لا يحزنه الفزع الأكبر
عرس الشهيد..
بل عاش.. ومات المجرمون القتلة..
لا يحزنه الفزع الأكبر
***
هذا هو الفصل الاخير من كتابي عن سيد قطب والثورة- نشر مجزءا ثم في كتاب عن دار المختار الاسلامي 2007
******
الآن أدرك..
يتسلل إلى بصيص ضوء وقبس نور فأدرك..
من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات..
من كان يعبد النصر فالنصر في الدنيا لعبيد الشيطان حينا ولعباد الله أحيانا..
من كان يعبد المنافع والسيطرة فما أقصر طريقه إلى النار وما أطول طريق المؤمنين..
ومن كان ينتظر النصر والسؤدد على يد حسن البنا أو سيد قطب فقد قتل كل منهما شهيدا ونُكل بأصحابه وغيبوا في السجون ولم يكن ثمة في الأفق احتمال نصر..
وهنا يأتي دور الإيمان الحقيقي.. أن تؤمن به كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك..
أن تجاهد لا سعيا لنصر ولا جلبا لمنفعة ولا وصولا إلى قوة ولا توسلا إلى سيطرة..
نعم الإيمان الحق أن تفعل ما تفعل.. حتى لو لم يتحقق من ذلك كله أي شيء أي شيء أي شيء.. فالإسلام هو الحل نعم.. لكن بمفهوم أوسع بكثير جدا مما قد يتبادر لذهن كثير من الناس.. فالإسلام حل لمعضلة الوجود أساسا أما مصائب الدنيا ومشاكلها فيكفي الإسلام نبلا أن يعلمنا منهج التعامل معها.. الإسلام هو الحل بعد أن تتغير مفاهيمنا للمكسب والخسارة وللانتصار والموت.. وهو الحل و إن حفل الطريق إليه بالمصاعب والموت.. وتذكروا أن الإسلام لا ينبغي أن تكون به هزائم .. بل نصر أو شهادة في سبيل الله..أما ما يبدو أحيانا بالهزائم فليست بذاك و إنما هي ابتلاءات مأجورة بإذن الله, ولنتذكر أنه ليس الموت بل الشهادة.. أعلى مراتب الحياة..
نعم .. الإيمان الحق أن تطبق الإسلام ولو أودى بك ما تفعل إلى عكس ما تتمنى أو ما تتوقع..
حتى لو انهزمت..
حتى لو ضاعت منافعك..
و ضُيعت قوتك.. وبارت تجارتك.. و أهنت بين الناس..
فأنت تفعل ما تفعل.. لا سعيا إلى أي شيء من ذلك.. بل تفعله لأمر واحد فقط.. تفعله لأمر الله الواحد القهار، الواحد الأحد، الفرد الصمد..
***
الآن أفهمك يا حبيبي .. يا سيد قطب..
الآن أفهمك.. أو على الأقل أحسب ذلك..
ففي مثل حالك يكاد يكون انتظار النصر معصية، وتوقع الفصل في الدنيا خطيئة، بل ويكون الوصول علامة على عدم الوصول ذلك أن الوصول إلى سلطة، أو السيطرة على حكم، أو حتى النصر، إنما تعنى من احتمالات محن البلاء أكثر مما قد تعنيه من الاصطفاء..
نعم..
عدم الوصول يعني احتمال انتهاء فتنة وابتلاء.. والوصول يعني احتمال بدايتهما من جديد.. فأي الوضعين يختار العاقل؟!..
نعم..
لقد تشبعت بهذه الأفكار حتى تيقنت من أنني في الآخرة لو ندمت – إن كان للندم مكان هناك- فسوف أندم على كل دقيقة قضيتها خارج السجون.. وعلى كل لحظة لم يعذبني فيها الطاغوت.. فبكل لحظة من عذابه يضع عني سيئات ويرفعني درجات.. وهنا.. وهنا فقط.. عندما بلغ اليقين بي هذا المبلغ انطفأت النار المستعرة في قلبي على استشهاد الشهيد وأسره تعذيبه وترويعه.
***
قبل ذلك كان الألم يستبد بي بسبب ما صرنا إليه.. والذي تفاقم وازدادت حدة الانهيار فيه بعد جريمة قتل الشهيد.. و رغم إدراكي لضخامة الهوائل النازلة والنوازل الهائلة ولجسامة الصراع والتحديات ولحجم المؤامرة و لمعرفتي بإجرام الروم وكلاب الروم وعبيد الروم وكلاب عبيد الروم وعبيد كلاب الروم.. برغم ذلك كله فإنني كنت أدرك طول الوقت أن الهزيمة جاءت من داخلنا.. وبسببنا تستمر.. بسبب كل علماني كفر بالغايات العليا للوجود -تحت راية الإسلام- ونحى فكرة الحلال والحرام، واستبعد فكرة الاحتكام إلى الله لكي يحل محلها الاحتكام لطواغيت الأرض.. وعندما قيل لهم إنْ الحكمُ إلا لله اشمأزت قلوبهم.. وعندما ووجهوا بأن من لا يحكم بما أنزل الله هم الفاسقون الظالمون الكافرون.. أبوا النزول على حكم الله.. لكنهم رضخوا في استسلام مذهل عندما قيل لهم ومن لم يحكم بما أمرت به أمريكا فأولئك هم الإرهابيون.. ومن لم يحكم بما أمرت به إسرائيل فأولئك هم المجرمون الظلاميون.. و: إن الحكم إلا للأمم المتحدة حتى لو كانت مجرد دمية تحركها خيوط غلاة الصليبيين واليهود في الولايات المتحدة .. وراحت الأقلام النجسة تتكلم عن العقل وفن الممكن.
