في التعذيب خاصة في الشتاء القارس حيث تصب على جسد الضحية ورأسه بعد تعرضه لجرعات مطولة من التعذيب لفترة قد تصل إلى 8 ساعات وعقب التعذيب يودع الضحية في زنازين الحبس الإنفرادي بعيدا عن بقية المعتقلين لإدخال الرعب على الضحية الذي يكون بمعزل عن الجميع، ومن ناحية أخرى فإن طول غيابه يزيد من مخاوف زملائه المعتقلين الذين يجهلون مصيره ..
ومن وسائل التعذيب التي استخدمت في بعض المعسكرات تجريد الرهائن من زوجات الهاربين من ملابسهن، ووضعهن عراة مع متهمين عراة داخل حجرة مغلقة..
***
هل قرأت يا سيادة الرئيس، يا دكتور عمرو موسى، يا دكتور أسامة الباز، يا شيخ الأزهر، هل قرأتم؟...
أما من واحد، واحد فقط قرر الاستقالة احتجاجا..
آلة الشيطان هذه لم تكن مجردة لحماية سيادة الرئيس ولا النظام، ففي أحداث قرية الكوم الأحمر على سبيل المثال - المثال لا الحصر كيلا أفاجأ برد كرد سيادة النائب العام  يقول أن الأحداث انتهت بحكم بالبراءة للجميع - توصلت المحكمة للتصور الصحيح للحادث وهو أن الأمر لا يعدو مشادة عادية حدثت بين ركاب السيارة الملاكي ومعهم الضابط النقيب نصر إبراهيم، والسيارة الأجرة التي يركبها مواطنون ليس معهم ضابط شرطة.. ولولا الغطرسة التي أصابت ركاب السيارة الملاكي وبصحبتهم هذا الضابط لكان من الممكن أن يمر الأمر مرورا عاديا.. لقد تساءلت المحكمة: ألم تصل إلى مسامع الشرطة صرخة المتهم الثامن وهبه كامل جمعه والأربعة عشر فردا من أسرته والذين يعولهم وبعدما أصبحوا دون عائل..
وذكرت حيثيات الحكم أن المحكمة ما كانت تتمنى أن تعرض عليها مثل هذه القضية أو غيرها التي تكون فيها كرامة المواطنين وحقوقهم في كفة وهيبة الشرطة في الكفة الأخرى، وأنه في جميع الأحوال لابد أن يسود حكم القانون، ولا تتردد المحكمة في إعطاء الحق لأصحابه، وفي هذه القضية كان الحق والقانون في جانب المتهمين، لقد اكتفت وزارة الداخلية باعتذار للأهالي للتنازل عن الدعوى، الأهالي هم الذين اعتذروا وليس وزارة الداخلية، لكن القضاء الشامخ الجليل أبى إلا أن يدين ما حدث: " و إذا كان ما حدث هو أن وزارة الداخلية وأجهزتها اكتفت بمجرد اعتذار من الأهالي والمحامين فلماذا حدث كل ما جرى وما مبرره؟. هل لأن حملة التأديب قد أنتجت ثمارها وأتت أكلها من وجهة نظر الشرطة بعد البطش بالبلدة وأهاليها رجالا ونساء وبعدما حاق بالبلدة وأهليها من قهر وبطش، فأرادت أن تضيف إليهم مهانة الاعتذار وذل سؤال الصلح والغفران من جرم لم يرتكبوه حتى يكونوا عظة وعبرة لغيرهم من المواطنين الذين تسول لهم أنفسهم أن يجأروا بالشكوى ممن ظلمهم ونالوا على يديه تنكيلا واضطهادا" ..
هكذا قالت المحكمة يا سيادة الرئيس في حيثيات حكمها الذي صدر ببريء جميع المتهمين، أو على الأحرى جميع الضحايا، فاسمح لي أن أتساءل: هل أحالت النيابة إلى المحاكمة الطرف الجاني، الطرف الذي لم يكن الحق في صفه، وهل حققت فيما حدث لأهل القرية من تعذيب، وهل نال المجرم جزاءه..
سيادة الرئيس: هل تريد جملة واحدة تجمع لك أسباب كل ما يطلقون عليه كلمة الإرهاب، جملة تجعلك لا تستنكر المدى الذي بلغه الإرهاب بل تندهش لأنه لم يعمّ الوطن كله، جملة تجعلك تدرك ما أحس به وما يحس به غيري من أن أي ادعاء بالقضاء على الإرهاب هو محض زيف، فهو رابض وكامن طالما لم نجتث بالدين و القانون والعقل والضمير ونظام الحكم القوي العادل الإسلامي أسبابه، كامن ليكون انفجاره بعد حين أقوى: إليك بهذه الجملة يا سيادة الرئيس :
إنني لو كنت مكان أحمد جعيدي، وفعل بي المأمور ما فعله فيه، لقتلته أنا أيضا ..
يا سيادة الرئيس: ربما يستطيع حتى الآن محبي جمال عبد الناصر و أنور السادات الادعاء بأن الرئيس أيامها لم يكن يعرف بتفاصيل ما يحدث في المعتقلات، وهو ادعاء لا نستطيع التعليق عليه إلا ببيت الشعر الشهير :
إن كان يدري فتلك مصيبة 000 و إن كان لا يدري فالمصيبة أعظم
ولكن محبيك يا سيادة الرئيس لن يستطيعوا استعمال هذا الادعاء الباطل بعدك، فنحن نشهد أن عهدك قد حفل بنوع من الحرية، يتميز به عن سابقيه، حتى لو قال البعض أنها حرية الصراخ، حرية: سندعكم تقولون ما تشاءون فدعونا نفعل ما نشاء، وهذه الحرية تجعل تفاصيل التعذيب أمامك واضحة جلية يضج منها شعبك ويرتاع منها العالم وترددها وسائل إعلامه، و سوف يحين يوم بعدك تنفجر الأسئلة فيه كالنزيف وتنهمر كالسيل وتشتعل كالنار عن حجم التعذيب في عهدك مقارنا بالعهود الأخرى، عن قسوته وبشاعته مقارنا بالعهود الأخرى، عن الأعداد مقارنة بالعهود الأخرى، عمن قتلوا في عهدك من رجالك أو من شعبك لا يعلم إلا الله من منهم في الجنة ومن في النار، عن عدد من أعدموا وروّعوا واتّخذوا رهائن، هذا فضلا عن آلاف الأسئلة الأخرى..
