هجوم القرضاوي مذهل

 

هجوم أستاذنا وشيخنا وعلامتنا القرضاوي على سيد قطب رضي الله عنهما مذهل!!

"من قال لا أعرف الكافر كافرًا فقد كفر" أبو حنيفة

"قل يا أيها الكافرون"

=================

بسم الله الرحمن الرحيم

==============

هذا مقال ثقيل الوطأة على قلم كاتبه وقلبه.. ولعله يكون كذلك على وجدان قارئه وسمعه..

هذا مقال لا أحبه.. ولم أرد أن أكتبه ولا أن أخوض فيه.. تماما كأحداث الفتنة الكبرى حين يتمزق قلبي بين الصحابة.. ليكون الأمر كخنجر ذي حدين أيهما أمسكت جرحك..

نعم..

كان الأمر أليما ومرا تماما كما كان الخلاف بين سيدنا علي وسيدنا معاوية رضي الله عنهما.. (وضرب المثل لا يعني الندية ولا التساوي.. فالله قد ضرب الأقل لنوره.. مثلا من المشكاة في النبراس)..

في الفتنة القديمة كنت لا أتردد لحظة واحدة في الانتماء لسيدنا علي.. دون أجرؤ على الخوض في سيدنا معاوية..

ولقد حدث شئ من ذلك فيما بدر من الشيخ يوسف القرضاوي تجاه الشهيد سيد قطب..

ومنذ البداية أعلن أن مجامع القلب والعقل والروح والوجدان التي تجمعت على نصرة سيدنا علي كانت هي هي التي تجمعت على الانتصار للشهيد سيد قطب..

و أن ذات الخشية التي منعتني من الخوض في أمر الصحابي الجليل سيدنا معاوية هي ذاتها التي تردعني عن مواجهة شيخنا و إمامنا القرضاوي..

ولولا أسباب سيقرأها القارئ في متن هذا المقال لهربت من كتابته ووليت فرارا وجزعا وفزعا ورعبا.. ولقد فصّل شيخنا القرضاوي كثيرا في إبداء أسباب هجومه على الشهيد سيد قطب.. وكان كل سبب أورده رخصة لي أن أواجه شيخنا القرضاوي بمنهجه.. و أضيف على ذلك أنني خشيت أن يظن بعض الناس بعد قراءة هجوم شيخنا على شهيدنا أن حكم التكفير قد نُسخ..وأنه حرم فلا يحل إلى يوم القيامة.. خشيت أن يظن القراء هذا بينما يقول الإمام أبو حنيفة أن عدم تكفير الكافر كفر.. كما خشيت أن يظن الناس أننا نعيش في مجتمع إسلامي لا جاهلية فيه ولا علمانية ولا سب لله ولرسوله وللمؤمنين ولا مطاردة للدين حيثما كان.. خشيت أن يظن الناس أن الحكام أمراء للمؤمنين لا ولاة للشياطين..وخشيت أن يظن الناس أن الجهاد والاستشهاد لم يعودا ذروة سنام الإسلام..

خشيت ذلك كله فأقدمت على ما نكصت عنه.. وولجت فيما حذّرت وحذَرت منه.. ولم يكن نكوصي ولا حذري كما قد يتبادر وليس الأمر – كما قد يتبادر إلى فهم بعض إخوتي من السلفيين – غفر الله لنا ولهم- أمر إرجاء.. لكنه محاولة أعمق لفهم سر الحكمة الإلهية ولإدراك إمكانية التآلف بين المتناقضات..فهذا الإدراك نفسه هو عين القصور البشري الدال على كمال الخالق سبحانه ونقص سواه.. بل إن محاولة الفهم تلك فيما أرى نوع من العبادة والتأمل المنبهر.. و هي محاولة العاجز القاصر العيَيّ لتصور أن أحداث التاريخ قد تكون هي بعينها الأمثلة التي يضربها سبحانه وتعالي بين الناس..وليست مجرد الأمثلة.. بل هي الابتلاء والامتحان حيث لا يُتصور بدونها بلاء ولا امتحان ولا تمحيص .. وهي الفتنة التي لا يجوز لنا أن نحسب أننا مؤمنون دون أن نُختبر بها.. فليس التاريخ إلا قراءة لمعالم حكمته.. وليست أحداثه إلا تبيانا لجلال قدرته.. ومن خلال هذا الفهم فلا مجال لاعتراض أو إنكار أو معاذ الله الله استنكار.. فما من حدث كان إلا وكان يجب أن يكون.. حتى لو غابت عنا في مرحلة أو في مراحل أسرار الحكمة والقدرة والإعجاز فيه..

*

**

لو أن قائلا قال لي أن الشيخ يوسف القرضاوي أعلم أهل الأرض الآن لما استنكرت..

ولو أن سائلا سألني من هو أقرب علماء أهل الأرض إلى قلبك لكان اسمه في السطر الأول..

ولو أننا صنفنا العلماء المعاصرين بغزارة الإنتاج لنافس شيخنا على المركز الأول بجدارة.. بل و أظننا لن نجد من يطاوله..

و لو أننا اعتمدنا القيمة والاعتدال والوسطية لكان الرائد بلا منازع..

بل إنني أشعر بالغضب الشديد إزاء من يهاجمونه ظلما خاصة تلك الفئة المضلة التي تربت في أوكار أجهزة الأمن – مثل الجامية وغيرها من الفرق الضالة وعلى رأسها كتائب كلاب الصيد من بقايا العلمانيين والشيوعيين- والتي تكتب وتتصرف كما لو كان الحاكم – أستغفر الله- هو الله.. لقد مرقوا من الفكر الصحيح.. ونكصوا عن مناهج السلف وتبنوا فكرا دخيلا بدعيا منحطا يتقصى المتشابه من أقوال العلماء.. فإن لم يجد نسبه بالكذب إليهم .. ثم يضفر الأكاذيب والمتشابهات في حبل واحد يروم به خنق ذلك الشيخ وفضحه والقضاء على سمعته و إسقاطه بين الناس.. وهم يمارسون ذلك في جرأة ووقاحة قل أن يوجد لها في التاريخ نظير..َ والمذهل حقا أن أساس تصنيفهم للعالم والفقيه، هو موقفهُ من الدولةِ، التابعة أصلا لأمريكا والتي تقيم شرع الأمم المتحدة لا شرع الله .. فإن كانَ موقفُ الشيخ ِ مناهضاً لذلك مناديا بالجهاد، ويدعو تغيير ِ الوضع ِ القائم ِ، فإنّهُ من الخوارج ِ، أو من المهيّجةِ، أو من المبتدعةِ الضالّينَ، ويجبُ التحذيرُ منهُ وإسقاطهُ !! . بل لقد بلغت بهم الصراحة والوقاحة – على سبيل المثال أن أفتوا بتحريم قتال الامريكان في العراق!!.. بل وحكموا على المجاهدين بأنهم مشكوك في ايمانهم!!. وكانت تحرك مواقفهم دائما الرغبة الجامحة في خدمة طواغيت الحكم المعاصرين الذين تغيظهم كتابات علماء الجهاد والصحوة ..

ولقد كان من أبرز من استهدفتهم هذه الفئة الضالة المضلة بعد الشيخ أسامة بن لادن والدكتور أيمن الظواهري والملا محمد عمر هم الشيخ سيد قطب والشيخ محمد قطب والدكتور يوسف القرضاوي..!!.. ولم يذكر عنهم أبدا أنهم هاجموا حاكما محليا أو طاغوتا أجنبيا!!.. وكنت أظن دائما أن الشهيد سيد قطب والشيخ يوسف القرضاوي في نفس الشعبة الناجية حتى نشب الخلاف بل استعر.. وهو في الحقيقة ليس خلافا .. بل هجوما من طرف واحد هو طرف شيخنا و إمامنا وعالمنا الشيخ يوسف القرضاوي.. أما من وقع عليه العدوان فهو الشهيد سيد قطب.

كيف هان على شيخنا و إمامنا وعالمنا أن يجرّح شهيدنا بهذه الصرامة والقسوة.. كيف.. وهو الحليم الرحيم..!

***

لقد كتبت في مقال سابق عما رآه قلبي رأي العين من كرامة للشيخ يوسف القرضاوي ( و أقول الشيخ.. لأن هذا اللقب أكبر عندي و أعز من لقب الدكتور) حينما هاجمه أمامي طاغوت فاجر من طواغيت الأمن ظن أن الأرض قد دانت له و أنه مخلد في منصبه.. واشتعل قلبي بالغيظ والغضب فرفعت يديّ إلى السماء هاتفا: اللهم إنك تعلم أني أعلم عن نفسي أنني أقل كثيرا جدا من أن أكون مستجاب الدعوة.. ولكنها يا رب ليست دعوتي و إنما هو وعدك.. ووعدك حق.. اللهم إنهم أعلنوا الحرب على وليك يوسف القرضاوي و أظهروا له العداوة والبغضاء فاللهم آذنهم بحربك.. اللهم أذلّهم.. اللهم لقد نالوا من عبدك القرضاوي فنل منهم يا رب.. اللهم لقد أغاظوني فأغظهم..

ووالله الذي لا إله إلا هو.. لم يمر أسبوع واحد إلا وكان طوفان الغضب من أكبر المسئولين في الدولة يجتاح هذا الطاغوت لأمر تافه جدا.. لكنها المشيئة حين تقضي.. وفصل الطاغوت من عمله الذي عبده من دون الله.. ونكل به تنكيلا شديدا جدا و أهين إهانة ليس بعدها إهانة حتى أصيب بانهيار عصبي..

هذه واقعة لا أقول أنني عاصرتها بنفسي فقط.. بل أؤكد أنني كنت طرفا فيها..

وهذا كله يظهر للقارئ كم أن هذا المقال ثقيل علىّ ومقيت.

***

ولنعترف منذ البداية بأن الشيخ يوسف القرضاوي يقدر الشهيد سيد قطب تقديرا كبيرا فيقول عنه:

لا يشك دارس منصف ولا راصد عدل في أن سيد قطب مسلم عظيم، وداعية كبير، وكاتب قدير، ومفكر متميز، وأنه رجل تجرد لدينه من كل شائبة، وأسلم وجهه لله وحده، وجعل صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين لا شريك له. ولا شك في إخلاص سيد قطب لفكرته التي آمن بها، ولا يشك في حماسه لها، وفنائه فيها، وأنه وضع رأسه على كفه، وقدم روحه رخيصة من أجلها.

ولا ريب أنه قضى سنوات عمره الأخيرة وهو في السجن يجلي الفكرة، ويشرحها بقلمه المبدع، وبيانه العذب، وأسلوبه الأخاذ. كما لا ريب أن كتبه تعطي قارئها شحنة روحية وعاطفية دافقة ودافئة ودافعة، توقظه من رقود، وتحركه من سكون؛ لما فيها من حرارة وإخلاص.

***

لم أكن أتصور ولا أريد من شيخنا أن يتغاضى عما يراه أو يتصوره من أخطاء عند الشهيد.. وهو ليس معصوما بأي حال.. وليس هناك من ادعى ذلك أبدا.. وكنت أتصور أن يعرض الشيخ فكره بمنهج أن رأيه صواب يحتمل الخطأ بينما رأي سيد قطب خطأ يحتمل الصواب.. لكن شيخنا لم يفعل ذلك.. لقد كان حادا كالسيف.. حارقا كاللهب.. مُدينا دون احتمال للبراءة.. وكنت أقول في ألم: حتى لو كان رأي الشيخ صحيحا.. و أحسبه ليس كذلك.. فما الذي دعاه إلى تفجيره بهذه الصورة ونحن وسط العواصف والأنواء.. وخنازير الأجانب وكلاب العلمانية يتلمظون ككلاب جائعة لكلمة تخرج من شخص في قامة شيخنا الكبير .. و أنهم لن يستخدموها لإظهار حق بل لطمسه وتشويهه.. وكانت هناك طرق كثيرة تصورت أن الشيخ الجليل سيستخدمها لتصويب ما رآه خطأ.. ولكنه لم يفعل ما تصورته.

***

كان الاتهام الرئيسي الذي وجهه شيخنا الجليل للشهيد أنه يكفر عامة المسلمين. إن "سيد قطب ينظر إلى مسلمي اليوم نظرته إلى مشركي الجزيرة العربية قبل البعثة"، وأن "مشكلة سيد قطب أنه لا يعرف سوى الإيمان والكفر". ثم تطرق الأمر بعد ذلك إلى الحاكمية والمفاصلة والجاهلية..

