يسري فودة - القاعدة- د محمد عباس

 

يسرى فودة يكتب:الطريق إلى القاعدة «١» دعوة إلى المجهول

       ١٩/ ٥/ ٢٠٠٨
صورة من الفاكس الذى ارسله ابو بكر

حتي بعد مرور أكثر من سبع سنوات، لاتزال قصة الحادي عشر من سبتمبر القصة الأم التي تلد لنا كل يوم قصة جديدة، من أفغانستان إلي العراق، إلي لبنان، إلي بؤرة الصراع في الشرق الأوسط، إلي قوانين مكافحة «الإرهاب»، إلي مواجهات دينية ومذهبية إلي إيران، إلي مناهج التعليم إلي مصادر الطاقة، إلي رغيف الخبز إلي عالم تغيرت ملامحه بين يوم وليلة.

 في قلب هذه القصة الأم يقع الصحفي الوحيد في العالم، الذي استطاع الوصول إلي العقول المدبرة لما يسميه تنظيم القاعدة «غزوة مانهاتن» يسري فودة، نجم قناة الجزيرة، صاحب برنامج «سري للغاية»، يخص لأول مرة صحيفة عربية بسلسلة من المقالات، يشرح فيها علي مدي عشرين حلقة كيف انتهي به الحال إلي قضاء ٤٨ ساعة في أحد المنازل الآمنة للـ«القاعدة»، يصلي وراء منسق عملية الحادي عشر من سبتمبر، رمزي بن الشيبة، ويقتسم البيض المسلوق مع رئيس اللجنة العسكرية لتنظيم القاعدة، خالد شيخ محمد.

ذات صباح، في الأسبوع الأول من شهر أبريل ـ نيسان ٢٠٠٢، دق هاتفي المحمول، بينما كنت أهم بالدخول إلي مكتبي الجديد، لم أكن قد استقريت بعد في المكاتب الجديدة لقناة الجزيرة في لندن التي تقع مباشرة علي الضفة الجنوبية لنهر التيمس، لكنني كنت مستمتعاً بمغازلة هذه الحقيقة الساخرة: إنني أستطيع الآن من مقعدي أن أري بكل وضوح، عبر النهر العتيق، النوافذ القابضة للمبني الغامض الذي يقبع أمامي مباشرةً علي الضفة الشمالية ولا يحمل رقماً ولا عنواناً ولا تجد له أثراً علي أي خريطة. يسمي فقط «بيت التيمس»، لكنه في الواقع مقر الذراع الداخلية لجهاز الاستخبارات البريطاني MI٥.

علي الخط كان صوت لم أتعرف عليه «السلام عليكم يا أخ يسري.. أنا فاعل خير». أتي صوت عطوف بلسان عربي فصيح عبر خط رديء موحياً لأول وهلة بأن صاحبه علي درجة من التدين، ثم لم يدخل في مقدمات كما هي غالباً عادة المتصلين من العرب، «نرجو أن يكون قد خطر ببالك أن تعد برنامجاً خاصاً للذكري الأولي» لم يشرح أي ذكري يقصد، لكنه مضي سريعاً، «إن كان الأمر كذلك فإن في استطاعتنا أن نمدك بشيء خاص، سري للغاية».

لم يمض أكثر من عشرين ثانية تقريباً قبل أن يطلب «فاعل الخير»، الذي قررت بعد ذلك، تسهيلاً للأمور، أن اسميه «أبوبكر»، رقم جهاز الفاكس الخاص واستأذن في قطع الاتصال.

تدافعت الأفكار في ذهني وأنا أحدق في الهاتف المحمول الذي سكت فجأة، مفسحاً المجال لصمت مطبق. يبدو شكله الآن في عيني غريباً. كثيرون من مشاهدي قناة الجزيرة تكرموا قبل ذلك باقتراح أفكار لبرنامجي التحقيقي «سري للغاية»، بل إن بعضهم تطوع بإعداد بحوث كاملة عن موضوعات بعينها توافق طبيعة البرنامج.

