مقال بالغ الأهمية للعلامة محمد يوسف عدس رضي الله عنه:
جريدة الشعب |
عقول ميتة
منذ عدة سنوات قمت بدراسة مستفيضة للأساليب الأمريكية فى السيطرة على عقول البشر وسلوكهم ، وقد نُشرت هذه الدراسة فى العديد من المواقع تحت عنوان جامع هو "الفاشية الناعمة" .. أما فى هذا المقال فإنى أستعرض فقط بعض نتائج هذه الدراسة لسبب جوهري، وهو أن أساليب التحكم هذه قد تم تطبيقها فى مصر خلال السنوات الأخيرة ، فجاءت بنتائج مبهرة -فى نظر أصحابها- .. وكارثية فى نظر ضحاياها .. لأنها أثمرت عندنا عقولا ميّتة ، لا بالمعنى المجازي، ولكن فى الحقيقة والواقع .. وإليك بيان ذلك مفصّلا:
(١) لقد تبيّن لى من دراسات قام بها علماء فى أمريكا على عينات كبيرة من المواطنين أن تكرار مناظر معينة فى التليفزيون تسببت فى إغلاق جهاز التفكير المركزى فى المخ تماما .. وفى دراسات أخرى أثبتت أن الإدمان على مشاهدة البرامج التليفزيونية من شأنها إضعاف القدرة على التفكير النقدى لما يُعرض على شاشة التليفزيون .. ويرى أصحاب هذه الدراسات أن مجرد ورود الصور على الشاشة خصوصًا إذا كانت فى سياق برنامج إخبارى أو وثائقى يجعل لهذه الصورة مصداقية ، ويخلع عليها شعورا بأنها هى الواقع الحقيقى .. ولم يَرَى أصحاب هذه الدراسات ما يستوجب الاستهجان ، بل يعترفون بأن التليفزيون ينتج أجيالاً من الناس بعقول ميتة .. وأن هذا أنسب وضع لنجاح خطة كوكبية أكبر للسيطرة الاجتماعية ، تحشد لدراستها مؤسسة "تافستوك" وفروعها المنتشرة فى أنحاء العالم إمكانات هائلة..
فنرى مثلا الخبيرين تريست وكنج (من معهد) تافستوك يحثّان على ضرورة شن حملة لإعادة تربية البشر.. لكسر آخر معاقل المقاومة الوطنية لصالح العولمة والنظام العالمى الجديد .. (فى هذا السياق اقرأ كتاب إمرى وتريست Choosing a Future )
(٢) فى سنة 1981 قدّم "برْترام جروس" ورقة بحث إلى "مؤتمر المستقبل" أشار فيها إلى ولادة نظام عالمى جديد .. قال : فى الأيام القادمة سوف يُطرح على العالم ما يسميه معهد تافستوك بـ "الاختيار الحاسم" وهو اختيار بين عدد من البدائل كلها سيئة .. ولكن بسبب الرعب الذى سيسود فى ذلك الوقت وتحت ضغوط أحداث متلاحقة فيسضطر الناس إلى اختيار أقل البدائل سوءًا .. وهو يرى أن المجتمع الصناعى الغربى فى طريقه إلى التمزق والانفجار.. وسيؤدى هذا إلى فوضى عارمة .. تؤدى بدورها إلى ظهور نظام فاشى استبدادى .. إما على النمط الذى ظهر فى ألمانيا النازية أو نظام أكثر إنسانية يمكن تسميته بـ"الفاشية الناعمة".
ويعتقد جروس أن هذا النوع الثانى من الفاشية هو الاختيار الأفضل .. وذلك لأنه يتضمن مشاركة جماهيرية وحرية أكثر .. وسيكون هو الشكل الديمقراطي المتاح لأكبر عدد من الناس.. تلك هى الفاشية الناعمة التى ستغرق المجتمعات البشرية بنظام معلومات كونى يشتمل على شبكات هائلة من تلفزة الكابلات والفضائيات والأقمار الصناعية وشبكات التواصل الإلكترونيّ .. فمن سيدير هذه الفاشية الناعمة..؟
- يجيب جروس قائلًا : "إنهم نخبة عالمية مستنيرة من أبرزهم أصحاب صناعة وتكنولوجيا الاتصالات متعددة الجنسيات .. وستحكم هذه النخبة كتلا هائلة من الجماهير مُستمرة ليلها ونهارها أمام شاشات التلفزة .. هذا النوع من الجماهير يمكن كسبهم بسهولة كرعايا طيبين للنظام العالمى الجديد .. وذلك عن طريق إغوائهم بالمسلسلات والبرامج المسلية .. وإغراقهم بطوفان من المعلومات والتفاصيل التى لا حصر لها ، لا تسبب لهم إلا الارتباك والحيرة ، ثم التبلد الذهنى المزمن .. ومادمنا قد استطعنا كسب هذه الأعداد الهائلة من الجماهير الغائبة عن الوعى - من خلال الإعلام والتعليم - فإن المقاومة التى ستبديها الفصائل الوطنية المعارضة أو المتمردة سوف تنهار" ... انتهى الاقتباس من كلام "برترام جروس" ..