وكان هذا بالضبط ما يتمناه أعداؤنا في الداخل والخارج.. لأن الشيطان الذي يحتل قلوبهم كان يدفعهم على الفور للمرحلة التالية لتكون معادلة الشيطان على هذا النحو:

- الشهيد سيد قطب يكفر عامة المسلمين.

- من المؤكد أن عامة المسلمين ليسوا كفارا.

- من كفر أخاه فقد باء بها أحدهما..

- إذن فسيد قطب مشكوك في إيمانه والإخوان خوارج.. والخوارج إرهابيون.. وهذا بالضبط هو المطلوب إثباته.. وهذا ما تقول به أجهزة الإعلام الشيطاني سواء كانت أجنبية أم محلية.

ومن المؤكد أن هذه النتيجة أبعد ما يكون عما قصده شيخنا الجليل.. فما الذي أوقعه في هذا الأمر

إذن.

***

لقد أجهدت نفسي في محاولة فهم السبب الذي دفع شيخنا الجليل لذلك..

قلت لنفسي: هل يقصد شيخنا إلى نوع من التقية.. لقد وجد أن الهجوم كاسح على أفكار الشهيد.. وأنه هجوم لا يمكن بالطاقات المتاحة تحت ظل خيانة الحكام مواجهته.. فلا مناص إذن – ولا تثريب أيضا- على محاولة الهروب لتجنب الهجوم حتى ولو بالتنكر لأفكار سيد قطب.. وليست محاولة الهرب تلك دليل على نقص في الشجاعة بل على مزيد من حكمة فقه فهم الواقع..فالأمر يشبه مجموعة جهادية أطبق عليها الطاغوت فمن حق كل فرد فيها أن يتنكر لإخوانه كي يتمكن من مواصلة الجهاد.. إن سب الرسول نفسه صلوات الله وسلامه عليه مباح عند الضرورة لمن اطمئن قلبه بالإيمان.. أفلا يكن سب الشهيد جائزا.

والحقيقة أنني كنت ألوي عنق الحقيقة ولم أقتنع أنا نفسي بما بررت بل أدركت على الفور مدي سخافته.

ثم أن هذا الاحتمال الذي أدركت على الفور سخافته لم يكن يفسر إصرار الشيخ على إدانة الشهيد بقسوة لم أعهدها فيه وهو الرحيم.. وبتطرف ليس من شيمته وهو رائد الوسطية.. فلو صح ظني السخيف لأدان الشيخ الشهيد لكن دون حماسة و إصرار كما فعل.

ثم أن ما يطعن في هذا الاحتمال أيضا أن ذكاء وموسوعية وحنكة الشيخ يوسف القرضاوي لا تجعله يقع في مثل هذا الخدعة التي يريد طواغيت الداخل والخارج أن نقع فيها..إنهم يريدون إصابتنا بالشلل الكامل سدا للذرائع.. لا تفعل كذا كي لا يفعل الأعداء كذا.. وتتعدد المحاذير حتى تتحول الحياة كلها إلى محذور محظور كبير وحتى نصل إلى شلل أشبه بالموت.. لا أتصور أبدا أن الشيخ القرضاوي يمكن أن يصدق ذلك.. ولا أتوقع أنه يتصور أنه بالهجوم على الشهيد سيد قطب ينقذ طائفة من المسلمين.. لأن القرآن حدد لنا شروطهم كي يرضوا عنا.. أن نتبع ملتهم..

هذا الاحتمال إذن مرفوض تماما ومدحوض..

***

سألت نفسي:

هل يمكن أن يكون شيخنا الجليل واجدا على الشهيد العظيم – إن شاء الله- ومتهما له بأنه السبب بالعصف بالإخوان المسلمين عام 65 وإعادة تعريضهم لانتقام الجهاز الباطش الجبار المجرم؟..

إن بعض كبار الإخوان المسلمين يقولون ذلك.. وما يزالون يتباهون بما حذروا منه وما تحقق.. ورأينا في هؤلاء أننا لا نشك أبدا في إخلاصهم واقتناعهم بما يقولون أما ما نشكك فيه فهو صواب ما وصلوا إليه.. كما أننا نضطر آسفين إلى التفرقة بين وجهين للصورة.. صورة المفكر وصورة الموظف.. فقد يكون الموظف كبيرا جدا ويكون دوره هائلا في العمل التنظيمي لكنه لا يجيد الفكر بمعناه الكلي النبيل السامي الذي يقترن فيه القلم بالاستعداد للاستشهاد بقول كلمة حق أمام سلطان جائر.. ولكي نضرب مثلا على ذلك فإننا نقول أن أستاذا كبيرا في الأدب العربي قد يكون خبيرا جدا بالعروض لكنه لا يستطيع تأليف بيت شعر واحد.

الفارق هنا أيضا يمكن تشبيهه بالفارق بين جندي عادي واستشهادي.. هذا شئ وذلك شئ آخر.. ولا يمكن المقارنة بينهما على الإطلاق.

لكن الدكتور يوسف القرضاوي ليس موظفا, إنه مفكر كبير وفقيه وعالم.. فما الذي أوقعه فيما وقع فيه الموظفون الذين نكن لهم الاحترام كله..

ذلك أن هذا التصور القاصر يقع في خطأين كليهما فادح.. واحد منهما فكري والآخر ديني.

أما الخطأ الفكري فهو تصور أن العلاقة بين الإخوان والسلطة كانت علاقة فعل ورد فعل. ولم يكن الأمر كذلك أبدا إلا في ذهن مجموعة من البسطاء السذج أو المعتوهين أو العملاء. إن السياسة ليست محل بقالة صغير تكون مشتروات مالكه مجرد رد فعل لطلبات المترددين على محل بقالته.. والذي ينشئ شركة صغيرة يدرك على الفور مدي الحسابات المعقدة والتخطيط الذي يتضمنه إنشاء هذه الشركة ومن أهم ما فيه دراسة التصور المستقبلي لهذه الشركة.. كما أن المخططين لهذه الشركة لا يكتفون بتغير المناخ المحيط بالشركة بل هم يسعون سعيا إلى تغيير هذا المناخ المحيط وخلق واقع يؤدي إلى ازدهار شركتهم.. يتم هذا على مستويات الشركات الصغيرة فما الذي يمكن أن يتم على مستوي تنظيم عالمي كالإخوان المسلمين.. و أذكر هنا بما أشعل وجدان الشهيد – إن شاء الله – سيد قطب عندما رأى فرحة الأمريكيين باغتيال الإمام الشهيد حسن البنا..

إن أي دارس سيكتشف على الفور أن علاقة الإخوان بالدولة لم تكن علاقة فئة سياسية – معارضة أو موافقة- بالنظام.. بل كانت صراعا بين فئة يلزمها دينها بعدم الفحش وعدم الكذب وعدم الخداع بفئة تستمرئ هذا كله في سبيل الوصول إلى غاياتها و أغراضها.. ولسنا نغفل بالطبع بعض أخطاء للإخوان.

نعم.. السلطة تضرب الإخوان بنفس المنطق والمنهج الذي تضرب به إسرائيل المسلمين خاصة الفلسطينيين.. والمنهج الذي تحطم به أمريكا العراق.. إن كل سبب هو خدعة.. وكل تبرير كذبة.. وكل هدف غواية.. وكل مصلحة مؤقتة رشوة.. وكل ادعاء بالطهارة عهر.. وكل قسم على حسن النوايا يخفي خلفه الغدر..

العلاقة محكومة بتصورات سابقة التجهيز تنتهز الفرصة فإن لم تحدث الفرصة تلقائيا تم اصطناعها..

الجانب الآخر للخطأ في تصور أن ما يحدث للإخوان هو نتيجة لتصرفاتهم هو خطأ عقدي يتعلق بدور الفرد في التاريخ وعلاقة ذلك بالقضاء والقدر وما هو مكتوب في اللوح المحفوظ.. وكأن المقادير المقدرة يغيرها تصرف بشر. وهذا موضوع واسع جدا لا يتسع المجال لطرحه.. لكننا نتساءل في عجالة: هل كان تاريخ الإخوان المسلمين والعالم سيتغير لو نجحت المؤامرة التي دبرها عبد الناصر عليه من الله ما يستحقه ضد المرشد الأستاذ حسن الهضيبي رضي الله عنه و أرضاه؟.. لو أن السندي- رئيس التنظيم الخاص.. أو السري كما يحلو لعملاء السلطان تسميته- قد نجح في إزاحة الإمام الهضيبي؟.. بل أتساءل تساؤلا آخر: هل كان يمكن أن يكون للإخوان المسلمين كل هذه القوة والبهاء لو لم يكونوا قد مروا بما مروا به من محن؟..

ثم.. ألا يلخص التاريخ البشري كله أن "اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ"..

الله هو الغالب.. مهما فعل الجلاد ومهما فعلت الضحية!

***

سألت نفسي في خجل وفي إعياء وفي ألم و أنا أدعو الله أن تكون كل ظنوني إثما يجب أن أستغفر الله عنه:

هل يمكن أن تكون الغيرة قد تحركت في قلب الشيخ نحو الشهيد؟.

ربما يكون الشيخ يوسف القرضاوي أكبر من عالم وأكبر من أستاذ و أكبر من شيخ وأكبر من فقيه.. لكن المؤكد أنه أقل من شهيد..

فهل أدركه نوع من الحسد والغيرة كما يلمح إلى ذلك الأستاذ أحمد عبد المجيد في كتابه الهام الإخوان وعبد الناصر.

ولكن الشيخ نفسه ينفي ذلك حيث يقول:

إن الشيخ نفسه ينفي ذلك حيث يقول:

ولم أكن أقصد أن أخوض هذه المعركة التي دخلتها على كره مني، فليس بيني وبين سيد قطب إلا كل مودة ومحبة واحترام، بل أكن له ما أكنه لأئمة الدعوة مثل حسن البنا، والمودودي، والسباعي، والغزالي وغيرهم. وأنا لست من أقران سيد قطب حتى يتصور البعض أن يكون بيني وبينه من التغاير ما بين الأقران بعضهم وبعض. على أنّا -وإن جمعتنا ساحة الدعوة- يظل لكل منا ميدانه وحلبته التي يصول فيها ويجول، فبيننا عموم وخصوص من وجه كما يقول المناطقة.

ما أريد أن أقوله أن الإنسان لا ينفي العدم.. بل ينفي ما يغلب على الظن وجوده.. حتى أنني أرى أن كلمة : "لا إله" حتى قبل أن نكملها بباقي الجملة: "إلا الله" تعنى الإيمان بالله سبحانه وتعالى وليس نفي الإيمان به.. إن الإنسان لا ينفي ما يجهل بل ما يعلم وتلك معجزة أخرى في اللغة يتساوى فيها المعنى وضده!. نعم .. أنت لا تنفي أنك كنت في المريخ الأمس.. فالنفي لا يكون إلا لما يمكن أن يحدث.. كذلك لا يكون النفي لمجهول.

ما أريد أن أقوله أن نفي الشيخ الجليل " التغاير ما بين الأقران بعضهم وبعض" يثبت الغيرة أكثر مما ينفيها.

ولقد أجهدت نفسي في محاولة تقصى شكل وسبب تلك الغيرة. إن الشيخ ضخم وهائل وكبير حتى أن مجرد تقبل فكرة أن يغار من أي واحد في هذه الدنيا صعب جدا.. فما من ملك يضاهيه وما من رئيس يساويه.. كما أنه ليس لمفكر مهما كان أن يتعالى على الشيخ.. فكيف يمكن للشيخ أن يغار.

قلت لنفسي أن حكمة الخالق اقتضت عدم الكمال للبشر وعدم العصمة إلا للأنبياء.

قلت لنفسي : لعل الله شاء أن يقع شيخنا القرضاوي في هذا الخطأ وغيره حتى لا يفتتن الناس به أو يظنوا أن كل ما يقوله صواب.

( لعل القارئ يذكر مقالا شديدا لي كتبته عتابا لشيخنا الجليل بعوان: "إلفظها فإنها مسمومة" وكنت أعني فتواه بجواز قتل الجندي الأمريكي المسلم لإخوته في أفغانستان.. وهو خلاف لم يقلل من إعجابي بالشيخ أبدا.. ولم يخطر ببالي أنني أفضحه به أو أقلل قيمته بين الناس.. لكن المحزن أن شيخنا الجليل اعتبر انتقاده لسيد قطب يفعل ذلك) .