قف اليوم على قارعة الطريق بين العوام أو في أعظم المحافل بين النخبة.. قل لهم أنه لا حل أمامنا إلا بالمواجهة العسكرية والفكرية مع الغرب الذي جردنا من كل شيء.. من السلاح ومن المقاومة ومن الشرف والكرامة ويحاول الآن تجريدنا من الدين بل ومن العقل أيضا لنصبح بالنسبة لهم مزرعة لحيوانات ينحرها أني شاء(الإسلام والغرب-– الدكتور مهندس محمد الحسيني إسماعيل- مكتبة وهبة) وتذكروا أن الكاتب ليس من الإخوان المسلمين ولا هو إرهابي كما أنه حصل على إحدى شهادتي الدكتوراه اللتين يحملهما من الولايات المتحدة الأمريكية.. وأنه خبير استراتيجي على أعلى مستوى.. و أنه بعد ذلك كله لواء سابق في الجيش المصري.. الجيش الذي يحاول الطواغيت تفتيته وتلويثه لإدراكهم إمكانياته..
أقول اخرج إلى قارعة الطريق أو إلى مجتمعات النخبة وطالب بمواجهة الغرب عسكريا وفكريا.. سوف ينظرون إليك كمجنون.. إذ كيف نلقي بأنفسنا في تنور الهلاك بمواجهة كتلك..
و أقول في دهشة المذبوح: أعلنتم الحرب على الله لم تهتز منكم شعرة وترتعبون كل هذا الرعب من الغرب.. رغم أن استسلامكم لم ينقذكم من الموت.. ومن المؤكد أنكم لو قاومتم لما سقطت منكم كل هذه الملايين.
كانت هذه الحقائق التي أدركها سيد قطب فأخذ يقدمها كما يقول الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل وفق أشد الصيغ إقناعاً وتأثيراً، وكان يغير بذلك قناعات الجماهير المثقفة وبداهاتها الفكرية ويعيد صياغتها من جديد.. كان يمثل تهديداً مباشراً للطاغوت الذي تعتمده وتستخدمه قوى العالم الكبرى ومراكزه القيادية.. وهكذا فإن إعدام الرجل لم يكن عملاً ارتجالياً.. ولكن خطط له بحساب!!
دعونا الآن من الجزء القدري فهو وإن كان غالبا فليس هذا مكان نقاشه.. وقد كان لابد للشهيد أن يموت لا يستقدم ولا يستأخر.. ثم أننا لا نتكلم عن الماضي بل نتكلم عن الحاضر والمستقبل.. وفي هذا الحاضر والمستقبل ما يزال الشهيد يستشهد وما يزال الطاغوت يحكم وما زال قضاة النار يواصلون الظلم في محاكمهم الخاصة وما يزال الدجوي المجرم يحاكم وما يزال القاتل فؤاد علام يلفق.. لكنني أقول أن الأمة ليست بريئة وأن الله ليس بظلام للعبيد.. و أن أمة تخلت عن سيد قطب ورفاقه هي أمة تَوَدع منها وأنها تستحق أن تحيق بها اللعنة والخراب.. ينطبق هذا على الماضي نفس انطباقه على الحاضر والمسقبل. فالأمة التي تترك الإخوان الآن يحدث لهم ما يحدث تستحق أن يحدث لها ما يحدث..
نعم..أتحدث عن الحاضر قبل الماضي وعن المستقبل قبل الحاضر.. و برغم نقمتي على عبد الناصر إلا أنني أؤكد هنا أن ليس مجرد شخص و إنما كان نمطا.. كما أزعم أن نفس الأمر ينطبق على الشهيد العظيم سيد قطب. فهو أيضا نمط .. والخلاف هنا ليس خلافا أكاديميا لتغليب وجهة نظر تاريخية على أخرى.. أو للانتصاف للشهيد من جلاده.. أو الانتصار للأعز ضد الأذل.. أو الحزن لأن الأذل قتل الأعز.. ليس أيا من ذلك.. وكان يمكن أن يكون لو أن الحقائق لم تختلق.. ولو أن الوقائع لم تصطنع .. ولو أن الانتخابات لم تزور.. لكن أيا من ذلك لم يحدث.. مما يدفعنا للقول بأننا لم نكن أمام حكومة بل عصابة.. لذلك فالخلاف لا يمكن أن يحل.. سيظل ساريا لأنه يتعلق بالحقيقة وعكسها.. بالصدق والكذب وليس بينهما وسط.. ولذلك فإنه يتعلق بصلب الحاضر والمستقبل.. ذلك أن من يرون استنساخ التجربة الناصرية القومية اليسارية العلمانية إنما يهدمون هذه الأمة ويقدمونها لقمة سائغة للعدو.. كما أن التخلي عن التوجه الإسلامي والالتزام العقدي.. فوق ما يحمله من خسة ونذالة وكفر فإنه يحمل في الوقت نفسه خيانة مروعة بالتخلي عن أقوى أسلحة الأمة في مواجهة أعداء متربصين متلمظين..
نعم.. إن من ينتصرون للفكر القومي إنما ينتصرون لتمزيق الأمة ويتخلون عن أنبل ما فيها ليظفروا بخزي الدنيا والآخرة.. أما من ينتصرون للإسلام فإنهم ينتصرون للقيمة والروح والمعنى والتضحية والاستشهاد وفخر الدنيا والآخرة.
من ينتصر للإسلام ينتصر للصدق والحق ومن ينتصر للفكر القومي ينتصر للكذب والباطل.
نعم : المعركة هي ذات المعركة.. و إن اختلف الزمن..
وسيحمل عبد الناصر إلى أبد الآبدين وزر أنه حاول أن يحطم الجماعة الوحيدة القادرة على توحيد الأمة ومواجهة أعدائها و أنه – عليه من الله ما يستحقه- نجح في تأجيل النصر مائة عالم على الأقل.. ولولاه.. لربما وجدت اليوم دولة إسلامية تخوض المواجهة وتأمل في النصر..
سيحمل عبد الناصر وزر الفكر القومي الجاهلي المتخلف المتعصب ..
نظريا فإن الفكر القومي نتاج صليبي يهودي وقد زرع في منطقتنا للقضاء على الدولة العثمانية ولم يكن مستساغا أن تزرع القومية اليهودية وحدها فزرعوا إلى جوارها القومية العربية .. ولم تكن جناية الثانية على العرب والمسلمين بأقل من جناية الأولي.
