الدكتور خالد فهمي ويحيى حقي

 الدكتور خالد فهمي ويحيى حقي

هذا مقال قصير، أكتبه بعد عزوفي - الإجباري غالبا- عن كتابة مقال طويل أو قصير،

 على أي حال فقد فقدت الرغبة في الكتابة أصلا...

أتابع منذ فترة متابعة سطحية الدكتور خالد فهمي أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية.

كانت قراءتي السطحية له وعنه توحي - بالكشف ظاهريا- أنه إنسان  عاقل هادئ حكيم ذو ذهن مرتب وقاعدة أكاديمية عريضة. وبدأت أتعمق في قراءته، لأكتشف الكارثة، إنه الملخص الناعم للكارثة التي تحطم الجيل والوطن والأمة، إنه الوجه الآخر ليد القتل والبطش والإقصاء، وهو الوجه الآخر لحلمي النمنم عليه من الله ما يستحق. فرغم تحليلاته الهادئة التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. يلغي خالد فهمي تماما وجود الدين كمؤثر على الأمة ومحرك لها، إن الناس لا ينتظرون الجنة ولا يخافون من النار ولا ينشدون رضا الله إنما يبحثون من عهد محمد على عما يحقق لهم المكاسب، المكاسب فقط، وهو يؤيدون اليوم ما عارضوه بالأمس، والعكس صحيح طبقا لما يتوافق مع مصالحهم المؤقتة  والتي قد تتغير ما بين يوم وآخر. لا يمثل الدين والجهاد والأخلاق وبالتالي الحرية والكرامة والدفاع عن المظلوم أي محرك لهم.إن الإسلام دين فاشي  واللفظ لخالد فهمي- كاد أن يهلكنا لكن النخبة لم تفهم بعد براجماتية الشعب. قال فهمي كل شيء كحلمي النمنم لكنه لم يعترف صراحة أن مصر تحتاج حماما من الدم حتى نثبت أنها علمانية وليست مسلمة. وهنا بالضبط جوهر المشكلة وجذور الكارثة التي يجهلها معظم المحللين لأنها ستكشف أوراقا لا داعي لكشفها الآن. لكن خالد فهمي يتميز عن الآخرين بأنه مهذب، فلم يصدمنا بأن الأديان خرافات وأساطير، ربما أشفق علينا وعلى تخلفنا من أن يصدمنا بهذه الحقيقة، وتركها للزمن علنا نفيق من غيبوبتنا، كان كعلي  أبو شادي المسئول عن منشورات قصور الثقافة أيام أبو الرجال فاروق حسني، الذي قال أننا لو تركناه ١٥ عاما أخرى لجعل المجتمع يتعود على مشاهدة أفلام البورنو. فلربما ينتظر خالد فهمي ١٥ عاما حتى نقتنع أن الأديان خرافات وأساطير.

وهنا لابد من وقفة أمام أولئك الذين يعتبرون الدين تخلفا سنشفى منه. إنهم أغبياء عمي بصورة محزنة. وأنا الفخور بأنني مسلم، لكنني لا أقولها لهذا السبب، بل من منطلق فلسفي محض، أن الإسلام بالنسبة للأديان الآخرى كالذكاء الاطناعي بالنسبة لألعاب الأطفال البدائية. اقرأ على عزت بيجوفيتش أو المسيري أو الشاطبي أو الدهبي أو ابن تيمية لتدرك: ليس عظمة الدين فهذا مفروغ منه، بل عظمة الحكمة والفلسفة وعمق الفكر واحترام المنطق.

هم ينظرون إلينا كمتخلفين لم يدرك الحقيقة بعد ونحن ننظر إليهم ككائنات فقدت العقل والمنطق والروح، لتتحول إلى حيوانات، ليس هذا سبابا، لكنه مقتضى الفكر المادي أن الإنسان والحيوان كلاهما إلى تراب فلا بعث ولا جنة ولا نار.

ملخص المشكلة هو انشطار الأمة الإسلامية إلى شطرين يلخصهما عنوان كتاب للدكتور برهان غليون: الدولة ضد الأمة. الدولة تتشكل عبر مؤسساتها لتكون عبارة عن مجموعة قليلة تركها الاستعمار بعد أن رباها على عينيه لتنفذ أغراضه بوسائله وفكره وهي لا تؤمن بما يؤمن به باقي الشعب وليست أحلامها أحلامه ولا أهدافها أهدافه، والمجموعة الثانية هي المجموع الساحق للأمة، المجموعة التي فرقتها الأقلية شيعا متنافرة متناحرة والتي تصمت جبنا أمام النخبة الحاكمة القادرة على إلحاق كل ألوان الأذى بها بالبطش والجبروت والإعلام  بمساعدة كل أجهزة الدولة.