***

هل هو نوع من تأنيب الضمير.. لقد غادر شيخنا القرضاوي البلاد بعد بدايات المحنة الأولي.. غادرها طالبا.. ولا تثريب عليه في ذلك أبدا ولا عتاب.. أما الشهيد سيد قطب فقد أبي أن يغادر مطلوبا .. وكانت الدعوات الموجهة إليه على مستوى الرؤساء والملوك.. فهل لذلك أثر أو دخل؟!..

ولم تكن المقارنة أمام الشهيد بين ضيق هنا وفرج هناك.. بل كانت بين الفرج هناك والاستشهاد هنا.. كان يتوقع الاستشهاد.. بل ربما كان واثقا منه.. ومع ذلك فقد اختاره.. فهل ينكأ هذا الاختيار النبيل في قلب شيخنا الجليل جرحا أو حرجا؟!

***

لم أحل المشكلة ولم أفك المعضلة.. لكن خاطرا خطر لي.. حين قلت أن الشيخ يوسف القرضاوي كالماء الذي لا يمكن أن تقوم الحياة أو أن تستمر بدونه.. و أن الشهيد سيد قطب كالماء الثقيل الذي يدخل في صناعة القنابل النووية.. و أن قطرات من الماء الثقيل تساوي آلاف الأطنان من الماء العادي,, ولكن الأمة لا غنى لها عن كليهما..

قد يكون الشيخ يوسف القرضاوي أعلم و أفقه من الشهيد.. لكن الأمر هنا لا يقاس بذلك.. و إنما يقاس بشئ وقر في قلب الشهيد جعل كلماته جهادا وحياته استشهادا واستشهاده كاستشهاد الحسين رضي الله عنه وقودا يغذي الجهاد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. ومن هذا المنطلق فلعل الشيخ الجليل قد نظر إلى المعالم أو الظلال وما حققاه من شهرة ومكانة في قلوب الناس فقارنه بما حققته كتبه هو.. وهو كثير جدا.. لكن يظل الفارق بين كتب الشيخ وكتب الشهيد هو نفس الفارق بين أطنان الماء وقطرة ماء ثقيل.

هل مست الغيرة قلب الشيخ من أجل ذلك..

إنني أحاول ما استطعت أن أفهم.. لكنني لا أستطيع..

وقلت لنفسي في النهاية لعل الله يكرم الناس بأن يجعلهم يرون هذا العلامة الهائل يخطئ و أن يكونوا هم الذين يردونه.

***

يبقى احتمال الاجتهاد والخطأ والأجر الواحد..

لكن ما أريد أن أركز عليه هو أن شيخنا الجليل كان صادقا تماما في أحاسيسه وفكره لكن هذا لا يعني أن صدقه هذا تمخض عن صواب..

***

يحسب لشيخنا الجليل الدكتور يوسف القرضاوي أن أقوى الانتقادات ضده في هجومه على الشهيد سيد قطب قد تم نشرها على مواقع تابعة له .. ولنقرأ - باختصار- ما كتبه الدكتور كمال المصري – أحد المستشارين لموقع إسلام أون لاين- الذي لا يكتفي برأيه ولكنه يعرض أيضا لمجموعة من آراء العلماء والمفكرين، ويبدأ الدكتور كمال المصري بالتأكيد على مسائل ثلاث:

المسألة الأولى: أن الأستاذ "سيدًا" لا يعدو عن كونه بشرًا يصيب ويخطئ، ويُؤخَذ من كلامه ويُردُّ، وأنه لا معصوم إلا الحبيب صلى الله عليه وسلم، لذا ليس يعيبه أن يخطئ، بل يكفي المرء شرفًا أن تُعَد معايبه لقلتها وندرتها.

لذا عندما أضع تعليقاتي على مقولة التكفير هذه أنا لا أدافع عن الأستاذ "سيدٍ" لمجرد أنه لا يخطئ، بل لأنني أرى أنه لم يقل بهذا الرأي ولم يكن يعنيه بحال حتى عند حديثه عن الجاهلية والردة وغير ذلك، وهذا لا يعني أنه لا يخطئ، بل أرى أنه رحمه الله تعالى جانبه الصواب في مسائل أخرى كمسألة التجديد، وفهمه لمعنى الجهاد، وغير ذلك، وهي مسائل فقهية مرتبطة بالواقع الذي يعيش فيه المرء، والخلاف حولها قديمٌ بين العلماء.

كما أن ما سأستدل به لا يعفي من فهم من كتاباته التكفير من المسئولية عليه هو شخصيًّا لا على من قال كلامًا قد يُفهَم منه ذلك.

المسألة الثانية: أن نعرف ونفهم وندرك بوضوحٍ وجلاءٍ أن الأستاذ "سيدًا" رحمه الله تعالى "أديبٌ" وليس "بفقيهٍ ولا أصوليٍّ"، وما هو مطلوبٌ من "الأديب" ليس هو ذاته المطلوب من "الفقيه أو الأصوليّ"، وحين يكتب "الأديب" لا يكون محدَّدًا ودقيقًا وجازمًا في كلامه، ولا مطلوبٌ منه ذلك، بينما حينما يكتب "الفقيه أو الأصوليُّ" فلا مجال للبس في ما يكتب أو يستدل، بل يجب أن يكون واضحًا دقيقًا ومحدَّدًا، حتى لا يلتبس الفهم على أحد.

إننا إن فهمنا هذه الخلفية واستوعبناها جيِّدًا ندرك أن ما كتبه الأستاذ "سيد" كان كتابة أديبٍ يحمل في طيات كلماته المجاز والبلاغة وجمال العبارة وعدم المباشرة حتى وهو يكتب في "ظلال" القرآن الكريم وآياته، وحتى وهو يتطرق لمفاهيم ومصطلحات إسلامية.

وإن فهمنا هذه الخلفية واستوعبناها جيِّدًا كذلك نعرف أن نظرتنا لكتاباته على أنها آراء وأقوال صدرت من فقيهٍ أو أصوليٍّ، وتحميل هذه الأقوال بما تعارف عليه الفقهاء والأصوليون من محدداتٍ واصطلاحات كان خطأً كبيرًا أدى بنا إلى هذا الفهم الذي ما كان ليصلنا لو تعاملنا مع كتاباته تعاملاً سليمًا من البداية.

المسألة الثالثة: أن قضية اختلاف الرأي، ووجود الرأي والرأي الآخر، مسألةٌ أصيلةٌ علينا أن نقبلها ونتقبلها بصدرٍ رحبٍ، فليس معنى دفاعي عن وجهة نظري في كتابات الأستاذ "سيد"، ليس معنى هذا تجريحي أو طعني أو اتهامي لمن خالفني الرأي، وإنما هو وجهات نظرٍ، واختلافٌ في الرأي، من حقِّ كلِّ أحدٍ أن يرى ويكتب ما يقتنع به، مع حفظ الودِّ والاحترام بين جميع الأطراف، مع التأكيد على عدم رفض كلِّ ما يأتي من هذا الطرف أو ذاك لمجرد أنه من فلانٍ الذي خالفته في مسألةٍ ما، ويبقى لكلٍّ فضله ومكانته ومنزلته.

إن مساحة سعة الصدر عند الاختلاف يجب أن تتأكد وتتضح، ويبقى الودُّ هو الأصل والأساس.

وجب التنويه إلى هذه المسائل الثلاث كي تتوضح الرؤى، وحتى لا يساء فهم ما أكتب، أو يساء استخدامه.

ثم يواصل الدكتور كمال المصري:

أما تعليقاتي على مقولة تكفير الأستاذ "سيد" للمجتمع، فأرى أنها خاطئة نتجت عن سوء فهمٍ لما كتب، وعن عدم إدراك "أدبيته" لا "فقهيته"، وعن اجتزائها من سياق كتابات الأستاذ "سيد"، وعدم ربطها بأفعاله، فهو لم يكن يومًا مكفِّرًا للمجتمع بالصورة التي فهمها من فهمها هكذا، ودلائلي على ذلك متعددة ومتنوعة المشارب، وهي:

1- "الظلال" و"المعالم" بين "القارئين" و"المكفِّرين":

لقد قرأ "الظلال" و"المعالم" الملايين، ولكن كم منهم فهم منهج التكفير من هذه الكتب وتبنى هذا المنهج؟؟

"القطبيون" المكفِّرون الذين ظهروا متأثرين بهذا الفكر ظهروا نتيجةً لظروف التعذيب والإذلال التي رأوها في السجون، فوجدت أفهامهم في كلمات الأستاذ "سيد" ملاذًا لهم وحجةً لتعويض إحساسهم بالقهر الذين يرونه ليل نهار، وأفهامهم هذه كانت ستصل إلى نفس النقطة حتى ولم تكن كتابات الأستاذ "سيد" موجودة، لأنهم يريدون هذا، فليست المشكلة في كتابات الأستاذ "سيد"، وإنما المشكلة في الظروف التي أوصلتهم لما وصلوا إليه، ولو لم يجدوا كتابات الأستاذ "سيد" لبحثوا لهم عن كتابات وحججٍ أخرى.

أعود لتساؤلي السابق: لقد قرأ العالَمون "الظلال" و"المعالم"، فلِمَ لم يظهر منهج التكفير إلا من هذه الفئة القليلة؟؟؟

إن المشكلة في الظروف المحيطة وفي أفهام هؤلاء، وليست في ما كتب الأستاذ "سيد".

2

- المكفِّرون وعدم اعتماده عندهم كمرجع:

بالمشاهدة والقراءة والمعرفة، تأكد لي أن الكيانات "التكفيرية" التي قامت في أوساط المسلمين لم يقم أيٌّ منها بالاستشهاد أو الاستدلال بكتابات الأستاذ "سيد"، بل إن عددًا من هذه الكيانات قد كفَّرته وأخرجته من ملة الإسلام، ولو كانت كلماته تعطيهم الحجة لما وصلت إليه أفهامهم من تكفير المسلمين، لما كانوا تراجعوا لحظةً عن الاستدلال والاستشهاد بها بدل تكفيره.

وحتى ادعاء عديدٌ من الكتَّاب أن شكري مصطفى قائد جماعة "التكفير والهجرة" -أو "جماعة المسلمين" كما كانت تسمي نفسها- كان منبع فهمه وفهم جماعته كتابات الأستاذ "سيد"، حتى هذا الادعاء هو ادعاءٌ باطلٌ، ولا أدلَّ على ذلك من نقلي لهذه الكلمات التي وردت في كتابٍ طرحته الجماعة الإسلامية في مصر ضمن إصداراتها لعام 1997م، تردُّ فيه على الشيخ الألباني وتؤكد فيه ما أقول، وهذا نصٌّ من هذا الكتاب:

"ثالثًا: وبعد بيان خطأ الكاتب فيما نسبه للجماعة الإسلامية، نحب أن نؤكد له ولغيره أن الجماعة الإسلامية تقدر الأستاذ سيد قطب رحمه الله أعظم التقدير، وله في قلوب أبنائها مكانة خاصة، بيد أن الجماعة لم تنسب منهجها إلى الظلال أو المعالم ولم تقل إنها أخذت فكرها منهما وإن كانت كثيراً ما تستشهد بأقواله رحمه الله باعتباره واحداً من دعاة الإسلام ورجاله المعدودين في هذا العصر .

إننا نؤكد أن الجماعة الإسلامية لم تكن يومًا من هؤلاء الذين نسبوا إلى الأستاذ سيد رحمه الله ما لم يقله وادعوا زورًا أنه في المعالم أو الظلال .

رابعًا: وإن الإنصاف ليقتضي هنا أن أبريء ساحة الجماعة التي تسمي نفسها جماعة المسلمين من جزء مما نسبه إليها الكاتب، فإنه وإن كان شكري قد قال بكثير مما نسبه الكاتب إليه إلا أن المعروف أن شكري لم ينسب ذلك إلى الأستاذ سيد رحمه الله، وقد قرأ كاتب هذه السطور بعضًا من مخطوطات شكري -غفر الله له- وقابل الكثيرين من أتباعه وناقشهم، ويمكنني من خلال ذلك كله أن أقول إن شكري لم يكن يعتد بأقوال أحد من العلماء المتقدمين ولا المتأخرين، وكان يرى الحجة في القرآن والسنة وحدهما، وكان يرى أن معجمًا لغويًّا يكفي لفهم القرآن والسنة مع الاستعانة بأدلة الفطرة أو الأدلة العقلية، وما سيد قطب عند شكري إلا كغيره من الناس لا يعتد به ولا ينسب فهمه إليه، وقد يكون تأثر به في بداية سجنه، ولكن الحديث هنا ليس عن روافد شكري الفكرية، وإنما هو عن الأسس التي أقام عليها جماعته" انتهى من كتاب "وقفات مع الشيخ الألباني حول شريط (من منهج الخوارج)"- الطبعة الأولى- 1418هـ1997م– من إصدارات الجماعة الإسلامية بمصر.