 غير أن معظم الاقتراحات، جاء قبل ذلك، إما بالاتصال المباشر عن طريق أناس يعرفون أنهم يعرفون يسري فودة، أو عن طريق عنوان البريد الإلكتروني المعلن عنه بعد كل حلقة من حلقات البرنامج، أو عن طريق رقم الفاكس المعروف، أو حتي عن طريق الاتصال الهاتفي علي أرقام الجزيرة في الدوحة أو مكتبها في لندن.. لم يحدث قبل ذلك أن اتصل بي شخص لا يعرفني علي رقم الهاتف المحمول دون أن يقول لي في البداية «إن الصديق الفلاني هو الذي أعطاني رقمك الخاص» قبل أن يمضي فيما اتصل من أجله.

هذه المرة استطاع هذا «الفاعل الخير» أن يثير فضولي دون أن يتحدث عن أي شيء تقريباً. لكن الغريزة الصحفية داخلي ألقت بي إلي إطراقة طويلة عميقة، وأثارت من التساؤلات أكثر مما أثارت من الإجابات. لقد سألني أبوبكر إن كنت أفكر في إعداد برنامج خاص للذكري الأولي، وأنا الآن أخمن أنه ربما كان يقصد ذكري الحادي عشر من سبتمبر الآتية في غضون خمسة أشهر. ولكن، ما عساه ذلك الشيء الخاص الذي قال إنه يمكن أن يمدني به في المقابل؟ كيف يمكن لي أن أثق بـ«فاعل خير» هكذا بهذه البساطة؟ لقد كان التأكد من مدي مصداقية أبوبكر مسألة صعبة و مخاطرة ملفوفة بالحساسية في آن معاً، لكنني قمت علي أي حال باتصال أو اثنين للوقوف بطريقة هادئة علي ما إذا كان أحد ما علي علم بما يحدث! لم تكن تحليلات بعض من هؤلاء الذين كانت لهم خبرة مباشرة مع تنظيم القاعدة، علي درجة كبيرة من الفائدة علي أي حال.

بينما كنت في انتظار الاتصال التالي من أبوبكر، حدثت مصادفة ساخرة. مساء تلك الليلة اتصلت بي صحفية تعمل في شبكة دولية شهيرة للأخبار التليفزيونية كي تطلب مني خدمة. «هل لديك بالصدفة رقم هاتف لأحد أعضاء تنظيم القاعدة؟» تساءلت الصحفية قبل أن تستطرد بلهجة جادة، «إننا نريد أن نتعرف علي رد فعلهم في النشرة المقبلة بشأن بعض التقارير». كنت أظن حقاً أنها تمزح، فاقترحت عليها ساخراً أن تتصل برقم ١٩٢ (الاستعلامات الهاتفية لشركة الاتصالات البريطانية)!! لولا أنها لم تكن تمزح.

لم تكن هذه الصحفية، للأسف الشديد، استثناءً بين كثير من الصحفيين الغربيين، الذين خانتهم المعرفة الموضوعية لخلفيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر. بالنسبة لهم جميعاً، أو يكاد، بدا الأمر كله أحادي الجانب ذا وجه واحد: الحادي عشر من سبتمبر، بن لادن، الإسلام، العرب، أفغانستان، الشرق الأوسط، الإرهاب، كلها محتويات تنتمي إلي سلة واحدة، ومن ثم إلي تقرير صحفي واحد.

لأسباب كثيرة منها هذا السبب استحوذت قناة الجزيرة علي سمعة دولية. لكن هذه السمعة الدولية، عندما أدركت الجزيرة أدركتها للأسباب الخاطئة. لقد أصيب كثيرون في الغرب، خاصةً في الولايات المتحدة الأمريكية، الذين يعرفون قليلاً أو لا يعرفون شيئاً علي الإطلاق عن الشرق الأوسط و/أو الإسلام، بصدمة المفاجأة عندما علموا في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر أن قناة «عربية»، قناة «مسلمة» تسمي «الـ - شيئاً ما» هي التي ستقوم وحدها بتغطية أخبار الحرب التي كانت إدارتهم تستعد لشنها علي أفغانستان. قليل جداً منهم كان علي علم بأن شبكة الأخبار الأمريكية CNN قد عُرض عليها قبل ذلك بشهور عدة العرض نفسه الذي عُرض علي قناة الجزيرة، لكنها لم تر حينئذٍ في أفغانستان مكاناً يستحق التغطية.

