أوقفوا التعذيب

بقلم د محمد عباس


الشعب ٢٩-١١-٢٠٠٢
هل أتسول البراءة بإعادة نشر هذا الجزء من كتابي: "إني أرى الملك عاريا"..؟..
هل أريد أن أثبت أمامكم يا قراء أن جيلنا قد حاول..
ربما لم نحاول كما يجب أن تكون المحاولة..
وربما لم نجاهد كما ينبغي أن يكون الجهاد..
وربما ضللنا الضروب وتهنا في الدروب لكننا كنا طول الوقت نسعى خلف الحق..
وكنا ندرك دائما أن الإسلام لم ينهزم.. ولا حتى المسلمين..
لأن الهزيمة الواقعة.. الهزيمة البشعة الرهيبة المروعة.. التي أذلت الأمة كما لم تذل أبدا.. تلك الهزيمة لسنا نحن المسئولين عنها.. فلم يكن لنا من الأمر شئ عندما وقعت..
كانوا هم في السلطة .. ولاة الأمر..
وكنا معزولين مضطهدين مطاردين مسجونين معلقين على المشانق..
كانت صحفنا تغلق.. و أصواتنا تخنق.. ورؤيتنا للصراع مع أعدائنا يُسخر منها.. وكان أبناؤنا يعذبون عذابا لم يشهد له التاريخ مثيلا..
ولاة الأمر هم الذين انهزموا..
ولاة الأمر ودينهم العلماني الوضيع وسياساتهم الخائنة هم الذين انهزموا..
أما الإسلام والمسلمون فلم يسمح لهم بدخول الصراع أصلا.. فكيف ينهزمون.
***
من حاول..
من حذر..
من اعترض..
تعرض لأنماط من التعذيب سوف يقرأها القارئ على الفور.
***
قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كنت قد جمعت من على شبكة الإنترنت عشرات الموضوعات عن صناعة أجهزة التعذيب، كانت التقارير تقول أن 90% من أجهزة التعذيب تصنع في راعية العالم الحر.. في الولايات المتحدة الأمريكية.. و أن 9% يصنع في أم الديموقراطيات.. في بريطانيا.. و أن التدريب الرئيسي لضباط الأمن في العالم العربي، على  أجهزة التعذيب تلك، يتم في هذين البلدين، ولقد حاولت استعادة البحث فلم أجد موضوعا واحدا يتطرق إلى هذا الموضوع. فقد اقتضت الديموقراطية وحقوق الإنسان والحداثة، ليس التوقف عن صنع أجهزة التعذيب، بل محو المعلومات المنشورة عنها ( لاحظت نفس الملاحظة في الموضوعات التي تكشف جرائم الغرب)..
***
المجرمون، الذين لم يصل إلى إجرامهم أحد في التاريخ،  المجرمون الذين تحالف معهم ولاة أمورنا علينا، لم يتورعوا بعد أحداث 11 سبتمبر عن أن يوجهوا اتهاماتهم إلى ولاة أمورنا و أجهزة أمننا بأنها هي التي حولت الإرهاب المحلي إلى إرهاب عالمي، وكان منطقهم في ذلك أن طرقهم الحيوانية المجرمة البشعة المروعة في التعذيب قد دفعت بالإرهابيين للهرب للخارج ليمارسوا إرهابهم هناك.
دعنا الآن من تعريف المصطلح والتعقيب عليه..
لكن هؤلاء المجرمين، الذين ولوا علينا هؤلاء السلاطين، والذين صدروا إلينا آلات التعذيب الجهنمية، ودربوا ضباطنا عليها، يأتون الآن ليكيلوا الاتهامات لهم، وغدا، عند تغيير الأنظمة، سوف يقدمون هذه الوجوه للمحاكمة، محملين إياهم العار وحدهم، ليفقدوا الدنيا بعد أن فقدوا الآخرة.
***
لم ينهزم الإسلام ولا المسلمون..
انهزم أعداؤه..
أما الإسلام وبنوه.. فقد كانوا مقيدين في الأصفاد..
وكانوا يعذبون..
فأوقفوا التعذيب..
*** 
























دكتور محمد عباس








إني أري الملك عاريا




رسائل بن عباس إلى الحكام وعموم الناس

مكتبة مدبولي




الكاتب الدكتور محمد عباس
الطبعة الأولى يناير 1999
الناشر مكتبة مدبولي 6 ميدان طلعت حرب - القاهرة
 تليفون 1246575 فاكس 4582575
رقم الإيداع
الترقيم الدولي :
لوحة الغلاف



دكتور محمد عباس




إني أرى الملك عاريا

رسائل ابن عباس إلى الحكام وعموم الناس

الناشر
مكتبة مدبولي
1999











حقوق الطبع محفوظة










الرسالة الأولي: أوقفوا التعذيب
الرسالة الثانية: الشرطة خدم السلطان
الرسالة الثالثة: جلالة الملك فخامة الرئيس






قائمة بالمحتويات



الصفحة
الموضوع
9
مقدمة
15
الرسالة الأولي: أوقفوا التعذيب
41
السيد النائب العام
70
ردان من النائب العم ووزارة الداخلية
73
تعقيب ما يزال الملك عاريا
77
السيد رِئيس الجمهورية
103
أيحسب أن لن يقدر عليه أحد
127
نحن مدينون بالاعتذار لمصر
153
الراية البيضاء
181
وطن الدّمى
199
الرسالة الثانية: الشرطة خدم السلطان
239
شرف صنع الله إبراهيم
261
العسكري الأسود
281
الفنانون والشرطة
285
شرق المتوسط
309
صلاح عيسي
321
يوميات ضابط في الأرياف
359
اعتراف الشرطة والبلطجة - إعدام عايدة
371
قولوا للرئيس: عادل حسين مجنون
401
جمال عبد الناصر
415
ذق فإنك أنت العزيز الكريم
439
يوم نحس مستمر
461
يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر
479
سيادة الرئيس
543
يا وقور يا عجوز لا يجوز
547
لا ترشح نفسك مرة أخرى
577
الرسالة الثالثة: جلالة الملك.. فخامة الرئيس
579
جلالة الملك فخامة الرئيس "1"
عناقيد الغضب علينا وعليكم: سـِــــفـَـــــــاحْ
597
جلالة الملك فخامة الرئيس"2"
الأرض بتتكلم عبري - محمد أصبح ميشيل.
615
جلالة الملك فخامة الرئيس "3"
نفايات مكدسة وأصنام مقدسة - من الاستعمار إلى الاستحمار
645
جلالة الملك فخامة الرئيس "4"
تساؤلات: النقاد مجوس هذه الأمة
663
جلالة الملك فخامة الرئيس "5"
هل نصمت صونا للعرض: أحمد مطر
695
جلالة الملك فخامة الرئيس "6"
بغداد عروس عروبتكم - نداء إلى الكويت
717
جلالة الملك فخامة الرئيس "7"
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم - رد العرب على كلينتون
759
الخاتمة






من بروتوكولات حكماء صهيون

لن يجد أحد يرغب في مهاجمتنا بقلمه ناشرا ينشر له

كون المؤلفين مسئولين أمام القانون سيضعهم في أيدينا و ما من أحد سيكون قادرا دون عقاب على المساس بعصمتنا السياسية ...

إن حكمنا سيبدأ في اللحظة التي يصرخ فيها الناس الذين مزقتهم الخلافات وتعذبوا تحت إفلاس حكامهم - وهذا ما سيكون مدبرا على أيدينا - فيصرخون هاتفين: اخلعوهم وأعطونا حكما يستطع أن يمنحنا السلام والراحة، لكن لكي يصرخ الجمهور بمثل هذا الرجاء لابد أن يستمر في كل البلاد اضطراب العلاقات القائمة بين الشعوب والحكام، اضطراب يستثمر العدوان والحروب والكراهية والموت استشهادا أيضا، هذا مع الجوع والفقر، وسيستمر كل ذلك إلى الحد الذي لا ترى شعوبهم الأمل في أي مخرج من المتاعب غير أن يلجئوا إلى الاحتماء بأموالنا وسلطتنا الكاملة .

 مقدمة


هل أستطيع - أيها القارئ - أن أنقل إليك مدى خطورة ما أتحدث فيه ومدى صدقه، ومدى ضرورة أن تتخذ فيه قرارا، و ألا تظل بعد قراءته كما كنت قبل قراءته، و ألا تكتفي بالدموع آملا أنها تطهرك من إثم يطولك بصمتك، إثم صمت شيطان أخرس.
هل أستطيع أن أوصل إليك و إلى الأمة كلها فداحة ما يحدث من فساد ومن تعذيب لإخوة لنا في البشرية، كي تخرج من صمتك وسلبيتك وسكونك، فأنت إن اتحدت مع الباقين القادر على إرغام الجلادين على كفّ ذئابهم كلاب النار عن نهش أبناء هذا الوطن.
هل أستطيع أن أبلل صفحات هذا الكتاب بالماء أو بالدموع وأن أصلها بالكهرباء كي يتكهرب القارئ إذ يقرأ ليفهم ويحس ويعي أي نوع فظيع من العذاب يعانيه أولئك الذين يعذبونهم بالصعق بالتيار الكهربائي.
هل أستطيع أن أجعل من السطور سياطا و أسلاكا مجدولة تنهال على وعي القارئ ليحس بشيء شبيه لما يعانيه الضحايا؟ .
وهل أستطيع أن أستعمل في كتابته دم الضحايا الذي سفكه الباطش الجبار وسفحه الضحايا بدلا من الحبر الذي دنسته أقلام كثيرة؟..
هل أستطيع أن أوقد تحت القارئ نارا، ليحس بما يحس به الضحية وهو معلق كالخروف المشوي فوق النار؟.
هل أستطيع أن أجعل القارئ يقرأ هذا الكتاب وهو معلق من قدميه في سقف منزله، أو وهو معلق من رسغيه معكوسا وقد ربطت في كل قدم من قدميه أنبوبة بوتاجاز، أو وهو يسحل على الأرض؟.
هل أستطيع أن أصوغ من تلك الحمم المنصهرة المنثالة من داخلي تمثالا يحرق لامسه ويعمي الناظر إليه، أو أن أرسم بألوانها الدامية لوحة تتحرك فيها الجمادات وتصرخ؟.
هل أستطيع أن أجعل تلك الصفحات تشتعل بين يدي القارئ، أو تنوح وتلطم؟.
 هل أستطيع أن أبث الروح في تلك الحروف المتراصة الميتة فتنفجر بالحياة من الألم فتنقل للقارئ في نفس اللحظة التي يقرأ فيها صرخة إنسان يعذب؟.
هل يمكن أن يسمع القارئ وعيناه تجريان على هذه السطور صوت سوط، صوت العظام وهي تتهشم، والمفاصل وهي تنخلع، والنفوس وهي تنكسر؟.
هل يمكن أن يرى القارئ ولو لثانية واحدة ضابط الشرطة الذي يعبث بأصابعه وبأدوات أخرى في هني[1] امرأة، في عورتها وعفتها، بعد أن أخذوها وهي البريئة رهينة، هل يمكن أن يرى القارئ ذلك و أن يخصف على مشهد العار الداعر في خياله الدامي صفحات هذا الكتاب؟.
هل يمكن؟...
هل يمكن؟.. .
يا قارئي: إن ما يحدث في ربوع أوطاننا جرائم مروعة تؤكد أن النظام كله مختل و أن المجتمع كله مريض، الكبار والصغار، المتّهمون والمتهمون، ولعل مادة هذا الكتاب التي نشر الكثير منها كمقالات في الأعوام الخمسة الماضية تشكل صفحات من التاريخ تقطر دما.. وكرامة.. وألما.. و أملا مسفوحا.. ولعل ما نشر، و ما لم يتسع الهامش الديموقراطي في بلادنا لنشره، لعلها جميعا تتشكل كديوان للوطن في مخاضه الدامي، ولعل ذلك ما كاد يدفعني لتقسيم هذا الكتاب لا إلي رسائل وأجزاء و أبواب وفصول.. بل إلى أشلاء ..
شلوا إثر شلو..
 و إن كان هذا الكتاب يركز في مباحثه على مصر، فما ذلك إلا لأنها البلد الوحيد - فيما أظن - الذي يمكن أن يسمح بصدور مثل هذا الكتاب، ثم أنها وطني الذي أراه أكثر مما أرى سواه، والذي أستطيع أن أزعم - رغم البشاعة والألم - أنه أفضل حالا من معظم البلاد الأخرى، فالناس هنا مازالت تملك بعد حق الصراخ والاحتجاج والألم، وهي أمور تعد من المحرمات المطلقة في معظم أوطان العالم الإسلامي، حيث يتعذب الناس ويموتون في صمت كصمت القبور، دون حتى صرخة احتجاج أو ألم، وليس هذا انحيازا لوطني، ولا مجاملة لحكومتي، بل إنها التقارير الموثقة لمنظمات حقوق الإنسان.
ويستطيع قارئ هذا الكتاب قراءته من الخلف أو من الأمام أو من أي جزء فيه في دائرة جهنمية لا تكف عن الدوران والتكرار، لأن أي جزء فيه، بغض النظر عن تاريخ كتابته، وعن مناسبته، يصلح للأمس صلاحيته للغد، فما من شيء يتغير وما من شيء يتطور وما من همّ يزول في هذا الوطن.. لا مجرد الوطن الصغير الذي تحده على الخرائط خطوط تتوسطها كلمة مصر، بل أيضا عوالم العرب والإسلام والمسلمين، من أجل ذلك انطلقت باحثا ومنقبا عما جعل الأمم تتداعى علينا كما تتداعى الأكلة على قصعتها، مدركا أن السبب ليس في ضراوة الأعداء، بل السبب فينا نحن..
ولا يزعم هذا الكتاب أنه يقدم حلا، فالحل الذي يقدمه كتاب أو فرد ليس سوى وهم ورقة يانصيب لا تفوز أبدا، عندما يدعي أنه يحاول دعوة الأمة كلها و دعوة الآخر أيضا، لأننا لو جمعنا ستين مليون عقل، أو حتى عشرين، أو حتى مليون واحد، أو حتى ألف فقد تستطيع إخراجنا من الوهدة التي أغرقنا الحكام فيها، ومن ناحية أخرى فلعل واحدا ممن يقرؤونه الآن يصبح حاكما ولو بعد نصف قرن، مصطحبا معه عبر السنين شعور المواطن والوطن بالألم الفادح التي تسببه تصرفات الحكام، ولعله حين يحكم يرعوي عنها.
هذا الكتاب أيضا ليس كتابا أكاديميا و إن اعتمد على مئات المراجع، وليس سيرة ذاتية كما أنه ليس رواية، ولكنه محاولة لرصد حال الوطن في حقبة شديدة السواد والألم..
ولأن هدف كل كاتب الوصول إلى عقل قارئه وقلبه، فلقد حاولت أن أصل بالعقل إلى العقل وبالقلب إلى القلب، وسيلاحظ القارئ أنني توسعت في الاستشهاد بنصوص أدبية وشعرية، ولم أكتف بمجرد الإشارة إليها، وما حيلتي إن كان خريجو الجامعة لا يعرفون نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ولا من أين ينبع نهر النيل ولا متي بني السد العالي، فكيف كان يستساغ أن أستشهد في إيجاز بعبد الرحمن منيف أو أحمد مطر؟.
ولقد نتج عن وحدة الموضوع وتباين التناول تتداخل بين الأجزاء وبعضها، نفس التداخل الذي يحدث بين الأشلاء فلا تستطيع بالدقة فصل جزء عن جزء أو شلو عن شلو، ولإن بدا للعين العابرة أن تلمح تكراراً هنا وهناك فلعل ذلك يكون مقصوداً بنفسه، فالتعذيب مستمر والتزوير مستمر والاستبداد مستمر، ولا توجد صرخة لضحية تشبه صرخة أخرى لضحية أخرى، مهما توهمت الأذن العابرة من تشابه.
كنت أتصور أن يكوّن كل جزء - شلو - من هذا الكتاب كتابا منفصلا، لكن الناشر والأصدقاء رأوا أن يضم الأجزاء الثلاثة كتاب واحد، فقد لاحظوا أن كل أجزائه تدور حول محورين أساسيين، هما التعذيب والتزوير، إنهما آباء السفاح لكل جرائم المجتمع الأخرى، ولقد تناول الكتاب هاتين الظاهرتين في جزئه الأول بالرصد والمتابعة و إبراز الأمثلة، ولقد كان طبيعيا أن يتطرق في تناوله ذاك إلى جرائم أخرى، هي النتاج الطبيعي للتعذيب والتزوير.
في الجزء الثاني عمد الكتاب إلى أداة الدولة في التزوير والتعذيب، إلى جهاز الشرطة، فالشرطة خدم السلطان، ولقد كان الكاتب يزمع أن يقسم هذا الجزء إلى قسمين، قسم يتناول انعكاسات أعمال الشرطة على الأدب، والقسم الآخر يتحدث عن ممارسات الشرطة في الواقع، لكنه اكتشف أثناء الكتابة – للمأساة- أن هذا الفصل فوق أنه متعسف فإنه غير ممكن، فمعظم الأعمال الأدبية التي تناولت الشرطة كتبها ضحايا من الكتاب والأدباء، وقعوا في براثن الشرطة ذات يوم، فكان ما كتبوه تجارب شخصية واقعية لا نستطيع تناولها كقيمة أدبية مجردة.
في الجزء الثالث، يصرخ الكاتب مناديا جلالة الجلالات وفخامة الفخامات.. فما كان كل هذا التعذيب والتزوير- بكل التداعيات المروعة - يمكن أن يحدث دون مباركة كاملة منهم. لذلك كان على الكتاب أن يقدم صورة شاملة للنتائج الوبيلة التي تمخضت عن اتخاذ حكامنا للتعذيب والتزوير دينا يدينون به.
 وفي هذا الجزء، تنقسم كل مقالة رئيسية إلى مقالتين فرعيتين، كل منهما تكمل الأخرى، رغم اختلاف الموضوع، تماما كما يكمل لحنين معزوفة.
لقد كان واضحا أمام الكاتب أنه مع جرائم التعذيب والتزوير التي تمارسها السلطة، والتي بلغت تداعياتها إلى نسف منازل مواطنين لمجرد الشك في مناوأتهم للدولة أنه لم يكن البيت هو الذي انهدم، بل كان الوطن هو الذي انهزم، وكان الشعب هو الذي انقسم، وكانت الأمة هي التي تشتت شذر مذر.
كان ذلك واضحا، فلا خير في وطن يكون السيف في يد جبانه، والمال في يد لصوصه، والقلم في يد منافقيه.
إنني في النهاية أكاد أعتذر للقارئ عن حجم الألم في هذا الكتاب، ذلك أن ألمي قد برى قلمي، كما أنكم تعرفون أنه ما من عملة رائجة في سوق الصدق مثل الألم.
لقد حاول هذا الكتاب أن يعثر على السبب فيما نحن فيه، ولقد وصل إلى مسئوليتنا جميعا، فالأمة كالساعة، لكي تنضبط لابد أن ينضبط كل ترس فيها.
السبب فينا..
السبب فينا.. والعلة.. والمرض..
و النظام كله مختل و المجتمع كله مريض..