هل تعتقد أن الإجابات سوف تكون في صالح عهدك يا سيادة الرئيس..
دعني أقولها لك فإنني والله واحد من قلة يصدقونك القول، دعني أقولها لك فقد تغير فيك أمرا فتكون وجاء لك من النار يوم القيامة، دعني أقولها لك حين يمكن أن تنفع بدلا من أن يقولها الملايين للتاريخ ولات ساعة ندم، فدعني أقولها لك عبر هذه القصة المحزنة :
لقد مكثت طويلا أرقب تساؤلا يثار كل آن وآخر، كان التساؤل يقول: في ضوء المحصلة النهائية هل كان من الأفضل أن تقوم ثورة 32 يوليو 1952، أم كان الأفضل أن يستمر النظام القديم بكل عيوبه ليتم التطور الطبيعي من خلاله؟.. منذ أربعين عاما كان النظر إلى من يثير هذا السؤال يشبه النظر إلى مهرطق زنديق، منذ ثلاثين عاما تحولت الإدانة المطلقة ونفي الآخر إلى إدانة نسبية وثقة تداري شروخها بازدراء السائل، و أعطونا الفرصة وسوف ترون، منذ عشرين عاما تحول موقف الإدانة والهجوم إلى موقف تبرير ودفاع و إلقاء اللائمة على الظروف المعاكسة والآخرين، منذ عشرة أعوام تحول الدفاع والتبرير إلى صمت وذهول، الآن يا سيادة الرئيس، بعد كل ما حدث وكل ما يحدث، لم يكن هناك سائل ومجيب، انكفأنا على نفوسنا، انفصمنا وانقسمنا، و أمسى السائل هو المجيب، كنت أحادث ضابطا من الضباط الأحرار الذين ضحوا ذات يوم بأرواحهم من أجل الثورة، وكان الرجل عظيما في حزنه جليلا في أساه وهو يقول:
لقد بكيت طويلا لأنني شاركت في الثورة التي وصلت بالوطن والأمة والنظام إلى ما صاروا عليه، ليتني ما شاركت فيها، ليتنا ما قمنا بها..
رحت يا سيادة الرئيس أواسي الرجل، ترددت في مسامعي أصداء عزف ناي حزين وكبحت دمعة، تخايلت لمرآي صورة التاريخ - وقد تجسد - تنزف، أحسست بجزء من قلبي يموت، وبعيني وقد أصابها البوار تنزع، وبطرف من أطرافي وقد استشرى فيه السرطان والعفن ولم يعد - بموافقتي ورضاي - مناص من بتره، كان قلبي ينزف مع قلب الرجل وهو ينزف، لكنني لم أقل له أنني أتخيل الأمة كلها تفعل بنفسها ما يفعله بعض الشيعة بأنفسهم في عاشوراء من جلد وتعذيب للجسد وصرخات ندم، في ذكرى كربلاء، ورحت يا سيادة الرئيس أنادم الألم.. في كرب و بلاء ..



أيحسب أن لن يقدر عليه أحد


لم أشهد ما حدث  أخيرا، رواه لي الثقاة، حين جاء أحدهم مرتعبا مذهولا يقول وهو يرتجف:
- لقد رفض الرئيس رد قانون  الصحفيين إلى مجلس الشعب، ولقد بدا في التليفزيون معتدا بنفسه، صارما حادا باترا، بالغ القوة، مخيفا.  
ثم أردف قائلا بعد صمت متوتر:
- تذكرت السادات بعد قرارات سبتمبر..  نفس القوة  والثقة والعنف..   
أفعمتني المرارة، وغبت عن حديث الصديق في خضم من الذكريات علقميّ المذاق، أنا المقهور، العاجز، حزين القلب، منكسر النفس، منعدم الحيلة، فاقد القدرة على التواصل معك  يا سيادة الرئيس، العاجز - رغم محاولاتي - عن فهمك أو أن أجعلك - رغم أملى فيك - تفهمني  لم يروعني هاجس السادات فقط، فثمة ثقة أخرى، كانت جبارة ماحقة مطلقة، تلك التي كانت تبدو على وجه عبد الحكيم عامر وقادة الفرق قبيل الهزيمة الساحقة المروعة، عام 1967، والتي ظننت من حينها أن مصر قد تعلمت الدرس أبد الدهر، وأنها لن تسمح مرة أخرى بكبت رأى مهما كان  تجاوزه، ولا بالخوف من شخص  مهما كان جبروته، و أنها  إن  عاقبت، ستعاقب ذلك الذي يخفي رأيه، كي لا يحدث للأمة مرة أخرى كارثة مروعة مذلة ومهينة كهزيمة 1967، والتي كنت أنت يا سيادة الرئيس واحدا ممن مسحوا عنا جزءا من عارها، و  إن  لم نستطع  حتى اليوم أن نمحو آثارها ..