ومع تذكيري بما أشار إليه هذا الكتاب من عدم اعتماد الجماعة الإسلامية أو شكري مصطفى كتابات الأستاذ "سيد" كمستندٍ لاعتقاداتهم، إلا أنني أحب التأكيد على عبارةٍ مهمةٍ وردت في هذا الكتاب، وهي قولهم: "إننا نؤكد أن الجماعة الإسلامية لم تكن يومًا من هؤلاء الذين نسبوا إلى الأستاذ سيد رحمه الله ما لم يقله وادعوا زورًا أنه في المعالم أو الظلال" فهنا نجد أن الجماعة الإسلامية نفسها وصفت من ادعى أن الأستاذ "سيدًا" كان يقول بتكفير المسلمين، وصفت ذلك بأنه زورٌ لم يقله الأستاذ "سيد"، ولم تحمل كتبه هذا الفهم، وأظن أن هذا من أهم وأدق الأدلة على ما نقول.

ثم يتناول الدكتور كمال المصري مقتطفات من "الظلال" اعتمد البعض عليها في إدانة الشهيد سيد قطب تتلوها مواقف الشهيد و أقواله والتي تدحض فهم أولئك الذين اتهموه بالتكفير.. يقول الشهيد مثلا في الظلال:

- "إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولةٌ مسلمةٌ ولا مجتمعٌ مسلمٌ قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي" (ظلال مقدمة سورة الحجر).

فنفيه الإسلام عن الدولة والمجتمع لم يكن نفيًا مطلقًا أو عامًّا، وإنما كان يتحدث عن معنى مقيَّدٍ واضحٍ هو عدم وجود دولةٍ أو مجتمعٍ يعتمد الشريعة كاملةً كمنهج حياةٍ والفقه الإسلاميَّ كمبدأ تحاكمٍ وقضاء.

- "إن هذا الكون بجملته لا يستقيم أمره ولا يصلح حاله، إلا أن يكون هناك إلهٌ واحدٌ، يدبِّر أمره و(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).. وأظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية تعبّد العبيد، والتشريع لهم في حياتهم، وإقامة الموازين لهم، فمن ادعى لنفسه شيئًا من هذا فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية، وأقام نفسه للناس إلهًا من دون الله.

وما يقع الفساد في الأرض كما يقع عندما تتعدد الآلهة في الأرض على هذا النحو، عندما يتعبد الناس الناس، عندما يدعي عبدٌ من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته، وأن له فيهم حق التشريع لذاته، وأن له كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته، فهذا هو ادعاء الألوهية ولو لم يقل كما قال فرعون: (أنا ربكم الأعلى)" (سورة آل عمران- ظلال الآيات 58- 64).

فحديثه هنا واضحٌ في مسألة اتخاذ الأرباب من دون الله تعالى، والتأله، والقيام بحق التشريع للبشرية، وهذه كلها لله تعالى وحده، وكلامه كله هنا عن هذا الذي قام بتعبيد الناس له، ولم يتحدث حرفًا واحدًا عن الناس الذين استعبدوا، ولم يتطرق لتكفيرهم.

ويواصل الدكتور كمال المصري:

-

"وقد بهتت صورة الزكاة في حسنا وحس الأجيال التعيسة من الأمة الإسلامية التي لم تشهد نظام الإسلام مطبقا في عالم الواقع؛ ولم تشهد هذا النظام يقوم على أساس التصور الإيماني والتربية الإيمانية والأخلاق الإيمانية فيصوغ النفس البشرية صياغة خاصة ثم يقيم لها النظام الذي تتنفس فيه تصوراتها الصحيحة وأخلاقها النظيفة وفضائلها العالية ويجعل الزكاة قاعدة هذا النظام في مقابل نظام الجاهلية الذي يقوم على القاعدة الربوية، ويجعل الحياة تنمو والاقتصاد يرتقي عن طريق الجهد الفردي أو التعاون البريء من الربا".

ثم يقول: "إن الله سبحانه يعد الذين يقيمون حياتهم على الإيمان والصلاح والعبادة والتعاون أن يحتفظ لهم بأجرهم عنده، ويعدهم بالأمن فلا يخافون، وبالسعادة فلا يحزنون، لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، في الوقت الذي يوعد أكلة الربا والمجتمع الربوي بالمحق والسحق وبالتخبط والضلال وبالقلق والخوف.

وشهدت البشرية ذلك واقعًا في المجتمع المسلم؛ وتشهد اليوم هذا واقعًا كذلك في المجتمع الربوي، ولو كنا نملك أن نمسك بكل قلب غافلٍ فنهزه هزًّا عنيفا حتى يستيقظ لهذه الحقيقة الماثلة، ونمسك بكل عينٍ مغمضة فنفتح جفنيها على هذا الواقع، لو كنا نملك لفعلنا، ولكننا لا نملك إلا أن نشير إلى هذه الحقيقة، لعل الله أن يهدي البشرية المنكودة الطالع إليها والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن والهدى هدى الله" (سورة البقرة- ظلال الآية 177).

فالأستاذ "سيد" وصف الأمة اليوم بالأمة الإسلامية رغم أنه يراها أمةً تعيسة، غير أنه لم ينفِ عنها إسلامها، ثم ذكر بعد ذلك حرصه وحرقة قلبه وروحه على إيقاظها من غفلتها، ولو كان يرى فيها كفرًا أكان يحترق قلبه عليها؟؟

- "وكانوا يدركون -أي العرب قبل الإسلام- أن الإسلام والإسلام وحده هو الذي جعل لهم رسالة يقدمونها للعالم، ونظرية للحياة البشرية، ومذهبًا مميزًا للحياة الإنسانية، والأمة لا توجد في الحقل الإنساني الكبير إلا برسالة ونظرية ومذهب تقدمه للبشرية لتدفع بالبشرية إلى الإمام، وقد كان الإسلام وتصوره للوجود ورأيه في الحياة وشريعته للمجتمع وتنظيمه للحياة البشرية ومنهجه المثالي الواقعي الإيجابي لإقامة نظام يسعد في ظله الإنسان، كان الإسلام بخصائصه هذه هو بطاقة الشخصية التي تقدم بها العرب للعالم فعرفهم واحترمهم وسلمهم القيادة، وهم اليوم وغدا لا يحملون إلا هذه البطاقة ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم ; وإما أن ينبذوها فيعودوا هملا كما كانوا لا يعرفهم أحد ولا يعترف بهم أحد"

ثم قال: "إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية وتشقى بها جميعا غاية الشقاء، ماذا إذن يقدمون للبشرية لتعرفهم به وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز؟ لا شيء إلا هذه الرسالة الكبيرة، لا شيء إلا هذا المنهج الفريد، لا شيء إلا هذه المنة التي اختارهم الله لها وأكرمهم بها وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم، والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها وهي تتردى في هاوية الشقاء والحيرة والقلق والإفلاس، إنها وحدها بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديما للبشرية فأحنت لها هامتها، والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم فيكون فيها الخلاص والإنقاذ.

إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة، وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة، وهي التي تقدم أكبر منهج، وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة، والعرب يملكون هذه الرسالة وهم فيها أصلاء، وغيرهم من الشعوب هم شركاء فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم؟ أي شيطان؟ لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة، وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان" (سورة آل عمران- ظلال الآيات 159- 164).

فلو كان الأستاذ "سيد" يرى تكفير الأمة، أكان يجعلها مكلفةً من ربها بمطاردة الشيطان؟؟ أيكلف الله تعالى الكفار بمطاردة الشيطان؟؟؟!!!

ثم يعلق الدكتور كمال المصري قائلا:

هذا ما عنيته بالجمع بين كتاباته، فما وجدته يحمل معنى في مكان ستجد تفسير هذا المعنى في مكان آخر، فتحمل هذا على ذاك، وتفهم النصوص في سياقاتها الطبيعية.

ويستطرد مستهدا بمقتطفات من "أفراح الروح":

هذا الكتاب عبارة عن رسالة أرسلها الأستاذ "سيد" لأخته، ونشرت هذه الرسالة في كتابٍ عُنوِن بـ"أفراح الروح"، وهو رغم صغره وعدم شهرته إلا أنه يحمل في طياته فكرًا محبًّا للعالم والناس، يجعل من الصعوبة بمكانٍ أن يكون كاتب هذه الكلمات مكفِّرًا للناس والمجتمعات.

وهذه نبذة مما احتوته هذه الرسالة:

- "إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة‘ حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين، نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية!".

- "عندما نلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، نجد أن هناك خيرا كثيرا قد لا تراه العيون أول وهلة!… لقد جربت ذلك. جربته مع الكثيرين… حتى الذين يبدو في أول الأمر أنهم شريرون أو فقراء الشعور".

- "كم نمنح أنفسنا من الطمأنينة والراحة والسعادة، حين نمنح الآخرين عطفنا وحبنا وثقتنا، يوم تنمو في نفوسنا بذرة الحب والعطف والخير!".

- "حين نعتزل الناس لأننا نحس أننا أطهر منهم روحا، أو أطيب منهم قلبا، أو أرحب منهم نفسا، أو أذكى منهم عقلا، لا نكون قد صنعنا شيئا كبيرا… لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبيل وأقلها مؤونة!.

إن العظمة الحقيقية: أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع!".

- "بالتجربة عرفت أنه لا شيء في هذه الحياة يعدل ذلك الفرح الروحي الشفيف الذي نجده عندما نستطيع أن ندخل العزاء أو الرضا، الثقة أو الأمل أو الفرح إلى نفوس الآخرين!.

إنها لذة سماوية عجيبة ليست في شيء من هذه الأرض، إنها تجاوب العنصر السماوي الخالص في طبيعتنا، إنها لا تطلب لها جزاءً خارجيا، لأن جزاءها كاملا فيها!".

***

أهذه كلماتُ مكفِّر؟؟!!

***

ثم يستشهد الدكتور كمال المصري بما ورد في آخر ما كتب الشهيد وهو لماذا أعدموني.. وقد جمع بعد استشهاده في كتاب هو عبارة عن تجميعٍ لإفادات الأستاذ "سيد" عند التحقيق معه قبل الحكم لإعدامه، وهو من الأهمية بمكانٍ لأنه يُعتبَر آخر ما وصل إليه الأستاذ "سيد" من مفاهيم وآراء، وفي هذا الكتاب كلامٌ كثيرٌ عن منهجية التغيير عند سيد، وكيف رد مجموعة من الانقلابيين عن فكرهم الانقلابي.

وهذان نصَّان أنقلهما من هذا الكتاب:

- "ولابد إذن أن تبدأ الحركات الإسلامية من القاعدة: وهي إحياء مدلول العقيدة الإسلامية في القلوب والعقول، وتربية من يقبل هذه الدعوة وهذه المفهومات الصحيحة، تربية إسلامية صحيحة، وعدم إضاعة الوقت في الأحداث السياسية الجارية، وعدم محاولات فرض النظام الإسلامي عن طريق الاستيلاء على الحكم قبل أن تكون القاعدة المسلمة في المجتمعات هي التي تطلب النظام الإسلامي لأنها عرفته على حقيقته وتريد أن تحكم به".

فلو كان يرى كفر المجتمع لما كانت لديه مشكلة في أن تتم عملية التغيير بأي شكلٍّ وبأي خسائرٍّ من هؤلاء "الكفار" من أفراد المجتمع.

- "ويجب أن أقرر أن الإسلام شيءٌ أكبر من هذا كله.. إنه نظام حياة كاملة، وإنه لا يقوم إلا بتربية وتكوين للأفراد، وإلا بتحكيم شريعة الله في حياة الناس بعد تربيتهم تربية إسلامية، وإنه ليس مجرد أفكارٍ تُنشَر أو تذاع بدون الأخذ في تطبيقها عمليًّا في التربية أولاً، وفي نظام الحياة والحكم أخيراً".