الرسالة الأولي :
أوقفوا التعذيب



إن التعذيب المادي وصل إلى درجة وضع قطع خشبية في دبر بعض المتهمين، فذكر أحدهم ذلك، ولعل الآخرين أمسكوا عن هذا القول بالذات، صيانة لأعراضهم من الفضائح إن ضمير المحكمة ليفزع، وضميرها يجزع، وهي ترى أن أي متهم قد تعرض للتعذيب المادي أو النفسي أو العقلي، ويزداد الفزع ويتضاعف الجزع، أن التعذيب حدث بصورة وحشية فظيعة، كوضع قطع خشبية في دبر المتهمين، وهو أمر وصفته محكمة النقض في الثلاثينيات من هذا القرن بأنه إجرام في إجرام، ولا تجد المحكمة في عصر حقوق الإنسان وزمن حرية الوطن والمواطنين وصفا ملائما تصفه به، ولا تريد أن تتدنى لتصفه بوصفه البشع، غير أنها ترى في التعذيب عموما عدوانا على الشرعية من حماة الشرعية..
من حيثيات..حكم محكمة مصرية




إني أري الملك عاريا



 يحكي أن ملكا استمتع بنفاق حاشيته وجبن شعبه حتى السأم، وفي الاحتفال السنوي أراد أن يسخر من الجميع، وبدلا من الخروج إلى موكبه لابسا أفخر ثيابه ومتقلدا أرفع أوسمته. خرج عاريا تماما، كما ولدته أمه، وراحت الحاشية تقول: ما أفخر الثياب وما أرفع الأوسمة ..، والشعب يردد خلف الحاشية ما تقول، وظل الموكب يطوف شوارع المدينة والحاشية تقول والشعب يردد، وفجأة صرخ طفل:
ولكنني أرى الملك عاريا ...
لم تنقل لنا الأسطورة يا نخب الأمة ويا حكامها ماذا فعلوا بذلك الطفل، لكنني الآن أراكم بعينين بريئتين كعينيه: عـــــــــــراة!!.
بنصّ حكم محكمة مصرية حمل مستشارها عنا عبء استعمال الكلمة وعواقبها عندما وصف ما يقوم به بعض أفراد جهاز الشرطة من عدوان على الشرعية والمفروض أنهم حماة الشرعية بأنه إجرام في إجرام، لم يقل ذلك فقط، لكنه قال ما هو أكبر هولا وأشد إدانة، لأنه قال أنه عندما حدث شيء مثل ذلك منذ ستين عاما وصفه القضاء المصري بأنه إجرام في إجرام . وكان الذي حدث أقل بكثير مما يحدث اليوم، تحت نير الاستعمار وملك أجنبي وحكومات عميلة.
 الذي لم يورد المستشار تفاصيله، أن ضابط الشرطة المصري، عندما هتك عرض مواطن منذ ستين عاما، فقتله هذا المواطن، فنشبت أزمة سياسية كبرى انتهت باستقالة رئيس الوزراء في ذلك الوقت، لا لأن المواطن قتل الضابط الذي هتك عرضه، بل لأن ضابطا يمثل سلطة الدولة هتك عرض مواطن .
منذ ستين عاما كان هذا وضع حقوق الإنسان في مصر، وكان هذا هو رد الفعل على انتهاكه .
اليوم، أمامكم لا حيثيات حكم واحد بل عشرات وعشرات، ومئات أيضا من تقارير الطب الشرعي عن التعذيب وتفاصيله .
أما رد فعل السلطة فلا شيء .
ولعلنا إذ نتناول ظاهرة التعذيب نبادر إلى ما يسميه إخوتنا اللبنانيون الكلام الساكت فنتحدث كثيرا ولا نقول شيئا، نوهم الآخرين أننا نمسك كبد الحقيقة، ونرشو ضمائرنا بذلك، ونبتعد عن مكامن الخطر ومرأى الدم فنتجادل في أحدث ما وصلت إليه نظريات علم الإجرام الجديد ممارسين بصورة فاجعة عجز الصفوة عن التعامل مع الواقع، ومكررين بطريقة محزنة قول ماري أنطوانيت الأبله لشعب لا يجد الخبز أن يأكل الجاتوه.
لعلنا نهرب من المشكلة فنستعيد - بنفس منطق ماري أنطوانيت - وننتقد نظريات و أفكار هيرمين مانهايم وأوجست كونت وجاروفالو ولسلن وسذرلاند وابن خلدون وتوماس الإكويني وتوماس هوبز وجان جاك روسو وسيزار بكاريا وسيزاري لومبروزو وأنريكو فيري وتشارلز جورنج وأرنست هوتون ودوركايم وكيتيلييه وجرسبيني وروبرت ميرتون وجيرمي بنثان وجبرائيل تارد وفرويد وجون لوك وعشرات وعشرات وعشرات .[2]
ولعلنا نعرّف الجريمة والإجرام، بالتعريفات القانونية والاجتماعية والنفسية والدينية، فنتكلم عن القانون الطبيعي والقانون المدني ومفهوم الصراع ونظرية المخالطة الفارقة ومناهج البحث في علم الإجرام، ونسترجع مدارس علم الإجرام من النظرية التقليدية والنظرية الوضعية وما اشتق منهما من فروع.
ونشرح النظرية الفسيولوجية وعلم الفرينولوجيا والنظرية النفسية وعناصر الشخصية والجريمة وعلاقتها بالمرض النفسي والعقلي.
لعلنا نتجاوز المدارس القديمة، متناولين الجريمة كظاهرة اجتماعية، ممحصين أسبابها وعلاقتها بالمجتمع، متحدثين عن نظريات التفكك والتحييد والتقليد والوصم لكي نصل إلي علم الإجرام الجديد الذي يرى بعض فقهائه جميع الجرائم والمجرمين من منطلق سياسي وإداري دون سواه .
 و لكننا ونحن نفعل ذلك كله لا نلقي بالا إلى ما يحدث أمامنا.
إننا بهذا نشبه طفلا يرى أمه على فراش الموت، فلا يسعفه خيال الطفل إلا بأنه سيكبر، سيصبح طبيبا كبيرا، وسينقذها من الموت، دون أن ينبئه خياله القاصر، أنه عندما يحين ذلك الوقت، ستكون أمه قد شبعت موتا.
فهل يمكن أيها السادة أن نكف عن الهرب و أن نواجه..
هل يمكن أن أعرض شيئا آخر غير ما تحفل به صحفكم وأبحاثكم من متاهات نظرية.
شيء آخر..
تجيبون بعده يا نخبة الأمة على سؤالي..
ما أود أن أعرضه عليكم هو أنماط التعذيب التي تمارس في مصر على أعتاب القرن الحادي والعشرين، ولو أن ضمائر البشر لها آذان تسمع وعيون ترى
وأنوف تشم لسمعتم الآن صراخ الضحايا ولذابت أصواتكم وحياتكم في دمائهم ودموعهم، ولهالكم منظر المجزرة البشرية ولطغى على رائحة الشواء الشهي للمآدب الحافلة التي تلتهمونها في البيوت أو المطاعم الراقية رائحة اللحم البشري وهو يشوى، أعرض عليكم أيها القراء نماذج التعذيب كما توردها مصادر عديدة منها تقارير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان والصحف، وكتب كثيرة منها كتاب قيم للصحفي أيمن نور[3] :
1 - عصب العينين والتجريد من الملابس..
2 - التعليق من الأيدي والتعليق في فلكة..
3- الضرب بالعصي والأسلاك الكهربائية..
4- الجلد بالسياط والعصي المفتولة من الجلد..
5 - إجبار الضحية على الوقوف عاريا لفترات طويلة ..
6- سكب الماء البارد على رأس الضحية..
7- إطفاء السجائر المشتعلة في الجسم..
8- الصعق بالتيار الكهربائي..
9- الركل بالأقدام والضرب بقبضة اليد..
10 - إطلاق الكلاب المسعورة على السجناء ..
11- إجبار الضحية على الجلوس فوق خازوق..
12- الحرمان من الغذاء والدواء..
13- الإلقاء في بيارة دورة المياه..
14- التهديد باغتصاب الضحية أو ذويه..
15- إسماع الضحية صراخ وعويل الضحايا الآخرين أثناء تعذيبهم لإرهابه..
16- تقييد الأيدي والأرجل من الخلف وتحويل جسم الضحية إلى شكل دائري..
17- نزع الأظافر والسحل..
18- النوم على البلاط دون أغطية وإغراق الزنازين والضحايا فيها بمياه المجاري
19- استخدام وسائل حادة مثل المطواة وقطع الزجاج في إحداث الإصابة بالمتهمين..
20- الكي بالنار..
21- إرهاب الضحية بالثعابين الحية وإرغامهم على تقبيل عضو الذكورة للضابط القائم بالتعذيب..
***
 في لقاء شخصي مع أحد الضحايا كنت أسأله عن تفاصيل التعذيب وكان يجيب، وفجأة انفجر غضبا وألما صارخا في وجهي:
-       ماذا تعني الكلمات بالنسبة لكم، إنكم تفهمون ما يحدث لكم خارج السجن لأن خبرات حياتكم تحوي ما يضاهيه أو يفسره، عندما يقول لك قائل: أحلى من السكر فأنت قد ذقت السكر، وعندما يقول لك أمر من العلقم فأنت تعرف العلقم، لذلك فأنت تفهم بالقياس، أما عندما أقول لك أن ما شهدته أقسى من الموت فلا أنا ولا أنت نستطيع إدراك ذلك لأننا لم يسبق لنا الموت، من أجل ذلك فعندما أقول لك أنهم ضربوني بالسياط، ربطوني بطريقتهم الجهنمية الرهيبة التي يسمونها: الخروف المشوي، أو علقوني مقلوبا على الباب من معصمي ساعات وساعات.. حتى انخلع كتفي، أو.. أو.. أو.. كيف تفهم شيئا من هذا وكيف تحسه؟.
***
أحسست بالخزي يا قراء...
أحسست بالامتهان والإهانة والمشاركة بجريمة الصمت.
ربما هذا هو ما يقصده فقهاء علمي الاجتماع والإجرام عندما يتحدثون عن رد فعل المجتمع على الجريمة، عن أن الجريمة ليست موجهة إلى ضحيتها فقط بل إلى المجتمع كله.
الآن أسألكم..
هل توافقون حيثيات حكم المحكمة الذي أوردته في صدر هذا المقال بأن ما يحدث إنما هو إجرام في إجرام؟. وهل توافقون على أن لكل جريمة مجرم؟. وهل المجرم هو: كل من يدان أمام محكمة الجنايات؟. أم أنه كل من يرتكب الجريمة طاله القضاء أم أفلت منه. هل تجدون يا صفوة المجتمع ونخبته أي مبرر للأداة الأولى في مكافحة الجريمة - وهي بعض قطاعات الشرطة - يسوغ لهم أن يفعلوا ما يفعلونه، أم أنكم ترون، لا مع حيثيات حكم المحكمة فقط، بل معنا، مع الإنسان في كل زمان ومكان وتحت أي شريعة أن ما حدث إنما هو إجرام في إجرام.... وقيام حماة الشرعية بالعدوان عليها، واعتداء على حقوق الإنسان ممن واجبه الحفاظ على حقوق الإنسان..
***
يقول سذرلاند: إن الجريمة لا توصف كذلك بناء على صدور عقوبة ضدها، بل بناء على حقيقة أنها معاقب عليها.
***
أيها القراء ..
سوف تجدون في بلادنا المتخلفة المسحوقة من يؤكدون أن ما يحدث ليس إلا مكافحة للإرهاب لذلك، فسوف أتجنب تناول ما يحدث لمن يسمونهم بالإرهابيين، ليس موافقة على ما يحدث لهم، وإنما فضحاً لتلك النفوس الخسيسة المجرمة التي تتخذه تبريرا. غير متجاهل في الوقت ذاته، أن ثمة قضية كبرى لم تظفر من مجتمع المثقفين المكبل بالخوف والرعب والنفاق وإيثار السلامة بما تستحق من اهتمام، فبعض قطاعات الشرطة مدعمة بالسلطة لم تكتف باغتصاب حرية ضحاياها وانتهاك أعراضهم وأعراض نسائهم وبيوتهم وذويهم، بل إنها تقوم أيضا - وهذا لا يقل شرا عن كل ما سبق- بانتهاك اللغة واغتصابها بإطلاق الأسماء الخطأ التي ترددها أبواقها حتى ترسخ في أذهان الناس في النهاية، يتبعون مبدأ: اكذب واكذب ثم واصل الكذب فسوف يصدقك الناس في النهاية، افعل أي شيء ضد السلطة وستكون إرهابيا، ارفض تزوير الانتخابات أنت إرهابي، تصدّ لقضية فساد أو تكلم عن الفساد أو عن اللصوص الكبار: أنت إرهابي، اختلف مع سياسات نظام الحكم ليس في مواقف جوهرية توجع السلطة لأنها تكشف عارها كحرب الخليج مثلا، بل في مواقف فرعية، كاشتراك إسرائيل في معرض الكتاب: أنت إرهابي..
جهاز ذو إعلام فاشيستي يكرس الكذب ويعاقب من يكذبه ويسفهه ويشهر به..
وليت الضحية تذهب بعد ذلك إلى نيابة أو قضاء لا تمارس السلطة عليهما كل وسائل الضغط والتعمية؛ ثم أن النيابة مع كل محاولات التأثير عليها مقيدة بقانون يتستر علي جرائم السلطة، والقضاء بطيء ويتحرى الدقة فيبرئ ألف مجرم كي لا يتورط في إدانة بريء[4]، لكنه في نفس الوقت، وبحسن النية كلها، بتدليس بعض قطاعات الشرطة والسلطة، يبرئ المجرمين ويجرم الأبرياء الذين صيغت اعترافاتهم تحت سياط لا يستطيعون إثباتها، وقد تعثرت محاولات إفساد القضاء الطبيعي رغم الاستمرار والإلحاح الذي يفسد بعض آثاره قيام بعض الشرفاء والمفكرين بالتصدي له، أولئك الشرفاء الذين لا تتورع السلطة عن تلفيق تهمة إهانة القضاء لهم أو لمن يدافع عنهم، فالسائر في هذا الطريق يخوض في حقل الغام قد ينفجر فيه في أية لحظة ..
النيابة مقيدة والقضاء عصي، فلتقم الشرطة إذن بمهامهم جميعا وبمهمة الجلاد أيضا..
***
يصرخ بيان من بيانات المنظمة المصرية لحقوق الإنسان معاتبا النيابة:
" إلا أن النيابة لم تبدأ حتى الآن التحقيق مع الضباط المتورطين على الرغم من أن عددا من المتهمين - كما أثبتت النيابة - قد تعرضوا للتعذيب عقب كل جلسة تحقيق أجرتها معهم، ولم تقدم حماية قانونية لهم لوقف التعذيب الذي تم تحت سمعها وبصرها من خلال أقوال المتهمين ومشاهدة آثار التعذيب على أبدانهم .."
***

لقد قبضوا ذات يوم - على سبيل المثال - على ضمير عظيم من ضمائر مصر، هو الدكتور حلمي مراد رحمه الله، وأودعوه مع المجرمين والقوادين ومنعوا عنه الدواء، وهم الذين ملئوا الدنيا ضجيجا مدللين على إجرام من لم يرع حرمة عمر نجيب محفوظ، ولم يراعوا هم عمر الكاتب الكبير والوزير الأسبق منذ ربع قرن، ولقد أدعو أسبابا شتى للقبض عليه وهناك في السجن بين قاع المجتمع، أدرك المجرمون - فمتي تدركون يا مثقفين؟- القابعون في التخشيبة كذب ادعاءات السلطة وكذب أي اتهام مدركين تماما أنه هناك معهم بسبب قلمه وضميره وتعريته للسلطة، وموقفه من التعذيب وانتهاك القوانين وانتقاداته للنائب العام ودفاعه عن استقلال القضاء ومحاولته كشف فساد السلطة، أدرك حتى القوادون والنشالون واللصوص والقتلة ذلك مهدرين كل مجهود السلطة في الكذب على الناس فسألوا الدكتور حلمي مراد والذين معه، سألوه عن كاتب هذا الكتاب: لماذا لم يسجنوه معه؟!.
لقد اعتقلوا وحبسوا وسحلوا وعذبوا، وفي الغالب الأعم لم تكن هناك قضايا..
كان كل ذلك بهدف الترويع فقط، بهدف قمع كل فكرة وكل محاولة للتصدي للفساد..
على الرغم من ذلك كله، فسوف أتجنب تناول ما يحدث لمن يسمونهم بالإرهابيين، ليس موافقة على ما يحدث لهم، فحتى لو كانوا مجرمين فإن عقابهم يجب أن يتم من خلال القانون لا من خلال ذلك الادعاء الذي أصبح يثير من السخرية قدر ما يثير من الاشمئزاز، الادعاء بأنهم جميعا يبادرون السلطة بإطلاق النار فترد عليهم فتصرعهم، لقد نشرت صحيفة الأهالي - وهي من أعدى أعداء الجماعات الإسلامية - وتواترت أخبار عديدة- أن ثمة شائعات قوية تذكر أن بعض قطاعات الشرطة بعد القبض على ضحاياها واستجوابهم وتعذيبهم لمدة أيام أو أسابيع، تنقلهم مكبلين بالأغلال إلى مزارع القصب تطلق عليهم الرصاص .
***