لست بمدع أن حبي لك في  بدايات حكمك كان جليا، ولم أكن  حينئذ ولم يكن معظم المصريين ينتظرون منك الكثير، لذلك لم نغامر بالإفراط في الأمل فيك، فقد كان موت الأمل قد بات عندنا أقسى من ألم الموت، لذلك لم نغامر، لكننا أيامها  أحسسنا بأنك منا، مصري عفيف طيب بسيط نزيه زاهد عازف عن السلطة، يعرف أن الكفن ليس له جيوب، كنت أرى في  السادات "يزيد" فتمنيت أن تفعل مثلما فعل معاوية الثاني حين استخلف بعده، فرفض الخلافة مقرا بأن بني أمية قد اغتصبوا الحق من أهله وليسوا له بأهل، ورحت - في  خيالي - أستحثك كي تقدم لأمتك يدا ستذكرك بها أبد الدهر، بأن تنهي حكم العسكريين لمصر، ليتولاه مدنيون يكون الحوار معهم بالأفكار والحوار والكلمات لا بالسياط والرصاص والمعتقلات واللكمات، وعندما لم تفعل ذلك يا سيادة الرئيس، لم أسارع علي لومك، فقد كنت واثقا كما لو أنك وعدتني، من أنك ستتولى الحكم أعواما قليلة، عامين مثلا، أو ثلاثة أعوام على الأكثر، توقف فيها الانهيار، وتتصدى للفساد، وتلغي القوانين السيئة السمعة، المسيئة إلى نظام الحكم، ستدرك الجيش، درعنا وحصننا وملاذنا، وأنك لن تسمح أبدا أن تتسع الهوة بينه وبين جيش أعدائنا، خاصة، أنك توليت المسئولية وهو لا يقل عن الجيش الإسرائيلي قوة، بل لقد قلتم لنا أنه أقوى، قلت لنفسي أيضا، أنك وقد ظللت الرجل الثاني على القمة أعواما، تدرك غوايات السلطة، وكم تفسد، وكم تحوّل الأتباع والخدم والحاشية إلى فاسدين ومفسدين، بل والأشقاء والأبناء  والأصهار أيضا، و قلت لنفسي أنك لن تسمح أبدا أن يحدث في عهدك مثل ذلك، وأيامها، أيد وجهة نظري تلك، ما رحت تؤكد عليه، أنك عازم ومصمم على الاكتفاء بفترة واحدة في الحكم.
وعندما أحلت آل السادات إلى المحاكمة بذات القوانين التي ابتدعها سيدهم لحمايتهم، هتفت في  أعماقي: لا إله إلا الله سبحانه، يمهل ولا يهمل، وكنت واثقا من أنك وعيت الدرس كما وعته الأمة، وكان يسعدني، ويدغدغ مشاعري، أنك وقد وعيته لا يمكن أن تقع فيه، كنت واثقا أيضا من أنك قد وضعت على عاتقك، وأقسمت بينك وبين نفسك، أن تطهر البلاد من الفساد ومن البذاءة والكذب، أن تقضي على الرشاوى، واستغلال السلطة والعمولات وإهدار المال العام التي راحت تنهش في  جسد الوطن كما يأكل الصدأ الحديد..
ورحت أمنّي النفس بعهد زاهر، وأتخيل أن تقوم في  بلادنا بين يديك أول انتخابات غير مزورة طيلة العهود الأخيرة، فأنت لابد قد أدركت، أن تزوير الانتخابات هو الخطيئة الكبرى، وهو العار، والسبيل إلى كل المفاسد، وأن مزور الانتخابات والساكت عنها، أشد سوءا من الديوث الداعر، لأن أثر إثم الديوث الداعر عائد عليه، بينما أثر تزوير الانتخابات اغتصاب للأمة بأسرها، كنت واثقا أنك في  ظلال السلطة، قبل أن تتولاها، رحت ترقب وتدرك المتناقضات، وكنت أتخيل أنك رحت مثلي كي تطفئ الضريم المتأجج داخلك حزنا وغضبا واعتراضا على ما يحدث للوطن، أنك رحت تقرأ نفس الكتب التي طفقنا في ذلك الوقت نقرأها، تلمسا لعزاء عزّ، أو أملا في أن تفسر لنا  بعضا من سبب الكابوس الذي نعيشه.
رحت تقرأ مثلا قول نابليون: " إنني أرهب صرير الأقلام أكثر مما أرهب دوي المدافع "، ولعلك قلت لنفسك مثلما قلت لنفسي أنه لا يخشى حرية الصحافة إلا الطغاة الجبارين الذين يوردون أممهم موارد التهلكة، ولعلك رددت على مقولة نابليون بمقولة جيفرسون:  " إنني أفضل أن أعيش في  بلد ليس فيه قانون وفيه صحافة حرة على أن أعيش في  بلد ليس فيه صحافة حرة وفيه قانون"..
قلت لنفسي أنك لابد مؤمن بأن الصحافة الحرة هي حارس الدستور، فإذا اختفي الحارس امتلأ الدستور باللصوص،  وأنه لا يلجأ إلى قمعها إلا أنظمة فشلت في  تقديم رغيف الخبز والكرامة فتلجأ إلى حرمان الإنسان من الصراخ بأنه مظلوم و جائع، كنت واثقا يا سيادة الرئيس أنك ضد نظرية الصحافة السلطوية، التي ترى أن الشعب مخلوق تابع لسيطرة الحكام الذين يتمتعون بحق إلهي مقدس يعطيهم الحق في التحكم والاستبداد بالعمل الإعلامي للمحافظة على الوضع الراهن والقيادة السياسية في  البلاد التي ترتكز الصبغة القانونية للحكم فيها على جند كثيف من الشرطة واحتياطي هائل من الجيش لقمع أي محاولة سلمية لتغيير النظام، وفي وضع كهذا، يصبح الرئيس أو الملك  هو رئيس التحرير الفعلي في صحف الدولة، وهو المسئول الأول عن كل عمل وكل قانون وكل قرار، وكل أجهزة الدولة ومؤسساتها ليست إلا عرائس ودمى يعبث بها ما شاء له الهوى ويحركها كيفما شاء ت إرادته..
كنت أعلم بصورة ما أن الرئيس يدرك أن الصحيفة ليست ورقة تقرأ ثم تطوى، ولا هي أبنية ومطابع، وإنما هي أولا وأخيرا - على حد قول  د. جيهان المكاوي في كتابها:حرية الفرد و حرية الصحافة:الهيئة المصرية العامة للكتاب - قصة كفاح بين السطور لتحويل المعاني المضطرمة في قلب الكاتب وعقله إلى حروف، ثم لتحويل هذه الحروف في ذهن القارئ مرة أخرى إلى معاني مضطرمة تصوغ وجدانه..