وعمليا فقد أسفر التطبيق عن انهيار شامل للعرب وعن انهيار أخلاقي وثقافي بلا حدود ودعونا الآن من الانهيار الديني.. فإننا نكلم القوم بلغتهم.. لا أتكلم الآن بالمنطق الإسلامي.. بل أتكلم عن بديهيات لم تعد بديهيات ومسلمات لم تعد مسلمات.. أتكلم عن تزوير الانتخابات لا عن الصلاة عن التعذيب لا عن الصوم.. عن نهب البلاد لا عن قطع يد السارق.. عن ملايين الجياع لا عن الزهد.. أتحدث عن حاكم مجرم يخون بلاده بالمعنى الغربي والقومي للخيانة.. و إلا فخبروني ماذا كان يمكن لأي شعب غربي أن يفعل بحاكمه لو فعل حاكمه به ما يفعله حكامه بنا.. أتكلم عن أن المشكلة ليست في أن الإسلاميين قد مارسوا العنف بل كانت المشكلة في أنهم لم يمارسوه بالقدر الكافي.. كان عليهم أن يمنعوا بكل ما يمكنهم من عنف احتلال بلادهم وتزوير انتخاباتهم ونهب ثرواتهم وتعذيب أبطالهم.. لكنهم لم يفعلوا ذلك فحاق بهم وبالأمة ما حاق.. ووصل الانهيار إلى حد المهزلة عندما تساوت المهزلة مع الحقيقة وقال أحد كبار المعتقلين الذين حرموه حتى من حق قضاء حاجاته الطبيعية في ألم وأسى:
- كنا ننادي بحرية القول.. الآن أقصى أمانينا أن يسمحوا لنا بحرية البول!..
ولم تكن طرفة.. بل لعلها مثلت الواقع بأكثر مما قصد قائلها.. لقد تدنت قيمة المواطن إلى الدرجة التي يتمنى فيها أن يظفر بالظروف التي يعيش فيها الحيوان.. وعلى أي حال فالحيوان لا يضطهد ولا يستغل ولا يعذب ولا يسجن ولا يمنع من حرية البول!!
***
لقد اتهم سيد قطب والإخوان بما هم منه أبرياء..
نعم.. لم يدع الإخوان إلى العنف أو الإرهاب و إنما دعوا إلى مقاومة عنف و إرهاب اليهود والإنجليز وتلك هي خطيئتهم التي لن يغتفرها لهم اليهود والصليبيون أبدا.. لكن يد الانتقام الباطشة لن تكون أيديهم.. سوف تكون أيدي حكوماتنا و أمننا ونيابتنا وقضاؤنا وكتابنا ..
بل إن القارئ المتمعن لكتب الشهيد سيكتشف مذهولا أنه كان بعيدا – ربما لدرجة تستدعي العتاب ممن يجرؤ عليه- عن المبادأة ..و أنه إن عوتب فعلى عدم اقتران الدعوة بجهاد كالذي مارسوه في فلسطين وعلى القناة .. لقد كان تركيز الشهيد كله على بناء العقيدة في الأمة المسلمة.. فلم يبح المواجهة إلا دفاعا عن النفس.. وبشرط القدرة.. وخوفا من القضاء على الجماعة المسلمة.. فإذا انتفى هذا انتفى ذاك..
نعم.. لم يمارس الإخوان العنف والإرهاب إلا على سبيل استثناء نادر لا تسأل عنه الجماعة.. بينما مورس العنف والإرهاب ضدهم طول الوقت.
و أذكركم يا قراء أن الذين يتهمون سيد قطب والإخوان المسلمين بالإرهاب هم بأعينهم العمياء وضمائرم الميتة و أنفسهم المتعفنة هم الذين يتهمون الفلسطينيين بالإرهاب ضد اليهود الديموقراطيين.. وهم الذين يتهمون العراقيين بالإرهاب ضد الأمريكان الأحرار!!.. أما أبو غريب وجوانتانامو وسحق المواطن الفلسطيني المسلم فمجرد تجاوزات كالاستثناء الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها..
و أذكركم أيضا يا قراء أن نفس هذه المجموعة التي ماتت ضمائرها هي التي لا تكف عن الصياح والنباح للسماح بالاعتداء على الذات الإلهية والرسول العظيم صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن الكريم بحجة حرية الإبداع..
***
أعترف.. أن الأمر قد بلغ بي حد الاستيئاس.. ومع تدهور الأحداث إلى قاع أظنها لم تبلغه قبل ذلك أبدا، لا أقول فقدتُ الرغبة في الكتابة، لأنني فقدتها منذ زمان طويل، و إنما أقول أن محاولاتي في قسر نفسي عليها لم تعد تؤتي أكلها كما كانت.. كما أن حلاوة أخرى كانت تناديني.. حلاوة خبرتي بها جد قليلة.. وكنت أقارن بين المرارة التي أعيشها والحلاوة التي أفتقدها فأهتف في نفسي:
- لماذا لا تتوقف.. إن كانت الكتابة جهادا فهو أمر قد أدليت بدلوك فيه.. فكفاك.. وادع الله أن يجعل ما مضى في ميزان حسناتك، وأن يتقبله منك.. واذهب بعد ذلك ولازم الحرم ولا تتوقف عن قراءة القرآن مستعيدا تلك السويعات الرهيبة المهيبة المذهلة الرائعة المروعة التي قضيتها في الحرم منذ أعوام..