يقول الكاتب الكبير الدكتور محمد السيد سعيد - وهو بالمناسبة مصنف عند الأمن من الشيوعيين وليس من الجماعات الإسلامية - أن الصراع لم يعد صراعا بين الدولة والإرهاب وإنما بين جماعتين مسلحتين تفتقد كل منهما الشرعية..
على الرغم من ذلك كله، سوف أترك الصراع السياسي كله، لا موافقة للشرطة على ما تفعله، إنما فضحا لتلك النفوس المجرمة التي تتخذه تبريرا، لكننا في ذات الوقت نقرر أننا نعلم أن العالم كله، وقطاعا عريضا من الأمة، يدرك أن قطاعات الجهاز المتورطة في القتل والتعذيب لم تترفع عن الكذب، وفي خلال هذا الإطار نتلقى بياناتها..
لنترك ذلك كله، لنترك السياسة بما فيها ولنتناول نمط تعامل ضباط شرطة مع مواطن، ليس حتى متهما بالسرقة، بل أمره الضابط بالانصراف من حفل زفاف فتلكأ الشاب فصفعه الضابط فرد الشاب على الضابط صفعته، فألقى الضابط القبض عليه وعذبه حتى الموت..
ليس الأمر أمر صراع سياسي وليس مكافحة للإرهاب..
لقد أصدرت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان تقريرا تقول فيه:
إن أغلبية الحالات التي تعرضت لإساءة المعاملة والتعذيب في أقسام الشرطة هي لمواطنين لم يُتهموا بممارسة السياسة، فضلا عن العنف والإرهاب، مما يكشف مدى شيوع أسلوب التعذيب والقسوة في العمل الشرطي، بل إن اثنين على الأقل من خفراء الشرطة قد لقيا مصرعهما خلال عام مضى من جراء التعذيب على يد ضباط الشرطة..
ليس الأمر أمر إرهاب إذن، ولا محافظة، على أمن الحاكم أو الدولة.. بل إجرام في إجرام.
***
يذكر الكتاب المروع الذي أصدرته المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ما حدث لمواطن خجل من ذكر اسمه لكن وثائقه لدى المنظمة:
 احتجز بقسم شرطة باب الشعرية بسبب خلاف بينه وبين ضابط مباحث القسم، وتعرض للتعذيب لتأديبه، حيث أجبره ضابط المباحث على خلع الملابس كلها، وعقب ضربه لفترات طويلة بالكرباج أجبره على تقبيل حذائه وحذاء مساعده الضابط عدة مرات، وكان التعذيب قد بدأ بجولة من بث الرعب النفسي وذلك باستخدام ثعبان حي يطلق عليه الضباط لولو ويستخدم في إرهاب الضحايا الذين لا يعلمون أن أسنانه منزوعة وقد وضعوا الثعبان داخل قميص الضحية، ويزعم الضحية في شهادته أن ضابط المباحث أمر بعد ذلك ثلاثة من المحتجزين بالقسم بالاعتداء عليه جنسيا مقابل الإفراج عن كل من يغتصبه، وقد حاولوا ولكن عندما عجزوا بسبب المناخ الإرهابي السائد قام ضابط المباحث بخلع بنطلونه وسرواله وأجبر الضحية على إتيان أفعال منافية للآداب العامة ثم تكرر ذلك مع مساعده، ثم أجبره على التحدث والرقص والغناء بطريقة النساء، وقد أصيب الضحية بحالة هستيرية، ونقل إلى المستشفي للعلاج من أثر التعذيب وتقدمت أسرته ببلاغ إلى نيابة باب الشعرية التي حفظت البلاغ.
وبعد أن يورد الكتاب نماذج عديدة، تتقدم المنظمة بالاعتذار إلى الرأي العام لاضطرارها لتقديم صور بها بعض التفصيل الجارح للشعور، و أنها حاولت قدر الإمكان استخدام أخف الصياغات، وتجنبت لأجل ذلك الكثير من التفاصيل المفزعة التي تثير الغثيان.وتستدرك المنظمة أن الصدمة الحقيقية للشعور العام هو أن ذلك يحدث في مصر، و أن مرتكبيه لا يجدون من يحاسبهم، بل يستشعرون الحماية فيطلقون العنان لنفسيتهم المريضة المشوهة، وينتقلون من ضحية إلى أخرى دون وجل.
إن الشرطة قد أضحت فوق القانون، بل وعلى حساب النظام القضائي ذاته، وقد صار التعذيب خلال السنوات الأخيرة جريمة لا عقاب عليها .
إن المنظمة لم تكتف بسماع الضحايا، بل ذهبت إلى النيابة تسأل، لماذا لم تلحق بالجناة المجرمين العقاب، لماذا لم تحقّ الحقّ وتقيم العدل، وكانت الإجابة مروعة، فالنيابة لم يعد بمقدورها مساءلة ضباط أمن الدولة حول جرائم التعذيب، بنصوص في القانون دست عليه، و أقرها مجلس الشعب رغم أنهم لم يكونوا بحاجة حتى إلى تلك القوانين التي لا يحترمونها أصلا، حتى لقد وصل الأمر إلى أن أشار رئيس نيابة إلى أنه في الجرائم المتهم فيها ضباط شرطة، يقوم بنقل الملفات معه إلى المنزل عند مغادرته المكتب، حتى لا تتعرض للسرقة .
لم يكن الأمر قط حماية لنظام الحكم، ولم يكن مكافحة للإرهاب بل كان إجراما في إجرام..
***
لم يكن من أجل حماية النظام ومكافحة الإرهاب ما حدث للمواطن مخلوف عبد العال الذي تعرض للتعذيب في قسم شرطة الظاهر بالقاهرة، فقأ ضابط المباحث عينه وهتك عرضه وحطم عظامه، وظل يعذبه حتى الموت، و ذكر تقرير الطبيب الشرعي د- فخري محمد صالح على وجود كسور بالجمجمة وضلوع الصدر والجبهة والرسغ الأيسر وآثار نزيف بالفم..
 ولم تكن القضية سياسية..
ليست مكافحة الإرهاب إذن ولا حماية النظام الحاكم، وإنما إجرام في إجرام..
فلم يكن أيضا مكافحة للإرهاب ولا حماية للنظام قتل خفير الشرطة إبراهيم محروس على أيدي ضباط شرطة نقطة شنوان بشبين الكوم، وأشار تقرير الطبيب الشرعي إلى أن الوفاة نتجت عن كسور بالضلوع وتهتك بالرئة اليسرى وتجمع نزفي جسيم نتيجة الضرب بجسم صلب..
ولم يكن مكافحة للإرهاب ولا حماية لنظام الحكم ما حدث للمواطن لطفي الساعاتي الذي تعرض للتعذيب حتى الموت بقسم شرطة شبرا الخيمة وأثبت تقرير الطبيب الشرعي رقم 5845 آثار التعذيب بجسم صلب ولكمات قوية..
يذكر تقرير لمنظمة حقوق الإنسان أن كثيرين من ضحايا التعذيب قد شاهدوا ضباط الشرطة يتفاخرون بزهو أثناء تعذيبهم، ويتباهون بمدى السطوة التي تتمتع بها الشرطة، و أنها صارت الكل في الكل وأن رقبة البلد والحكم في أيديهم، و أن لديهم شيك على بياض بحمايتهم بكل الوسائل دون معقب..
***
لو أنني صرخت: لا أمن الوطن ولا أمن الحاكم يقتضيان هذا؛ بل أمن الشيطان في نفوس أشد دنسا من الشيطان ذاته، فهل أكون قد عبرت بما يناسب ما قرأتم؟.. هل يعبر ذلك عن كم العذاب والألم الذي يزلزل كيان هذه الأمة المقهورة المنكوبة ببعض أبنائها أكثر من نكبتها بكل أعدائها؟.
***
دعوني إذن أشهد أمامكم، والكلمات ذوب رصاص منصهر، والحروف أشد مرارة من سم زعاف، والاعتراف أشد قسوة من الموت..  
أشهد:
إن ما يحدث الآن ببلادي تحت ظل حكم أبنائها الوطني لم يحدث حتى تحت ظل الاستعمار الغربي لبلادنا.
 أقولها و أشهد بها رغم إدراكي أن حضارة الغرب بشهادة مؤرخهم الكبير أرنولد توينبي هي أكثر الحضارات إجراما في التاريخ..
يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاه....
أخيرا أقرّ  بـِـها و أعترف ..
لطالما رغم الأسى والحزن والقهر كتمتها، لا عن شفتي فقط بل عن قلبي أيضا، ولشد ما أدنت نفسي حينما كانت تطوف بها كمجرد خاطرة أسارع بطردها والاستغفار عنها كأنها رجس من عمل الشيطان..
أقولها أخيرا، مجبرا أقولها، مضطرا أعترف بها، فالزمن يسير إلى الوراء..
كنت أتمنى الموت قبل أن تنفرج عنها شفتاي..
لكنها خلاصة اليأس والعجز والألم..
مستقطر الدموع..
قطع الدم المتجلطة على جبين ضحية..
صراخ معذبين آناء الليل و أطراف النهار لا يدركهم حاكم ولا محكوم.
أنين عرض يئن لانتهاكه..
وصراخ طفل يعذبونه وهو لا يعرف لماذا يعذبونه..
لن أتحدث عما يحدث للمعتقلين السياسيين، بل دعوني أحدثكم عما يحدث للأطفال في بلادنا، الأطفال، الذين لم يكونوا محتاجين أبدا لعام للطفل تباركه السيدة الجليلة قرينة الرئيس الجليل، بل فقط ألا يفعل بهم ما سأرويه لكم على الفور.
***
قامت قوات كبيرة من الضباط والجنود المسلحين بالبنادق والمدافع الرشاشة باعتقال ثمانين طفلا تتراوح أعمارهم بين ست وعشر سنوات فضلا عن عدد من المشرفين على رحلة هؤلاء الأطفال. كان هؤلاء الأطفال يقضون فترة نصف أسبوع في معسكر ترفيهي بمدينة الإسكندرية، ويعمل آباء العديدين منهم أعضاء في هيئة التدريس بكلية طب جامعة المنوفية، وقد استأجر منظمو الرحلة عددا من الشقق المفروشة لإقامتهم..... .
في فجر اليوم الرابع، وقبل نهاية الرحلة قامت قوات الأمن بمداهمة أماكن إقامتهم ونقلت الأطفال والمشرفين وسط مظاهر الذعر والترويع إلى قسم شرطة المنتزه بالإسكندرية حيث أجبرتهم على قضاء بقية الليل على بلاط غرفة الحجز دون أغطية، وفي الساعة العاشرة صباحا نقلوا إلى مؤسسة رعاية الأحداث بالإسكندرية، ثم قاموا بالتحقيق معهم في مديرية الأمن التي قامت بنقلهم إلى مديرية أمن القاهرة التي قامت بنقل بعضهم إلى قسم بولاق الدكرور والبعض الآخر إلى قسم بوليس بندر شبين الكوم، و بعد قضاء يومين في التخشيبة استجوبتهم فيهما مباحث أمن الدولة، وتركزت التحقيقات معهم على الاستفسار عن مظاهر تدين أسرهم.
تم تسليم الأطفال إلى ذويهم بعد أن حصلوا على إقرارات منهم بعدم اشتراك أبنائهم في مثل هذه الرحلات مرة أخري..
تم الإفراج عن الأطفال واستبقي المشرفون الذين اتهمتهم مباحث أمن الدولة بتكوين تنظيم سري يقوم بغسيل مخ الأطفال..
يا معشر القراء... يا أمة ...
إن ما تقرؤونه الآن ليس فيلما سينمائيا لهيتشكوك أو بيرجمان، ولا قصيدة شعر لأمل دنقل، ولا مسرحية لأنطونيو باينجو، ما تقرؤونه واقع حدث، منشور في مصادر عديدة، منها تقرير عن حقوق الإنسان أصدرته المنظمة المصرية لحقوق الإنسان.
ما تقرؤونه حدث، يفوق أي خيال مهما بلغت بشاعته لكنه حدث ..
ما تقرؤونه في جلسة استرخاء أمام شاشة تلفاز تنقل لكم عبر الأقمار كل ما هو مبهج حدث..
حدث و أنتم صامتون..
لعلكم تلجئون إلى مواقف و تفسيرات واحتمالات شتى كي تبرروا جريمة صمتكم.
أولها أن تتوقفوا عن قراءة ما أكتب، لأنني أوشك على المضي في سرد التفاصيل، ماذا حدث للأطفال وذويهم ومشرفيهم، هناك، من الشرطة؟.
ففي احتفالات عام الطفل، كانت الشرطة تشارك بطريقتها في الاحتفال الدامي..
يقول الأطفال الذين وقعوا ضحية لهذه العملية البشعة، الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة والعاشرة، يقولون أن رجال الشرطة قد أساءوا معاملتهم، ووجهوا لهم شتائم بذيئة، وحجزوهم في غرف احتجاز ضيقة بدون أي تجهيزات، ولم تقدم لهم أطعمة وتعرض بعضهم للضرب بالأيدي والركل بالأقدام..
يقول الطفل أحمد عماد محمد عبد الوهاب، البالغ من العمر ثماني سنوات، أن معاملته كانت قاسية للغاية وشملت سبابا شديدا والضرب والركل، وقد تكررت نفس المعاملة في حالة الطفل هاني محمد علي بشير: 10 سنوات، والطفل عمر محمد شحاتة: 7 سنوات..
هذا ما حدث للأطفال، أما المشرفين فقد تم اعتقالهم بأمر من وزير الداخلية، حيث تعرضوا للضرب والسباب، للتجريد من الملابس والتعليق من الأيدي ومن الأرجل، للصعق بالكهرباء في أماكن حساسة من الجسم، لمنع الطعام والشراب وللعزل تماما عن العالم وفقا لأمر الاعتقال المستند إلى قانون الطوارئ.
لم يسكت آباء الأطفال..
كان معظمهم من أساتذة كلية الطب لذلك تقدموا بشكوى إلى نقابة الأطباء، فعقدت النقابة مؤتمرا صحفيا..حضرته منظمات عديدة ومندوبو الصحف ووكالات الأنباء، وشارك في المؤتمر الأطفال الذين تعرضوا للتعذيب، و أدلوا بشهاداتهم..
قبل المؤتمر بذلت الشرطة جهودا مكثفة لمنعه، وحين فشلت ترصدت الحاضرين حتى انتهي المؤتمر، وعند الخروج منه قامت الشرطة باختطاف ثلاثين شخصا، احتجزوا بقسم قصر النيل، حتى تم استصدار قرارات اعتقال لبعضهم، وكان ضمن الذين تم إلقاء القبض عليهم: الدكتور ثروت محمد إسماعيل الذي اختطف أثناء مغادرته للمركز الثقافي الفرنسي في شارع مواز لمقر النقابة وفي فجر اليوم التالي قامت الشرطة بالقبض على عشرات الأشخاص من بيوتهم بالقاهرة وخارجها..
ولم تكن الحادثة السابقة استثناء بل القاعدة..
 في حادثة أخري تذكر صحيفة الوفد أن الشرطة قامت بإلقاء القبض علي 41 طفلا ما بين الثانية عشرة والرابعة عشرة من أعمارهم، بتهمة انتمائهم إلى تنظيم إسلامي، وقضى الأطفال ثلاثة شهور في قسم شرطة البدرشين- جنوبي القاهرة - في غرفة واحدة مظلمة ورطبة تحت الأرض مع عدد من المجرمين الجنائيين، وتعرضوا خلال ذلك للضرب والسب.
يا معشر القراء ...
 يا أمة:
 لم تكن الحادثة السابقة استثناء بل القاعدة..
في 20-12-1992 نشرت صحيفة الجمهورية شبه الرسمية أن الشرطة أفرجت في يوم واحد عن 72 طفلا تراوحت أعمارهم بين 8-12 عاما بعد أن احتجزتهم لفترات مختلفة، ما لم تذكره صحيفة الجمهورية أن هؤلاء الأطفال صرحوا بأنهم تعرضوا لتعذيب مروع للإدلاء بمعلومات عن أماكن اختفاء أقاربهم..
يا مصريون يا عرب يا مسلمون، يا عالم: هذا هو الشر من أجل الشر
ليست حوادث فردية.
احتجزت الشرطة والدة وشقيقتيْ وشقيقيْ المتهم الهارب عنتر الزيات.. اعتقلت الشرطة محمد وأشرف الزيات: 15 و 16 عاما، تعرض الشقيقان للضرب لفترة طويلة في الدور الثاني بقسم إمبابة لإجبارهما على الإدلاء بمعلومات عن مكان اختفاء شقيقهما ثم جرى ترحيلهما إلى مقر معسكر الأمن المركزي على الطريق الصحراوي وأودعوا بعنبر يطلق عليه: (عنبر العيال)، وهناك تعرضا لتعذيب مبرح استمر 32 يوما شمل الضرب بأسلاك مجدولة، والتعليق في أوضاع مختلفة، والصعق بالكهرباء في الأعضاء التناسلية ..
اقرؤوا أيضا ..
توجهت قوة من الشرطة إلى منزل الطفلين:(...) 9 أعوام و (...) 12 عاما للبحث عن شقيقهما الهارب، ووجه أحد الضباط مسدسه إلى الطفل الثاني لاستخدامه كدرع واق لحمايته من أي هجوم محتمل، وجرى سؤالهم عن مكان اختفاء شقيقهم، وتعرض الأول لضرب مبرح لإنكاره معرفة مكان اختفاء شقيقه، ثم اقتادهما رجال الشرطة حفاة وبملابس النوم إلى أقاربهم الذين يحتمل اختفاء شقيقهم لديهم، ولما لم يجدوه اصطحبوا الجميع إلى قسم شرطة إمبابة، وفي الطريق إلى القسم غمس أحد الضباط وجه الطفل الأول في حائط مطلي بالبوية حديثا، وفي قسم الشرطة احتجز الجميع وتعرضوا للضرب..  يقول الطفل الأول: ضربوني بالأقدام فاصطدمت بالباب وسقطت على الأرض، ثم قام الجنود برفع أقدامي إلى أعلى وضربوني بعصا عليها كثيرا، ثم وضعوها في الفلكة، وبعد أن ضربت طلبوا مني الجري حتى لا تتورم قدماي، وبعد أن انتهوا وضعوني في حجرة وأغلقوا علي الباب رغم صراخي لمعرفة مصير شقيقي الصغير الذي وضع في مكان آخر، وفي المساء قبضت الشرطة على الشقيق الهارب، وأدخلوا الطفلين المحتجزين عليه، حيث شاهداه وهو معلق ويتعرض للتعذيب، ويضيف الطفل: رأيت أخي ينزف دما من فمه، وكان لا يستطيع الوقوف على قدميه، وكان أحد الضباط يضربه بخشبة ..
هل قرأتم؟..
هل قرأتم أيها المخدوعون، الذين تدافعون عن ممارسات النظام..
هل تحتاجون إلى مزيد؟.
لدينا منه الكثير جدا، لكنني أشعر بالاشمئزاز والقرف، بالانسحاق.
و كواجب ثقيل أجد لزاما علي أن أنهي إليكم ما كان يحدث للأطفال في معسكرات و أقسام الشرطة، في عهد زعموا أنه عهد الديموقراطية التي لا تصادر رأيا ولا تكسر قلما، بينما كان الواقع أنها تصادر الحياة وتكسر الرقاب، اقرؤوا معي عن ماذا كان يحدث لهذا الطفل إبان اعتقاله، اقرؤوا ما ورد في شهادة أحد المحتجزين بقسم شرطة قصر النيل في أعقاب ندوة نقابة الأطباء عما سمّي بتنظيم الأطفال:
 كان هناك نحو خمسين شخصا في حجرة لا تتعدى مساحتها 4x 5 أمتار مما اضطر البعض للنوم في دورة المياه القذرة. من بين المحتجزين لاحظت انفراد شخص واحد ضخم الجثة بنحو ربع مساحة الحجرة يتمدد فيها ويحيط نفسه بمساحة خالية يتصرف فيها، بينما تكدس بقية المحتجزين في المساحة المتبقية في وضع القرفصاء، وكان لهذا الشخص الذي يبدو من عتاة المجرمين سطوة بالغة على كافة المحتجزين، وينادي على بعضهم بأسماء مؤنثة، فيلبون النداء بسرعة بالغة خوفا من بطشه، كان هذا البلطجي صاحب الكلمة النافذة في شئون الحجز، ويقوم بتأديب بعض المحتجزين في حالة مخالفتهم لأوامره وأحيانا دون سبب واضح تحت سمع وبصر المسئولين عن القسم من ضباط وجنود الشرطة. بعض المحتجزين، من أصحاب الأسماء المؤنثة كانوا يضطرون لتلبية رغبات البلطجي بممارسة الجنس بالإكراه معهم أمام بقية المحتجزين، وأغلب هؤلاء الضحايا صبية لا تتجاوز أعمارهم 15 أو 16 عاما ..
يا أهل مصر..
نحن لا نتحدث عن الدكتور علاء محيي الدين ولا عن المحامي عبد الحارث مدني ولا عن كمال السنانيري ولا عن البلتاجي ولا عن حاتم ماهر وعشرات وعشرات، فأولئك جميعا ستتشدق أفواه مجرمة لتتهمهم - حتى دون حكم محكمة - بأنهم إرهابيون، وما دام ضابط الشرطة - وليس القاضي أو حتى وكيل النيابة - قد حكم على أحد بأنه إرهابي،حتى دون دليل، فإنه يفقد على الفور كل حقوقه كإنسان ويهدر دمه دون عقاب..
لا أتحدث عنهم، وليس الحديث عنهم عيبا بل عدم الحديث عنهم جريمة، لكنني أريد أن أثبت أمامكم، أنني وقد بتّ أرى الملك عاريا، أواجه ادعاءات بعض قطاعات الشرطة عن ضحاياها بأنهم مجرمون لذلك يفعلون بهم ما يفعلون، أريد أن أثبت أمامكم، أمام العالم، أن الضحايا ليسوا هم المجرمين بل ذلك النمط من رجال الشرطة الذين يعذبونهم هم المجرمون..
لذلك لا أتحدث عن أي من المعتقلين السياسيين، بل أذكر أناسا بسطاء سلبيين في الغالب، ينشدون السلامة، وينأون قدر استطاعتهم عن كل ما يمكن أن يزعج السلطة والشرطة..
أتحدث عن القبض على الأطفال وتعذيبهم والاعتداء عليهم جنسيا داخل أقسام الشرطة..
أتحدث عن الأستاذ الدكتور زكريا الشامي الأستاذ بجامعة قناة السويس عندما احتكت سيارته بسيارة ضابط شرطة، فتعرض للضرب والصفع على الوجه والنقل في الصندوق الخلفي لسيارة الشرطة إلى القسم حيث تلقى جرعة إضافية من التعذيب..
أتحدث عن ميرفت عبد الحميد: المضيفة الجوية التي تعرضت للتعذيب الوحشي بقسم شرطة مدينة نصر بواسطة رئيس المباحث واثنين من معاونيه لإرغامها على الاعتراف بالسرقة رغم تبرئة النيابة لها مما أدى إلى محاولتها الانتحار بالقفز من نافذة غرفة رئيس المباحث خاصة بعد تهديدها بتجريدها من ملابسها فأصيبت بارتجاج في المخ وكسور بالأسنان وعظمة الترقوة..
أتحدث غن الاختفاء القسري لأناس لم تجد الشرطة ما يدينهم ولكن سلوكهم لم يعجبها فاختطفتهم.. وبعدها اختفوا..
أتحدث عن السيدة : "ا.. ب"  التي حاول ضباط شرطة قسم أول الزقازيق إجبارها علي شهادة الزور في قضية سرقة، فرفضت، فخلعوا عنها ملابسها، وضربوها ضربا مبرحا، وقام أحد الضباط القائمين على تعذيبها بإيلاج قضيب حديدي في شرجها عدة مرات ..
أتحدث عن الطالب: (...) الذي قبض عليه في تظاهر سلمي للطلاب كي يعبروا فيه عن رأيهم في مؤتمر مدريد، فنقلوه إلى مقر مباحث أمن الدولة في بور سعيد حيث جري تقييد يديه ووضع عصابة على عينيه، ونزع ملابسه، وجرى صعقه بالكهرباء في حلمتي الثدي والخصية و أماكن أخرى، وعلق كالخروف المشوي فوق نيران مشتعلة، وضرب بالكرباج لفترات طويلة، ثم نزعوا سرواله ووضع أحد رجال الأمن أصابعه عدة مرات في فتحة الشرج بعنف، ثم وضع خوازيق لا يعرف طبيعتها، وعقب ذلك قام بالاعتداء عليه جنسيا..
أتحدث عن اعتقال نوارة الانتصار أحمد فؤاد نجم لاحتجاجها على اشتراك إسرائيل في معرض الكتاب..
أتحدث عن مصطفي محمد عبد الحميد الطالب بالسنة الثالثة بكلية طب الزقازيق والذي تعرض للتعذيب بشكل وحشي، ثم اختفي، ويعتقد شهود العيان أنه عذب حتى الموت، لكنهم أخفوا جثته عن أهله ..
أتحدث عن نصرة فتحي إبراهيم التلميذة المنقبة بمدرسة السلام ثانوية بنات بحدائق القبة، و كان آخر مكان شوهدت فيه مقر مباحث أمن الدولة في لاظوغلي، ولم يرها أحد بعد ذلك..
أتحدث عن انتهاك قرى بأكملها، اعتقال رجالها ونسائها وأطفالها وتعذيبهم بمنتهى القسوة والعنف لمجرد خلاف عادي مع ضابط شرطة..
أتحدث عن مواجهة إضرابات العمال من أجل مطالب وظيفية، وتجمعات الطلاب من أجل التعبير عن رأيهم بالضرب بالرصاص حتى الموت ..
أتحدث عن تعرض النساء للتعذيب المروع، وخلع ملابسهن والعبث في أعضائهن التناسلية من قبل ضباط الشرطة..
أتحدث، و أتحدث، و أتحدث.. وبالرغم من ذلك ليس حديثي سوى نزر يسير مما ورد موثقا في تقارير منظمات حقوق الإنسان الذي ينص على:
 إن ظاهرة التعذيب أكبر من الطاقات المحدودة للمنظمة على التقصي والتحقيق والتوثيق، وأن ما تنشره المنظمة هو مجرد قطرة من محيط، هو مجرد حالات نموذجية موثقة ومحققة تشير إلى أبعاد الظاهرة ومدى شيوعها دون أن تستطيع الإحاطة بكل مظاهرها، والوصول إلى كل ضحاياها..
يا أهل مصر.. يا قراء..
ثمة أسئلة تحيرني..
ما هو الدافع لكل هذا الإجرام لماذا هم مجرمون إلى هذا الحد؟.
هل هو عنصر خلقي، أو وراثي، أم مرض عقلي أم نفسي، أم تغلغل الجريمة واختلاطها بالدم..
هل هو النظام السياسي؟.
هل هي الحماقة في الدفاع عن الذات؟.
المستشار الذي أصدر الحيثيات التي صدرت بها هذا الجزء أو الشلو من الكتاب والذي وصف ما تقوم به الشرطة من تعذيب بأنه إجرام في إجرام ليس أيضا معارضا ولا متعاطفا مع الجماعات الإسلامية وليس حتى - أيضا - ضد إسرائيل، فهو المستشار محمد سعيد العشماوي..
هل عرفتم الآن منبع الإرهاب ومن هم السبب فيه؟.
إنني قد أفهم - ولا أوافق - ما يحدث للمتهمين السياسيين على ضوء قول الدكتور محمد السيد سعيد أنه صراع على السلطة من جماعات تفتقد كلها إلى الشرعية، وقد أفهم - ولا أوافق - أن السلطة تدافع عن نفسها ضد معارضيها دفاع حياة أو موت، وقد أفهم - ولا أوافق - عنف بعض رجال السلطة والشرطة الحاليين لأنهم يدركون ماذا يمكن أن يحدث لهم إذا تولت الحكم فئة أخرى - أي فئة أخرى- طبقت عليهم قانون العقوبات العادي..
أفهم أيضا أن تنفرد الوحوش البشرية - وليس ثمت وحش حتى يعذب وحشا - بضحاياها في أقبية السجون تمارس النشوة القذرة في تعذيب أناس لا حول لهم ولا قوة، لا لحماية النظام، فهم في حوزتهم، ولا لحملهم على الاعتراف فهم أول من يعلم أنهم يلفقون وأن القانون يهدر اعترافات التعذيب، وإنما لأن نفوسهم المريضة المشوهة تدفعهم إلى الإبداع في القسوة، والتجديد في التعذيب، والتنافس في العنف، ليس لمجرد إرضاء رئيس، ولا الحصول على ترقية، وإنما هو الشر من أجل الشر، أفهم أن يفعلوا كل ذلك، لأنهم يدركون أن ضحاياهم حتى لو أفرج عنهم وخرجوا من السجن أحياء فسيكونون محطمين، غير قادرين على فضح كل ما حدث لهم.
أفهم كل ذلك ولا أوافق عليه..
الذي لا أفهمه، هو لماذا يحدث ذلك مع الناس العاديين الذين يجبرهم حظهم التعس على المثول في قسم شرطة لماذا تطلق السلطة للشرطة العقال لكي يمارسوا هناك نفس الشيء؟...
 هل هو المرض الذي أصبح وباء؟. هل تلوثهم السلطة كي يكونوا طوع بنانها؟، ذلك أن ضابط الشرطة الذي يتعود على امتهان كرامة الجسد البشري بتعذيبه لن يتردد حين يؤمر بانتهاك إرادته بتزوير صوته، أو بغض الطرف عن لص، أو ملاحقة شريف، أم أن السلطة تدرك أن قيام ضابط الشرطة بالتعذيب إنما هو ضد كل طبيعة بشرية، وقيمة دينية، ضد كل عرف وثقافة وحضارة وسلوك طبيعي، و أنه يحتاج جهدا هائلا للتغلب على كل هذه القيم، و أن هذا الجهد لابد أن يتم في أقسام الشرطة فيتم استبعاد من تبدو منه لمحة دين أو خلق أو ضمير، أما أولئك الذين يثبتون أنهم قادرون على التحول إلى كائنات أكثر شرا وبطشا من الوحوش فإنهم يختارونهم للعمل في مجال التعذيب، تماما كما ينشرون ممارسة الرياضة في المدارس، كي ينتقوا المتميزين بعد ذلك أبطالا في النوادي الكبرى ..
يا قوم: لعل من حق الأجانب - لكنه أبدا ليس حقكم أنتم - أن يتساءلوا فيما بينهم في عجب: أين مجلس شعبهم وشوراهم؟. أين شيخ أزهرهم ومفتي ديارهم؟. أين مجالس جامعاتهم ومثقفوهم؟. أين الأمة؟. لعلهم - هم وليس أنتم - يقررون في دهشة - إن حق أن يدهش العالم- أنه إن كانت كل هذه الأجهزة والهيئات والمؤسسات عاجزة عن رد كل هذا الذي يحدث فلا حاجة لنا بها، ولعلهم يتهامسون في أسى مختلط بالنشوة مغتبطين أنهم ليسوا من أهل هذه البلاد التي تعامل رعاياها بأسوأ مما يعاملون حيواناتهم، ولعلهم في حيرة من أمرهم: أما من وزير استقال احتجاجا، أو محافظ رفض أن تحدث هذه الجرائم على أرض محافظته؟!.
أعترف لكم أن موقف الأمة تجاه التعذيب - خاصة معظم مثقفيها - كان مخزيا، كان وما يزال، لينظر كل كاتب إلى ما يكتب، هل هو أهم من مواجهة هذا الذي يحدث؟. بل كيف تطيب لنا حياة ونحن تاركوهم يفسقون بالأمة كل هذا الفسق ويفجرون بها كل هذا الفجور ويجرمون بحقها كل هذه الجرائم، كيف نستطيع النوم، والسير في الطرقات مختالين، كيف يستطيع المرء منا مداعبة طفله، وثمة طفل يعذبه في نفس الآن ضابط شرطة، أو يناديه بلطجي في تخشيبة قسم شرطة باسم أنثوي كي يعتدي عليه جنسيا، أمام الناس، كيف نستطيع أن نضحك أو حتى نبتسم في وقار زائف وثمة امرأة تصرخ في نفس الوقت لأنهم يهتكون عرضها؟. كيف استطعنا أن نتلذذ بطعام وهم يعلقون شخصا فوق النار في وضع الخروف المشوي؟.؟؟ كيف وكيف وكيف وكيف..
ربما كانت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان هي الجهة الوحيدة التي قامت بدور بطولي في هذا الصدد ..
فهل تعلمون ماذا فعلت الشرطة إزاء جهود هذه المنظمة الشجاعة النبيلة الباسلة عقابا لها على كشف الممارسات البشعة للشرطة، على كشف كل هذا الإجرام؟...
لقد ألقت القبض على بعض أعضائها وتعرضوا لنفس التعذيب..
كان من المقبوض عليهم الدكتور محمد السيد سعيد، الباحث المرموق المعروف على النطاق العالمي، والمحاضر في عدد من الجامعات في مصر والخارج، والمراكز البحثية وبينها الأكاديمية العسكرية التابعة لوزارة الدفاع، والمعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية، وله عديد من المؤلفات وعشرات من الدراسات والمقالات المنشورة..
لم يشفع لمحمد السيد سعيد ذلك، لم تشفع له قيمته، ولا أهمية المؤسسات التي ينتمي إليها، فالشرطة فوق الجميع، ولن تغفر له الشرطة أبدا تلك الجريمة التي ارتكبها عندما أعد بحثا حلل فيه ورصد أسلوب العقاب الجماعي الذي توسعت الشرطة المصرية في ممارسته ضد القرى والتجمعات السكانية..
كان سلاح محمد السيد سعيد القلم والفكر، وكان ردهم عليه جرعات مكثفة من التعذيب تعرض خلالها للإغماء أكثر من مرة بسبب عنف التعذيب، سحلوه من قدمه اليمني عشرين مترا علي أرض السجن أجبر على غمر وجهه أكثر من مرة في برميل مملوء بالمياه القذرة استعملوا معه ومع زملائه العصي العادية والكهربائية والهراوات والكرابيج بالإضافة إلى الضرب بالأيدي والركل بالأقدام وتعرضوا لتهديدات بينها الاعتداء الجنسي فضلا عن توجيه أقذر أنواع السباب لهم، استعملوا كذلك الكلاب البوليسية لإرهابهم أثناء التعذيب الذي قام به عشرون ضابطا يرتدون ملابس عسكرية بين رتبة العميد والملازم أول، فضلا عن عدد مماثل من الضباط يرتدون ملابس مدنية وكان ثمة ضابط يحمل رشاشا في تهديد صريح بالموت..
أجبر محمد السيد سعيد وزملاؤه على المرور بين صفين من جنود الشرطة والكلاب البوليسية وراح الجنود يتناوبون ضربهم بالأيدي والأقدام والهراوات والعصي المكهربة..
و تصادف أن وفدا من نقابة الصحفيين قد توجه لزيارة زملائهم المسجونين بعد ساعة واحدة من ضربهم بهذا الشكل الوحشي، وحاولت إدارة السجن عرقلة الزيارة، لكن ربما كانت مناصب وأسماء الوفد أكبر من أن تمنع عنوة، وربما - وهذا هو المحتمل أكثر - أن الشرطة أرادت أن تثبت لأعضاء الوفد أنهم هم الدولة، أنهم فوق كل شيء ولا يأبهون بأي شيء.
 قيل أن مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين آنذاك، وكان معه أسامة سرايا والسيد ياسين وأسامة الغزالي حرب وعبد المنعم سعيد وجهاد عودة، قيل أنهم أصروا على عدم مغادرة السجن حتى يتمكنوا من مشاهدة الدكتور محمد السيد سعيد.. رئيس.. وعضو.. ومسئول.. الباحث.. المحاضر.. الـــ... ...
اضطر وفد الصحفيين للانتظار ساعتين حتى تتم إفاقة محمد السيد سعيد من الإغماء..
وشاهدوه، بالدم والجراح والانسحاق شاهدوه..
ربما أحس مكرم محمد أحمد ساعتها أن مصر هي الجريحة و أن الوطن هو المهان و أن الأمة هي المعذبة و أن الكرامة في معناها المجرد هي المسفوحة و أن المستقبل هو المعتقل في سجن أبوزعبل، و أنه يتم هناك تحطيمه..
يا إلهي.. هل هم فإلا كما يقولون: الكل في الكل و أنهم هم الدولة؟.؟.
قيل أن مكرم محمد أحمد - وهو من كبار المؤيدين للنظام - أصيب بنوع من الانهيار العصبي، و أنه انصرف إلى بيته عازما على الاستقالة من مناصبه احتجاجا صارخا على ما رأى ..
لكن السلطة والشرطة صالحاه، و أفرج عن محمد السيد سعيد دون محاكمة، فلم تكن هناك قضية..
في اللقاء السنوي في معرض الكتاب بين الرئيس والمثقفين، كان عبد الستار الطويلة يعاتب الرئيس مبارك على تجاوزات - لا جرائم - بعض أجهزة الأمن مناشدا الإفراج عن عادل حسين ومذكرا بما حدث للدكتور محمد السيد سعيد.
و ضحك الرئيس، وقال لعبد الستار الطويلة تعليقا على الحدث: ما هو صاحبك اللي عمل كده، منوها بصداقة كانت تربط بين وزير الداخلية آنذاك وبين عبد الستار الطويلة..
لشد ما غضبت وسخطت على وسائل الإعلام..
حتى لو قيل ذلك، فما كان يجب أن يعلن..
 يظل الرئيس بالنسبة للأمة ملاذ أمل أخير، وهم يعزّون أنفسهم دائما بأن الحاشية حاولت أن تحجب عنه تفاصيل ما يحدث، وأنه لو عرف، لقامت الدنيا وما قعدت..
ليت جهازا ما أشاع ولو على غير الحقيقة أن قرارا صدر من أعلى مستوى بالتحقيق الصارم ومعاقبة الجناة..
ليت..وليت..وليت... .
ينفجر مخزون الذكريات والألم ..
يا إلهي.. ما كان أبهى عهد الرئيس مبارك في بدايته..
ما أكثر ما حملناه من أمل..
لكن تقرير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان يقرر أن التعذيب قد عاد إلى الظهور في مصر منذ عام 81.. وهو عام بداية ولايته ..
يا قوم ... يا كتاب يا قراء
من ناحيتي، سوف أكتب للنائب العام، مستعطفا مسترحما متوسلا ولائذا، فماذا ستفعلون أنتم؟.
و.. لـــــيت الــــطـــفــل لــم يــر الــملك عــــاريا !!