كنت واثقا أن الرئيس سيدعم حرية الصحافة لا طبقا لاقتناعاته الشخصية أو اقتناعات المحيطين به، بل طبقا للمعايير الدولية التي توردها المعاهد الدولية المتخصصة في الصحافة، مثل المعهد الدولي في زيورخ،  لم أشك - أيامها - أنك يا سيادة الرئيس تعلم أن الدكتاتورية ليست أقل خطرا من الإرهاب والفوضوية، وأنه لا سبيل لقطع الطريق على الدكتاتورية سوى حرية الصحافة، ذلك أن القانون في  المجتمعات الديموقراطية خادم للحرية بينما هو في المجتمعات الدكتاتورية  سيف مسلط عليها، تدعمه صحافة خائنة تتفادى ذكر الحقائق أو  تذكر أنصاف الحقائق أو أكاذيب فاضحة، وكنت واثقا يا سيادة الرئيس أنك تدرك أن دور الصحافة الحرة - وصحافة المعارضة على وجه خاص - هو دور المفتش العام الذي يراقب أعمال المؤسسات الأخرى لكشف انحرافاتها وتقويمها، وأنك لن تسمح أبدا بصحافة خئونة لا تجرؤ على القيام بدورها خوفا من تدعيم السلطة للمنحرفين القادرين على إيذاء الصحافة والصحفيين بل واستصدار القوانين لقمع الكتّاب وإغلاق الصحف، وكنت أدرك  يا سيادة الرئيس أن الوضع في  بلادنا وضع خاص، حيث حضارة الماضي العريقة وانحطاط الحاضر، فكل فئة من الفئات تستطيع أن تجد في  الماضي مثلا أعلى وقيما معيارية ونوعا من الخبرة السابقة ما عدا الصحفيين، وذلك خطير، لأنه إذا انحرف أطباء اليوم ومهندسوه فإن أطباء ومهندسي الأجيال القادمة سيجدون في  الماضي جذورا أما صحفيي المستقبل فلن يجدوا جذورا إلا في  الصحفيين الحاليين، ومن هنا تأتى خطورة محاصرتهم، دفعهم إلى الذل والجبن والخنوع والنفاق إيثارا للسلامة..
وكنت  يا سيادة الرئيس واثقا أنك لن تسمح أن تكون الصفوة المثقفة من الصحفيين الشرفاء معزولة، فهي محرومة من القبول الاجتماعي من الجماهير لأنها لا تؤثر على القرار إن  كتبت أو تحدثت، ومن ناحية أخرى لا تظفر بثقة حكومات ومؤسسات يديرها أفراد لا يتمتعون بالكفاءة والنزاهة..
كنت على يقين من أنك تدرك أن الحرية ألزم للصحافة من الحبر والورق، وهي بدونهما مجرد حبر وورق، وأنها - حين تكون حرة - هي المعبر الحقيقي عن رأي الأمة، الذي يظل، حين لا يجدها، ينتظر الثورة أو تغيير الحاكم، ليتحول إلى رأي عام سلبي خاضع غير قادر على التعبير عن وجهات نظره تجاه مصالحه الأساسية..
ولابد أنك تعرف يا سيادة الرئيس أنه حتى ميكيافيللي نفسه قد تراجع عن رأيه بحكم الفرد المطلق الذي نادى به في  كتابه " الأمير" ليقرر في  كتابه "المحاضرات" أنه من أنصار الحرية وسيادة الشعب. ربما أدرك أن منع الحوار والحرية والنقد اغتيال للصالح العام ولمصالح الأمة، وأن عاقبة ذلك الحتمية، هي الثورة كأسلوب عنيف للتعبير عن الرأي العام حين يرسخ في  ضمير الناس أنه لا جدوى من الكلمات، حين يكون الحكام في  واد ومصالح الأمة والوطن في  واد آخر كما يقول الدكتور سعيد سراج في كتابه" الرأي العام"  وحين رحت يا سيادة الرئيس تكتشف سلبية المواطنين، حسبت أنك قد عرفت أسبابها وجذورها لا مجرد ظواهرها، فحين يسود القهر والتسلط وتفرض القيود على الحريات ويعجز الشعب عن التعبير عن وجهة نظره، تتفشى السلبية والاستهتار بين صفوف المواطنين، ويكون ذلك مظهرا من مظاهر رفض الأمة للنظام التسلطي، للحاكم الملك الرئيس الأمير الخليفة الذي يسعى إلى خلق رأي عام مزيف موال لحكمة، يسعى إلى خلقه ثم فرضه على أمته بادعاء أنه يمثل الإرادة الحقيقية لأغلبية الشعب..
وكنت أدرك أنك لابد تدرك أنه كلما تعطش الجمهور إلى الأخبار لحبسها عنه كلما راجت  الشائعات، ورحت أمني نفسي أنك عندما كنت نائب رئيس قد قرأت كثيرا في  مختلف فروع العلم والثقافة، ولابد أن يكون مما قرأته توصيف علم الاجتماع السياسي لأنواع الحكام، الذين يسوسون الأمم، بل و أنك لا بد قد أعملت قريحتك وذهنك المتقد لكي تضيف إلى القائمة الطويلة أنماطا أخرى من الرؤساء والملوك، فمنهم:
 الزعيم: وهو الأب الروحي للشعب، باق في أذهان الجماهير عبر السنين بغض النظر عن وجوده علي مقعد الحكم أم لا، أو حتى حياته وموته.
القائد: درجة أقل من الزعيم، يحتاج إليه الشعب وقت الأزمة ليخرجه منها.
    الموظف: لا يترك أي أثر في  البلاد، شخص عادي ليس زعيما ولا قائدا، كل صفاته أنه يملك الأغلبية - التي قد تكون مزورة - التي أوصلته إلى الحكم، إنه ليس إلا مديرا للبلاد.