فالمقصود هنا هو أن الإسلام نظام شامل وليس مجرد صلاة وصيام وحج، وما من مسلم بله أن يكون عالمًا إلا ويقول بذلك، وكل حديث الأستاذ "سيد" كان عن ضرورة أخذ الإسلام كله، وهذه هي عبارة النص عنده "كما يقول الأصوليون في طرق دلالة النصوص"، ولم يكن معنيًّا هنا بالحديث عن تكفير الناس، وإنما فَهِمه الناس ضمنًا عبر مفهوم المخالفة، وهو فهمٌ لا يستقيم حين نبحث عن دلالة نصه وعن مقصده من ورائه.

أما من فهم ما فهم فهذا يرجع له ويُحمَل عليه، وليس على قائل الكلام، وقد أشرت سابقًا أن من فهم هذا الفهم إنما فهمه لظروف الحالة التي كان عليها، والتعذيب الذي كان يعيشه ليل نهار، فاتجه فكره لتكفير هؤلاء الظلمة المعذِّبين وللمجتمع الساكت عليهم، ويبقى فهمهم هذا لهم أو عليهم، ولا يحمَّل على قائله بحال.

ويستشهد الدكتور كمال المصري بمجموعة من العلماء ينقض بهم رأي شيخنا الجليل في الشهيد.. ولو لم يفعل ذلك لأخطأ.. لأن الدكتور يوسف القرضاوي عالم بألف عالم.. ولم يكن لأي واحد منا منفردا أن يقدر على مواجهته.. لذلك فإن مواجهته بالعلماء ليست دليلا على خطأ رأيه فقط - وهو ما نعتقده- وقد لا يوافقنا الشيخ الجليل عليه لكنها – وهو الأهم تقدم دليلا لا يدحض أن أقوال شيخنا الجليل و آرائه ليست محل إجماع من العلماء ولا هي متفق عليها.. وأن من يرون عكس ما يراه الشيخ قامات سامقة وهامات عالية لا يمكن تجاهلها.. كما أنها تسحب من الشيخ الجليل حقه في مواجهة آراء معارضيه بالسخرية والاستهجان.

لا يكتفي الدكتور كمال المصري بذلك.. بل يأتي بدليل لا يدحض.. دليل في صف الشهيد.. دليل يواجه به شيخنا الجليل يوسف القرضاوي..دليل لا يستطيع الدكتور القرضاوي أن يطعن فيه ولا أن يرفض شهادته.. لأن قائل هذا الدليل لا يقل علما ولا فضلا عن الشيخ القرضاوي.. لا يقل عنه قيد أنملة.. لسبب رئيسي.. هو أنه هو نفسه الشيخ يوسف القرضاوي.. لكن في وقت آخر..!!

يقول الشيخ يوسف القرضاوي الذي يقول:

"الأستاذ سيد رحمه الله قال بجاهلية المجتمعات، ويعني بالمجتمعات الأنظمة الحاكمة التي لا تلتزم بشريعة الإسلام، وعدم الالتزام بشريعة الإسلام يمكن أن يفسر بترك الاحتكام أو بترك الالتزام، ترك الالتزام يعني الرفض، وهذا لا يُشكُّ في كفر من فعل هذا، ولذلك العلمانية الصريحة التي تقبل الإسلام عقيدةً وترفضه شريعةً هذا لا يُشكُّ في كفر من فعل ذلك وهذا الذي ينطبق عليه: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) فينطبق على من رفض الشريعة أساسًا" حلقة من برنامج "الشريعة والحياة" بتاريخ 21/1/2001.

فالشيخ القرضاوي هنا نفى تهمة تكفير المجتمع عن الأستاذ "سيد"، وذكر أن تكفيره كان للأنظمة الحاكمة، ثم أيَّد هذا التكفير بشكلٍ من الأشكال، ولا يعنينا هنا الحديث عن تكفير الحكام سواءً رفضنا هذا الرأي أو قبلناه، وإنما يعنينا محل الخلاف في المسألة وهو "تكفير المجتمع والناس".

وتأكيدًا لهذا المعنى، ولخوف الشيخ القرضاوي من أن يخطئ الناس الفهم، -لاحظوا أن يخطئ الناسُ الفهم لا أن يقول الأستاذ "سيد" بالتكفير- لخوف الشيخ القرضاوي حذر في نفس الحلقة من قراءة كتب الأستاذ "سيد" إلا للشباب المتمكنين الراسخين، فقال: "أنا لا أنصح إلا الشاب المتمكن الراسخ الذي يستطيع أن يقرأ لأي كاتب ولكنه لا يكون أسيرًا له، أنا أنصح الشباب إذا قرؤوا كتابًا لمؤلفٍ ما مهما كان قدره، سيد قطب على أعيننا ورؤوسنا، ونقول عنه الشهيد سيد قطب لأنه مهما كان قُتل مظلومًا، ولكن أقول إذا قرأ الإنسان لسيد قطب، وقرأ لغيره، لابد أن يقرأ وعنده أصولٌ راسخةٌ يرجع إليها، ويُأَوِّل بعض كلامه الذي يمكن أن يُأَوَّل، وإذا لم يستطع أن يُأَوِّل يرفضه، لأنه سيد قطب ليس معصومًا، سيد قطب بشر".

وهذا عين ما نعنيه هنا، غير أنني أرى إمكانية التأويل، وأظن أن نقولاتي واستدلالاتي السابقة تؤيد ذلك وتؤكده.

ثم يستشهد الدكتور كمال المصري بالشيخ سلمان العودة حيث يقول:

"وبنى بعض هؤلاء على هذه القراءة الحرفية الضيقة تكفير الناس كافة، أو التوقف بشأنهم أو الهجرة من ديارهم... إلى أين؟ لا أدري!

وبنى آخرون عليها فكرة الانفصال عن المجتمعات وترك العمل فيها واعتزالها، وفهمت كلمة سيد -رحمه الله- عن (العزلة الشعورية) بتكثيفٍ قويٍّ، وترميزٍ شديدٍ، جعلها بؤرة العمل والانطلاق.

والحق أن القراءة الحرفية الظاهرية لتراث كاتبٍ ما، ليست أمرًا خاصًّا وقع مع سيد قطب رحمه الله وحده، لكنها مشكلة تراثية يعاد إنتاجها الآن مع عدد كبير من رموز العلم والفقه والدعوة والاجتهاد، من المتقدمين والمعاصرين".

واستشهد فضيلته بأمثلةٍ ثم قال: "وكلما كان العالِم أوسع انتشارًا، وأكثر أتباعًا، وأوغل في الرمزية -لأي سببٍ- كان الأمر بالنسبة له أشد، وكانت المشكلة أظهر، لكنها تخف تدريجيًّا بتقدم الزمن، ولو من بعض الوجوه.

هذه ليست مشكلة العالِم أو المفكر، بقدر ما هي مشكلة القارئ أو المتلقي؛ وأيًّا ما كانت فهي مما يحتاج إلى بحثٍ ودراسة، وقديمًا كان علي رضي الله عنه يقول قولته المشهورة: "يهلك فيَّ رجلان: غالٍ وجافٍ".

والخلاصة: أن سيد قطب وغيره من أهل العلم يؤخذ من قولهم ويترك، ويصيبون ويخطئون، ويُردُّون ويُردُّ عليهم، وهم إن شاء الله بين أجرٍ وأجرين، ولئن حُرِموا أجر المصيب في عشر مسائل، أو مائة مسألة فلعلهم -بإذن الله- ألا يحرموا أجر المجتهد" انتهى من مقالةٍ بعنوان "رأيي في سيد قطب" للشيخ سلمان العودة.

ويعلق الدكتور كمال المصري قائلا:

ما أود التنبيه إليه هنا هو مسألة القراءة الحرفية الظاهرية للكلام التي أشار إليها الشيخ سلمان العودة، والتي أظن أنها السبب الرئيسي لما التبس من فهم لكتابات الأستاذ "سيد" في أذهان الناس.

أخيرًا..

هذا ما أراه.. وهذا ما أدين به نحو هذا الرجل "الأستاذ سيد".. ليس تقديسًا له ولا عصمًا من الخطأ، ولكن لأنني عشت في ظلال كلماته طويلاً، فوجدت أن من واجبي أن أقول فيه كلمةً رأيت من وجهة نظري أنها الصواب، مع اعتقادي الكامل بحرية اختلاف الآراء، وتعدد وجهات النظر، ولكلِّ إنسانٍ ما يراه.

***

أتأمل في ذهول هجوم الشيخ على الشهيد رضي الله عنهما..

أين ما تعودناه من شيخنا الجليل من دماثة وسعة ورقة واحتواء.. ولماذا قسى على الشهيد كل هذه القسوة..

انظروا إليه وهو يقول عن الشهيد:

هذا هو الرجل يصرح -بل يصرخ- بما لا يدع مجالا للشك والاحتمال: أن الأوطان التي كانت تعتبر في يوم من الأيام "دارا للإسلام"، وأن هؤلاء الأقوام (من سلالات المسلمين) الذين كان أجدادهم مسلمين في يوم من الأيام.. لم يعودوا مسلمين، وإن ظنوا أنهم يدينون بالإسلام اعتقادا، في حين أنهم ليسوا مسلمين لا عملا ولا اعتقادا؛ لأنهم لم يشهدوا أن "لا إله إلا الله" بمدلولها الحقيقي كما حدده هو.

وكأنما خشي شيخنا الكبير ألا يفهم بعض القراء ما يعنيه فيجابهه برأيه حازما باترا.. فيستطرد قائلا:

النص واضح تمام الوضوح، إن الكاتب لا يعتبر مسلما إلا من آمن بفكرته هذه، وهي الفئة التي يسميها "العصبة المسلمة"، وهي التي يجب أن تشعر بأنها وحدها هي "الأمة المسلمة"، وأن ما حولها ومن حولها ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه جاهلية وأهل جاهلية، أي هم مشركون وكفار، ليس لهم في الإسلام نصيب، وإن كانوا يصلون ويصومون ويزكون ويحجون! فكأنما المسلمون جميعا بمثابة مشركي مكة عند البعثة المحمدية، وكأنما دعوته بمثابة دعوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ من آمن بها دخل في الإسلام، ومن لم يؤمن بها فهو جاهلي كافر حلال الدم!!

و أظن القارئ لا يغفل نغمة سخرية وهو يقول: وكأنما دعوته بمثابة دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.

وجدتني أهمس في ألم كظيم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (11).

لا يقتصر الأمر على ذلك.. و إنه يعز على نفسي أن أحدد توصيفا لقول شيخنا القرضاوي:

والحق أننا لم نر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة، ولا التابعين، ولا أحدا من السلف أو الخلف فسر كلمة التوحيد بما فسرها به سيد رحمه الله.

إن قضية التوحيد.. خلاصة عمر سيد قطب وجوهرة حياته المتلألئة علينا بضيها وضيائها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لا تستحق أن تكون موضع فخرنا ولا فخر سيد.. فهي قضية لم يقل بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة، ولا التابعين، ولا أحدا من السلف أو الخلف فسر كلمة التوحيد بما فسرها به سيد !!..

يواصل شيخنا الجليل:

ومشكلة الأستاذ سيد أنه لا يعرف إلا الإيمان أو الكفر، ولكن يوجد بينهما منزلة هي الفسوق والعصيان؛ فقد يوجد اليوم مئات الملايين من المسلمين ولكنهم – كلهم أو جلهم- عصاة مفرطون، في حاجة إلى أن يتوبوا، أو جهلة بدينهم في حاجة إلى أن يعلموا.

(...)

النص من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تعليق؛ فالكاتب ينظر إلى مسلمي اليوم نظرته إلى مشركي العرب في الجاهلية تماما عند البعثة، لا فرق بين هؤلاء ولا أولئك، إلا أن هؤلاء يسمون أنفسهم مسلمين وهذه لا تغني عنهم شيئا، ولهذا كان على أصحاب الدعوة الإسلامية أن يدعوا الناس إلى اعتناق العقيدة أولا، حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد أنهم مسلمون!

***

لا تقتصر حدة شيخنا على الشهيد سيد قطب.. بل تتعداها إلى كل من يحاول الدفاع عنه.. فيقول:

وتمنى بعضهم لو أني استمررت في نهجي الذي عرفت به، وهو نهج تجميعي يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرق، فلماذا أثير هذه القضية وأفرق الصفوف اليوم ؟

ومعاذ الله أن أكون داعي فننة أو مفرق صف، وقد علم الجميع : أني أدعو إلى التقريب بين المذاهب والفرق الإسلامية من سنة وشيعة وزيدية وإباضية فكيف أفرق بين أهل السنة -بل أهل الدعوة -بعضهم وبعض؟!