(٣) يبدو أن الأمر ليس فيه "هزار" وإنما هو جدّ كل الجدّ .. ففى سنة 19٨٩ أقام معهد تافستوك ندوة فى جامعة "كيس وسترن رزيرف" الأمريكية لمناقشة أساليب تحقيق "فاشية عالمية بلا دولة" .. وفى سنة 1991 كرّس معهد تافستوك مجلة "العلاقات الإنسانية" لأبحاث هذا المؤتمر الذى ترددت فى أوراقه الدعوة إلى تسخير الإعلام الجماهيرى لتحقيق مشروع الفاشية الناعمة .
(٤) تساءل بعض المفكرين عن الإدمان التليفزيونى قال : تُرى ماذا سيحدث عندما يشبّ هذا الجيل من الأطفال المدمنين على مشاهدة التليفزيون ويتولى السلطة فى بلادنا؟ هل سيكونون مؤهلين للقيام بهذه المهمة ؟ هل سيكونون قادرين على التفكير ومعالجة المشكلات ؟
-استبعد إِمْرى وأصحابه السؤال من أساسه بحجة أنه سيكون هناك وقت كافٍ لتدريبهم على الحكم !!.. وقد بقيَ السؤال معلقا بلا إجابة شافية حتى جاء "لينتز" .. وكان أستاذاً فى جامعة ولاية بنسلفانيا .. جاء ليحذّر الأمة بأن مستقبلها كارثى ، فقد لاحظ خلال دراسته لمهارات القراءة والكتابة عند الطلاب أن الإعلام الجماهيرى ، والتليفزيون بصفة خاصة قد دمّر هذه المهارات تماما ، فلم يعد معظم الطلبة يكتبون كتابة منطقية متماسكة ولا يتكلمون بعقلانية .. لا لقصور فى برامج التعليم ، ولكن لأنهم ليس لديهم الرغبة فى التفكير أصلا .. فقد رسّخ التليفزيون فى عقولهم أن الصورة وحدها هى الحقيقة وهى المعرفة المنشودة .. وما عداها لا قيمة له ؛ لا أسئلة ولا استفسارات ولا جهد للتعمّق فى عقول الآخرين وأفكارهم.. وإنما الصورة ، والصورة فقط وما يدور حولها من تعليقات.. وينتهى لينتز إلى هذه الخلاصة فيقول:
"لأننا سلمنا رءوسنا وأنفسنا لهذا الوهم الذى يصنعه التليفزيون فإننا سائرون حتما إلى جنون جماعى ، سيكون له انعكاساته المنظورة وغير المنظورة على مستقبل هذه الأمة .. سوف نبدأ نرى أشياء لا وجود لها فى الواقع .. وسوف نسلِّم لغيرنا أن يصنع لنا الوهم -على أنه هو الحقيقة- والنتائج لكل ذلك مروّعة".
هكذا يرى لينتز: أن النتائج ستكون مروّعة ، ولكن الذين يرسمون الخطط للسيطرة على البشر، والذين يروجون لفكرة الفاشية الناعمة يرون الأمور بمنظار آخر؛ فهذه الشخصية السلبية المسلوبة الإرادة التى طرحت التفكير المنطقى والنقدى جانبا ، والتى تعتمد على آخرين ليصنعوا لها قراراتها ويرسموا مستقبلها هى الشخصية المطلوبة فى المجتمع ، والتى يعملون على صنعها من خلال وسائل الإعلام .. لاشك أنها الشخصية التى تتوافق تماما مع منظومة "الفاشية الناعمة" .. أو الديمقراطية الموهومة.
(٥) " الوهم الضرورى" الذى استخدم هذه المصطلح لأول مرة هو "راينهولد نيبور" ، وخلاصة فكرته هى : أن غالبية الجماهير من العوام والجُهّال .. وبحكم هذا الوضع فهم غير قادرين على التفكير الذى يستند إلى المنطق والتحليل ، فتلك خصوصية لا يتمتع بها إلا النخبة؛ وهؤلاء [يقصد النخبة] عليهم خلق هذا "الوهم الضرورى" القائم على التبسيط والعاطفية من ذلك النوع الذى تبثه وسائل الإعلام عن طريق الصور المكرورة والقصص الخيالية وبرامج التسلية اللاهية.