التابع: إنه أقل حتى من مدير كفء للبلاد،  وصل على منصبه بالتعود دائما علي أن ينفذ أوامر رئيسه دون اعتراض، دون إبداء رأي، فقد القدرة على تكوين رأى مستقل، وعندما يتولى هذا التابع شئون البلاد متقلدا منصب الرجل الأول يصبح خطرا، إنه يظل دائما يبحث في خياله عن رئيس،  وفي الدول الديموقراطية تقوم المؤسسات بدور هذا الرئيس، أما في الدول الدكتاتورية فإنه يبحث عن رئيس له في الخارج، حتى لو كان عدوا للبلاد، يلبى أوامره، ويطيع تعليماته وينفذ مخططاته، ويكون مقياسه الوحيد في  النجاح ليس رأي شعبه فيه ولا إنجازاته لوطنه بل تقدير رئيسه الجديد، الأجنبي، ذلك التقدير الذي يزداد كلما فرط في حقوق شعبه.
 اللص: وهو أشد سوءا من رؤساء العصابات، فهو يملك الجيش والشرطة، ورجال الدين، والإعلام، قادر على أن يستر كل جرائمه، وأن يبطش بكل من يردد ما تنشره وسائل الإعلام في  الخارج عن فساده، عن نهبه للمال العام وتخريب الاقتصاد.
***
كنت أتخيل يا سيادة الرئيس، عندما كنت نائبا للرئيس أنك رحت تعبّ من القراءة عبا، لتعرف الكثير عن نفسية الرئيس، لا السادات فقط، بل كل الرؤساء في العالم، وأنه لابد أن يكون ضمن ما قرأت كتاب: "قطاع البطولة والنرجسية في الذات العربية للدكتور على زيعور - دار الطليعة بيروت". ولابد أنك قد انبهرت به كما انبهرت، وأنت تتابعه وهو يشرّح ذاتنا  العربية، متابعا نفسية الرئيس في جذورها الأولى، في شيخ البلد أوالعمدة  أو شيخ القرية، حين يسير ليلا، وأمامه حامل القنديل وحوله دراويشه وأتباعه المطيبون، كلما نطق الشيخ كلمة هتفوا:"أحسنت"، حين تكون لذة الشيخ والدرويش معا في الطاعة العمياء والرضوخ الأكثر، ولابد أنك رحت تتابع المؤلف وهو يحاول التعرف على شخصية الرئيس، انفعالاته الواعية واللاواعية، أن تدرسه، تقرأ مشيته، استعماله ليديه،أقواله وأفعاله، صوره في الصحف والمجلات والتلفزيون، ثيابه، طعامه، ابتسامته، تحياته، ملامح وجهه وانفعالاته، نوع العلاقة التي يقيمها مع أعوانه المقربين، مع المحكومين عموما، العلاقة في سلوكه بين القول والتنفيذ، المثال والواقع، تعامله مع القوى مع الضعيف، صوته الذي يلقى به الخطب، حين تسعى وسائل إعلامه باستخدام الأجهزة إلى أن يكون صوته يقرع كالسياط، ضخم أجش عال غليظ، فذلك يترجم في  تراث اللاوعي إلى الرجل القوى القادر الخارق،  ويغطى الرئيس بذلك على عجزه وعلى فشله.
  ثم  إن  الإذاعة والتلفزيون يكرران خطاباته دونما ملل، نظرا لما فيها من فوائد للشعب، وتنوير للأمة، ثم تنشر الصحف كل ذلك وتعيد نشر مقاطع منها نظرا لأهمية المحتوى اجتماعيا ووطنيا وقوميا وبشريا، بل  إن  الصحف تنشر أن خطب سيادته تتصدر الصحف الأجنبية، ونشرات الأخبار ويواكب ذلك كله، تصفيق حاد، استجلاب للإعجاب بالإكراه والإيحاء والحيلة واللا منطق،  وهو في  خطبه، مصطنع للمترادف، طنطنة وجعجعة وتطويل وإطالة، واستعمال اليد والإشارة والصوت استعمالا تهويليا،
ولابد أنك يا سيادة الرئيس دهشت - مثلي - من قراءة د. على زيعور، ولابد أنك واصلت بعد دهشتك القراءة: إن  الرئيس لا يمرض، وهو طويل العمر، عافاه الله، إن  تعبه لا يكون بسبب عوارض الدنيا ولكن بسبب سهرة على راحة المواطنين، إنه يمشي في  خيلاء، يلقي التحية باستمرار حتى لو لم يكن هناك أناس، ثم  إن  له صورا متعددة، يأخذ الحجم المناسب في  الوقت المناسب، وتكون الصور ضاحكة ومتجهمة، واعدة ومهددة، باسطة اليد دامغة الجبين، عزيزة مرهوبة، على الطوابع البريدية واللافتات والجدران، في  الصحف والتليفزيون، وهذا الشبق الذاتي يتوازى مع العهر السياسي، ومع عهر الذات إزاء الذات، عنها دعارة فكرية وعوارض خصاء ذهني .
ثم يتحدث د  علي زيعور عن معاملة الرئيس لخصومه:
الآخرون أشرار ملاعين مشبوهون، مشهرون وزمرة ومجرمون وهم الـ :ما يسمى ، إنه لا يذكر اسم العدو الداخلي إلا بنعت كريه يمجه الإنسان الدهمائي، تغطيه كلامية يقينية إطلاقية، وإزاء ذلك العدو يصبح الوطن هو الرئيس، فالوطن العزيز والوطن الشريف وعنوانه الحرية والكرامة والعزة والرفعة، وبمدح الوطن هنا يمدح الرئيس نفسه، فهو رمز الوطن .