قبلها كنت أقرأ القرآن بعقلي معظم الأحيان، وبقلبي أحيانا، لكنني في تلك السويعات التي لا أنسى حلاوتها أبدا رحت أقرأ القرآن بوجودي كله، والكعبة المشرفة أمامي، وكل شيء قد اختلف حتى شكل الحروف وصوتي، و أنا لا أكف عن القراءة مذهولا وثملا بنشوة لم أحسها قبل ذلك قط، وكنت إذ أقرأ مرعوبا من دخول وقت الصلاة لأنها ستقطعني عن قراءة القرآن وكأنني بالانقطاع عن التلاوة ولو بالصلاة سأنقطع عن الهواء الذي أتنفسه فإذا بدأت الصلاة أصبحت مرعوبا لأنها سرعان ما ستنتهي وكأنما بنهايتها سيتوقف تدفق الدماء في عروقي، أحسست ساعتها بقبس من الرحمة يشملني... قبس؟.. بل طوفان.. يغسلني، ويطهرني من درن الدنيا ونجاستها لأعود إلى براءة الخلق الأول وطهارته، وراح جزء من نفسي يخاطب جزءها الآخر في لوعة: يا أحمق يا مسكين.. قضيت عمرك في الصحراء.. شوتك الشمس.. وجمدك صقيع الليل.. وأدمت قدميك صخور كالحراب.. و روعتك وحوش الفلاة.. وغرقت فيما لم يكن لك به ضرورة لأن الطريق مقطوع مقطوع، بك أو بدونك، ذلك أن أمر الله نافذ و إن جلت على الأفهام حكمته، لكنك اخترت الطريق الوعر وغفلت أحمق يا مسكين عن طريق آخر كان بجوارك دائما، طريق يحفه الأمن والجلال والروعة والنشوة.. طريق مرصوف بالجوهر مصفوف بالياقوت محوط بالملائكة.. طريق القرآن.. وتلك السويعات الفريدة التي أحاول منذ ذقت حلاوتها أن أستعيدها دون جدوى..
في تلك السويعات كنت أكاد أصرخ:
- هل أريد من الدنيا شيئا آخر؟.. هل توجد في الدنيا سعادة أكثر من هذه؟
ثم ما ألبث حتى أستدرك:
- بل هل أطمع في الآخرة في نشوة أكثر من تلك..؟ .. يكفيني هذا.. يكفيني ويزيد.. تهبط على قلبي السكينة ويغرقني الحب.. فالبشر جميعا ليسوا إخوة فقط.. بل إن تلك الشمس بكل ما فيها من نار هي أختي في الخلق، وهذا القمر بكل ما فيه من ضياء هو أخي، خلقنا نفس الخالق البارئ المصور جلت قدرته وحكمته فهو البديع.
تذكرت أنه عندما تقدم العمر بسيدنا خالد بن الوليد أخذ المصحف وبكى ............
وقال : أشغلنا عنك الجهاد ...........
يا سيدنا خالد .. أشغلك عنه الجهاد فتبكي..
فماذا لو كنت مثلنا و أشغلتك عنه الدنيا..
وكنت ساعتها جالسا أمام الكعبة لا يشغلني عن القرآن شيء .. وجاءتني الإشارة والبشارة.. كنت أجلس على حافة ممر.. وجاء الجندي ليخلي الممر وجذب الكثيرين جدا ممن أمامي ومن خلفي كي يخلي الممر للمصلين.. لكنه تركني .. قلت لنفسي لعلى لم أتجاوز المسموح ولعله لم يرني.. لكنه بعد حين تصنع أنه يسلم علي ليهمس في أذني:
- لقد تركتك متعمدا..
وتهاطلت دموعي تسبح:
- لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.. لك الحمد..
وساعتها كنت أحس كما لو أن خواصا جديدة أضيفت إلى سمعي وبصري وقلبي وعقلي فأصبحت أسمع ما لم أكن أسمع و أرى ما لم أكن أر و أحس بما كان لا يمكنني الإحساس به فأفهم ما لم أكن أفهم.. بل حتى صوتي قد تغير و أصبح لنبراته في ترتيل القرآن رنين لم أسمعه قبل ذلك أبدا..ولا سمعته بعد ذلك أبدا.. كان الصوت طوفانا ملموسا ومحسوسا من النور ولم تكن الحنجرة مصدره بل من القلب كان يأتي.. ولم أكن-ساعتها- أسمع بأذني وحدها..كان القلب أيضا هو الذي يسمع وكانت نياطه هي التي تهتز .. من أجل ذلك كنت أسمع هدير صوت النجم الثاقب.. هل تخيل أحدكم يوما، وهو الذي تعود أن يزعج مسامعه صوت طائرة تحلق، هل تصور كيف يكون صوت هدير دوران الأرض حول الشمس.. بل صوت دوران الشمس نفسها.. هل تخيل أحدكم أن يرى أبعد من فرسخ أو فرسخين.. فكيف بمن يرى سرعة الضوء التي يتسع بها الكون ويتمدد.. هل أطعنا القرآن هل تدبرنا هل أحسسنا هل عقلنا؟؟؟؟..
كنت جالسا أقرأ القرآن.. أخشى أن يفرط القلم فيفرّط.. فلم أكن أقرأ بقدر ما كنت أذوب.. وكنت أتعبد بالنظر إلى الكعبة.. وكان إخوتي من الناس يطوفون حولها تسبيحا وعبادة.. فاض الحب فطغى.. أصبح الإخوان إخوة و أصبح الإخوة أشقاء.. وفي نفس الوقت.. كانت النجوم أمة يطفن في السماء تسبيحا لله وعبادة.. كن يسابقنني.. وكان القمر أمة يدور طوافا وعبادة..
وكان اتجاه الدوران كله هو اتجاه الطواف حول الكعبة..
***
وكنت أبحر في بحر القرآن ذلك الإبحار الممتع الذي يجعلني لا أريد أن أعود إلى الشاطئ أبدا.. تمنيت أن أظل كذلك حتى أموت.. وطاف بخاطري أنه لو تحققت أمنيتي فإنني لن أحس بالموت.. سوف يكون مجرد انتقال ما أبسطه وما أهونه.. مجرد جلباب رثَّ واتسخ فآن أوان استبداله.. أما من داخل الجلباب القارئ للقرآن فسيظل يقرأه لا يشعر حتى باستبدال ثوبه..
هل كانت تلك السويعات هي اكتشاف سر اسم الله الأعظم الذي يذهب بعض العلماء إلى كونه حالة وجدانية يكون أي اسم من أسماء الله فيها هو اسمه الأعظم..؟..
ربما..
لكنني أعترف.. أنني منذ ذلك اليوم أبدو أمام نفسي كمن أضاع أثمن شيء في حياته التي لايبقيه عليها إلا الأمل في العثور ذات يوم على ما فقد..
أبدو أمام نفسي كشخص دخل الجنة ثم أخرج منها..
هل يوجد ثمن في الدنيا ينكص هذا الشخص عن دفعه حتى يعود إليها؟!..