ومما أذهلني وأذاني ما ذكره الأخ أحمد عبد المجيد - تعريضا - أن إلصاق تهمة التكفير بسيد قصد بها الإساءة إلى الرموز الإسلامية .

ويعلم الله كم كنت حريصا ألا أدخل هذا المعترك، وكم أجلته، ولكن متي كان الأشخاص مقدسين عندنا؟

لقد كنت مترددا في الإبقاء على سمعة الشهيد من ناحية، وبيان الحقيقه الشرعية من ناحية أخرى، فترجحت الثانية على الأولى؟ لأن البيان فريضه، ولا يجوز تاخير البيان عن وقت الحاجة، وخطأ سيد لا ينقص من منزلته ولا من مثوبته عند لله فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى .

يا إلهي..

يا إلهي..

هل لدي شيخنا الجليل ما إن ذكره ضاعت سمعة الشهيد سيد قطب..

و أنه تردد هل يبقيها أم يجهز عليها؟!..

غفر الله لك يا شيخنا.. غفر الله لك.. برحمته قبل عدله وبسابق جهادك وليس بحاضر عملك..

لكن.. هل لديك ما هو أشد تنكيلا بذبيحنا الشهيد وشهيدنا الذبيح من أقوال ضباط أمن الدولة ومثقفي أمن الدولة وشيوخ أمن الدولة..

لقد حاولوا جميعا القضاء على سمعة الشهيد فعجزوا..

ألديك أنت ما ينجح فيما فشلوا فيه ؟..

ألديك؟!..

ويواصل شيخنا الجليل تنكيله وتسفيهه لأنصار الشهيد:

وما المنى كثيرا: دخول بعض الإخوة في هذا الميدان، وبضاعتهم مزجاة - من العلم الشرعي، وحتى من المنطق العقلي، وظنوا أن الحماس ورص الكلام يغنى شيئا في القضايا العلمية الكبيرة لقد جاعوا بمن يمكن أن يسموا (شهود النفي ) في القضية، ليقولوا: إنهم لقوا سيدا رحمه الله ولحم يجدوه يكفر المسلمين، أو سألوه : هل نكفر المسلمين ؟ فنفي ذلك ؟! وقال من قال : يجب أن نضم أفعال سيد إلى أقواله حتى نكون منصفين معه . ونسى هؤلاء ما قرره علماؤنا من (قواعد علميه ) تحكم الأمور وتضبطها، من هذه القواعد: أن المثبت مقدم على النافي، وأن من حفظ حجة على من لم يحفظ . فإذا جاء عشرة ثقاة وقالوا: لم نسمع فلانا يشتم فلانا، وجاء رجل ثقه وقال : إنه سمعه يشتمه، وكان من أهل العدالة والضبط، أخذ بقول هذا الواحد؟ لأنه علم ما لم يعلموا، فهم حدثوا بما يعلمون وهو حدث بما يعلم، وحفظ ما لم يحفظوا، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ .

وما ذكره الإخوة من تعارض فعل سيد مع أقواله : لقد غفلوا عن أصل مهم، وهو: أن الذي يحكم على العالم ويعبر عن آرائه هو قوله لا فعله لأنه فعل امرئ غير معصوم، فلا غرابه أن يناقض فعله قوله، وسلوكه عمله، ما دام لا عصمة له ..

لا أوافقك يا مولانا الشيخ.. فالقول لا يصدقه إلا العمل..

خاصة إذا كانت المشكلة في فهم القول لا في القول نفسه..

إن شيخنا الجليل يرد كل شهادة تبرئ الشهيد بل وفي أحيان كثيرة يسفه قائلها..

ولننظر إليه وهو يقول:

وأريد أن أؤكد للمعلقبن جميعا أنني لم أدع على الرجل دعوى من كيسي بل من كيسه هو، وما آخذته إلا بكلامه البين الجلي المفهوم، فإن كان رجع عن مضمون هذا الكلام الجلي في أواخر حباته - رحمه الله - فلنقل هذا ولا حرج، إنه تراجع عن هذا الفكر ولم يعد يلتزمه أو يؤمن به .

وحبذا أن يقول ذلك أولى الناس به ؟شقيقه الكاتب الكبير الأستاذ محمد قطب حفظه الله، فليت صديقنا العزيز يفعلها فيريح ويستريح، فيعلق على الأقوال التي نقلتها من الظلال ومن غيره وأمثالها بسطر واحد يضع الأمور في نصابها.

ولست أدري لماذا لم يذكر لنا شيخنا الجليل أن الأستاذ محمد قطب قد فعلها بالفعل.. وقبل أن يوجه شيخنا اتهاماته بربع قرن على الأقل حيث كتب العلامة الأستاذ محمد قطب رسالة إلى الأستاذ الشهيد كمال السنانيري- أحد قادة الإخوان المسلمين في مصر- وهو زوج المجاهدة أمينة قطب، وقد استشهد بعد ذلك في سجن السادات وقد وضح في رسالته وجه الحق في كثبر من القضايا المثارة . ونشرت مجله الشهاب اللبنانية رسالة الأستاذ محمد قطب إلى السنانيري كما أوردها الدكتور صلاح الخالدي في كتابه" سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد" وفيما بلي نص الرسالة :

أخي . . .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد :

فإنك تعلم يا أخي ما دار من لغط في محيط الإخوان، حول كتابات الشهد سيد قطب، وما قيل من كونها مخالفة لفكر الإخوان، أو جديدة عليه .

وأحب في هذا المجال أن أثبت مجموعة من الحقائق أحس بأنني مطالب أمام الله بتوضيحها، حتى لا يكون في الأمر شبهه . . إن كتابات سيد قطب قد تركزت حول موضوع معلن، هو : بيان المعنى الحقيقي للا إله إلا الله، شعورا منه بأن، كثيرا من الناس لا يدركون هذا المعنى على حقيقته، وبأن المواصفات الحقيقية للإيمان، كما وردت في الكتاب والسنة، شعورا منه بان كثيرا من هذه المواصفات قد أهمل، أو غفل الناس عنه ! ولكنه مع ذلك حرص حرصا شديدا على أن يبين أن كلامه هذا لبس مقصودا به إصدار أحكام على الناس، وإنما المقصود به تعريفهم بما غفلوا عنه من هذه الحقيقة، ليثبتوا هم لأنفسهم : إن كانوا مستقيمين على طريق الله كما ينبغي، أم أنهم بعيدون عن هذه الطريق، فينبغي إليهم أن يعودوا إليه . . . . ولقد سمعته بنفسي أكثر من مره يقول :نحن دعاه ولسنا قضاه " إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس، ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة لا إله إلا الله " لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي، وهو التحاكم إلى شريعة الله!! كما سمعته أكثر من مره يقول : إن الحكم على الناس يستلزم وجود قرينة قاطعة لا تقبل الشك ! وهذا أمر ليس في أيدينا، ولذلك نحن لا نتعرض لقضية الحكم على الناس، فضلا عن كوننا دعوة ولسنا دولة، دعوة مهمتها بيان الحقائق للناس، لا إصدار الأحكام عليهم . . . . أما بالنسبة لقضية المفاصلة، فقد بين في كلامه أنها المفاصلة الشعورية، التي لابد أن تنشأ تلقائيا في حس المسلم الملتزم، تجاه من لا يلتزمون بأوامر الإسلام، ولكنها ليست المفاصلة الحسية المادية، فنحن نعيش في هذا المجتمع، وندعوه إلى حقيقة الإسلام، ولا نعتزله ! وإلا فكيف ندعوه؟

ويواصل الأستاذ محمد قطب تعقيبه على أفكار شقيقه الشهيد :

تلك خلاصة كتابات سيد قطب . . ولى على هذه الخلاصة تعقيبان :

الأول : هو تأكدي الكامل - بإذن الله - من أنه ليس في هذه الكتابات ما يخالف الكتاب والسنة، الذين تقوم عليهم دعوة الإخوان المسلمين .

الثانى : هو تأكدي الكامل أيضا - من أنه ليس في هذه الكتابات ما يخالف أفكار السيد حسن البنا مؤسس هذه الجماعة، ولا ما يخالف أقواله . . . .

وهو الذي قال في رسالة "التعاليم " - في البند العشرين - على أن المسلم الذي لا يجوز تكفيره هو : الذي نطق بالشهادتين، وعمل بمقتضاهما، وأدى الفرائض .. وذلك فضلا عن كون كتابات سيد قطب -كما أسلفت -لم يقصد بها إصدار الأحكام على الناس، وإنما كان قصده منها - كما قصد الإمام الشهيد بالضبط - وهو بيان حقيقة الاسلام، ومواصفات المسلم، كما وردت في كتاب الله وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم .

تلك حقائق، أرى أن من واجبي أن أبينها وأوضحها، أداء للشهادة لله، فإننا لا ندرى متى نلقى الله . . . ولا ينبغي لنا أن نلقاه وقد كتمنا شهادة لله ! والله الموفق إلى سواء السبيل... "

هذه شهادة الأستاذ محمد قطب إذن وهي في أكثر من صفحة وليس في سطر واحد كما طلب شيخنا الجليل.. لكنه أسقط الشهادة كلها..

سألت نفسي و أنا ألوك المرارة و أعض على نواجزي من الألم:

- هل يطلب شيخنا الجليل شهادة.. أم يطلب اعترافا..

هاجمتني موجة من الألم..

قلت لنفسي لقد تعرض الشهيد في حياته للتعذيب المروع كي يعترف على نفسه بمثل هذا لكنه أبى.. كما أبي كل أصحابه فيما عدا الخائن على عشماوي..

وقلت لنفسي أن العلمانيين وكتاب السلطة لم يكفوا أبدا عن محاولة الحصول على اعتراف من الإخوان المسلمين عموما و من القطبيين خصوصا أنهم كانوا مخطئين.. ولقد عجزوا إزاء صلابة مذهلة أبداها الإخوان جزاهم الله خيرا..

فلماذا يحاول شيخنا الجليل أن يهدم الجدار من ناحيتنا لا من ناحية الأعداء؟!..

***

سألت نفسي:

- هب أن الشهيد سيد قطب أخطأ.. فلماذا يطالب شيخنا القرضاوي شقيقه العلامة محمد قطب بالاعتذار عن خطئه؟! هل يغني هذا الاعتذار شيئا.. هل يعنى أن الشهيد سيلتزم به بعد أن أفضى إلى ربه؟! أم أن المقصود هو تجريح منهج آل قطب جميعا؟!..

إن الشيخ الجليل لا يترك ثغرة يمكن أن يهاجم منها الشهيد إلا وهاجمه.. إلا أنه يستدرك أنه يخطئه فقط ولا يكفره..

يكفِّره؟!..

هل وصل الأمر إلى أن هذا الاحتمال قد أصبح ملحا حتى بات يستوجب النفي..؟!

إن الشيخ الجليل أيضا يرى أن دعوة الإمام حسن البنا تختلف عن دعوة الشهيد.. ومن أدلته على ذلك أن:" ان سيدا أشاد بالبنا في كتاباته القديمة التي جمعها في كتاب (دراسات إسلامية) فكتب عن حسن البنا وعبقرية البناء. ولكنه لم يتحدث فيما علمت - عن فكر البنا ومقاصده، ولم ينقل عنه في كتبه كما نقل عن المودودي والندوى".." حسن البنا يشعر بوجود الاسلام وأمته، ويتعاطف معها، ويعيش بهمومها، وسيد قطب لا يحس للإسلام ولا لأمته بوجود من حوله، بل يقول : قومنا على مله، ونحن على ملة، وهم على دين ونحن على دين آخر." دعنا من تهافت الحجة الأولى.. فليس معني أنني لم أستشهد بالإمام الشافعي في هذا المقال أنني أختلف معه وعنه!!.. ولكن لماذا لم ينح شيخنا الكبير منحى المستشار الجليل طارق البشري الذي كتب يقول أن البنا وقطب قد يكونان مختلفان لكنه اختلاف التكامل لا التناقض.. إن فكر البنا يزرع أرضا وينثر حبا، ويسقى شجرا وينتشر مع الشمس والهواء وفكر قطب : يحفر خندقا ويبنى قلاعا ممتنعة عاليه الأسوار، والفرق بينهما هو الفرق بيم السلم والحرب .