و عندما يهاجم خصمه نلحظ أن الرئيس يتكلم بلسان الجماعة في تقديم الخصم عدوا لتلك الجماعة وللوطن والأمة والإنسانية، لا يؤخذ الخصم على أنه معاد للرئيس وللوطن فقط، بل على أنه محاول لاغتصاب الثروة والسعادة واللقمة والأمن من أفواه الجماهير، ودائما يكون الخصم ماكرا وسافلا ولئيما وخائنا ولصا ويكون هدفه زعزعة الجبهة الداخلية والوحدة الوطنية من جانب عناصر الفتنة وأهل البدعة والكفرة، إن  أولئك الخصوم سفلة متعاملون مع دول أجنبية، ومعنى تعاملهم مع دول أجنبية إيحاء للناس بالاحتماء بالوحدة الوطنية، والالتفاف حول السلطة القائمة لإحباط التآمر والفتنة والكرب والغمة والهدم، إنه يحتمي بوحدة الأمة، إنها تنفير من المعارض وجذب إلى ولي الأمر، في  دفاع عن الذات،  ويرى الرئيس بعد ذلك أن على الشعب أن يطيع، بل أن يذهب إلى ما بعد الطاعة، إلى التفاني والإخلاص في  سبيل القائد البطل المنقذ.
وهذه العلاقة بين الرئيس - الملك والشعب هي علاقة غير متوازنة، فهي ليست مخلخلة لصالح الرئيس فقط، ففوق ذلك أيضا هي غير معقولة، يطلب أن يحبوه، يحترموه، أن يقبلوا به وأن يكرهوا خصومه، أن يؤمنوا بأقواله ووعوده وأن يتبنوا نظرته للوجود ولله وللسلطة، فكأن نوعا من السادية الذهنية موجودة عند الرئيس، يطلب اللذة في  إكراه الآخرين على إقامة علاقة جيدة معه.
ثم يواصل د. علي زيعور حديثه عن علاقة الرئيس بالقوى المختلفة:
علاقة الرئيس بالجيش غير متزنة، فالجيش صديق وعدو، حام وغول، رغبة ورهبة، إن  مصدر الأمن هو نفسه مصدر القلق، ويترتب على ذلك ثنائية متناقضة: تعزيز الجيش ونزع الذخيرة منه، يعيّن قادة مخلصين، والكفاءة والإخلاص قل أن يجتمعا،  في  كل من رؤسائنا حجاج قابع أو وحش رابض، دائم الاستعداد للقفز والانقضاض، جاهز باستمرار لشك مخالبه في  الفريسة، إن  ذلك التوتر الذي يشكو منه الرئيس هو عصابة الذي يبقه مشدودا.
أما عن العلاقة  مع الأجنبي :لأن الأجنبي أقوى وأكثر تقدما، فإن  ذلك يترسب في  وعي الرئيس ولا وعيه، وذلك التسلط والإكراه للأجنبي عليه وعلى وطنه يخلقان التوتر عند الرئيس،  تخلخل استقراره، تفقده الشعور بالرضا والكرامة ح وكي يستعيد الرئيس التوازن فإنه يتشبه بقاهره،  وهكذا يظهر الرئيس قويا متسلطا عنيفا،  لكن على الضعفاء في  شعبه، على خصومه الداخليين، إن الكلمات الرنانة والصوت الفخيم وعشرات الأحاديث للإذاعة والتليفزيون والصحافة تدل كلها على انشطار وعجز داخلي وواقع أليم وانهزام، إنها رد على إحباط،  تكييف تعويضي سلبي ملتو مع مشكلة الرئيس، وهي تكشف عن عدم توازنه وتتكشف طرقه اللا واعية في  توفير السعادة  لنفسه، إنه يقلد الأدوار، يجرحه الأجنبي ويستهين به  فيجد العزاء والتعويض في  أن يجرح من هم أضعف منه  من بني وطنه،  إنه ينتقم لنفسه بأن يقسو عليهم إنه يختزل الواقع إلى كلمات، والشعب إلى خادم مطيع،  رئيسنا - هكذا في النص -  يزين الواقع لينسى العجز ويغطي الفشل،  يحل وهميا كي ينتفع للحظة من المديح، يضخم كي يعزينا، ويكذب كي يهرب.
و يحيط بمثل هذا الرئيس نخبة كاتبة مطيعة، فتخلق أوهاما وتمحو حقائق، تطمس وتزور، وهم مزيفون أو مخلصون يؤمّنون له حقه، أو يؤمنون له التغطية لما مضى والتبرير لما سيأتي أو سيفعله، إنهم يفعلون ذلك بروح الحماس المتقد، بتوقد وتوهج، ويكون الصدق قليلا وطلب ثقة الناس بالباطل للبطل كثيرا، ومن السهل على تلك الفئة تبرير الشيء ونقيضه سويا، ومن السهل أيضا انتقال تلك الفئة من بلاط رئيس إلى بلاط عدوه إذا تقلد الحكم، أو من أفكار معسكر  إلى مواقف مناقضة تماما.
و إلى جانب هؤلاء نجد القابلين بالأمر الواقع والمسوغين له، يرتضون الظلم والقهر والحيف والظلم تحت وطأة الخوف من قدوم الأسوأ، أو من الانقسام في  جسد الأمة،  ثم  أن الرئيس وقد أحيط بكل هؤلاء ضعيف الحس بالواقع، لا يرى. لا يستطيع بل ولا يود أن يرى الواقع، لا يقبل أن يعرف أن الوقائع تجرى لا كما يود، بل وفق قوانين ترتبط فيها المقدمات بالأسباب  بالنتائج، إن الأكثرية لا توافقه في فيمحوها، والديموقراطية تناقشه فيسجنها والحرية نور فيطفئها، يواكب هذا كله عملية غسل مخ منظمة بالكذب، تعمل الأجهزة على إحداث النسيان لحالات معينة وعلى توليد تذكرات جديدة، العمل على خلق ذاكرة جماعية تقدس الرئيس، لا تكتفي بمجرد قبوله، فالتقديس مطلب ملح لأنه يلغي النبض والحس الواقعي، لا مجالس شيوخ ولا أمة ولا شعب ولا شورى وإنما مجلس الأتباع والمؤيدين.