تضاءلت الدنيا ..
فهل تدرك أيها القارئ إذن مدى كارثتي وفجيعتي بقتل كاتب الظلال خادم القرآن؟!..
وهل تدرك لماذا يشتعل قلبي بالنار كل يوم حينما يحدث لأتباع الشهيد ما يحدث..
وهل تدرك لماذا يشتعل عندما يسيء عبدة الشيطان للمصحف أو للقرآن، كما حدث في قضية الوليمة أو في قضية المسرحية السافلة أو أفعال الوزير الشاذ..أو ذلك الناقد الملعون الذي يطالبنا أن نعامل القرآن كنص علينا أن نبرز محاسنه وونظهر نقصه وعيوبه- حاشا لله أن يكون به نقص....
أعود إلى تلك السويعات التي أدفع الباقي من عمري لاستعادتها..
بفعل هذه السويعات وبفضلها.. أحس بالخسارة الفادحة التي ألمت بنا بفقدان أمة في رجل هو أعظم من فسر القرآن عبر قرون .. وهو الشهيد سيد قطب.. فلا أكف عن لعن الطاغوت الذي قتله.. لا أكف عن لعنه لأنه ما يزال يحتل منصبه ومكانته ومكانه..ما يزال.. وما يزال يقتل الشهيد وإخوانه في خسارة فادحة تزيد مع كل عين تبصر أي حرف من الظلال.. خسارة تزيد على مر الأيام ولا تنقص..
بفعل هذه السويعات وبفضلها أحس بالغضب الجامح، وبالعار، لما وصلت أمورنا إليه من مذلة وهوان.. في كل مكان وفي كل صعيد.. وأحس بالعار والغضب لتحول ولاة أمورنا من حكام أو أشباه حكام إلى نخاسين حولوا شعوبهم من سادة الدنيا إلى سبي ذليل ومهان من الجواري والعبيد والغلمان وراحوا يقدمون هذا السبي قربانا على مذبح اليهود والصليبيين.. قربانا يتوسلون به إلى إلههم الشيطان كي يمد لهم في خدمتهم له.
بفعل هذه السويعات وبفضلها أشعر بالغضب الجامح عندما يؤسر واحد ممن يدافعون عن لا إله إلا الله ..
***
وبفضل هذه السويعات أدركت القيمة الحقيقية لسيد قطب..
ولعل القارئ يتساءل:
- وما دخل ما فات بالحلقة الأخيرة عن الشهيد..
و أجيبه..
- لقد كنت كمن أدخل إلى عالم سيد قطب لحيظات فأدركت ما فيه ثم أخرجت..
نعم.. كنت بعد هذه السويعات كأعمى فُتح له بصيص من الضوء فهاله على ضآلة بصره سعة عالم لا يحد.. وكنت كتلميذ محيت أميته للتو فأدرك قيمة أساتذته الفطاحل.. كنت في جهلي و أميتي لا أعلم قيمتهم.. تماما كما يجهل الجاهل قيمة العلامة محمود شاكر.. وكما يجهل الأمي قيمة أحمد زويل.. فكلما انفتحت له من العلم طاقة ازداد إدراكه وفهمه..
كانت هذه السويعات هي هذه الطاقة التي انفتحت في عالم الظلمات لأدلف منها إلى عالم كنت بعيدا عنه.. عالم كله نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ..
غسلني النور فلم أعد بعدها أتعذب لعذابات سيد قطب بل رحت أحسده و أغبطه.. و أقول:
يا ليتني كنت مكانه..
***
نعم..
مكنتني تلك السويعات من فهم سيد قطب..
فلقد كانت حياته الدعوية زمنا متصلا من هذه السويعات أو من مضاعفاتها اللوغاريتمية..
وتلك الومضة الهائلة الباهرة المبهرة التي غشيتني سويعات مرت كلحيظات كانت لبنات وجوده وكانت عالمه كله..
أولى بي إذن أن أدرك كم كانت الحياة عليه عبئا كئيبا وكم كان الاستشهاد خلاصا حبيبا..
كنت كمن عرف مبادئ الحساب وتعلم جدول الضرب فأصبح يعي – حتى و إن لم يستوعب أو يفهم- الرياضات المعقدة للليزر والصواريخ وعلم الكم..
جعلتني تلك اللحيظات أفهم الشهيد بأن أضع نفسي مكانه.. ليكون مرجعي عنه قلبي.. فبه أقوِّي الرواية أو أعرض عنها..
ودعوني أضرب لكم هذا المثل الفج للتشبيه.. وهو مثل فج لأنه يهبط بمستوى الانفعال والإحساس من الثريا إلى الثرى.. لكن ما حيلتي إذا كان هذا المثل سيجلي الصورة ويوضح المعنى أكثر من سواه.. أما المثل فهو ما ذكره موظف المخابرات الأمريكية مايلز كوبلاند في كتابه لعبة الأمم.. لقد كان صديقا حميما جدا لجمال عبد الناصر.. ولقد درس شخصيته بعمق حتى أنهم هناك في السي آي إيه كانوا يجعلون مايلز كوبلاند يتقمص شخصية عبد الناصر ليخبرهم عن أفعاله أو ردود أفعاله إذا ما تعرض لمؤثر ما.. ويقول كوبلاند أنه لم يخفق أبدا..
حاشا لله أن أقرن الشهيد بالجلاد.. أو أن أقرن قلمي (الذي يحمله بنان من هو دون مستوى الاصطفاء...) بكوبلاند.. لكن المعنى الذي أقصده.. هو أنني أستطيع أن أفهم الشهيد و أن أتنبأ بردود أفعاله.
***
ولكنني على الرغم من ذلك كله .. وبرغم إدراكي أن الجلادين لو عرفوا حلاوة ما أحس به سيد قطب لقاتلوه عليه بالسيوف.. برغم ذلك أعترف أني في هذه الأيام التي أكتب فيها الحلقة الأخيرة عن الشهيد حزين حزن الفراق بل حزن الموت..نعم.. حزين..حزين..
منذ ما يقرب من ثلاثة أعوام و أنا أعايشه يوما بيوم ومعنى بمعنى وظلا بظل ومعلما بمعلم وفكرة بفكرة و ألما بألم و أملا بأمل ثم ها أنذا أوشك على الرحيل..