وعندما واجه البعض شيخنا الجليل أن سيد قطب لم يصل إلى ما وصل إليه الإمام حسن البنا حين قال: " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين" إلا أن الشيخ ينبري للدفاع عن الإمام الشهيد.. ودفاعه حق.. لكننا كنا نود أن ينسحب جزء من هذا الحق على الشهيد سيد قطب أيضا.. يقول شيخنا:

إن هذه العبارة ( ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين ) التي صدرت من حسن البنا رغم شدنها وقسوتها حتى أن بعضهم - أنكر صدورها عنه، وبعضهم زعم أنه أكره علبها- لا يمكن أن تحمل على ظاهرها؟ لأنهاضد منهج حسن البنا، وضد كتاباته كلها، وضد الأصل - العشرين الذي ختم به الأصول التي وضعها لفهم الاسلام في إطارها وفي حدودها. فلهذا يجب أن تؤول لتتفق مع الاتجاه الفكرى والعقدى العام لحسن البنا؟ فهى كلمة متشابهة،يجب أن ترد إلى سائركلامه المحكم .

بل إن شيخنا الجليل عندما يواجه رأي المرشد العام الثاني في الشهيد حيث قال المرشد أن كتاب المعالم قد حصر أمله كله في سيد.. لا يملك شيخنا الجليل إزاء ذلك إلا أن يقول قولا غريبا جدا:

"واعتقد اعتقادا جازما أن الأستاذ الهضيبى لم يقرأ ما كتبه سيد"

ولم يورد شيخنا الجليل طريقته في استكناه هذا الدليل.. والذي يتضمن إساءة كبيرة للمستشار الهضيبي أيضا والذي – بمقتضى تأكيد الشيخ الجازم- قد شهد للشهيد دون أن يقرأ ما كتب!!.

ثم أنه غفر الله له يتناول أصحاب الشهيد بسخرية إذ أنهم قد تناسوا- كما يقول الشيخ- محور القضية وهو ما نقله عن سيد رحمه الله من كتبه :

" فقد تناسوا هذا تماما، وظلوا يركضون بعيدا: يبحثون عمن لقي سيدا، من سأله فأجابه . ومن سمع منه كذا وكذا، وأنا لا دخل لي في هذا كله . أنا أحكم على فكر الرجل من خلال نصوصه المكتوبة . والنص المكتوب هو أدل شيء على فكر الإنسان بخلاف ما يقوله شفهيا، مما قد لا ينقل بنصه تماما، وما قد ينقل حسب فهم السامع، وما ينقل بعيدا عن سياقه وملابساته".

و إنني – أنا الضعيف الخطاء- أتجرأ فأسأل شيخنا الجليل :

إذا كان القرآن وهو كلام الله حمال أوجه فكيف يكون كلام الناس..

كما أسأل شيخنا الجليل وهو الضليع في اللغة والأدب والفكر.. أسأله عن مفهوم اللغة واللفظ والدال والمدلول.. و أسأله هل توجد قراءة واحدة لأي نص تلغي ماعداها.. وأسأله: فكيف نواجه إذن شيوخا أجلاء اختلفوا مع شيخنا الجليل فيما ذهب إليه..

كيف أواجه – ولا أقول تأدبا كيف يواجه- الأستاذ عمر التلمساني في كتابه "ذكريات لا مذكرات حين يقول:

وما أراد الشهيد الأستاذ سيد قطب في يوم من الأيام أن يكفِّر مسلمًا؛ لأنه من أعلم الناس بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أكثر من حديث: "إن مَن قال لا إله إلا الله موقنًا بها قلبه لن يخلد في النار". ونحن نعلم أنه لن يخلد في النار إلا الكافرون! وهم الذين ينكرون وحدانية الواحد القهار! هذه واحدة.

والثانية: إن كثرة ترداده "للمجتمع الجاهلي" لم يقصد بها تكفير المجتمع، ولكن تشديد النكير على الظلمة والطغاة والمستغلِّين والمشكِّكين.. وهو أسلوب تعرفه اللغة العربية(...)

والذين يعرفون الشهيد سيد قطب، ودماثة خلقه، وجمَّ أدبه، وتواضعه، ورقة مشاعره، يعرفون أنه لا يكفِّر أحدًا! إنه داعية إسلامي، من عيون دعاة المسلمين.. ظلمه من أخذ كلامه على غير مقاصده، ومن هاجموه متجنِّين، لما رأوه من عميق تأثير كلماته وكتاباته على الشباب الطاهر النظيف..

كيف أواجه – ولا أقول تأدبا كيف يواجه- المجاهدة زينب الغزالي حين تقول أنها سألت الشهيد عن اتهام البعض له بأنه يكفر عامة المسلمين فاستغربَ نفسُه هذا القول! وبيَّن أن هذا فهم خاطئ لما كتبه.. وبيَّن أنه سيوضِّحُ هذا في الجزء الثاني من "المعالم".

كيف أواجه – ولا أقول تأدبا كيف يواجه- الأستاذ عبد الحليم خفاجي في كتابه "عندما غابت الشمس" حيث أكد أن فكرة التكفير نبَتت في السجون، من قِبَل بعض الشباب، وأنهم ادَّعوا نسبتها لسيد قطب، وزعموا أنه يقول بها، وهذا في حياته، فتبرأ من ذلك!

قال خفاجي: "وحمَّلنا الأخ إبراهيم الطناني المرحَّل إلى سجن طرة للعلاج رسائل للأستاذ سيد قطب، بتفاصيل تفكير وسلوك هؤلاء الإخوة. فأرسل منكرًا عليهم ذلك، وقال عنهم: لقد فهموني خطأً! وقال أيضًا:

"لقد وضعتُ حملي على حصانٍ أعرج!!".

كيف أواجه – ولا أقول تأدبا كيف يواجه شيخنا - "سيد نزيلي" من قيادات تنظيم 65 والذي أكد أن "قطب" عندما رأى الهجمة الشرسة على الإسلام في تلك الفترة من الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، والشيوعية الدولية، غلف أفكاره بعبارات حماسية حتى يوقظ الشباب والأمة المسلمة، فكانت أفكاره أجراس إنذار، وليست تكفيرا، بل كانت اتهاما بالسير في طريق العلمانية للدولة عشية استقلالها، وليست دعوة للتمرد عليها وتكفيرها، وساق الرجل بعض المواقف لسيد قطب تؤكد صدق ما ذهب إليه، كما أنه والشباب الموجودين في تنظيم 1965 لم يعرفوا فكرة التكفير، وهم من أقرب الناس إليه، وإنما كانوا يفهمون أفكار سيد قطب على أنها أفكار مغلفة بشحنات عاطفية وأدبية، وليست أحكاما على المجتمع.

وأكد "نزيلي" على أن قضية التكفير نشأت بفعل الأهوال التي تعرض لها الشباب المسلم في السجون، والتي جعلته يصل إلى قناعات بتكفير النظام الذي يظلمه ويتعمد إيذاءه، ومن ثم فإن "التكفير" نشأ بعيدا عن "سيد قطب" وأفكاره، وبفعل ضغوط وظلم الدولة في تلك الفترة، ولم ينشأ كتعبير عن منهج فكري لهؤلاء الشباب في تلك الفترة، وأن التكفير كان سينشأ حتى إن لم يوجد "سيد قطب" لأنه في الأساس هو رد فعل على الظلم والتعذيب. ويضيف أن الشهيد قد نظر للصراع نظرة معمقة، ولم يكن يرى أن هذا الصراع هو صراع بينه وبين الأنظمة التي تحكم العرب والمسلمين، وإنما ذهب بعيدا ورأى أنه صراع الإسلام مع الصهيونية والصليبية والشيوعية، فهذه هي رءوس العداوة للمسلمين، ولم يكن ينشغل بزعامات أو رئاسات البلاد العربية.

ولم يعرف عنه قبل السجن أنه يميل إلى التكفير على مستواه الشخصي أو الفكري، فهو لم يتهم عامة المسلمين بالكفر، وكان يصلي خلف الإمام العادي، وكان يأكل ذبائح المسلمين، ويؤثر عنه في سجنه أنه سئل: "هل أنت تكفر عامة المسلمين؟". فقال: كيف أكفر عامة المسلمين، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وحب الدين متغلغل في وجدانهم وقلوبهم، ثم نادى على سجين من أرباب الإجرام والمعروفين بالشراسة وسوء الخلق، وقال له: يا فلان: إذا قابلك رجل ولعن دينك ماذا يكون موقفك؟. فقال هذا السجين: أقتله.

ومن يتعمق في كتاباته يجد أنه لم تحكمه قضية التكفير، ولم تكن هدفه وغايته التي يجند فكره لها، بل كانت قضية الإسلام في العصر الحاضر المحارب من كل الاتجاهات الراغبة في اجتثاثه من جذوره، وانتزاعه من قلوب المسلمين، ولا شك أننا نسلم بهذه القضية، ومن هنا كانت كتاباته للدفاع عن الإسلام، وبعث الغيرة في نفوس أبنائه، وبث الإيمان في قلوب الطليعة المؤمنة حتى تبقي هذا الدين حيًّا في النفوس أمام هذه الهجمات.

ونحن الجيل الذي تربى على فكر سيد قطب لم نلحظ هذه الدعاوى التي تتهمه بالتكفير، وهو لم يطلب منا ذلك في الكتابات التي كان يرسل بها إلينا ويربينا عليها نحن جيل 1965، نحن كنا نعيش بإسلامنا بين أهلينا ومجتمعنا، ولم يخطر على بالنا أننا متميزون بأي شيء عن غيرنا من المسلمين، اللهم إلا أننا نعتبر أنفسنا أكثر الناس غيرة على الإسلام وحدوده وثوابته، وكنا ندعو الناس إلى ذلك، و"سيد قطب" لم تكن كتاباته لانعزال هذه الفئة التي يربيها؛ بل كان يطلب من الشباب أن يندمجوا مع المجتمع حتى يغيروا هذا المجتمع.

وقد انتهيت بعد لقائي بإخواني واستجلاء حقائق الأمور إلى: أننا لم نكفر مسلمًا، ولم نعلم من الأستاذ سيد قطب أنه يأمرنا بالتكفير، أو الانعزال عن المجتمع، أو المفاصلة الشعورية التي يفهمها البعض خطأ بمعنى الانعزال. والذي كنا نفهمه من "المفاصلة الشعورية" هو البعد النفسي عن المسلم الذي يرتكب المعاصي والموبقات، وهذه مسألة مطلوبة منا جميعا، ولكن ليس معناها أن أشعر أنني مسلم، وأن هذا المسلم العاصي كافر!.

أما ما طرأ على فكر "سيد قطب" في المحنة من 1954 إلى 1965م لا نقول إنه انقلاب على أفكاره السابقة، ولكن أعطى لكتاباته لونًا متميزا، فقد لاحظ بثاقب نظره أن المشروع العلماني الذي تبنته الأنظمة الحاكمة في البلاد الإسلامية، من شأنه أن يفصل بين الدين والدولة، بحيث يتسنى للدولة أن تصبغ حياة المسلمين بعيدا عن الإسلام، وهو ما أصاب "سيد قطب" بنوع من القلق والخوف على الدعوة، وهذا الأمر مؤكد ومهم في أدبيات هذه الفترة، فليس عندنا الكنيسة المتسلطة، وليس لدينا الذين يستعبدون الناس بذواتهم أو برامجهم، وكما نعلم أن شعار العلمانية: "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، ومن هنا فإن "قطبًا" استشعر خطورة الفصل العلماني بين الدين والحياة، وكانت كتاباته تنقض هذه الأفكار، وتربي أجيال المسلمين على الإسلام الشامل، ويفهم من كتاباته أن عامة المسلمين ليسوا متهمين بالعلمانية، وأنه كان يتهم الأنظمة القائمة التي تحذو حذو العلمانية الغربية، وكانت آراؤه اتهامًا لهذه الأنظمة بالسير في العلمانية، وليست تكفيرا.

ويضيف سيد نزيلي وقد فاض ألمه:

إن محاولة إلصاق تهمة التكفير بسيد قطب إنما يخدم دوائر معينة، خاصة في ظل حالة الاستعداء الدولي ضد الحركة الإسلامية، ومحاولة استعداء هذا المجتمع على الإخوان، والادعاء بأن الإخوان خرجت من عباءتهم كل الأفكار العنيفة والمتطرفة، وهذا ظلم لفكر سيد قطب.