وفي ظل مثل هذا الرئيس تكون الانتخابات معروفة النتائج سلفا، فهي تهدف إلى خدمة الرئيس،  وتكون للزينة والاستعراض وإشغال الناس والتغطية.
كنت أتخيلك يا سيادة الرئيس معي في كل هذا، تفهمه وتحسه لتتوقاه لا لتفعله.
وكنت أقرأ معك  أيضا كتاب الدكتور برهان غليون:مجتمع النخبة، حين يقول أنه أمام  فشلنا العظيم ينبغي أن ينفجر النقد الذاتي  قاسيا عاتيا وممزقا، فالنظام عندما يكون شرعيا منطقيا وأخلاقيا تكون المعارضة مساعدة له  على تعديل نفسه بتذكيره بعيوبه، ودفعه على تجاوز نقائصه، لكن كلما كان النظام غير شرعي وضعيف، تزداد خطورة المعارضة على النظام.
لطالما ساءلت نفسي عما إذا كانت تلك النماذج التي يتحدث عنها علماء الاجتماع والسياسة موجودة فعلا، أيوجد ملك أو رئيس له تلك الصفات ؟  كيف ؟ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ؟؟..
كنت واثقا يا سيادة الرئيس من أشياء كثيرة منها إيمانك وانتماؤك، وكانت مخيلتي ترسمك رابضا هناك  بحكمة من يعرف أنه سيتولى الحكم ذات يوم فيروح يرقب ويتأمل كي يتجنب الأخطاء عندما يحكم. ولقد وضعت نفسي مكانك وجعلتك تفكر بعقلي وتهفو إلى الكمال بروحي وكان قلبي ينبض مع قلبك ورحت أنت - أنا - ترى حاشية السلطان سفينة نوح فيها كل الحيوانات، فيها الأسد والكلب والأفعى ورأيت أنت - أنا - أن حسنة الطاغية أن يموت، وأن الذئب يبقى ذئبا وإن لم يأكل غنمك، وأنه ينبغي عليك - عليّ - أن تحذر كل الحذر الكلب الذي لا ينبح، وأن الصدق عز والباطل ذل، وأن من يعرف كثيرا ينم قليلا  ويأسى كثيرا، وأن الشجرة لا تقع من أول ضربة فأس، وأن الكلمة كالرصاصة حين تنطلق لا تعود، وأن الغضب عندما يتزوج الثأر ينجبان الشراسة، وأن الطرق إلى المصائب كثيرة، وأنها عندما تطرق الباب يكون الأصدقاء نياما، وأن الدماء حين تجرى، فحيث تجري لا تنمو شجرة النسيان، وأن العين ترى كل شيء إلا ذاتها، وأن القوة أو السلطة تقبل كالسحلفاه ثم تهرب كالغزال، وأن علامات السوط تزول وآثار القهر لا تزول، وأن من يخاف الله لا يخاف الإنسان، وأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، كنت واثقا يا سيادة الرئيس أنك قد أدركت - وأدركتم - أن لكل أول آخر، ولكل بداية نهاية، ولكل شمس مغرب، وأن الموت حين يأتي لا يستأذن، كنت واثقا من ذلك كله، وكنت بالأمل مفعما في ابتداء حكمك..
***
    
الآن:لا تسلني عما يؤلمني:بل عما لا يؤلمني -
***     
ثم مر بنا الزمن يا سيادة الرئيس، مر علينا، سحقنا..
وليست القوانين التي صدرت أخيرا[6] هي أخطر ما حدث، ولا أشد ما أعاتبك فيه، لكنها كانت هي القشة  وكنتم البعير الذي انقصم ظهره..
   ***

كالطعنة النجلاء في  صميم القلب يا سيادة الرئيس كان إحساسي بجملتين قلتهما أثناء حوارك مع الصحفيين:"هو إحنا بنبيع ترمس" ، "وأن :"زوار الفجر سيأتون ظهرا عن كان يخيفنا أن يأتوا فجرا "..
***
إنني أعرف يا سيادة الرئيس أن ثقافتك رفيعة  و إحساسك رهيف، و أنك لا تقول الكلمات إثر انفعال عابر، بل لكل كلمة معناها و إن خفي علينا، ولقد أحسست - وربما أكون مخطئا أنك أردت أن تقول لهم أن من لا يلتزم بوجهة نظرك منهم  يتصرفون على مستوى باعة الترمس و أنهم سيعاملون وفقا لذلك..
 ترى هل ظلمتك يا سيادة الرئيس؟ هل أظلمك ؟ لقد جعلتك تفكر بعقلي وتحس بإحساسي، دون أي اتصال، ثم آتى الآن لأعاتبك لأنك لم تصل إلي نفس النتائج التي وصلت أنا إليها، إن كنت قد ظلمتك فإني أسألك العفو، لكن هاجسا مقيما يسيطر علىّ يشغلني عن الإلحاح في  طلب عفوك أو حتى عن التفكير فيه، هاجس مقيم، مفزع، يروعني، لأنه يهددني ويهددك ويتهدد الوطن والأمة، إن الممارسات السياسية قد أدت في  معظم  بلادنا إلى فوضى ليس لها مثيل، وأصابع أعدائنا ليست بعيدة عن كل ذلك،  من كان يتخيل أن ما ذكرته بروتوكولات حكماء صهيون يتحقق بكل هذه السرعة والبراعة والإتقان في  الشر، إن هذه البروتوكولات تعلن صراحة عن هدفها النهائي، وهو أن تدفع كل الشعوب إلى اليأس من حكامها وحكوماتها كي تلجأ إلى اليهود مطالبة بحكومة عالمية واحدة، يقول البروتوكول العاشر: إن حكمنا سيبدأ في  اللحظة التي يصرخ فيها الناس الذين مزقتهم الخلافات وتعذبوا تحت إفلاس حكامهم - وهذا ما سيكون مدبرا على أيدينا - فيصرخون هاتفين: اخلعوهم وأعطونا حكما يستطع أن يمنحنا السلام والراحة، لكن لكي يصرخ الجمهور بمثل هذا الرجاء لابد أن يستمر في  كل البلاد اضطراب العلاقات القائمة بين الشعوب والحكام، اضطراب يستثمر العداوات والحروب والكراهية والموت استشهادا أيضا، هذا مع الجوع والفقر، وسيستمر  كل ذلك إلى الحد الذي لا ترى شعوبهم  الأمل في  أي مخرج من المتاعب غير أن يلجئوا إلى الاحتماء بأموالنا وسلطتنا الكاملة..