 السيد النائب العام:


يحذرني الخلان من الكتابة إليك --
و أنت تعلم أن منصبكم الجليل قد اقترن دائما في وعي الأمة بالرهبة والخوف ..
والإنسان مذ يولد حتى يموت يغالب خوفه..
وثمة درجات من الخوف لعلك توافقني أن أسماها هو الخوف من الله الواحد القهار الجبار المتكبر المهيمن المعز المذل.. المنتقم.. المهيمن الملك ..
وينبثق عن هذا الخوف الجليل النبيل الخوف من الضمير، ومن التاريخ، ومن الوقوع في الخطأ..
وثمة مخوّفات أخرى، كالعقاب، والسجن والتعذيب والوحوش الضواري والأفاعي السامة والكوارث و بعض قطاعات الشرطة والجن..
عندما كتبت عن الشرطة حذرني الخلان أيضا..
وقلت لهم لقد كتبت إلى الرئيس مبارك نفسه رسالات مستفيضة[5] ربما تجاوزت فيها الهامش المتاح، فكيف تخشون من كتابتي إلى كبار رجاله، وأعوانه، أو إلى خدمه، حيث يعرف الفيروزابادي الشرطة بأنهم خدم السلطان، و أجاب الخلان أن ثمة فرق بين أن تهاجم الأسد نفسه، وبين أن تهاجم مخالبه..
والحقيقة يا سيادة النائب العام أنني أظنهم على صواب..
الفيروزابادي يراهم خدما للسلطان، بينما أرى بعض قطاعاتهم خدما للشيطان..
وعلى الرغم من ذلك، أو على الأحرى من أجله أكتب إليك..
فقد اقترن منصبكم منذ آماد بعيدة في الوعي الجمعي للأمة لا بالخوف و الرهبة والتقدير فقط، بل وبالحب أيضا..
ولـطالما استمتعنا بأحلام اليقظة في طفولتنا، والخيالات بالنسبة لنا وقائع، والأوهام حقائق، رحنا ننسج حكاية الطيب والشرير على منوال خيالنا، فنتخيل الشرير رجل شرطة باطش جبار كبير ضخم قبيح مخيف وهو لا يكاد يعرف الخوف، لكن هذا الغول الشرير يرتعد فرقا أمام وكيل النيابة الخيّر، وهو- كما في خيالنا -  شاب حديث السن لا يرتدي ملابس الشرطة بل مثل ملابسنا يلبس، و كانت خيالاتنا الصغيرة تجسد الخيال فنكاد نرى بعيوننا ونسمع بآذاننا كل محاولات الضابط الشرير الذي عركته السنون لخداع وكيل النيابة الشاب، الذي كالشاطر حسن، والسندباد، و أبي زيد الهلالي، يكشف كل حيلة، ويفسد كل خدعة، لينقذ الضحايا من براثن الوحش، في اللحظة الحاسمة..
وكانت تقف  خلف الضابط الشرير سلسلة طويلة تمر حتى بالملك، وتنتهي بالشيطان..
لكن وكيل النيابة أيضا كان يظفر بدعم سلسلة طويلة لا تنتهي بالنائب العام في العاصمة، الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يقول للملك: لا، و أن يحبسه أيضا، لم تكن السلسلة تنتهي به، فقد كانت مدعومة بالعدل الإلهي ذاته..
كنا نعرف ذلك، ورغم أن شيوخ المساجد الصغيرة التي كنا نصلي فيها لم يكونوا قادرين على الجهر بالأحاديث النبوية عن الشرطة، فقد استطعنا أن نقرأها نحن بعد ذلك..
في الحديث النبوي الشريف ورد ذكر الشرطة مرارا، وفي الغالب الأعم كان التحذير والإدانة هما المعني قال صلي الله عليه وسلم: سيكون في آخر الزمان شرطة يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله، فإياك أن تكون من بطانتهم، ثم يحذرنا صلوات الله وسلامه عليه من إمارة السفهاء وكثرة الشرط، ثم يكون القول المرعب القاسي على كل ظالم يطيع المخلوق في معصية الخالق: الشرط و أعوان الظلمة كلاب النار .
 الروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف يفتتح روايته المروعة: الآن أو هنا أو: شرق المتوسط مرة أخرى بحديث آخر فجاء في كتاب حياة الحيوان الكبرى فروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : أدخلت الجنة فرأيت فيها ذئبا، فقلت أذئب في الجنة؟. فقال أكلت ابن شرطي، فقال ابن عباس: هذا وإنما أكل ابنه فلو أكله رفع في عليين ..
 وبرغم أنني أعتقد أن الحديث موضوع، فلم أجده كالأحاديث السابقة له في كتب أحاديث الأئمة المعتمدة من الأمة، لكن الحديث حتى لو كان موضوعا، فان كاتبا فحلا مثل عبد الرحمن منيف يعتمده، كما تناقلته كتب للتراث تعبر بصورة ما، عما في قلب الأمة تجاه بعض قطاعات الشرطة..
ورحنا يا سيادة النائب العام ننخلع من جنات طفولتنا، ونفطم على مرارات علقمية، ونتسلق الطرق الوعرة، ونكبر، والفكرة تكبر معنا وتتطور، وتكتسب أبعادا جديدة ومرارات مختلفات وآفاقا أخرى..
في ذلك الوقت، لم نكن قد قرأنا بعد قول أفلاطون: من يقتل الناس ظلما وعدوانا، ويذق بلسان وفم دنسين دماء أهله ويشردهم ويقتلهم.. فمن المحتم أن ينتهي به الأمر إلى أن يصبح طاغية ويتحول إلى ذئب..
ولم نكن أيضا قد قرأنا قول جون لوك في كتابه الحكم المدني: الشرطي الذي يجاوز حدود سلطاته يتحول إلى لص أو قاطع طريق، كذلك كل من يتجاوز حدود السلطة المشروعة سواء كان موظفا رفيعا أم وضيعا، ملكا أم شرطيا، بل إن جرمه يكون أعظم إذا صدر عمن عظمت الأمانة التي عهد بها إليه..
و في نفس الوقت الذي رحنا نقرأ فيه ذلك عن بعض قطاعات الشرطة، ونشاهد ونسمع ما يروى، كنا نكن للقضاء جالسه وواقفه كل تمجيد، حتى أنني أصبت بالدهشة وعدم التصديق ذات مرة، حين كنت أجالس أحد كبار المستشارين، وراح يحكي لي عن عمله، وفجأة، انبثق في عينيه ذلك الخوف النبيل وهو يقول: في مثل عملنا: إما أن يكون الإنسان أفضل من الملائكة، أو أشد سوءا من الشياطين ودهشت، لأنني لم أتخيل قبل ذلك وجود الصنف الثاني قط بين من يحملون على كواهلهم شرف تحقيق العدل: قضاء أو نيابة، و أدرك دهشتي فواصل قائلا: إن الله يحيي ويميت، كذلك القاضي الذي بكلمة منه يستطيع أن يحكم بالموت أو يمنح الحياة للمتهم الواقف أمامه، إن لم يكن إيمان هذا القاضي بالله كأعمق ما يكون فإن ما لديه من سلطة سيدفعه لأن يكون أسوأ من الشياطين..
 بعد ذلك عرفنا من الحديث النبوي الشريف أن قاضيا في الجنة وقاضيين في النار، و أدركنا لماذا كان أئمتنا يهربون من القضاء هروبهم من الوباء ومن الموت.. و أنهم كانوا يفضلون الجلد بالسياط، والسجن حتى الموت، عن أن يتولوه فيبوءوا بغضب الله..
نفس المعني أقره لي نائب عام سابق أثناء توليه، حين التمع ذات الخوف النبيل في عينيه وهو يحدثني: منصبي شديد الوطأة على نفسي، فليس لي من مرجع أرجع إليه إلا الله، ولا رقيب عليّ سواه، وما من أحد له سلطة عليّ، ولا يستطيع إعفائي من منصبي سوى الموت، حتى رئيس الجمهورية لا يستطيع، وذلك كله يجعل من مسئوليتي أمام ضميري و أمام الله هائلة، إن أخطأت فلا أحد يشاركني الخطأ، كما أن سكوتي عن أي خطأ لأي سبب ليس إلا فسادا في خلقي وشرا يخالط روحي، لن أجد تبريرا، ففي منصبي: لا عذر لوزر ..
 وطفقت أردد خلفه لا عذر لوزر، إلا في نفس تقمصها الشيطان..
لأن الله هو الأول والآخر يا سيادة النائب العام، وهو العدل، ولإدراكنا أن القائم بمنصبك، والجالس في مقعدك مكلف بإقامة العدل، فقد أدركنا أن الرهبة التي يتسم بها منصبك، ووكلاؤك، هي رهبة العدل لا رهبة الخوف، وقوة الحق لا سطوة البطش، وهي مشاعر كما لابد ترى لا تقتصر على شخص بل تسبغ طوفان جيشانها علي المنصب ذاته..
لذلك..
ما أشد ما روّعت يا سيادة النائب العام عندما قرأت تقارير منظمات حقوق الإنسان، وبعض الصحف والكتب التي تذكر ما يحدث في مصر لا في الغابة، الآن لا في عصور البداوة والهمجية والتوحش، تحت بصر القانون المدني، وليس في إطار قوانين محاكم التفتيش ..
حين قرأت تلك التقارير رحت أستعيد – يا سيادة النائب العام - أسطورة ذلك الطفل الذي صرخ أنه يرى الملك عاريا، وطفقت أفكر كم تعذب هذا الطفل، وهو يرى الأشياء عارية..
حجم الوقائع مخيف، وتكرارها مروع، والإصرار عليها مذهل، وعدم اتخاذ موقف منها يحاول أن يهدم يقينا طالما حاولت الحفاظ عليه..
يورد التقرير وتذكر الكتب النماذج المروعة للتعذيب وموقف النيابة منها..
هل تجاوز التقرير حده عندما اتهم النيابة في بعض الأحيان بالتواطؤ؟؟.
هل تجاوز التقرير الصدق عندما أعلن أنه أبلغ مكتبك - يا سيادة النائب العام - بمئات التقارير الموثقة عن حالات التعذيب وإهدار القانون دون رد؟.
يكاد الطفل القديم وقد انبلجت خيالاته عن أصغر وكيل للنائب العام  يصرخ: كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ..
شوِّهوا كل شيء واطعنوا كل شيء إلا النيابة والقضاء، فهما الملاذ والحصن، ولو تطرق إليهما ما عمّ باقي الأجهزة في بلادنا فقد خسرنا كل شيء، إلا النيابة والقضاء، فهما القادران على تعديل الدفة المنحرفة، و إنقاذ السفينة التي توشك على الغرق وددت أن أكذّب التقرير، أن يكذّبه وزير الداخلية مقيما الدليل، أن يكذّبه الرئيس، أن يكذّبه العالم، أو أن تكذّبه أنت يا سيادة النائب العام..
لم يتحدث إلا إبراهيم سعدة، تحدث متّهـِـما من يثيرون قضية التعذيب بأنهم عملاء للــ C.I.A. وأنهم يهددون الأمن القومي فقلت لنفسي: رمتني بدائها وانسلت ..
لكنني أعلم يا سيادة النائب العام أن هذه الوقائع لا يمكن أن تكون قد اتصلت بعلمك، لا دون رد فقط، بل دون أن تقلب الدنيا على رؤوس الجبابرة..
لقد أرغم النائب العام الأمريكي رئيس جمهوريتها على الاستقالة لأسباب أقل من هذا بكثير..
فمن سواك لها.. يا محامي الأمة الساهر على حقوقها، المروّع دائما بمسئوليتك المبهظة عن كل مظلمة تصيب أيا من أفرادها، بل أيا من حيواناتها، ولو كانت شاة في الصعيد ظلمت ..
من غيرك يستطيع..
تستطيع الأمة أن تستدرك أي خلل يصيبها من خلال سلامة أجهزتك..
أنت الحكم والفيصل والميزان..
ولا تستطيع الأمة مجرد تخيل أن بالميزان ميل..
عندما استبد بي يا سيادة النائب العام الألم، وغرقت في لجج الحيرة، لأنه من المستحيل أن أشك فيما يمثله منصبكم، ومن الصعب أن أشك في صدق تقارير المنظمة، التي كان من الممكن أن أشك فيها لو أن قرارا هائلا صدر من مكتبكم بإحالة جميع أعضائها إلى المحاكمة بتهمة تشويه أنبل ما في الأمة، ولو نجحت محاولة التشويه تلك - لا قدر الله - لتحطمت قلاع شامخة لا يجب أن تميد، ولانحطمت قيم راسخة التي لا نحتمل أن تبيد..
وفي خضم الحيرة بين صدق واجب وصدق واقع يا سيادة النائب العام لم أملك إلا الشك في المنطق..
تعلمت الشك في المنطق منذ بدايات دراساتي في الفلسفة واستبدلت الشك في تقارير المنظمات وفي رد فعلك بالشك في منطقي، في فهمي وفي عقلي..
تعلمت أن العقل البشري محدود، وقاصر، و أنه في قمة توهجه، وفي صميم ميدانه، في عالم المعادلات الفلسفية والرياضية قد يقع في أخطاء فادحة، فلننظر إلى هذه المسألة الرياضية مثلا ..
نصف أعمي =  نصف مبصر..
وبضرب طرفي المعادلة في رقم 2 تكون النتيجة:
أعمي =  مبصر !!..
وهي نتيجة يرفضها المنطق بالطبع حتى و إن قالت بها قوانين الفلسفة أو معادلات الرياضة..
لكنني بالشك في منطقي يا سيادة النائب العام حللت جزءا من مشكلتي، بلا منطق، وان بقيت في نفسي غصة..
وفكرت، أن آفتي، كآفة أمتنا، هي الاعتماد على عقل واحد قد يعجز عن حل مسألة، ربما لو تصدي لها ستون مليون عقل لاستطاعوا حلها..
ومن هنا كان قراري يا سيادة النائب العام أن أعرض ما حيرني وما أهمني على الأمة كلها، علّني أجد جوابا وحلا..
أعرض المشكلة على الأمة كلها، مدينا أشد الإدانة كل كاتب وكل مفكر في هذا البلد لم يعط للمشكلة الهائلة حقها، مدينا أيضا كل مسئول وكل هيئة وكل جهاز كان يستطيع أن يفعل فلم يفعل، أو كان يملك أن يمنع فما منع، أو كان يستطيع أن يقول فلم يقل..
أعرض المشكلة على الأمة كلها، أسرد عليها بعض ما ورد في تلك التقارير..
وأعرضها عليك أيضا، فقد يكون شرطي شرير، حجب هذه التقارير عنك، واستولي عليها قبل أن تصل  إليك، لأنه لم يتخيل هو الآخر أنها يمكن أن تصلك دون رد فعل منك .
يقول تقرير منظمة حقوق الإنسان المزلزل: إن تقاعس النيابة في إجراء تحقيق سريع وعاجل في بلاغات التعذيب، أو طول المدة التي تستغرقها التحقيقات، وتأخر عرض المجني عليهم على الطب الشرعي يؤدي إلى إفلات المسئولين المتورطين في جرائم التعذيب من المساءلة والعقاب الرادع، كما يؤدي إلى إهدار حق المجني عليهم في إثبات آثار التعذيب، حيث أفضي تقاعس النيابة في هذا الصدد من جانب ومماطلة مصلحة السجون في الإحالة إلى مصلحة الطب الشرعي من جانب آخر إلى زوال المعالم الإصابية أو التئامها..
 ويضيف التقرير أنه رغم شيوع التعذيب في بلادنا، والذي أثبتته تحقيقات النيابة نفسها، و أثبتته أيضا تقارير الطب الشرعي، وحيثيات أحكام المحاكم، إلا أن الضحايا محرومون من مقاضاة جلاديهم، فالقانون يشترط أن يتعرفوا على شخصية الجلادين القائمين بالتعذيب من ضباط وجنود الشرطة الذين يحترزون لذلك بعصب أعين ضحاياهم، وفي الحالات النادرة التي يتمكن فيها الضحية من التعرف على جلاده، تسلبه المادة رقم 120 من قانون الإجراءات الجنائية حق مقاضاة جلاده أمام المحاكم، يقصر القانون ذلك الحق على النائب العام والمحامي العام، فإذا تقدم الضحية إلى النيابة بشكواه ضد معذبيه، وقررت النيابة حفظ التحقيق، لا يملك الضحية الحق في استئناف قرار النيابة..
يا إلهي..لست إذن المسئول الأول فقط.. بل والأوحد أيضا..  و حق كل معذب أمانة في عنقك أمام الله يوم القيامة..
في حالات عديدة، قررت النيابة حفظ التحقيق بأنه لا وجه لإقامة الدعوى لاعتبارات المحافظة على مستقبل الضابط الوظيفي ..
مستقبل الضابط الوظيفي -- كل المجرمين والخونة والسفاحين واللصوص لهم هم الآخرون مستقبل فلماذا لا نحافظ عليه هو الآخر؟!!.
منذ عام 1986 لم تقدم النيابة قضية تعذيب في قضايا الرأي إلى المحكمة..
لقد قامت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان بجهد بطولي، وطرقت كل الأبواب لوقف التعذيب: أصدرت المنظمة خمسة تقارير خاصة عن ظاهرة التعذيب في مصر، الأول في يناير 1990 حول التعذيب في مقار مباحث أمن الدولة، والثاني في نوفمبر 1990 حول التعذيب في أقسام الشرطة، والثالث في أغسطس 1991 حول التعذيب في بعض السجون المصرية، والرابع في ديسمبر 1992 حول التعذيب في معسكرات الأمن المركزي، والخامس في مارس 1993 وتضمن حالات التعذيب التي رافقت الحملة الأمنية التي قامت بها السلطات بمنطقة إمبابة .
في نفس الفترة أصدرت المنظمة 82 تقريرا موجزا ونداء عاجلا بحالات محددة من التعذيب وسوء المعاملة، كما تقدمت بثمانية وسبعين بلاغا إلى سيادتكم بحالات التعذيب الفردية والجماعية التي نمت إلى علمها، واحد فقط من هذه التقارير الثمانية والسبعين كان يضم أربعة وثلاثين وثلاثمائة ضحية للتعذيب..
ولقد أبلغت المنظمة مكتبكم يا سيادة النائب العام، كما أبلغت وزير الداخلية أيضا..
ولم تتلق أي رد..
بل و تزعم منشورات المنظمة يا سيادة النائب العام أن ثمة تعليمات منكم ألا يتم التصرف في الجرائم المنسوبة إلى أي من رجال الضبط - ضباط مباحث أمن الدولة - ضد الأفراد إلا من خلال مكتبكم ثم تردف إن هذه التعليمات تغل يد باقي أعضاء النيابة عن التصرف في تلك القضايا وهم ما يمثل استثناء ينافي أبسط مقتضيات العدالة والمساواة بين الأفراد..
إن المادة 410 من قانون الإجراءات الجنائية تقضي بأنه: لا يجوز لمأمور السجن أن يسمح لأحد من رجال السلطة بالاتصال بالمحبوس داخل السجن إلا بإذن كتابي من النيابة العامة وعليه أن يدون في دفتر السجن اسم الشخص الذي سمح له بذلك، ووقت المقابلة وتاريخ ومضمون الإذن ..
برغم القانون فان كل ما يتعلق بالسجناء السياسيين يخضع لمباحث أمن الدولة، للدرجة التي خصص لهم مكاتب داخل السجون والمعتقلات  يقيمون فيها إقامة شبه كاملة على مدار اليوم، و أنه يتم فيها بعض طقوس التعذيب..
لا يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل إن ضباط مباحث أمن الدولة يقومون - ضد القانون - بسحب المعتقل من السجن واقتياده إلى المقر المركزي لمباحث أمن الدولة في لاظوغلي أثناء الليل حيث يتعرض لجرعات متكررة من التعذيب قبل أن تتم إعادته إلى السجن في الفجر، ولا تدون حركة الخروج والعودة في سجلات السجن بالمخالفة للقانون..
إن النيابة العامة تحت رئاسة سيادتكم هي الجهة المسئولة عن التفتيش على السجون و أماكن الاحتجاز والتأكد من عدم وجود أي مخالفات للقانون، والاستماع إلى شكاوي المسجونين، كما أن المادة 1747 من تعليمات النائب العام تقضي بتفتيش السجون مرة في الشهر على الأقل دون إعلان مسبق حتى تستطيع الوقوف على حقيقة ما يجري بداخلها..
هذا هو القانون، لكن العديدين ممن عذبوا يقرون بأنهم طوال شهور عديدة لم يلتقوا قط بأعضاء النيابة العامة..
يقول التقرير: لقد تخلت النيابة عن مسئوليتها التي أناطها القانون بها من تحقيق في شكاوي التعذيب، لتكتفي في أحسن الأحوال بإثبات آثار التعذيب في محاضرها، دون - حتى - أن تقدم مبررا لوجود هذه الآثار المثبتة بتقارير الطب الشرعي في كثير من الحالات..
و لقد تجلي تخلي النيابة عن اختصاصاتها بالتحقيق في وقائع التعذيب في اضطرار محكمة أمن الدولة العليا طوارئ في قضية اغتيال الدكتور رفعت المحجوب إلى ندب عضو اليمين بالمحكمة للتحقيق في وقائع التعذيب التي تعرض لها المتهمون على ذمة هذه القضية ولقد ثبت هذا التعذيب حين أيدت تقارير الطب الشرعي أقوال الضحايا، و أثبتت هذه التقارير أيضا أن هذا التعذيب قد حدث بالكيفية وفي الوقت الذي حدده المتهمون في أقوالهم بالنيابة، ولقد سجلت النيابة أقوالهم، وتفضلت بإحالتهم إلى الطب الشرعي كما يقضي القانون، لكنها أغفلت متابعة تنفيذ قراراتها، مما ترتب عليه أن الضحايا لم يعرضوا على الطب الشرعي إلا بعد أسابيع من وقوع التعذيب..