ولقد أرسل "نزيلي" برسالة إلى فضيلة الشيخ القرضاوي في هذا الشأن حيث قال: "كنت أود أن يظل الأستاذ الفاضل يوسف القرضاوي على ما هو عليه من تجميع الأمة والعاملين للإسلام بكل توجهاتهم، بعيدا عن نقاط الاختلاف والخلاف، وألا ينكأ جراحًا قديمة، حيث إن الوقت غير مناسب، خاصة مع الحملة الشرسة ضد الإسلام والمسلمين ببرامج ووسائل معلومة ومعروفة، يرصد لها الأعداء الأموال الطائلة، ويضغطون على الأمة بكل الوسائل حتى يغيروا من هوية الأمة، وأريد أن أستعير الكلمات الآتية: "إننا نجمع ولا نفرق، ونتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه" والله على ما أقول شهيد.

كيف أواجه – ولا أقول تأدبا كيف يواجه شيخنا - الأستاذ "أحمد عبد المجيد" وقد كان من الدائرة الأولى التي تجالس "قطب" و أحد المحكوم عليهم بالإعدام في قضية تنظيم 1965م، لكن خفف الحكم إلى المؤبد، وهو زوج ابنة الشهيد "محمد هواش" الذي كان من كبار قادة تنظيم 1965م، ونُفذ فيه حكم الإعدام، والذي تمثل كتاباته مصدرا رئسيا في هذا المقال.

وقد نبه أحمد عبد المجيد في شهادته إلى أن فكرة التكفير كانت بعيدة عن "قطب"، وأن التكفير لم يتبنَّه القريبون منه أو الذين تربوا على يديه، ولم يتبنَّه تنظيم 1965م، ولكن الذي تبنى التكفير هم الذين لم يتربوا على يد "قطب"، ولم يكونوا من الإخوان المسلمين، وأشار إلى حقيقة تاريخية وهي أن التكفير نشأ عام 1968م، وأنهم (أي قيادات تنظيم 1965) عاشوا في عزلة تامة في السجن الحربي لمدة تزيد على السنتين، وتعرض الأستاذ "أحمد عبد المجيد" في شهادته لمسألة "التكفير"، وأكد "أن سيد قطب لم يكن من دعاة التكفير، لأن هذا الاتجاه نشأ في سجن "مزرعة ليمان طرة" عام 1968م وما بعدها، على يد "شكري مصطفى" وأمثاله، ولو كانت هذه الفكرة عند سيد قطب لكان من باب أولى أن تكون عند من تتلمذ على يديه، ومن كان يقابله ويجالسه، وهو ما لم يحدث، وأحب أن أقول: إنه هو أول من قال عبارة "نحن دعاة ولسنا قضاة"، وأذكر أنه قال لنا: "عندما تعرضون الإسلام على الناس، اعرضوا الإسلام بوضوحه ونصاعته، وإياكم أن تعرضوا عليهم النتائج، اتركوا للمستمع أن يستنتج موقعه في أي مرحلة هو من هذا الدين".

"فلم تكن قضية التكفير تشغل باله، وإنما الذي كان يشغله هو قضية الدعوة، وكشف مخططات أعداء الإسلام، والدليل على أننا لم نعرف قضية التكفير إلا أوائل عام 1968م عندما ذهبنا إلى سجن قنا أبلغنا الإخوان القدامى في المعتقل أن موضوع التكفير أثير حولنا في الصحف، ولم نكن نعلم عنه شيئا منذ اعتقالنا؛ لأننا كنا نعيش في عزلة تامة لأكثر من عامين عن العالم، أما المرة الثانية التي سمعنا فيها عن موضوع التكفير فكان في نهاية 1968 عندما أثير في سجن مزرعة طرة".

ويستطرد الأستاذ أحمد عبد المجيد:

ولو فرضنا أن هناك أخطاء عند سيد قطب، وهو بشر، فإن التقييم العادل أن نأخذ الأفكار الراشدة، ونترك غيرها، ولا نرفض المنهج بأكمله.

ثم يرصد الأستاذ أحمد عبد المجيد التغيرات التي طرأت على فكر الشهيد ومن عناصرها:

- وصوله إلى شمولية الإسلام، وضرورة التعامل مع أعداء الإسلام من علٍ، وتجاهل التعامل معهم من باب الدفاع عن الإسلام، وكأن الإسلام مهزوم في المعركة، وظهر ذلك في فصل "استعلاء الإيمان" في كتاب "معالم في الطريق".

- الحديث عن المفاصلة الشعورية التي تكون بالقلب ولا يطلع عليها أحد إلا الله، فلا مناصرة ولا محبة مع أهل الباطل، وأما المفاصلة المادية فهي تكون في المعاملات المادية الظاهرة، وقد تكون في موقف أو أكثر، ولا يعني ذلك العزلة عن الناس، وبالتالي فهو لم يدع إلى الخروج على المجتمع أو الانعزال عنه.

- فكرة الحاكمية، وهو أخذها من "أبو الأعلى المودودي" وهي رد الحكم والتشريع إلى الله وحده، وليس لأحد كائنا من كان أن ينتزع هذه الحاكمية لنفسه أو لأي شخص، ومفهوم الحاكمية عنده يختلف عن مفهوم الدولة الدينية.

- فكرة الجاهلية، وهذه الكلمة هي مصطلح قرآني، وهي تعني "الجهل بحقيقة الألوهية، والجهل بما يحبه الله سبحانه؛ من إخلاص العبادة له وحده دون شريك، وهي ليست محددة بزمن معين أو مكان معين (أفحكم الجاهلية يبغون)، ولا يعني ذلك إطلاق الحكم بالكفر على من يقع تحت الحكم الجاهلي، وأذكر أن الشهيد "محمد هواش" كان يقول لنا ونحن في السجن الحربي: "الجاهلية كالمظلة التي تحتها أصناف شتى من الناس"، وهذا ما فهمه الرجل القريب جدا من سيد قطب والذي عايشه في السجن عشر سنوات، فالجاهلية ليست تحديدا لمجتمع معين".

الاهتمام بمخططات أعداء الإسلام، وقد أوضح لنا الشهيد سيد قطب أن "الاستخبارات الفكرية" اكتشفت ما في الظلال من خطورة عليها، ولعل هذا ما جعله يدرك قرب نهايته.

أما محاولات إلصاق تهمة التكفير بـ"سيد قطب"، فهي محاولة للإساءة للرموز الإسلامية، لأن الإساءة للرمز تحول دون الأخذ عنه، أو التقدير له أو الاحترام له، وعلى سبيل المثال قال لنا "سيد قطب": إن بعض رجال المباحث عرض عليه وحاول إغراءه بالكتابة في الصحف، وقال لنا: "إنهم حريصون دائما على تلويث الراية، وتلويث راية الإخوان المسلمين ومن ينتمي إليها"، كما أن إلصاق تهمة التكفير تعطي تبريرا لممارسات الأنظمة ضد أبناء الحركة الإسلامية".

وأبدى الأستاذ "أحمد عبد المجيد" استغرابه مما طرحه فضيلة الشيخ "القرضاوي" حول "سيد قطب" وأفكاره، وتوقيت طرح هذا الكلام بعد مرور (34) عاما عليه فقال:" أنا أعجب لإثارة مثل هذا الموضوع حاليا بعد مرور حوالي (34) عاما عليه ،وما الدافع له وما المصلحة في ذلك؛ في وقت نحن محتاجون فيه إلى التئام الصف، وسد الثغرات، وما المصلحة الدافعة لمثل هذا الكلام، وكنت أتمنى أن ينأى فضيلة الشيخ القرضاوي عن الخوض في هذا الموضوع؛ وإن كانت هذه ليست المرة الأولى التي يقول فيها فضيلته مثل هذا الكلام، ففي مقالات نشرها بجريدة الشعب الصادرة 11،18،25 نوفمبر 1986م، انتقد فضيلته وعقب على آراء سيد قطب، وكذلك في ندوة "اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر" 1405هـ=1985م قدم الشيخ "جعفر شيخ إدريس" - وهو من إخوان السودان - بحثًا بعنوان "قضية المنهج عند سيد قطب في معالم في الطريق"، وكان تعليق الشيخ "القرضاوي": "وهذا اتجاه يجب أن يُقوّم" يعنى اتجاه سيد قطب كله يجب أن يُقوّم وليست مسألة أو مسائل فيه، وأخشى أن يستفيد أعداء الحركة الإسلامية من كلام فضيلته.

***

كيف أواجه – ولا أقول تأدبا كيف يواجه شيخنا – المستشار على جريشة الذي ينفي عن الشهيد تهمة التكفير بل ويحدد الجهات المسئولة عن إسناد هذه التهمة للشهيد: عصابة 23 يوليو و أجهزة الأمن و أجهزة الإعلام.. أما الدكتور محمود عزت الذي عايش الشهيد في محاكمات عبد الطاغوت فؤاد الدجوي عام 1965 فيؤكد أن الشهيد كان يرى أنه قد حيل بينهم وبين دعوة الناس إلى التوحيد.. و أن الدعوة لم تصل إلى الناس صحيحة.. و أنه في حال عدم تمام الإبلاغ لا يكون التكفير مطروحا أصلا.. كما يذكر أن الشهيد كان يصلى مأموما خلف سجين جنائي وهذا يعنى أنه كان يرى أن مرتكب الكبيرة ليس كافرا. أما الأستاذ جمال سلطان فيصرخ: ما هي القيمة العملية التي يمكن أن يحصلها الشيخ القرضاوي أو قارئه من هذا الجهد المضني الذي يثبت به -بكل سبيل- أن سيد قطب كان تكفيريًّا؟ هل هو تحذير القارئ من كتابات سيد قطب، والنظر إلى كتاباته بحذر وريبة، والتشكك في كل سطر يقرؤه له، ولا يدع مجالا لحديثه أن يصل إلى قلبه ووعيه؟ هل المقصود هو تنفير المثقف المسلم من كتب سيد قطب ودعوته إلى الارتياب في كتاباته والتحقير من رشده الدعوي ومكانته في الفكر الإسلامي؟ هل هذا هو المطلوب؟

***

ثم أن شيخنا الجليل قد أسقط أهم شهادة في القضية كلها.. وهي شهادة الشهيد سيد قطب نفسه في آخر ما كتبه: "لماذ أعدموني"

يقول الشهيد: إننا لم نكفر الناس وهذا نقل مشوه إنما نحن نقول: إنهم صاروا من ناحية الجهل بحقيقة العقيد وعدم تصور مدلولها الصحيح والبعد عن الحياة الإسلامية إلى حال تشبه حال المجتمعات في الجاهلية وإنه من أجل هذا لا تكون نقطة البدء في الحركة هي قضية إقامة النظام الإسلامي، ولكن تكون إعادة زرع العقيدة والتربية الأخلاقية الإسلامية .. فالمسألة تتعلق بمنهج الحركة الإسلامية أكثر مما تتعلق بالحكم على الناس!.

ويعود الشهيد ليوضح عدم تكفيره للأفراد في اعترافه المسجل في محضر التحقيق الذي أجراه معه صلاح نصر ونقله سامي جوهر في كتابه "الموتى يتكلمون ".

س: هل كنتم ترون أن وجود الأمة المسلمة قد انقطع منذ مدة طويلة ولابد من إعادتها للوجود؟

ج : لابد من تفسير مدلول كلمة "الأمة المسلمة " التي أعنيها، فالأمة المسلمة هي التي يحكم كل جانب من جوانب حياتها (الفردية والعامة، السياسية والعامة والاقتصادية والأخلاقية ) شريعة الله ومنهجه . وهي بهذا الوصف غير قائمه الآن في مصر ولا في أي مكان من الأرض، وإن كان هذا لا يمنع من وجود الأفراد، لأنه فيما يتعلق بالفرد الاحتكام إلى عقيدته وخلقه، وفيما يتعلق بالأمة الاحتكام إلى نظام حياته كلها.

***

ماذا كان الشيخ يريد من الشهيد أكثر من ذلك؟!

أعزي نفسي عن ألمي الفادح بأن أرى بعين التمني والخيال ما رآه سيدنا عمر بن عبد العزيز في رؤية منام رأي فيها سيدنا علي وسيدنا معاوية يحاسبان يوم القيامة .. فخرج كل منهما من الحساب مبتهجا و إذا بسيدنا علي يهتف:

"قُضي لي ورب الكعبة"..

و إذا بسيدنا معاوية يهتف :

" غفر لي ورب الكعبة"..

أقول رأيت بعين التمني والخيال الشهيد سيد قطب يقول: "قُضي لي ورب الكعبة

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

بعد مائة عام..!!