عندما أعدت يا سيادة الرئيس - بعد القرارات الأخيرة - قراءة بروتوكولات حكماء صهيون - أصابني الذهول الذي ما برح يصيبني كلما قرأتها، فبرغم إنني أقرأها الآن مرات في  العام الواحد، فقد أصابني الذهول، تقول البروتوكولات: لن نسمح للصحافة بأن تصف الحوادث الإجرامية، إذ سيكون من اللازم أن يعتقد الشعب أن المنهج الجديد مقنع وناجح إلى حد أن الإجرام قد زال، وكون المؤلفين مسئولين أمام القانون سيضعهم في  أيدينا، ولن يجد أحد يرغب مهاجمتنا بقلمه ناشرا ينشر له، وما من أحد سيكون قادرا دون عقاب على المساس بكرامة عصمتنا السياسية، وسنكون سادة الأرض ولن نبيح قيام أي دين غير ديننا، إنهم جاهلون ولا يستطيعون ولو رؤية النتائج العاجلة لما هم فاعلون، إنهم عموما لا يفكرون إلا في  المنافع الوقتية العاجلة، ولا يفطنون إلى أن الفكرة الأصلية لم تكن:كرتهم، بل كنا نحن أنفسنا الذين أوحينا بها إليهم، إنكم لا تتصورون كيف يمكن دفع أمهرهم إلى حالة مضحكة من السذاجة والغفلة بإثارة غروره وإعجابه بنفسه، وكيف يسهل من ناحية أخرى أن نثبط عزيمته وشجاعته بأهون خيبة، وبذلك ندفعه إلي حالة خضوع ذليل ذل العبد..
يا سيادة الرئيس:عندما يفقد المواطن إحساسه بالأمن والكرامة وحد أدنى من الطهارة واحترام حقوق الإنسان وحقه في  المشاركة والتأثير على القرار في  انتخابات لا تزور فإنه سيندفع على الإيمان بحكومة عالمية يسودها الصهاينة..
يا سيادة الرئيس:
إن ممارسات أي حكم ظالم تدفع بالأمة إلى هلاكها وبالدولة إلى فنائها..
يا سيادة الرئيس: لقد كان أملى فيك هائلا، حتى أنني عندما كنت أتحدث عن الأمة كنت أعنى الأمة الإسلامية كلها، ولقد رجوت الله أن تكون لها القدوة والمثل والمقيل من العثرات.
يا سيادة الرئيس: لقد حاولت قدر جهدي أن أتواصل معك، أن أفهمك وأن أجعلك تفهمني، أن أنصح وأن أحذر وأن أشارك وأن أدافع  و أن أنقل لك كم نحن تعساء، نحن لا نغدر، ولا نكذب، بل نُزدرى ونُكذّب، رغم أننا يعلم الله كم نعاني كي نحافظ على احترامنا لأنفسنا ونحن لا نقول كل الحقيقة، فالجبابرة يمنعون  وسائل إثباتها عنا، ولو قلنا ما نعلم دون إثبات لتلقفنا الزبانية، إنه ليس صراعا حزبيا يا سيادة الرئيس ولا رغبة في الوصول إلى الحكم دونك، بل هي مجردات ينبغي علينا  أن نختلف في دونها لا فيها، ولقد كتبت إليك، و أرجو أن تسمح لي بأن أواصل الكتابة، لا عنادا ولا جرأة، ولكن ثقة أن ثمة شئ خطأ، و أنك لا ترى الأمور كما نراها، و أننا لو نجحنا في أن ننقل لك حقيقة ما يحدث، فلا يمكن أن تترك ما يحدث يحدث..
أربعة عشر عاما يا سيادة الرئيس ونحن كل يوم ننتظر منك أن تخفف ما ينقض ظهورنا فإذا بك بالقوانين الأخيرة المكبلة للحريات تضيف عليه، ولو أن غيرك فعلها لما كانت صدمتنا كصدمتنا فيك، كنا ننظر إليك - رغم كل اختلاف - كملجأ أخير، فإذا بالطعنة تأتى منك، لقد نؤنا..
لقد رجونا دائما أن نتفق على كلمة سواء، ورجونا أن تسمعنا، أن تكون علاقتنا علاقة الحوار والتجاوب والمشاركة لا علاقة العملاء، ولقد شكونا لك ممارسات بشعة مروعة، لكنك كذّبتنا، ويعلم الله أننا صادقون..
يا رب.. 
ماذا نفعل إن كان من نستجير به لا يجيرنا، ومن نشكو له الظلم يظلمنا..
لم تعد لنا حيلة، ولم يعد في جعبتنا سهم..
وإن كان الاختيار المتاح أمامنا بين الصمت عما نحسبه  الحق وبين السجن فنحن نختار الموت فيك..
يا رب..
 إن كان غيرك  كبير فأنت أكبر، وإن كان سواك قوى فأنت أقوى  وإن كان سواك قادر علينا فأنت أقدر عليه..
لك الحمد  يا الله أن لم تجعل للشكاية إليك سبيلا سواك..
يا رب: إني  أشكوه إليك..  فاحكم بيننا[7]..
***

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

أيهم أولى بالاتباع: علماء السلاطبن فقهاء الخليج أم هؤلاء.

بعد مائة عام