***
في البداية كان قلبي يوجف من كتابة الحلقة الأخيرة.. كنت مشبعا بالفاجعة وكأن الكارثة تحوّم حول رأسي في السماء وتوشك أن تنقض.. كأن الأيام ستستدير لتعود إلى سيرتها الأولى ليتكرر الحدث كما كان.. كنت خائفا ومتوجسا من تلك الحلقة و كأنما سيعاد إعدام الشهيد سيد قطب بالفعل فيها.. ويتكرر قتله من جديد.. لكن ها أنذا أدرك مع المعايشة فساد الهاجس.. و أن العكس هو الذي يحدث..إنه هو يعيش ويبقى.. ويموت القتلة المجرمون.. بل ونموت نحن.. و أموت أنا..
نعم.. يعيش سيد قطب ويحيا ويعلو ويموت جمال عبد الناصر ويهلك ويسقط.. وينفق ويسقط أيضا عبد الحكيم عامر وصلاح نصر وحمزة البسيوني و آلاف مثلهم.. أما المجرم شمس بدران - وآلاف مثله- فقد مات وهو حي.. تزكم رائحة عفنه الأنوف جميعا ..
يموتون وتعيش أنت يا حبيبي..
تعيش فتعطر رائحتك الزكية أربعة أركان الأرض.. وفي كل ركن منها لك أبناء وتلاميذ يجاهدون في سبيل الله فما من حركة تجاهد في سبيل الله إلا ولك فيها سهم..
نعم..
لولاك يا سيد لكان عجز الأمة قد اكتمل..
فالأمة مشلولة لكن أتباعك أيها السيد هم الذين يزلزلون الإمبراطوريات..
وبرغم الهول والطواغيت والملاحم والدم والأشلاء أرقب في ذهول أن مصارع الطواغيت وإمبراطوريات الكفر والاستكبار جلها تحدث بسبب الإسلام والمسلمين.. ففي نصف القرن الأخير تهاوت إمبراطوريات ثلاث بسبب الإسلام والمسلمين وهاهي ذي الرابعة على وشك أن تهوي.. أتحدث عن انهيار بريطانيا وفرنسا بسبب المقاومة – لا الحكومات- في العالم العربي.. لقد تداعت فرنسا في الجزائر ثم انهارت في مصر.. وانكشفت بريطانيا في العراق وفلسطين وتداعت في مصر.. وانهار الاتحاد السوفيتي في أفغانستان.. وهاهي ذي الولايات المتحدة الأمريكية توشك على الانحدار إلى مرحلة الأفول في العراق.. أما إسرائيل فالويل لها..
نعم.. حدث هذا رغم أن كل حكوماتنا – ونخبتها وخدم نخبتها- كانت عميلة وكانت مع الأعداء ضد الدين والأمة والدولة والشعب. حدث على يد المقاومة في طول وعرض العالم العربي والإسلامي.. وكانت المقاومة كلها إسلامية.. وكانت جلها تنتمي إلى المنهج الإسلامي الذي أصله فكر الشهيد.. و إن كانت انتصاراتها قد آلت بالسرقة والخداع والنهب إلى العلمانيين من قوميين ويساريين..
نعم.. حدث على يد من اصطفاهم الله للجهاد في سبيله وعلى رأسهم شهيدنا الغالي - أحسبه كذلك- سيد قطب..
***
أصارح القارئ أنني في هذه الحلقة الأخيرة لست حريصا على أن أتحدث عن موت سيد قطب بل إن حرصي أشد على الحديث عن ميلاده الثاني.. لأن حياته بعد موته أطول بما لا يقاس من حياته قبل موته.. كما أنها أكثر مجدا وبهاء ورفعة.. وليس فيها ألم..
أسأل نفسي وقد خدعني الشيطان طويلا عندما تقطعت نفسي حسرات عليه وسالت دموعي طوفانا كلما واجهني الشهيد في لحظة قهر أو لحظة تعذيب..أو وهم يربطونه في المقعد أياما متوالية.. فقد لجئوا إلى ذلك عندما انهار جسده تحت وطأة العذاب الهمجي المتوحش.. و أصبحوا يخشون أن يدركه الموت قبل أن يلغ الطاغوت في دمه ويروي غليله بأن يقتله بيديه.. بيد زبانيته.. وبيدي مثقفيه وشيوعييه.. وبيد محمد حسنين هيكل.. خففوا عنه العذاب وكانوا يكتفون بربطه في المقعد أياما متوالية وقطرات الماء تتساقط أمام فمه وهو محروم – يحرق العطش حلقه كسيد الشهداء الإمام الحسين– منها.. أياما وراء أيام.. وهو المريض بأمراض عدة منها الكلى التي تستلزم شرب كميات كبيرة من الماء.. تفتت قلبي.. لكنني الآن أسأل نفسي والحقيقة تنفجر انفجار الصبح الأبلج فتكتسح الظلام فينقشع كأنما لم يوجد قط..أسأل نفسي:
- هل كنت تتمنى لو أن سيد قطب قد تنعم كأكثر أهل الدنيا تنعما ثم لا تكون المعالم والظلال..
وتنفجر الإجابة انفجار الصبح:
- لا وحق جلالك يا رب.. إنما هي غشاوة البصر والبصيرة وقساوة الروح تخفي عنا الحقيقة وتعمي أعيننا عن الحق.. لا وحق جلالك يا رب.. فما أهون عذاب بشر واستشهاده مقابل المعالم والظلال.. حتى لو كان هذا البشر هو سيد قطب.
وأواصل وكأنما أراه يوم القيامة تسأله الملائكة:
- هل تذكر من تعذيبك في الدنيا شيئا؟
فيهتف الشهيد وعيناه شاخصتان إلى ربه وهم يسوقونه إلى الجنة سوقا:
- لا وحق جلالك يا رب..
***
بل إنني أعترف أنني حينما رحت أذوب وجدا تحت وقع الكلمات التي وصف بها الشهيد سيد قطب الشهادة والشهداء في الظلال ..أعترف أنني قلت لنفسي أنه لو لم يستشهد الشهيد لحاك في الصدر شيء!..