و يصرخ تقرير المنظمة أن تقصير النيابة في القيام بمسئولياتها لا يقف عند حد الاكتفاء بإثبات آثار التعذيب أو التراخي في عرض الأشخاص الذين يدعون تعرضهم للتعذيب على الطب الشرعي قبل أن تندمل الآثار الإصابية التي لحقت بهم، بل يمتد هذا التقصير ليشمل تقاعس النيابة عن تحريك الدعوى الجنائية ضد المسئولين المتورطين في أعمال التعذيب..
في عام 1986 حكمت محكمة جنايات عابدين ببراءة 44 متهما من ضباط الشرطة المتهمين بالتعذيب، لا لأن التعذيب لم يحدث، لكن لأن الضحايا عجزوا عن تحديد أي من المتهمين هو الذي قام بتعذيبهم لأنهم كانوا معصوبي الأعين طيلة فترة تعذيبهم واستجوابهم..
و نعت المحكمة على النيابة تقصيرها في التحقيق في وقائع التعذيب..
ولقد اضطرت محاكم كثيرة إلى إهدار كافة الاعترافات المنسوبة إلى المتهمين نظرا لمناخ التعذيب والإكراه الذي تعرضوا له والذي تمثل في الضرب المتكرر  وإدخال عصا و إصبع في الشرج ..
وفي حكم آخر تقول حيثيات حكم المحكمة: إنه تيقن لها أن المدعي قد لاقى صنوفا من العذاب أثناء فترات اعتقاله متمثلة في ضربه بالعصي والسياط والأسلاك الكهربائية، والحرمان من الطعام والشراب و إطفاء السجائر المشتعلة في جسده مع تعريضه لصدمات كهربائية في الأماكن الحساسة في جسده، وكذا تهديده بالقيام بأعمال غير مشروعة مع زوجته ووالدته ..
يا إلهي..
إن الأمر يزداد صعوبة، فان المنظمة تستشهد بأحكام المحاكم وتقارير الطب الشرعي..
يواصل التقرير :
المتهمون في القضية 546 حصر أمن دولة عليا المعروفة إعلاميا بقضية اغتيال الدكتور رفعت المحجوب: وعددهم 27 متهما بينهم عشرة هاربون وقد قضت محكمة أمن الدولة العليا طوارئ في أغسطس 1993 بتبرئة المتهمين جميعا من تهمة الاغتيال، وطبقا لما هو موثق بمنطوق الحكم فقد أكدت المحكمة إن القاضي الجنائي في تقديره لإقرار المتهمين في التحقيقات يجب أن يضع في اعتباره الظروف والملابسات التي صدر خلالها هذا الإقرار مادام لم يصدر من المتهم تحت سمع وبصر القاضي، والأوراق تنطق بأن المتهم محمد النجار كان مهيئا للخوف والهلع بعد أن سقط في قبضة الشرطة أمام سور مبني كلية الهندسة بجامعة القاهرة في 27 أكتوبر 1990بعد أن شاهد زميليه يسقطان قتلى برصاص أجهزة الأمن تحت قدميه وبعد أن تلقى هو الآخر رصاصة في رأسه فضلا عن التعذيب الذي تعرض له وهو في كنفهم فصنعوا منه راويا للأقوال التي يلقنونها له ليدلي بها في التحقيقات وصنعوا منه دليلا ومرشدا لأوكار المتهمين بعد وعده بتسفيره للخارج أو وعيده بالتعذيب الذي سيلحق به إذا خرج عن الدور المرسوم له كما قرر هو نفسه في التحقيقات..
يا إلهي..لقد زورت الشرطة التحقيقات، ولفقت التهم، فأين كانت النيابة؟.
يضيف منطوق الحكم أن المحقق قد أثبت إصابات المتهم منذ استجوابه وأن جميع المتهمين الماثلين لم ينج أحدهم من التعذيب وأثبت المحققون إصابات بهم كما أكدت التقارير الطبية تعرضهم لأبشع أنواع التعذيب من ضرب بالسياط وتوصيل شحنات كهربائية إلى أجسامهم وموطن العفة منهم وتعليقهم وهم معصوبو العينين بقصد انتزاع الاعترافات منهم، وتكرارها بعد كل استجواب وانتهت المحكمة إلى استبعاد كافة الأدلة المستمدة من اعترافات المتهمين باعتبارها قد صدرت تحت وطأة التعذيب بهذه الصورة النكراء التي وردت بتقارير الطب الشرعي ..
ويقول تقرير الطب الشرعي رقم  725 الخاص بالمتهم إبراهيم إسماعيل عبد المجيد علام بوجود كدمات داكنة بالوجه والظهر والكتف والساعدين والفخذ واليد وسحجات رقيقة وسطحية منتشرة أعلى وحول حلمتي الثديين وثمرة القضيب بأوضاع مختلفة وان هذه الكدمات تحدث من المصادمة بأجسام صلبة رضية وان سجحات تحدث من مثل ملامسة الجسم لمصدر كهربائي وأضاف التقرير بوجود إعاقات كاملة في حركة الطرفين العلويين تحدث من مثل الضغط والشد كمثل التعليق من خلف، وان البؤرات النزفية الموصوفة حول الثديين ومقدمة القضيب تحدث نتيجة تقريب جسم أو أجسام مكهربة لسطح الجلد...
ويقول تقرير الطب الشرعي رقم 72 الخاص بالمتهم عادل قاسم سيد شعبان بوجود كدمات بالوجنة اليمنى والظهر والطرف العلوي الأيسر والفخذ الأيسر واليد اليمنى وحذوذ بأسفل الرسغين وسحجات طولية حول حلمتي الثديين والقضيب وأن الإصابات الأولى تحدث من المصادمة بجسم صلب والإصابات التي أسفل الرسغ من القيود الحديدية والسجحات من ملامسة الجسم لتيار كهربائي ويشير تقرير آخر لذات المتهم بوجود خدل شديد بالطرفين العلويين وإعاقة كاملة في حركتهما الإرادية وبؤرات نزفية تحت الجلد حول منطقة الثديين وثمرة القضيب، وان الإصابات الأولي ناتجة عن الضغط والشد على الأطراف كمثل التعليق من خلف وان الإصابات الثانية تحدث نتيجة تقريب جسم أو أجسام مكهربة لسطح الجلد..
كما يشير تقرير الطب الشرعي رقم 717 الخاص بالمتهم صفوت عبد الغني بوجود بؤرات نزفية متقاربة ومتجمعة تحت الجلد في حجم رأس الدبوس حول الثدي الأيمن وأسفل جدار البطن وحول القضيب التناسلي، تحدث مثلها نتيجة تقريب جسم أو أجسام مكهربة لسطح الجلد، وما ينجم عن ذلك عادة من تغيرات باثولوجية بالشعيرات الدموية الدقيقة..
وعلى الرغم من تعرض هؤلاء المتهمين للتعذيب، ومناظرة النيابة والطب الشرعي، إلا أن النيابة لم تباشر أي تحقيق مع الضباط المسئولين عن أعمال التعذيب، مما دفع محكمة أمن الدولة العليا طوارئ التي تنظر قضية اغتيال الدكتور رفعت المحجوب، إلى أن تقرر في يوليو 1991، ندب عضو بها بدرجة مستشار للتحقيق في وقائع التعذيب..
وقد رصدت حيثيات الحكم في هذه القضية تقاعس النيابة في تحقيق وقائع التعذيب حيث جاء بنص هذه الحيثيات أنه رغم أن المحكمة أحالت وقائع التعذيب التي تعرض لها المتهمون إلى النيابات المختصة لتحقيق هذه الوقائع، إلا أنه حتى تاريخ حجز الدعوى للحكم، أي بعد 3 سنوات من التعرض للتعذيب، لم ترد هذه التحقيقات من النيابة العامة ولم تشأ المحكمة الانتظار أكثر من ذلك حتى لا يتعطل الفصل في الدعوى ..
وأكدت هيئة المحكمة بنص حيثياتها على أن جرائم التعذيب التي تمس الكرامة وسلامة الجسم بل والحق في الحياة توجب تدخل المشرع بالنص صراحة على مسئولية رئيس الجهاز الذي يعمل به المتهم القائم بالتعذيب حتى ولو كان مجهولا أو تعذر على المعذب التعرف عليه لأنه كان معصوب العينين أو كان الذي قام بتعذيبه يخفي وجهه أو شخصيته، فان افتراض المسئولية الجنائية قبل رئيس الجهاز الذي وقع التعذيب فيه كفيلة بمنع التعذيب لأن التهديد بعقاب الرئيس الذي له الإشراف والرقابة يحمله على إحكام الرقابة والحيلولة دون وقوع جريمة التعذيب لأنه هو في الغالب الذي يخلق الظروف التي توحي به والإقدام عليه ..
***
ما أرق و أدق حكم المحكمة..
لكننا دون رقة ودون دقة نرى أن مسئولية رئيس الجهاز ليست مفترضة بل هي حقيقة واقعة، و أنه يأمر بالتعذيب ويشارك فيه ويخطط له ويأمر باستيراد الأجهزة الجهنمية له من الخارج، إنه كما يقول جون لوك أكثر جرما من مرءوسيه أجل:
الرئيس هو المسئول وهو المجرم..
أستميحك عذرا يا سيادة النائب العام - مؤقتا - عن الاستمرار في سرد وقائع التعذيب التي أثبتتها المحاكم وتقرير الطب الشرعي والتي يقول تقرير منظمة حقوق الإنسان أن النيابة لم تقم حيالها بعمل..  لأنني لو رويت كل ما هو منشور لما كفت كل صفحات هذا الكتاب، لكنني أرغب أن أنهي هذه الوقائع بواقعة فادحة صارخة، كانت المحكمة، والنيابة نفسها هم الشهود الرئيسيين عليها..
فثمة متهمون آخرون قرروا أمام هيئة المحكمة في جلساتها بتاريخ 25 / 9 / 1993 تعرضهم للاعتداء بالضرب في 23-9-1993 بمحبسهم بالسجن شديد الحراسة بمنطقة سجون طرة ويؤكد مندوب المنظمة المصرية لحقوق الإنسان الذي تابع الجلسة أن المتهمين حصروا من محبسهم وقد ظهرت عليهم آثار إصابات واضحة وكانت ملابسهم ملطخة بالدماء وبعضهم جاء بالملابس الداخلية ملطخة بالدماء أيضا..
وقد قامت هيئة المحكمة بنفسها بمناظرة إصابات المتهمين السبعة عشر، وكانت معظمها عبارة عن كدمات حمراء وزرقاء تغطي منطقة الظهر بكامله أو جزء منه وحول العمود الفقري تحديدا وأيضا بمنطقة الصدر والبطن والساقين والذراعين إضافة للجروح في الرأس والوجه والتورم بالأعين..
وقد قرر المتهمون أن هذه الإصابات نتجت من اعتداء قوات إدارة السجن وما صاحبها من القوات الخاصة عقب اقتحامهم للزنازين في 23 / 9 / 1993 وضربهم للمتهمين بالعصي والخراطيم المطاطية والعصي الكهربية إضافة للسب والركل بالأقدام وإجبارهم على الانبطاح أرضا بوجوههم ثم السير عليهم بالأحذية..
كما قرر بعض المتهمين أنه قد تم استدعاؤهم لمباحث أمن الدولة مساء بنفس اليوم حيث لاقوا قسطا آخر من التعذيب..
اللهم رحمتك وعفوك..
حتى أمام النيابة، وحتى في حضرة المحكمة يذهب المتهمون مضرجين بدمائهم..
أين محاضر تحقيق النيابة..؟؟.
أين القضية الهائلة التي فجرتها النيابة لتسفر في النهاية عن إسقاط حكومة عاطف صدقي، لقد فعلتها النيابة منذ أكثر من ستين عاما في قضية أقل بكثير، و أسقطت حكومة الطاغية الجلاد إسماعيل صدقي..
أين..؟؟؟؟؟
لكن حيثيات حكم المحكمة تقرر عدم اطمئنان ضمير المحكمة إلى محاضر تحقيقات النيابة، و إلى أن وكيل النيابة بدا كما لو كان يمنع عن المتهم الاستعانة بمحام، وأن المطاعن التي كانت توجه إلى محاضر تحريات مباحث أمن الدولة، قد استطالت حتى وصلت محاضر تحقيق النيابة، مثل الاتهام بعدم الحيدة، وعدم إثبات كل الأقوال، والتهديد بالإيذاء، ومجاملة رجال مباحث أمن الدولة..
يا إلهي....
حيثيات حكم محكمة يتهم النيابة بكل هذا..
لقد ناظرت هيئة المحكمة التعذيب أحيانا بنفسها، و أثبتته..
لم تعلن أبدا نتائج التحقيقات.. التي من المفترض أن النيابة العامة مسئولة عن إجرائها في جرائم التعذيب..
إن حيثيات أحكام المحاكم لم تكتف كتقارير النيابة بإسناد تهمة التعذيب إلى مجهول، بل يذكر أحدها صراحة: كثير من المتهمين وقع تعذيب عليهم من ضباط مباحث أمن الدولة ..
سامحني يا سيادة النائب العام على جرأتي التي تجعلني من فرط الألم أغامر بأمني، وحريتي، وربما بحياتي بترديد ما ذكره تقرير منظمة حقوق الإنسان، أغامر، رغم علمي أنني قد أمثل غدا أو بعد غد أمام أحد وكلائك، ليأمر بحبسي، لأحبس في محبس لا يقوم وكلاؤك فيه بواجبهم في التفتيش عليه طبقا لتعليماتك، محبس يتواجد فيه ضباط مباحث أمن الدولة ليل نهار ضد القانون، لكنني اخترت منذ زمن طويل يا سيادة النائب العام، أنه إذا كان هذا العالم ينقسم إلى جلادين وضحايا، يتفرج عليهم شياطين خرس أو متواطئون، أو مشاركون بجريمة الصمت عن الجريمة، لو كان العالم ينقسم إلى ذلك، وليس ثمت اختيار آخر، فقد اخترت أن أكون ضحية..
سامحني، بل و أتوسل إليك، أن يصدر مكتبك بيانا فوريا تفصيليا يكشف لنا ماغمّ علينا..
فمن المستحيل أن تكون الأمور بكل هذه البشاعة التي توردها تقارير منظمات حقوق الإنسان، وتؤكدها حيثيات أحكام المحاكم وتقارير الطب الشرعي لا مجرد أقوال الصحف..
أتوسل إليك، من أجل هذه الأمة، وفي سبيل الله، و أتوسل أيضا إلى رئيس الجمهورية ومجلس القضاء الأعلى، والمحكمة الدستورية العليا، ومحكمة النقض..
وأتوسل إلى كل كاتب ومفكر في هذا البلد..
فما يحدث لو كان يحدث حقا، ولو استمر، فلن تقوم لهذه الأمة قائمة..
 يا سيادة النائب العام ..
عندما اخترت منصبكم العالي لأوجه إليه مظلمة الأمة، لم أكن أقصده وحده، كنت أقصد الجهاز القضائي كله، والجهاز التنفيذي والتشريعي، بل و أقصد أيضا المفكرين والكتاب والمثقفين، فهم قضاة ضمير العدالة إذ أنتم قضاة نصوصها، أقصدكم، لا مطالبا بتقويض الحكومة بل مطالبا بحكومة !!.. ولا مهددا للدولة بل محاولا إنقاذها من الفناء والتلاشي، فقد أصبحت كالرجل المريض، الذي بلغ من سوء حالته في نظر أعدائه وبعض القائمين على الأمر فيه، أن أصبح لا يحتمل حتى العلاج، بله البتر، فكل حديث صريح أو صحيح إنما هو بعينه الخوض في حقل ألغام قد ينفجر في أي لحظة، والأسلم والآمن ترك هذا المريض يموت، ليحصل كلٌ على ميراثه من تركته، غير مدركين أن العدو الجاثم قد رهن المغانم منذ زمن، ولم تبق إلا المغارم.
 الصراحة إذن مخاطرة غير محسوبة يقدم عليها من تروّعه احتمالات فناء الأمة، فهو إذ يقاوم، لا يقاوم العدو فقط، ولا المرض فقط، بل أولئك الأبناء السفهاء، الأوغاد، الذين لا يأبهون من الوطن إلا بما ينالونه منه، ما ينهشونه من لحمه، وما يغتصبونه من جسده، ويستنزفونه من دمه، حتى آخر رمق..
ثمة عناء آخر للكاتب وهو يعبر عن مواقفه وآرائه، فكم هو معذّب - إذا جاز لنا استعمال لفظ العذاب في هذا الصدد بعد ما أوردنا من صور للعذاب - أن يحاول الكاتب اختيار منهج الكتابة ونوع الألفاظ وشكل الجمل وحتى الحروف وعلامات الترقيم التي يصوغ بها موضوعه، كي يتناسق الشكل مع الموضوع فالكتابة مثل اللحن السيمفوني، و كالألوان، ونحن لا نستطيع أن نعبر عن الحزن بلحن مرح، ولا عن الفرح بلون أسود..
يجب أن يبحث الكاتب أيضا عن مفردات اللغة التي يكون معناها واحدا بينه وبين قارئه، فذات اللفظ قد يحمل معاني مختلفة باختلاف موقع وثقافة سامعه، وعلى سبيل المثال فان كلمة " النار " تعني لرجل الدين معنى يختلف تماما عن المعني الذي تعطيه نفس الكلمة لشرطي المطافئ أو لصانع الخبز أو لربة بيت أو لعالم في معمل، أو لجلاد منفرد بضحيته في لاظوغلي..
يجب على الكاتب ألا يكتب قبل أن يعايش، ليحاول بعد ذلك قدر جهده أن ينقل لقارئه بتجرد و أمانة ما أحسّه وعايشه ..
لكن..هل أستطيع الآن أن أفعل ذلك؟.؟.
هل أستطيع يا سيادة النائب العام أن أنقل إليك مدى خطورة ما أتحدث فيه ومدى صدقه، ومدى ضرورة أن تتخذ فيه قرارا؟.
هل أستطيع أن أوصل إلى القارئ و إلى الأمة كلها فداحة ما يحدث، كي يخرج من صمته وسلبيته وسكونه، فهو إن اتحد مع الباقين القادر على إرغام الجلادين على كف ذئابهم كلاب النار عن نهش أبناء هذا الوطن..
هل أستطيع أن أبلل صفحات ذلك الكتاب بالماء أو بالدموع وأن أصلها بالكهرباء كي يتكهرب القارئ إذ يقرأ ليفهم ويحس ويعي أي نوع فظيع من العذاب يعانيه أولئك الذين يعذبونهم بالصعق بالتيار الكهربائي..
هل أستطيع أن أجعل من السطور سياطا و أسلاكا مجدولة تنهال على وعي القارئ ليحس بشيء شبيه لما يعانيه الضحايا؟.
وهل أستطيع أن أستعمل بدلا من الحبر الذي دنسته أقلام كثيرة دم الضحايا الذي سفكه الباطش الجبار وسفحه الضحايا..
هل أستطيع أن أوقد تحت القارئ نارا، ليحس بما يحس به الضحية وهو معلق كالخروف المشوي فوق النار..
هل أستطيع أن أجعل القارئ يقرأ هذا الكتاب وهو معلق من قدميه في سقف منزله، أو وهو معلق من رسغيه معكوسا وقد ربطت في كل قدم من قدميه أنبوبة بوتاجاز، أو وهو يسحل على الأرض..
هل أستطيع أن أصوغ من تلك الحمم المنصهرة المنثالة من داخلي تمثالا يحرق لامسه ويعمي الناظر إليه، أو أن أرسم بألوانها الدامية لوحة تتحرك فيها الجمادات وتصرخ..
هل أستطيع أن أجعل صفحات هذا الكتاب تشتعل بين يدي القارئ، أو تنوح وتلطم ..
هل أستطيع أن أبث الروح في تلك الحروف المتراصة الميتة فتنفجر بالحياة من الألم فتنقل للقارئ في نفس اللحظة التي يقرأ فيها صرخة إنسان يعذب، صرخة تلاشى منها كل كبرياء وانهدمت فيها كل إرادة، طويلة مشروخة مذهولة مرتعبة منسحقة يائسة آملة مذبوحة راجية خاضعة ذليلة متوسلة معترفة بما لا تعرف تائبة عما لم ترتكب صاخبة جياشة هادرة مهدورة مرتجفة بالخوف والكهرباء عمياء بما يعصب العينين، غير مدركة من أين يجيئها العذاب ولا سببه، صرخة لا يتخيل أن مثلها يمكن أن يصدر من عضو بشري كالحنجرة و إنما كل خلية في الجسد الإنساني تصرخ صرختها الخاصة فخلايا الحنجرة تصرخ وخلايا القلب تصرخ وخلايا الكبد تصرخ وخلايا الدم تصرخ، وخلايا الجلد التي تقابل خلايا السوط في العرس الدامي تصرخ، وخلايا الجسد كلها تتحول إلى خلايا للألم تستقبله وتعبر عنه مسقطة كل أبجديات اللغة فلا يبقي من كل حروف كل لغات العالم سوي حرفين .. هما: آه.
 ويذوب الموصوف في الصفة منصهرا تحت حرارة اللهيب فإذا الآه ليست تعبيرا عن الألم بل هي الألم ذاته وقد استدعته نداءاته ليقود كالمايسترو فرقة الخلايا الصارخة مطلقة جميعا في تناغم وحشي سيمفونية الألم المروع التي تعزفها خلايا الجسد الإنساني المعذب الذي فقد ذاكرته ففقدت أفعال اللغة أزمانها ولم يعد لديه ماض ولا حاضر ولا مستقبل، لم يبق إلا فعل الأمر: اضرب، احرق، انتهك، عذّب، اركع، اعترف، انسحق، تلاش، وهو لا يستطيع وبين العذاب و العذاب عذاب أن يجيب، فخلايا الذاكرة قد فقدت الذاكرة لتطلق هي الأخرى صرختها المجردة من الزمان، فكأنما هزيم الصرخات يغطي الوجود الإنساني عبر كل تاريخه المعذب بين جبروت الجلادين الفجرة وعذاب الضحايا وعجزهم وذلهم..
هل يمكن أن يسمع القارئ وعيناه تجريان على هذه السطور صوت سوط، صوت العظام وهي تتهشم، والمفاصل وهي تنخلع، والنفوس وهي تنكسر..
هل يمكن أن يرى القارئ ولو لثانية واحدة ضابط الشرطة الذي يعبث بأصابعه وبأدوات أخري في هني امرأة، في عورتها وعفتها، بعد أن أخذوها وهي البريئة رهينة، هل يمكن أن يرى القارئ ذلك و أن يخصف على مشهد العار الداعر في خياله الدامي صفحات هذا الكتاب..
