وضاح خنفر ٢

خدعني وضاح خنفر!


ظلت نظرتي إليه كرئيس سابق لقناةالجزيرة أنه علماني، حتى عرفت أنهم أبعدوه عنها بحجة أسْلمتها،وعندما رشحوا لي كتابه خواطر استراتيجية من السيرة النبوية، ترددت كثيرا،خاصة أننى قرأت عن السيرة كل ما وصلت يدي إليه طيلة أكثر من عامين عندما كنت أنوي أن أكتب في ظلال السيرة التي كتبت بالفعل فصولا منها ونشرتها في الصامدة العزيزة الأسيرة "المختار الإسلامي"رحم الله مؤسسها العملاق الحاج حسين عاشور رضي الله عنه. وصرفني عن إكمالها ثورة ٢٥ يناير.

في الفصول الأولى توجست وظننت أن قد صدق ظني في علمانية وضاح، فالأسلوب أكاديمي تقريري جاف دون محسنات أو مؤثرات، بل ويصدمك أحيانا بأن ما تعرفه غير صحيح أو متفق عليه، فلم تعد مراجعنا الإسلامية هي المراجع الوحيدة للكتاب، بل توجد مراجع الروم والفرس والأحباش إضافة إلى مصادر السيرة، كدت أترك الكتاب بعد جزئه الأول (الكتاب أربعة أجزاء) لكنني تذكرت تجربتي مع العملاقين عادل حسين وعبد الوهاب المسيري رضي الله عنهما وكيف اكتشفت ولا أزكيهما على الله عمق إيمانهما، جعلني ذلك أتأنى في الحكم لأفاجأ في النهاية بسفر ضخم جليل أظنه غير مسبوقلدرجة استدعت إلى الذاكرة تشيكوف ونجيب محفوظ و الملعون داني!

سوف أختصر بشدة فنحن في ليلة وترية والعبادة فيها أولى: لولا أمرين: ثانبهما أنني وعدت القراء بالأمس أن أكمل اليوم، لكن الأول أنني أعتقد أن الكتابة في هذه الشئون نوع من العبادة.

تذكرت تشيكوف في البداية حين قال أنك حين تقرأ كتابا / رواية وصف فيها الراوي في أول صفحة أنك وجدت حبلا ملقى في الشارع فتوقع أن يشنق البطل نفسه فيه في الصفحة الأخيرة، وذلك يعني المنهج الصارم في الكتابة والإحاطة بالموضوع كله قبل بدء الكتابة فيه، وهذا يذكرني بكتاب عظام مثل دستويفسكي وماركيز ونجيب محفوظ،فأنت في الفصول الاولى تتوه من كثرة الحوادث، لكنك شيئا فشيئا يسلب الكتاب لبك فهو بلا نظير، نجيب محفوظ مثلا يتذكر بعد ألف صفحة شخصية هامشية لترى نهايتها، كذلك يفعل وضاح! كما أن بناءه العبقري للسرد يعاكس ما فعله نجيب محفوظ في روايته العبقرية الكافرة (أولاد حارتنا) - غفر الله لنا وله فقد قيل أنه حسن إسلامه في آخر عمره، عندما أماط القداسة عن الدنيا كلها (سألني قارئ ذات يوم كيف تصفها بالعبقرية والكفر في آن واحد، فأجبته أن بلاد الشياطين في تراثنا تسمى وادي عبقر لكن هذا ليس موضوعنا.

على عكس نجيب محفوظ فعل وضاح خنفر، فأنت تبدأ من سرد عادي يكاد يكون بلا روح لتستدرج في النهابة إلى الذهول فلم يخلق الله شيئا سدى ولا عبثا وباختصار شديد فإنك تكتشف أن خنفر كتب لك رواية الرسالة الإلهية لمحمد صلى الله عليه وسلم كمعادلة هائلة كان لكل سطر فيها دور في المعادلة،عاد بك مئات الأعوام لتدرك أنه لولا كذا وكذا من ألف عام لما كان كذا الآن، إن الكون كله منذ سيدنا آدم وسيدنا نوح عليهما السلام كان يسير مسيرة حتمية لتهيئة الأرض للرسالة، بل إنني لا أبالغ إذا شبهت هذا العمل بالأدنى منه لأقول أنه أشبه برواية بوليسية إذا لم تقرأ سطرا فيها فقد تعجز عن حل رموزها، إنك أمام ثمثال هائل أو لوحة من لوحات الكوميديا لدانتي/ مايكل أنجلو لا يمكنك أن تضيف إليها أو تختصر منها.

أنا نفسي كواحد قرأ عشرات آلاف الصفحات في السيرة لم أفهم بعلم ليقين مواقف كصلح الحديبية وعقاب يهود بني قريظة وغزوة حنين إلا بعد أن قرأت خنفر، كنت أعرف كل التفاصيل وأكثر ومقتنع بها،ولكن هذا يختلف عما فعله خنفر، لقد جعلك تعيش الحدث وتراه، بل تكاد تشارك فيه! وقد يختلف المؤرخون في التفاصيل والأسباب والمبررات، لكنك مع خنفر لا تلبث أن تدع خلفك كل مقاييس المنطق البشري هاتفا بنفسك أن هذه المقاييس متخلفة جدا، فما يحدث رغم أنه عقلي ومنطقي تماما إلا أنه أيضا فوق المنطق وفوق العقل، إنه الإلهام الإلهي، وإنها النبوة.

وأكتفي بهذا القدر


+

٣

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

بعد مائة عام..!!