باختصار شديد أقلية لا تعطى الدين ولا الوطن ولا الأمة أي أهمية أو اعتبار وبالتالي تنهار لديها كل القيم المتجاوزة للمادية والموجودة في الدين، وأكثرية ساحقة مرتعشة عاجزة عن الدفاع عن نفسها أو دينها - السطحي غالبا- بعد عقود وعقود من الحصار. هذه الأغلبية الساحقة لا تصدق النخبة ولا تثق فيها وأن صمتت عجزا وقهرا، لا توجد أغلبية ولا أقلية  وإنما شبه أقلية متحكمة غالبة مسيطرة  وشبه أغلبية عاجزة بلا قرار. لم يكن الاستعمار ولا الكنيسة ولا العلمانية ولا الحداثة - لا التحديث- وما بعدها بعيدة. لقد عجزوا عن مواجهة المجتمعات الإسلامية قرروا استبدال هذه المجتمعات. 

منذ عشرين عاما قال لي عالم خليجي كبير: لو رجعت بعد عقدين فلن تجد عربا ولا مسلمين ولا خليجيين. ستجد ثلاثة ملايين تعلموا بالكامل في الغرب بدم قلوبنا، لكنهم حين يعودون سيشاركون الأعداء ويتحالفون معهم ضد الأمة والإسلام. سيكونون القوة المحركة للمجتمع التي تتقبل الحداث وما بعدها والعدمية التي تجعل بعضهم الآن يتزوج تمساحا أو يعتبر نفسه امرأة لكن بأع   ضاء ذكورة ، وكل هذا الجنون الذي يعتبرونه عقلا وحكمة. لا أستطيع أن أتخيل كيف يمكن لإنسان أن يضل هذا الضلال كله.

في الدول الفقيرة لم يستطيعوا استبدال النخبة بهذه الطريقة فعوضوها بالبطش والقهر والإعلام والتعليم والمجالس التشريعية والقضائية والسلاح وغسيل المخ، وجميع الآليات التي لم تغفلها بروتوكولات حكماء صهيون ولا الكتاب العمدة لإدوارد سعيد "الاستشراق" كالتعليم والدراسات الأكاديمية والمجلس الثقافية والميديا والشعر والمسرح  والسنما والرسم والمؤتمرات، وراجع من يدفع أجر العازف لفرنسيس ستونز.. وترتب على هذا كله فخ  قاتل في أرض قتل، أقلية حاكمة لا تستطيع أن تنجح وأغلبية مقهورة تتصنع أنها استسلمت لكنها تنتظر في صبر تلك اللحظة التي تستطيع فيها أن تسحق أعداءها الذين يدركون ذلك. ثم إن كلا من الفريقين يحتقر الآخر ويعتبره كالحيوانات المتخلفة. وكلا منهما يحاب الآخر بوسائل مكشوفة أو خفية.

والوضع هنا يشبه أمراض المناعة، حين تفقد خلايا الجسم عقلها فتدمر بعضها لأنها تعتبر الخلايا الأخرى خلايا عدوة تهدد وجودها، وهو وضع إذا ما استمر دون علاج جذري حاسم يؤدي إلى الموت.

ذكرني الدكتور خالد فهمي حتى وإن سلمت نيته وكان يقصد خير الأمة دون خيانة أو عمالة، ذكرني برائعة يحيى حقي "قنديل ام هاشم" حين تعلم الطبيب في الخارج لكنه نسي هناك عالمه وهويته، وعندما عاد أجرى عملية لقريبته وحبيبته فأصابها بالعمى، مما دفعه إلى التخلي عن ثقته المطلقة المتعجرفة بأنه على صواب مطلق وأن مجتمعه الجاهل المتخلف لا يستحق سوى الاحتقار والعلاج بالقطيعة المعرفية للحداثة الكافرة وليس بالتحديث الذي هو فرض ديني قبل أن يكون واجبا علميا. وعندا رجع إلى مجتمعه وهويته -التي ينكرها خالد فهمي- وفهم أن الإنسان ليس بهيمة، وأنه جسد وروح وأن الروح من أمر ربي، عندما أدرك هذه الثنائية استطاع ان ينقذ حبيبته من العمى.

ربما يكون خالد فهمي عالما كبيرا بمقاييس الغرب  بتتبعه للمنهج الغربي البراجماتي العلماني، إنه يشبه عالما بارعا لكنه كعالم في الفضاء كل دراسته لم تتطرق للفضاء -بل أنكرته - وكان تخصصه في طبقات الأرض، في الجيولوجيا!

ولعل هناك من يسأل: الدكتور خالد فهمي أستاذ تاريخ كمئات من أقرانه ولا يستحق هذه الوقفة الطويلة، وأرد فأقول: إن واجبا رئيسياللكتاب والعلماء أن يقوموا بدورين، نشر العلم والتحذير من الباطل، ومن ذلك التحذير من الضالين المضلين. ولقد ضل الكثيرون حين لم يحذرهم أحد من أن هذا العالم عميل وهذا الكاتب مأجور وهذا الفكر مدفوع ثمن عزفه، خاصة من نوع من التواطؤ الجماعي على إخفاء كفر الكافر وعمالة العميل.

يقولون في علم النفس أنه مع الزيادة الشديدة في التوتر وانغلاق آفاق الحلول  فإن الأحلام المروعة والكوابيس المتنوعة تهاجم الناس، كمن يرى أنه يدخل مصعدا بلا قاع ويهبط به إلى حيث لا قرار.

والحقيقة أنني لا أرى هذا الكابوس لنفسي، بل أراه للأمة كلها


دكتور محمد عباس


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

بعد مائة عام..!!