 رأته بعد ذلك بعد فوات الأوان. وقليل جداً منهم استطاع، أثناء الإعداد لما سُمي «الحرب علي الإرهاب»، أن يقاوم جملةً من التساؤلات العنصرية السخيفة: «هل يستطيع العرب أن يستخدموا كاميرا تليفزيونية؟ هل يستطيعون حقاً ربطها إلي طبق فضائي كي يرسلوا إشارة في الهواء؟ بل هل يمكن أن يكون لديهم صحفيون؟! وكان هذا - للأسف - من حسن حظي كصحفي عربي يعيش في لندن، فتابعت عملي في هدوء، دون جلبة».

اضطررت إلي الانتظار أربعة أيام، قبل أن يلفظ جهاز الفاكس رسالة مطبوعة من ثلاث صفحات، تعلو أولاها بالخط العريض عبارة «بسم الله الرحمن الرحيم». تحتها بخط أصغر: «الخطوط الرئيسية للبرنامج المقترح، سري للغاية.. صانعو أحداث سبتمبر يتحدثون».

كان من الواضح أنها أتت من أبوبكر، رغم أنها لم تحمل توقيعاً ولا رقماً لجهاز الفاكس الذي أُرسلت منه ولا تاريخاً. ولم يكن من الواضح أيضاً إن كانت الرسالة المنمقة من بنات أفكار أبوبكر أو أنه كان مجرد وسيط، لكنّ مؤلفها لم يضع وقتاً في مقدمات أو افتراضات جدلية. كانت الرسالة ببساطة مشروعاً عملياً لفيلم تسجيلي مكون من جزءين احتفالاً بالذكري الأولي لأحداث الحادي عشر من سبتمبر.

كانت هناك نبرة إملائية بين السطور، تشتمّ من خلالها رائحةً لكاتب سيناريو أو مخرج يعتز بأفكاره، ويريد لها أن تترجَم كما يراها هو بتفاصيلها و منحنياتها علي البرنامج، كما يقترح المؤلف، أن يبدأ في جزءه الأول بصور «الأخوة التسعة عشر» مصحوبةً بصوت «الشيخ» (أسامة بن لادن) يلقي أبياتاً من الشعر:

أيقظتم التاريخ بعد رقاده …

وقد أقسموا بالله أن جهادهم

سيمضي ولو تحدي كسري و قيصر

يعقب ذلك، وفقاً للسيناريو المقترح، «قولة بوش عن الحرب الصليبية»، في إشارة إلي التصريح الخطير للرئيس الأمريكي عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الذي قال فيه بالحرف الواحد: «إن هذا نوع جديد من … نوع جديد من الشر، وقد بدأ الشعب الأمريكي يفهم، إن هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب علي الإرهاب ستستغرق وقتاً».

يؤدي ذلك بدوره، كما تقول الرسالة، إلي «تحليل تاريخي لمراحل الصراع بين المسيحيين و المسلمين» يقوم به عدد من الباحثين هم: «د. فهد محمود محمد شاكر، د. عبدالعظيم الديب، د. عبدالحليم عويس، د. جمال عبدالهادي». لم يعرف عن أي من هؤلاء الباحثين انتماء إلي تنظيم القاعدة أو غيره من تنظيمات، مثلما لم يعرف عنهم استعداد المشاركة في برنامج من هذا القبيل بناءً علي ترشيح من هذا القبيل، وهي الحقيقة نفسها التي تنسحب علي «د. عبدالله النفيسي وعبدالباري عطوان ود. محمد عباس ود. سعيد مسفر» الذين رشحهم كاتب الرسالة للحديث عن «دخول أمريكا المنطقة وجرائمها التي ارتكبتها ضد الشعوب».

ورغم طموحها، فإن الرسالة التي كُتبت علي الكمبيوتر بشكل منظم دقيق أظهرت بين سطورها عقلاً فاهماً لآليات العمل الإعلامي وظروفه، فقد كانت سهلة ومباشرة و مرتّبة، ثم كانت من بعد ذلك مغرية. «هذا الموضوع لم يسبق لمحطة فضائية أن قامت به من قبل بشكل موسع و متكامل»، ألقي كاتب الرسالة إلي قارئها بجزرة في الفقرة الأخيرة: «وسنوافيك بعناوين أشخاص و مراكز يمكنكم الاتصال بهم لإنجاز الجزء الثاني من البرنامج، في حال توافر استعدادكم لعمل هذا التحقيق.. و تقبلوا جزيل الشكر والامتنان».

القرار الآن متروك لي.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

أيهم أولى بالاتباع: علماء السلاطبن فقهاء الخليج أم هؤلاء.

بعد مائة عام