وهكذا يرى نيبور أن الجمهور العام لا قدرة له على صناعة قرارات معقولة .. فهم لا يعرفون ماذا يحتاجون .. ومن ثم فإنه من غير الأخلاقى ولا اللائق إشراكهم فى الشئون العامة.. فإن هذا يشبه السماح لطفل ذى ثلاث سنوات أن يلعب بسكين المطبخ .. وحتى لا يتورط هؤلاء العوام فى مشاكل لا قِبَلَ لهم بها يجب علينا إلهاؤهم والحيلولة بينهم وبين الإنشغال بالشأن العام.
فمن يصنع القرارات إذن ؟ ... يجيب نيبور : إنهم النخبة من الفئات المتخصصة .. القلة الذكية، هؤلاء المراقبون الهادئون هم القادرون على اتخاذ القرارات التى تخدم مصالح أصحاب السلطة الحقيقية ، والمقصود هنا هم كبار رجال الأعمال والمال المسيطرون على الاقتصاد والسياسة.
** يرد إلى ذهنى فى هذا السياق تصريح أدلى به حسنى مبارك فى أول زيارة له إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، بعد [مبايعته] رئيسا للدولة - عندما سأله أحد الصحفيين عن موقفه من الديمقراطية فى بلاده ، وهل تتوقف السلطات عن تزييف الانتخابات والخضوع لإرادة الشعب ؟
فأجاب الرجل ساخرًا : أنت تتحدث عن بلادى وكأنها أمريكا .. يجب أن تفهم أن أكثر من نصف شعبنا أمى لا يعرف القراءة والكتابة .. ثم تابع قائلا : فماذا تتوقع أن تكون صورة الديمقراطية التى يمكن أن يختارها .. ! هكذا تفكر النخبة المتسلطة على الحكم فى بلاد العرب ، إنهم لا يفكرون حتى فى (الفاشية الناعمة) فهذا ترف لايقدرون عليه ، ومالديهم هو فاشية من العيار الثقيل ، فاشية الرصاص والسجن والدبّابة..!
(٦) يضيف "والتر ليبمان" إلى فكرة "الوهم الضرورى" فكرة "القبول المصنوع" فهو يرى أنه فى المجتمعات الديمقراطية لا تستطيع أن تتحكم فى الناس بالقوة كما تفعل السلطات المستبدة فى بلاد العالم الثالث التى لا تمارس الديمقراطية ..ولكن عليك أن تتحكم فى تفكيرهم. وهو يؤمن أن هذا من صميم النظرية الديمقراطية الليبرالية ، فى هذه الديمقراطية يجب أن يُسمع صوت الجماهير .. ومن ثم عليك أن تتحكم فى صناعة هذا الصوت مُسبّقًا بحيث يأتى مطابقًا لما تتوقع منه بمحض إرادته وحريته !.. يتسق مع هذا التوجّه اعتقاد ليبرمان أن الجماهير العامة ليسو إلا قطعانا هائمة - وعلينا أن نحمى أنفسنا من غضبة هذه القطعان .. وهذا لا يتأتى إلا عن طريق صناعة القبول أو "هندسة الموافقة" .. وهو هنا يميز بين فئتين من الناس : النخبة الحاكمة والجماهير المحكومة .. ويرى أن كل فئة تحتاج إلى نوع مختلف من التعليم والإعلام.
فالنخبة المتميزة لابد أن يكون لديها فكرة دقيقة عن العالم حتى لايتخذوا قرارات خاطئة .. ولابد لهم أيضا أن يتشربوا عقيدةً مَا قبل أن يبدأوا عملهم فى خدمة الكبار .. فسواء كانت هذه النخبة ممن سيديرون سياسات الدولة أو من فرق المثقفين الذين يروجون لها ... يجب أن تكون عقيدتهم جميعًا هى خدمة مصالح الأسياد الكبار .. ومن أجل ذلك فقط يُسمح لهم بالاطلاع على وسائل المعرفة الخاصة بالنخبة.
أما بالنسبة للجماهير العامة فإن وسائل الإعلام الموجهة إليهم تلعب معهم دورا مختلفًا ؛ فهؤلاء يجب وضعهم خارج دائرة الاهتمامات الحقيقية الجادة ... إنهم يمثلون من 80 إلى 90 فى المائة من الشعب .. وعلى وسائل الإعلام إلهاؤهم بالأفلام والمسلسلات ونجوم الكرة والموسيقى والغناء حتى لا يفكروا فى المشاركة فى صنع القرارات السياسية ...
ويكمّل دور التليفزيون وسائل تسلية أخرى كثيرة من منتجات الثقافة الشائعة فى عصرنا الحاضر من : كاسيت و"سى دى" و"دى فى دى" .. وكلها من حيث الشكل والمحتوى تتبع نمطا واحدا .. وكلها تستهدف خلق جمهور من الناس مجرد من التفكير ومن القدرة على النقد؛ مستهلك سعيد ببضاعته حتى لو كان محتواها مجرد نفايات ضارة .. إذ يبقى تأثيرها على عقول الناس وعواطفهم جدّ خطير..!
تعليقات
إرسال تعليق