هل يمكن..هل يمكن..
و هل تغني هذه الدموع التي يذرفها القارئ الآن وهو يقرأ، وهل تجدي في إطفاء النار المشتعلة في ضحية واحدة..
هل أنجح  في أن أجعل القارئ يحس بثوان فقط من ذلك العذاب الوحشي الهمجي المجنون الذي يعانيه الآن - في نفس هذه اللحظة - واحد من آلاف الضحايا في باستيل مصر في لاظوغلي، أو في فروعه المنتشرة كالعنكبوت أوالأخطبوط على ساحة الوطن، ثوان فقط، تجعله حتى، دون أي احتجاج أو تمرد أو ثورة، يلجأ إلى سريره ينشد الراحة من الإنهاك الذي سببه له تخيل الإحساس بالعذاب، وهي راحة لا يظفر بمثلها الضحية، فهناك، في باستيل مصر، في لاظوغلي، لا يجد الضحية أي فرصة للراحة من العذاب، فبعد كل عذاب عذاب أشد..
هل يمكن أن أنقل إلى القارئ شيئا من مشاعر اللهفة المحمومة والأمل المجنون الذي يعتمل في نفس ضحية يترقب وكيل نيابة يفاجئ الجلادين كي ينقذه من عذابه، ويبلغ النائب العام على الفور ليتفضل بإصدار قراره بإحالة جلاديه المجرمين إلى التحقيق..
لقد علمتمونا يا سيادة النائب العام أنه لا يوجد متهم بريء ومتهم مذنب، فكل المتهمين أبرياء حتى تثبت إدانتهم في محاكمة عادلة وبالرغم من ذلك، فان ضحايا التعذيب والقتل، معظمهم أبرياء لم تصدر بشأنهم أحكام..  يكفي أن يصرح الشرطي أن الضحية متهم كي يسام العذاب أو يفقد حياته..
لعلك تلاحظ يا سيادة النائب العام أنني لم أتطرق إلى الأسباب التي تدّعيها بعض قطاعات الشرطة - وكتاب السلطة - تبريرا لجرائمها، بل لقد تعمدت أن يكون معظم حديثي عن أناس لا علاقة لهم بالسياسة، ولا حتى بالدين، حتى أن بعضهم يلتمس البراءة أمام المباحث مقيما الدليل على براءته بأنه لا يقيم الصلاة، ذلك مذكور ومنشور وموثق، لم أتطرق أيضا إلى ما تنشره الصحف الأجنبية عنا من أن المشكلة في مصر ليست مشكلة إرهاب بل مشكلة صراع سياسي اختارت السلطة أن تحله بالرصاص والعنف وانتهاك حقوق الإنسان بدلا من حله باللجوء إلى صندوق انتخابات لا يزوّر، لم أتطرق إلى الأبعاد الدينية و التاريخية والثقافية و الاجتماعية والاقتصادية للمشكلة الكارثة، ولم أتطرق أيضا إلى هوية الضحايا وانتماءاتهم وأحزابهم، ولا إلى وجهة نظرهم، ودفاعهم عن أنفسهم، لم أسرد لك ما يدور في العالم عن فساد النظام في بلادنا، عن أنه يستعمل كل هذا البطش لا ليحمي الوطن من الإرهاب بل ليحمي نفسه وفساده ومتعه الحرام..الحرام قانونا لا دينا، لم أتطرق إلى ذلك كله، لأن ما يحدث للمتهمين الضحايا بغض النظر عن أي سبب وكل سبب جرائم مروعة، أجل.. جرائم مروعة، حتى لو كان كل المتهمين مجرمين..
 جرائم مروعة تؤكد أن النظام كله مختل و أن المجتمع كله مريض..
جرائم مروعة يا سيادة النائب العام، المسئول عنها رئيس الجهاز الذي ترتكب الجريمة في كنفه وتحت حمايته وبأوامره، والمسئول هو الرئيس، أيا كان موقعه، ولأنها جرائم يا سيادة النائب العام فهي تقع في دائرة اختصاصك..
لقد شاهدت النيابة نفسها بعضا من الإجرام الذي يحدث..
ودعني يا سيادة النائب العام أسرد على مسامعك تلك الواقعة التي أشعلت في الطفل القديم حنينه الجياش لعدل النيابة وشجاعتها:
 احتجزت الشرطة المتهم: عبد الناصر عبد الغفار علي:  وعمره 34 عاما في قسم أول الزقازيق لسؤاله في جريمة قتل، حيث أجبر على خلع ملابسه، وتم تعصيب عينيه بقطع قماش وتقييد يديه من الخلف وتعليقه على باب و الضرب بعصا خشبية - ساق كرسي - وخرطوم سميك مبطن على الرأس والظهر والمؤخرة والقضيب الذكري والقدمين وقصبة الساقين..  وتنقل مذكرة النيابة عن الضحية قوله عنه تم ( وضع وإدخال عصا في دبره ثلاث مرات متفرقات في يوم واحد )، و أن الضباط غرسوا إبرة معقوفة في معصم يده اليمني ثم قاموا بتوصيلها بالكهرباء، مما سبب آلاما مبرحة، كما صعقوه بالكهرباء، خلف الأذنين وفي حلمة الثديين والأعضاء التناسلية..
وعلى إثر بلاغ تقدمت به أسرته إلى نيابة الزقازيق، انتقل رئيس النيابة إلى قسم أول شرطة الزقازيق إلا أن الضباط قاموا بتهريب الضحية إلى نقطة شرطة بردين المجاورة، وعندما علمت النيابة بذلك بادر رئيسها بمفاجأة نقطة الشرطة حيث شاهد بنفسه الضحية وهو معلق على الباب في حالة يرثي لها. ويوثق التقرير الطبي رقم 884 الصادر من مصلحة الطب لشرعي التابعة لوزارة العدل آثار التعذيب..
فهل كان يمكن يا سيادة النائب العام أن تجد النيابة على شيوع التعذيب دليلا أوضح من ذلك؟.؟.
هل كان يمكن؟.؟
وهل هو ممكن ألا تتخذ قرارا تهتز له الأمة كلها، لا إزاء هذه القضية فقط بل إزاء جريمة التعذيب، والمجرمين المرتكبين لها، والمجرمين المتسترين عليهم؟.
إننا لا نريد أن نصدق ما أوردته صحيفة متحالفة مع الحكومة، وبرغم ذلك تقول أنه بات من الصعب التفريق بين النيابة والشرطة، لا في التستر فقط، بل وفي الظلم أيضا ..
السيد النائب العام :
الساحة عابسة عابثة يائسة ميئسة..
وعنت الجباه ....
ليس لله الواحد القهار- وليتها - بل للطاغية الباطش الجبار..
وزير الداخلية يصرح: ( أي مكان فيه تجمعات أو محاولات لابد أن تطهر لأنها مثل السرطان لابد أن يستأصل بالكامل )، و أخشى أن يكون هذا يا سيادة النائب العام تصديقا لمن بات يحسب أن الشرطة استولت الآن على مهام النيابة والقضاء، و أنها تستأصل فعلا من لا يدينهم القضاء ومن لم تقدمهم النيابة إليه، وكنا نأمل من الوزير أن يتحدث عمن يموتون من التعذيب في أقسام الشرطة ومباحث أمن الدولة والأمن المركزي، والذين تحدثت عنهم منظمات حقوق الإنسان، التي يعترف بها العالم وتعترف بها الأمة، وإن أنكرها الوزير ..
لطالما ساءلت نفسي يا سيادة النائب العام إثر بعض اللقاءات مع ضباط شرطة: من الذي زين لهم ما يفعلون، وكنت في محاولة لطمأنة نفسي، لتقليل حجم الكارثة أعزي نفسي بأن الكارثة محدودة، و أن زكي بدر كان استثناء، فكيف أحتفظ بالطمأنينة والعزاء ووزير الداخلية الجديد  يتحدث عن الاستئصال ويعتبره من توفيق الله ولا يجد من يقوّمه، والأمل الذي كان من المفترض أن ينعقد بناصية مجلس الشعب في أن يدافع عنا ويستجوب الوزراء ويسقط الوزارات يتحول إلى كابوس، حين يصدر المجلس قانون الصحفيين الأخير وهو قانون يمنعنا فيه حتى من الصراخ، قانون وصفه أحد أعضاء المجلس بأنه: ( اختلاس )، قانون يخلق داخل كل منا شرطي ورقيب ..
ليتهم يصدرون قوانين مباشرة بإلغاء جميع أحزاب المعارضة، وإغلاق جميع صحفها، لأن ذلك إن تم، سيتيح لنا معشر الكتاب الاحتفاظ ولو بقدر ضئيل من الشرف، فساعتها حين لا نكتب، وحين لا نصرخ بكلمة حق في وجه سلطان جائر، سنستطيع الزعم أمام أنفسنا بأننا لا نكتب لأن صحفنا مغلقة، ولا نصرخ لأن ألسنتنا منزوعة، لكن، والأمر كما حدث، فعلى كل كاتب أن يدرك أن النظام العظيم قد ترك له كل الصحف وكل الأحزاب و على الرغم من ذلك فهو لا يكتب لأنه جبان رعديد خائف، و هذا الإحساس باحتقار الذات سوف يقضي على الكتّاب ليبقي الكتبة، كما أنه سيعطي أي نظام غاشم الحق في أن يدّعي أن صمت الكتاب دليل رضاهم، و أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان..
حين تلقي الشرطة القبض عليّ يا سيادة النائب العام، وتحيلني بعد أيام أو أسابيع إلى وكيلك، فإنني أحسب أن بعض اتهام سيوجهه إلي هو محاولة قلب النظام..
ويعلم الله أنني إلى قلبه لا أسعى... .
بل وجدته - لفرط الأسى والذهول - مقلوبا..
 و أحاول من خلال القانون أن أعدله..
أجل.. النظام مقلوب..
التعذيب الهمجي الوحشي المجنون المجرم للناس نظام مقلوب ..
وتزوير الانتخابات نظام مقلوب..
و إهدار أحكام القضاء وتحديها نظام مقلوب..
قدرة بعض كبار المسئولين على الكذب الصريح البواح نظام مقلوب..
لا أحد يحاسب أحدا نظام مقلوب..
تخريب الاقتصاد نظام مقلوب..
حماية اللصوص دون الأبرياء نظام مقلوب..
.... لوسي أرتين نظام مقلوب ..
حبس مجدي حسين نظام مقلوب..
حبس الدكتور عصام العريان ورفاقه نظام مقلوب ..
.... يوسف والي نظام مقلوب....
 قوانين الصحافة نظام مقلوب..
الصحف القومية التي تخلت عن وظيفتها من أجل ذهب المعز نظام مقلوب..
 موقف النيابة من التعذيب نظام مقلوب ..
الطبيب المصري محمد كامل خليفة الذي انتهك الناظر السعودي براءة الأعوام السبعة في طفله، فاشتكي الطبيب واستغاث فجلدوه بتهمة الافتراء هو رمز لما يحدث على مستوي الأمة حيث تنتهك أعراضنا وحرياتنا فإن اعترضنا قتلنا بتهمة الإرهاب أو جلدنا بتهمة الافتراء وذلك نظام مقلوب..
الجهر بالسوء واعتباره توفيقا من الله افتراء على الله نظام مقلوب..
إهمال الرد على ما نثيره رغم خطورته ويهدم - إن صح - كل شرعية مدّعاة نظام مقلوب..
احترام قرارات الأمم المتحدة على ليبيا والعراق و إهدارها مع إسرائيل و في حقوق الإنسان نظام مقلوب..
العلاقات مع إسرائيل لا مع إيران والعراق نظام مقلوب..
عجز الحكام عن سد الفجوة التي تتسع كل يوم بين قوتنا وقوة أعدائنا نظام مقلوب..
تطويع القوانين لصالح هوى الحكام ضد مصلحة الأمة نظام مقلوب..
الاعتداء على النقابات نظام مقلوب..
ادعاءات التنوير تحت القهر والسياط والبطش نظام مقلوب..
إنتاج إسرائيل أكثر من إنتاج مصر وسوريا والأردن ولبنان نظام مقلوب..
انضمام بعض العرب إلى أمريكا و إسرائيل لسحق وحصار العرب نظام مقلوب..
التخاذل والهوان والذل المفروض علينا في الداخل والخارج نظام مقلوب..
التهليل لمن يهاجم القرآن مدعيا وجود أخطاء به ومدعيا أن المعنى من الله والكلمات من الرسول صلى الله عليه وسلم و أنه يجوز تغييرها - نشرت مجلاتنا ذلك - والبطش بمن ينتقد الحكام نظام مقلوب ..
لست أسعى يا سيادة النائب العام إلى قلب النظام ..
علمني الزمن، والقهر، والتاريخ وخيبة الأمل مع كل عهد أن التغيير ليس تغيير فرد و إنما تغيير منهج، انتهت خرافة القائد الزعيم البطل الملهم الذي ينقذ أمته من الخراب ويقودها إلى الانتصار، الأمة هي وحدها القادرة على إنقاذ نفسها من الخراب والدمار..
فقط: أن نحطم الأغلال التي تقيدها، أن نسحب التفويض الذي استلبه منها من يزورون إرادتها..
إنها جريمة:  أن تختزل الأمة في فرد، أو في عصابة ..
***
 لطالما ذل كبرياء الطفل الذي رأى الملوك عراة وهو يرقب ذاهلاً الهزيمة الحضارية والعسكرية الشاملة لأمة تعدادها أكثر من مائتين وخمسين مليونا وراءهم ألف مليون آخرين أمام أمة تعدادها أقل من خمسة ملايين لطالما عجز عن الفهم، ولطالما اجتر الألم..
وما أشد بؤسه عندما اكتشف كيف امتهنوا عقله وخدعوه وغالطوه في الحساب..
لم يكونوا خمسة ملايين ضد مائتين وخمسين مليونا بل كانوا خمسة ملايين عقل ضد اثنين وعشرين عقلا.. والاثنان وعشرون عقلا كانت متعارضة متضاربة.. لم تكن مجتمعة..
كل منهم اعتبر الآخر سرطانا يجب استئصاله، وفي سبيل ذلك أغفل الدين والعقل والقانون والضمير..
ولم يكونوا نخبة عقول الأمة ولا خلاصة فكرها، بل إن معظمهم وصل إلى مكانه بالصدفة أو الوراثة أو الغدر ليمثلوا في النهاية أشكالا كاريكاتورية لعيوب الأمة ونقاط ضعفها لا لمزاياها ومكامن قوتها ..
كنا صفرا، أو أكثر من الصفر بقليل..وكانوا خمسة ملايين ..
الآن يفهم الطفل سر انتصاراتهم الكاسحة وانكساراتنا الفادحة..
كثرتهم كاسحة.... و قلتنا فادحة....
هناك، حيث لا زعيم ملهم، ولا قائد عبقري، ولا منقذ، ولا خليفة لله على الأرض، ولا خادم لحائط المبكي، ولا حاكم يرزح على قلب أمته لا ينقذها منه إلا الموت..
هناك حيث يستعمل كل فرد من الخمسة ملايين عقله لرفعة أمته لا لتأليه حاكمه..
هناك حيث يمكن لعضو واحد في مجالسهم المنتخبة أن يسقط الحكومة كلها..
هناك حيث يكرسون كل قوتهم وجهدهم لرفع شأن أمتهم واحترامها وسط العالم، لا لقهر شعوبهم وفرض احترام رجال السلطة فيها ومنع نشر جرائمهم بالقوانين والسياط والرصاص..
هناك حيث يستطيعون فرض إرادتهم والذل علينا، فلا يملك من يمارسون دور الذئاب علينا والنعام عليهم إلا الشكوى، أما كيف نشكو القاتل الأجير إلى السفاح فهي كشكوى الطبيب ضد الناظر سوف نجلد بعدها من الصديق والشريك في نظام مقلوب..
هناك حيث يقول قائلهم: لو خيرت بين حكومة بلا صحف حرة وصحافة حرة بلا حكومة لاخترت الثانية على الفور، هناك.. وهنا، هناك كان من حقهم النصر وهنا كان من حقتا الهزيمة ..وما الله بظلام للعبيد..
هذا النظام المقلوب يا سيادة النائب العام تستطيع أنت وأقرانك أن تعدلوه، بقرارين فقط: منع التعذيب ومنع تزوير الانتخابات، تأمّل إذن: إن إنقاذ أمتك مرهون بقرارين منك..
من المحزن يا سيادة النائب العام أن هناك جرائم لا أستطيع رغم فداحتها إبلاغك بها، لا أستطيع إبلاغك مثلا بجريمة قتل روح الأمة، وجريمة تشويه وجدانها، و دفع الناس إلى الذل والخنوع والسلبية والخوف والرضي بالظلم ، وذلك الذي حدث في ظل حكامنا الوطنيين لم يحدث حتى تحت ظلال الاحتلال، الذي لم يستطع رغم جبروته وطغيانه إطفاء جذوات النخوة والكرامة في نفوس الناس. قارن يا سيادة النائب العام بين رد الفعل الذاهل الميت في عصرنا وردود الفعل الحية في عصر سابق..
 منذ أكثر من ستين عاما.. وكان ثمة وزير داخلية جلاد - إسماعيل صدقي - يحكم مصر بسياسة الحديد والنار، وفي قرية أخطاب مارس الطاغية الباطش الجبار إحدى نزواته الإجرامية، عندما أصدر تعليماته للملازم أحمد فريد التهامي ملاحظ نقطة الشرطة لحشد أهالي القرية لتحية فريق من وزرائه كانوا سيمرون بالقرية كانت أخطاب وما يجاورها من القرى من مناطق نفوذ سعد زغلول، وكان إجبار أهل القرية على الخروج لتحية وزراء الطاغية الجلاد نوع من الإذلال المقصود..
وخرج أهالي أخطاب إلى الطريق الذي سيمر به الوزراء بلافتاتهم وحميرهم.. ووقفوا ينتظرون مرور موكب الوزراء، وقبل دقائق من مروره، علق الأهالي اللافتات على حميرهم، ثم تسربوا في خفة إلى الحقول المحيطة بالطريق الزراعي، وعبر الموكب، ودهش الوزراء حين لم يجدوا بشرا يستقبلونهم، بل وجدوا صفا من الحمير يحمل كل حمار منها لافتة تقول: ( نحن نؤيد حكومة جلالة الملك ).. بينما كانت ضحكات مكتومة تتصاعد من أهالي أخطاب المختفين في الحقول واستشاط الجلاد الطاغية غضبا، وأمر بتأديب القرية، فقاد الملازم أحمد فريد التهامي حملة التأديب وأمر بحظر التجول في القرية، وتعرض 300 من الفلاحين لضرب مبرح وتعذيب مهين..
استثار فعل الطاغية الجلاد الإجرامي مشاعر الأمة.. وبرغم كونه وزيرا للداخلية.. مدعما بالملك وسلطات الاحتلال.. لم يستطع التأثير على نائب عام عظيم و لا على قضاء مصري شامخ وجليل.. ولم يستطع أن يحول دون محاكمة الملازم أحمد فريد التهامي.. فعاقبته محكمة جنايات المنصورة بالسجن مع الأشغال الشاقة خمس سنوات وقضت على آخرين من رجال الشرطة بعقوبات أخرى ..
يا سيادة النائب العام.. حدث هذا في مصر منذ أكثر من ستين عاما كما ينقله لنا صلاح عيسى في كتابه ( حكايات من دفتر الوطن )..
لو عزلنا حيثيات حكم المحكمة التي قضت على الضابط المجرم بالأشغال الشاقة عن سياقها التاريخي لبدت وهي الاستثناء في زمانهم تعبر عن القاعدة في زماننا.. تقول الحيثيات:
(ومتي انتهكت الحرمات على هذه الصورة، لم يقم للنظام في أمة قائمة، أليست في هذه الأعمال الشنعاء احتقار للشعب بتمامه.. وإذلال لطائفة لم تألف الإذلال.. وتعويد للناس على الاستخفاف بسلطة القانون، يسهل لكل فريق يود أن يتمادى في غيه إرضاء لشهوات حزبه، أو لتنفيذ مآرب له فيها مساس بالحريات العامة ..  إن هذه الأعمال هي أفظع من الاعتداء على الحياة لأن الأمة لا تكون أمة حقا، إلا إذا تكاملت أخلاقها، وتمتعت بحريتها في حراسة القانون ..
يا سيادة النائب العام :
لقد كانت حيثيات الحكم تقول للطاغية الجلاد المجرم، ولكل طاغية جلاد مجرم يحذو حذوه ويفعل فعله في أي زمان و أي مكان، أن الحكومات إنما هي هيئات نظامية تخضع للقانون وليس لهوى الذين يحكمون، وأن تخلي الحكومة عن صفتها النظامية، وخروجها عن القانون في معاملة الذين تحكمهم، هو إذنٌ لهؤلاء المحكومين بالخروج عن القانون، فيتحول المجتمع من هيئة نظامية إلى عصابات تتبادل أعمال العنف، ويتحول الوطن إلى غابة .
 كانت هذه يا سيادة النائب العام مواقف النيابة والقضاء منذ ستين عاما ..
ولقد تكرر الموقف العظيم للقضاء - بعد ستين عاما - في أحداث قرية الكوم الأحمر بمركز أوسيم في الجيزة.. .حين بدأت الأحداث بصدام بين مواطن وضابط شرطة بعد مسابقة بين سيارتين، كان ضابط الشرطة يركب إحداهما.. واستفز ضابط الشرطة الناس مستعرضا قوته وفتوته شاهرا سلاحه مطلقا الرصاص فجرده الناس منه - ربما خوفا من إصابة أحد - وألقوه - المسدس لا الضابط-  في ترعة مجاورة انتقاما، قامت حملات هائلة من قوات الأمن باجتياح القرية واقتحام مسجدها وتخريب الممتلكات واعتقال المئات في معسكرات الأمن المركزي، تم اقتحام المنازل والمساجد وتدمير القرية بأسرها، وقتل البعض .. أما وسائل النقل والركوب من عربات أجرة وملاكي وجرارات بلغ عددها 143 فقد دمرت وأتلفت..  كانت قوة الحملة البوليسية تكفي محافظة بأكملها.. لكي تفرض إرهابا شاملا على القرية..
رحمك الله يا إسماعيل صدقي، ورحم الله جلالة الملك ..




 

ردان من النائب العام ووزارة الداخلية

رد النائب العام:


طالعتنا جريدة الشعب في عددها رقم 948 الصادر يوم الجمعة 28/5/1995 بمقال تحت عنوان ( إني أري الملك عاريا. بقلم الدكتور محمد عباس) تعرض فيه الكاتب - من وجهة نظره - لجرائم التعذيب التي يرتكبها رجال الشرطة وخص بالذكر واقعة احتجاز وتعذيب عبد الناصر عبد الغفار بقسم أول شرطة الزقازيق لاتهامه في جريمة قتل واختتم مقاله بعبارة نصها: " فإنه بات من الصعب التفريق بين النيابة والشرطة".. وحرصا منا على أن يقف قراء جريدة الشعب على حقيقة ما أثاره الكاتب نوضح الآتي :
إن الواقعة حدثت في الفترة من 5/11/1991 حتى 12/11/1991، وهو ما أغفل الكاتب الإشارة إليه، بما يشير إلى تعمده هذا الإغفال، وقد بادرت نيابة مركز الزقازيق إثر إبلاغها بواقعة حجز عبد الناصر عبد الغفار بمباشرة التحقيق في الواقعة و إجراء تفتيش مركز شرطة الزقازيق ونقطة شرطة بردين، وقامت بإثبات إصابات المجني عليه وعرضه على الطب الشرعي وسألت الضباط والشرطة السريين الذين أشار إليهم المجني عليه بإصبع الاتهام وقيدت الواقعة برقم 674 لسنة 1992 جنايات مركز الزقازيق، وقدمت المتهمين من الضباط والشرطة السريين الذين اقترفوا الواقعة وفق الاتهام المقدم من المذكور، إلى محكمة جنايات الزقازيق بعدة اتهامات هي: جناية تعذيب المجني عليه عبد الناصر عبد الغفار لحمله على الاعتراف بجريمة قتل إحدى السيدات، جناية هتك عرضه بالقوة، جنحة القبض عليه وحجزه في غير الأحوال التي تصرح فيها القوانين واللوائح، وقضت المحكمة حضوريا بجلسة 12/4/1994 ببراءة المتهمين مما هو منسوب إليهم، لعدم اطمئنانها إلى أدلة الثبوت التي قام عليها الاتهام .
ونذكر أن النيابة العامة شعبة من شعب السلطة القضائية ونائبة عن المجتمع وممثلة له، فهي تسعى دائما إلى تحقيق موجبات القانون على جميع أفراد المجتمع سواء كانت التبليغات أم الشكاوي التي تتلقاها متعلقة بأحد رجال السلطة العامة أو غيرهم من الأفراد، وكان الأحرى بكاتب المقال أن يذكر الحقيقة كاملة بالنسبة للواقعة التي ذكرها دون أن يقف عند القدر الذي أراد أن يذكر للقارئ ولا يغفل جهد النيابة العامة في ممارستها عملها مما لا تسمح بأن يكون مجالا للتشكيك فيه .
و إزاء ما تقدم نطلب منكم نشر هذا التوضيح في ذات المكان ومراعاة عدم تكرار مثل هذه المقالات التي لا تتحرى الدقة فيما تنشره..
وتقبلوا تحياتنا..
 النائب العام
المستشار رجاء العربي
***



رد وزارة الداخلية


رجاء الإحاطة بأن جريدة الشعب سبق أن نشرت في عددها الصادر بتاريخ 26/5/1995 مقالا للدكتور محمد عباس تحت عنوان (إني أرى الملك عاريا) والذي تضمن في نهايته احتجاز المواطن عبد الناصر عبد الغفار علي لسؤاله في جريمة قتل بقسم أول الزقازيق وتعرضه للضرب وهتك العرض والتعليق على الباب وكهربته واستعمال الشرطة معه جميع أساليب التعذيب..
وتود الإدارة العامة للإعلام والعلاقات إحاطة سيادتكم علما بأنه فور عرض ما نشر على السيد وزير الداخلية ضمن تقرير الصحافة اليومي أشار سيادته بسرعة دراسة موضوع الشكوى وعرضها بأية تجاوزات تكون قد حدثت في هذا الشأن.
وقد تبين من الفحص أن الواقعة التي تضمنها المقال ترجع وقائعها إلى عام 1991، حيث اتهم المواطن: عبد الناصر عبد الغفار علي ضباط مركز شرطة الزقازيق بتعذيبه لإجباره على الاعتراف بقتل المدعوة هنية محمد أحمد بغدادي، وقد تحرر عن ذلك المحضر رقم 674 جنايات مركز الزقازيق سنة 1992 وتولت النيابة التحقيق، حيث أعيد قيد القضية برقم 388 كلي الزقازيق سنة 1992
( استعمال قوة) وحكم فيها بالبراءة بجلسة 21/4/1994
و إضافة إلى ما تقدم أود الإحاطة بأنه بتاريخ 18/5/1995 في إطار حملة أمنية قامت بها مديرية أمن الشرقية وقسم تنفيذ الأحكام لضبط المحكوم عليهم الهاربين تم ضبط المدعو عبد الناصر عبد الغفار علي لصدور عدة أحكام ضده ومعه المحكوم عليه هشام السيد إبراهيم غنيمي في الجناية رقم 340 لسنة 1994 جنايات مركز الزقازيق (مخدرات) .
هذا وقد تم عرض المحكوم عليه عبد الناصر عبد الغفار علي في الأحكام الصادرة ضده في القضايا الآتية :
1- القضية رقم 8525 جنح مركز الزقازيق سنة 1990
2- القضية رقم 4940 جنح مركز الزقازيق سنة 1990
3- القضية رقم 6967 جنح مركز الزقازيق سنة 1992
4- القضية رقم 6043 جنح مركز الزقازيق سنة 1994
 هذا وقد عارض المذكور في القضايا السابقة لجلسات 6/10/1995، 16-10-95 ، وبعرضه على منطقة تجنيد الزقازيق تبين أنه مطلوب بعد عمل بطاقة له وقد أخلي سبيله في 25-5-1995 بعد التضمين عليه من رجال الإدارة لاستخراج بطاقة تحقيق الشخصية..
ويتبين مما تقدم أن طرح مثل هذه الموضوعات بهذه الصورة من خلال جريدتكم الموقرة من شأنه الإساءة إلى وزارة الداخلية وجهودها التي تقوم بها حاليا من أجل التواصل مع المواطنين وتحقيق المعادلة الصعبة التي تهدف إلى خلق تلاحم فعلي وحقيقي بين الشرطة والجماهير.
وتأمل الإدارة العامة للإعلام والعلاقات مراجعة قطاع الإعلام بالوزارة قبل نشر مثل هذه الأمور للتأكد من صحتها بدلا من تكذيبها بعد ذلك من قبل الأجهزة المختصة بالوزارة، وذلك حفاظا على العلاقة التي تربط بين الإدارة وجميع أجهزة الإعلام والتي تهدف أولا و أخيرا إلى تحقيق الصالح العام.
رجاء التفضل بالنظر ونشر هذا الرد.
ويسعدني أن أنتهز هذه المناسبة لأعرب لكم و لأسرة تحرير (الشعب) عن خالص التهاني بمناسبة العام الهجري الجديد.
وتفضلوا بقبول موفور التحية..
اللواء رؤوف المناوي
***


 تعقيب على رد وزارة الداخلية :

لا يزال الملك عاريا !!..


لا يقل الشكل في رد السيد اللواء رؤوف المناوي مدير الإدارة العامة للإعلام والعلاقات بوزارة الداخلية أهمية عن المضمون، وكم نود في "الشعب" أن تسود هذه الطريقة الحضارية المهذبة والدمثة في كل تعاملاتنا؛ لذلك نجد لزاما علينا أن نحيي من الأعماق وزارة الداخلية عليه، راجين أن يستمر، و أن يتناول كل ما يثيره المواطنون من أحداث رهيبة ومروعة تتعلق بممارسات بعض رجال الشرطة، بل وراجين أيضا أن يثبت كذب كل ادعاء عن التعذيب وإهدار حقوق الإنسان والتستر عليه، وساعتها ستكون "الشعب" أول من يرحب بذلك، وكم سيسعدنا أن نعتذر عما تورطنا فيه إذا ثبت حقا أننا تجاوزنا الصدق..
إننا مع اللواء رؤوف المناوي نهدف إلى الصالح العام، لكننا لو رجعنا إليه في هذه الواقعة بالذات لنشرنا نفس ما نشرناه، فسيادة اللواء وقد صاغ رده بذكاء حقيقي، رغم إشارته للتكذيب، لم ينف الواقعة ولا حدوث التعذيب، وتلك نقطة أخرى نحييه عليها، ونقدر له ترفعه عن الدفاع عن ممارسات فئة منحرفة في وزارته بغير الصدق..
وعندما نعود إلى تفاصيل الواقعة نجد أن الشرطة قد احتجزت المتهم المذكور حيث تم تعذيبه بوحشية، وتنقل مذكرة النيابة عن الضحية قوله أنه تم ( وضع وإدخال عصا في دبره ثلاث مرات متفرقات في يوم واحد ) وعلى إثر بلاغ تقدمت به أسرته إلى نيابة الزقازيق، انتقل رئيس النيابة إلى قسم أول شرطة الزقازيق إلا أن الضباط قاموا بتهريب الضحية إلى نقطة شرطة بردين، وعندما علمت النيابة بذلك بادر رئيسها بمفاجأة نقطة الشرطة حيث شاهد بنفسه الضحية وهو معلق على الباب في حالة يرثي لها..
 ويوثق التقرير الطبي رقم 488 الصادر من مصلحة الطب لشرعي التابعة لوزارة العدل آثار التعذيب: التئام لجروح على الكتف والأذن والإلية والذراعين والساق والقدم اليسرى، كما لاحظ المدير العام لمصلحة الطب الشرعي- الذي أعد التقرير - عدم قدرة الضحية على تحريك الذراع الأيمن، وإعاقة بالذراع الأيسر..
لم يكذّب اللواء رؤوف المناوي كل ذلك، لكنه ذكر فقط أن المحكمة قد حكمت بالبراءة على الضباط المتهمين، وهذا الحكم بالبراءة، إنما هو إدانة أشد، تطول رؤوسا عديدة في وزارة الداخلية وخارجها، فالجريمة قد حدثت، ولم تكن النيابة مجرد شاهدة عليها بل كانت هي التي ضبطتها في وضع التلبس، وتقرير الطب الشرعي وهو جهاز من أجهزة الدولة لا المعارضة يثبت التعذيب فهل يمكن أن نجد أدلة أكثر من ذلك لإثبات الجريمة؟...
لم يجد اللواء رؤوف المناوي سوى حكم المحكمة لا ليرد به بل ليستتر خلفه، وهو يعلم تماما أن المحكمة تحكم بما ترى لا بما تعرف، وأن معنى ذلك الحكم، أن قوة باغية باطشة قد دلست على المحكمة الأدلة، وشهدت أمامها بالزور، قوة كانت ألحن من دفاع المتهم، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يقول: " إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار " .
حكم المحكمة - الذي لم يذكر الرد حيثياته - إذن ليس نفيا للتهمة ولا شهادة براءة من الجريمة ولا تكذيبا لما نشرته "الشعب"، بل إن هذا الحكم كان يستلزم من وزارة الداخلية أن تعيد بحث تفاصيل ما حدث كله، لا لمجرد اكتشاف الجناة، بل لاكتشاف من ساعدوهم بطمس الأدلة وشهادة الزور كي يفلتوا من عقاب جريمة مؤكدة، لقد نهانا الحديث النبوي الشريف عن قول الزور مقررا أنه من أكبر الكبائر، بل وجعله معادلا للشرك بالله والقتل، وفي حديث عن أنس رضي الله عنه: وضعه في مرتبة أكبر من الشرك بالله، ويذكر الحديث النبوي الشريف أيضا أن من كتم شهادة إذا دعي إليها، كان كمن شهد بالزور.
بقيت عدة نقاط نود أن نختتم بها تعقيبنا :
1- كون الضحية متهم بعشرات التهم لا ينفي عنه صفته البشرية التي صاغها الله فيه، ولا يسوغ مهما كان إجرامه تعذيبه..
2- أن الاتهام الموجه إلى الضحية بقضية مخدرات يستدعي إلى الذاكرة ما نشر منسوبا إلى اللواء مصطفي الكاشف الذي عمل لفترة طويلة في قطاع المخدرات والذي يقرر أن الغالبية العظمى من قضايا المخدرات التي تضبطها الشرطة ملفقة، لا يهدف منها الضباط سوى الحصول على مكافآت، وكنا نأمل أن يشمل رد الوزارة هذه النقطة .
3- أن سلسلة المقالات التي ترد عليها وزارة الداخلية قد أوردت مئات النماذج الموثقة للتعذيب، وكنا نود أن يشملها الرد، فمعنى عدم الرد خطير.
4- أن هناك قضيتان على وجه التحديد كنا نود أن يستفيض الرد في دحضهما، أو في الاعتذار عنهما، وهما قضية اعتقال الأطفال وقضية الدكتور محمد السيد سعيد.
5- لم يتطرق الرد الذي استند على حكم المحكمة بالبراءة في هذه القضية على عشرات من أحكام المحاكم التي أثبتت التعذيب، وذكرت بالنص ( وضع قطع خشبية في دبر المتهمين )، ووصفت هذه الممارسات بأنها إجرام في إجرام..
6- أن "الشعب" حين تدين هذه الممارسات الإجرامية الشاذة، إنما تنطلق من تقديرها العميق لدور الشرطة وحرصها على ألا تتسلل إليه لتشوه صورته مثل هذه النماذج السرطانية التي لا علاج لها سوى البتر، مؤكدين أننا بمهاجمتها نعني أنها شذوذ واستثناء للقاعدة العريضة من رجال الشرطة، و أن الدفاع عنها إهانة للشرطة، لأنه يعتبرها هي القاعدة.
7- أننا إزاء دماثة الرد و الأسلوب الحضاري الذي ورد به، كنا نريد أن يتوّج بما تتحلى به النفس اللوامة من حرص على الصدق ولو على النفس ومن اعتراف بالخطأ وعلاجه بالتوبة عنه، لم يكن سيضير وزارة الداخلية أن تعترف قدر ما يضيرها أن تنكر ما يعرفه الكافة، فلو أننا بذلنا في الوصول إلى الحق عشر ما نبذله من مجهود في الدفاع عن الباطل لرأينا جزءا من رضوان الله على الأرض..
إلا أن ذلك كله لا يقلل من أهمية رد وزارة الداخلية، وامتناننا وتقديرنا له.










تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

أيهم أولى بالاتباع: علماء السلاطبن فقهاء الخليج أم هؤلاء.

بعد مائة عام