لقد قال أن الكلمات تقتات من دمه..
وكان الاستشهاد هو المقياس فإن استشهد فقد صدق..
نعم.. هذا رجل يستحق الاصطفاء للشهادة..
ولو لم يستشهد لكان منا من يتساءل اليوم : إن لم يستشهد هذا الصدق كله وهذا الإخلاص كله فمن إذن – و أستغفر الله عن تجاوزي-..
هذا رجل صدق الله فصدقه..
انظروا إلى الشهيد يكتب عن الشهداء والشهادة:
إن هنالك قتلى سيخرون شهداء في معركة الحق . شهداء في سبيل الله . قتلى أعزاء أحباء . قتلى كراما أزكياء - فالذين يخرجون في سبيل الله , والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق , هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس - هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا . إنهم أحياء . فلا يجوز أن يقال عنهم:أموات . لا يجوز أن يعتبروا أمواتا في الحس والشعور , ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان . إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه . فهم لا بد أحياء .
إنهم قتلوا في ظاهر الأمر , وحسبما ترى العين . ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقررهما هذه النظرة السطحية الظاهرة . . إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد . وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع . . وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة , والفكرة التي من أجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد , وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد . فهم ما يزالون عنصرا فعالا دافعا مؤثرا في تكييف الحياة وتوجيهها , وهذه هي صفة الحياة الأولى . فهم أحياء أولا بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس .
ثم هم أحياء عند ربهم - إما بهذا الاعتبار , وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه . وحسبنا إخبار الله تعالى به: (أحياء ولكن لا تشعرون). . لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود . ولكنهم أحياء .
أحياء . ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى , ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها . فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة . وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء .
أحياء . فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم , ولا يتعاظمها الأمر , ولا يهولنها عظم الفداء .ثم هم بعد كونهم أحياء مكرمون عند الله , مأجورون أكرم الأجر وأوفاه.
إن الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء . وخطوة يخلص بها المؤمن من ضيق الأرض إلى سعة الجنة . ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق . ومن تهديد البغي إلى سلام النعيم . ثم إن الذين يقتلون في سبيل الله لن يضل أعمالهم . . في مقابل ما جاء عن الذين كفروا أنه أضل أعمالهم . ثم أن الله رب الشهداء الذين قتلوا في سبيله , يظل يتعهدهم بالهداية - بعد الاستشهاد - ويتعهدهم بإصلاح البال , وتصفية الروح من بقية أوشاب الأرض; أو يزيدها صفاء لتتناسق مع صفاء الملأ الأعلى الذي صعدت إليه , وإشراقه وسناه . فهي حياة مستمرة في طريقها لم تنقطع إلا فيما يرى أهل الأرض المحجوبون . وهي حياة يتعهدها الله ربها في الملأ الأعلى . ويزيدها هدى . ويزيدها صفاء , ويزيدها إشراقا (ويدخلهم الجنة عرفها لهم). . .
وفي ظل هذه الكرامة للذين قتلوا في سبيل الله . وفي ظل ذلك الرضى , وتلك الرعاية , وبلوغ ذلك المقام . يحرض الله المؤمنين على التجرد لله , والاتجاه إلى نصرة نهجه في الحياة ; ويعدهم على هذا النصر والتثبيت في المعركة ; والتعس والضلال لأعدائهم وأعدائه:
(يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم . والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم . ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم). .
وكيف ينصر المؤمنون الله , حتى يقوموا بالشرط وينالوا ما شرط لهم من النصر والتثبيت ?
إن لله في نفوسهم أن تتجرد له , وألا تشرك به شيئا , شركا ظاهرا أو خفيا , وألا تستبقي فيها معه أحدا ولا شيئا , وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى , وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها , وسرها وعلانيتها , ونشاطها كله وخلجاتها . . فهذا نصر الله في ذوات النفوس .
إن الذي يقول: إنه "مسلم" إما أن يبلغ ويؤدي هكذا . وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا في أخرى . . إنه حين يقول:إنه "مسلم" ثم لا يبلغ ولا يؤدي . . كل ألوان البلاغ والأداء هذه , إنما يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه ! بدلا من أداء شهادة له , تحقق فيه قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا) .
وتبدأ شهادته للإسلام , من أن يكون هو بذاته . ثم ببيته وعائلته . ثم بأسرته وعشيرته , صورة واقعية من الإسلام الذي يدعو إليه . . وتخطو شهادته الخطوة الثانية بقيامه بدعوة الأمة - بعد دعوة البيت والأسرة والعشيرة - إلى تحقيق الإسلام في حياتها كلها . . الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية . . وتنتهي شهادته بالجهاد لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم من أي لون كانت هذه العوائق . . فإذ استشهد في هذا فهو إذن "شهيد" أدى شهادته لدينه , ومضى إلى ربه . . وهذا وحده هو "الشهيد" .
***
ثم انظروا إليه وهو يقول:
وإن لله شريعة ومنهاجا للحياة , تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة . ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه , ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء , فهذا نصر الله في واقع الحياة .
ونقف لحظة أمام قوله تعالى: (والذين قتلوا في سبيل الله).. وقوله: (إن تنصروا الله). .
وفي كلتا الحالتين . حالة القتل . وحالة النصرة . يشترط أن يكون هذا لله وفي سبيل الله. وهي لفتة بديهية , ولكن كثيرا من الغبش يغطي عليها عندما تنحرف العقيدة في بعض الأجيال . وعندما تمتهن كلمات الشهادة والشهداء والجهاد وترخص, وتنحرف عن معناها الوحيد القويم .
إنه لا جهاد , ولا شهادة , ولا جنة , إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده , والموت في سبيله وحده , والنصرة له وحده , في ذات النفس وفي منهج الحياة .
لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا . وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم , وفي أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء .
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال:سئل رسول الله [ ص ] عن الرجل يقاتل شجاعة, ويقاتل حمية , ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله ? فقال:" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " .
وليس هنالك من راية أخرى , أو هدف آخر , يجاهد في سبيله من يجاهد , ويستشهد دونه من يستشهد , فيحق له وعد الله بالجنة . إلا تلك الراية وإلا هذا الهدف . من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات !
ويحسن أن يدرك أصحاب الدعوة هذه اللفتة البديهية , وأن يخلصوها في نفوسهم من الشوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصور الأجيال المنحرفة , وألا يلبسوا برايتهم راية, ولا يخلطوا بتصورهم تصورا غريبا على طبيعة العقيدة .
لا جهاد إلا لتكون كلمة الله هي العليا . العليا في النفس والضمير . والعليا في الخلق والسلوك . والعليا في الأوضاع والنظم . والعليا في العلاقات والارتباطات في كل أنحاء الحياة . وما عدا هذا فليس لله . ولكن للشيطان . وفيما عدا هذا ليست هناك شهادة ولا استشهاد .
***
نعم ..
تلك منزلة الشهداء..
روى الإمام أحمد في مسنده قال:حدثنا زيد بن نمر الدمشقي , حدثنا ابن ثوبان , عن أبيه , عن مكحول , عن كثير بن مرة , عن قيس الجذامي - رجل كانت له صحبة - قال:قال رسول الله [ ص ]:" يعطى الشهيد ست خصال:عند أول قطرة من دمه , تكفر عنه كل خطيئة ; ويرى مقعده من الجنة , ويزوج من الحور العين , ويأمن من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر , ويحلى حلة الإيمان " . . [ تفرد به أحمد . وقد روى حديثا آخر قريبا من هذا المعنى . وفيه النص على رؤية الشهيد لمقعده من الجنة . أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه ] .
حاشية: العلمانيون الأغبياء والمستشرقون الجهلة يقرأون هذا الحديث فلا يفهمون منه إلا الشق المادي ( ومرة أخري فالإنسان لا يثبت ولا ينكر ما يجهل) فلا يفهمون من الحديث إلا الحور العين .. ويجعلون من هذا هو الدافع الوحيد للاستشهاد..
السفلة!!..
***
***
يتساءل فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي – ولا ينفي عتابنا السابق عليه تبجيلنا له -: علام حوكم سيد قطب؟ ويجيب أن سيد قطب وتنظيمه: لم يحاكما من أجل (الأعمال الخطيرة) التي ارتكبها، ولكن حوكم كلاهما من أجل (الأفكار الخطيرة) التي اعتنقها أو دعا الناس إليها. ولو أنصفوا وامتلكوا الشجاعة، لقالوا: إننا حاكمنا الرجل ـ بل حكما عليه بالإعدام ـ من أجل أفكاره لا من أجل أعماله. لقد حوكم سيد قطب على أخطر كتاب ألفه، وهو كتاب (معالم في الطريق) فهو الذي تتركز فيه أفكاره الأساسية في التغيير الذي ينشده، وإن كان أصله مأخوذا من تفسيره (في ظلال القرآن) في طبعته الثانية، وفي أجزائه الأخيرة من طبعته الأولى. كان الكتاب قد طبع منه عدد محدود في طبعته الأولى( تعليق: الكلام هنا غير دقيق.. فكما رأينا أن تعدد الطبعات فور صدور الكتاب هو الذي نبه رجال المباحث إلى وجود تنظيم.. على العموم كان فضيلة الشيخ بعيدا عن الأحداث آنذاك م.ع. ) التي نشرتها (مكتبة وهبة) ولكن بعد أن حكم بإعدام سيد قطب، وبعد أن كتبت له الشهادة، أصبح الكتاب يطبع في العالم كله بعشرات الآلاف( تعليق آخر: مئات الآلاف وليس عشرات الآلاف.. م.ع.) وصدق ما قاله عليه رحمة الله: ستظل كلماتنا عرائس من الشمع لا روح فيها ولا حياة، حتى إذا متنا في سبيلها: دبّت فيها الروح، وكتبت لها الحياة!
ويعلق الشيخ يوسف القرضاوي أنهم في الحقيقة لم يقاوموا أفكار سيد قطب، بل ساهموا مساهمة فعالة في إذاعتها ونشرها!
وفي نهاية المحاكمة المهزلة التي كان القاضي فيها مهرجا وقاضيا من قضاة النار فوجئ الناس بأحكام الإعدام، وقد قوبل الحكم بالإعدام على سيد قطب وصاحبيه بالدهشة والاستغراب والإنكار، بل الرفض والاحتجاج من أنحاء العالم العربي والإسلامي، وقامت مظاهرات، وأرسلت برقيات، وحدثت وساطات لدى عبد الناصر، وكان الكثيرون يتوقعون أن يستجيب لها، فلم يفعل. بل صدق على حكم إعدام سيد قطب، و رفض أي شفاعة فيه، وأصم أذنيه عن استغاثات العرب والمسلمين أن لا ينفذ حكم الإعدام، وأصر على أن ينفذ في الرجل الأديب العالم المفكر الداعية الكبير: حكم الإعدام.
يتفتت الشيخ يوسف القرضاوي ألما وهو يقول:
لقد شنق ستة من قادة الإخوان سنة 1954م من أجل تهمة شروع في قتل عبد الناصر في ميدان المنشية، وإن كنا أثبتنا بالأدلة القاطعة براءة جماعة الإخوان من هذه التهمة، أما هنا، فلم يحدث قتل، ولا شروع في قتل، فعلام يعدم هؤلاء؟ وبأي جريمة تقطع رقابهم؟
وقد ذكروا هنا أمرا عجيبا ينبغي أن نسجله: ذلك أن شمس بدران وحسين خليل مدير المباحث الجنائية عرضا على عبد الناصر خلال محاكمة الشهيد سيد قطب الأحكام التي سيصدرها الدجوي، ومن بينها حكم الإعدام على سيد قطب، واتفقوا مع عبد الناصر على تخفيف حكم الإعدام عليه إلى السجن، أو العفو مع تحديد إقامة، أو نحو ذلك؛ لينال عبد الناصر كسبا شعبيا يغطي كل ما قيل عن التعذيب، وما سيُقال عن العقوبات التي ستفرض على الآخرين. ولكنهم فوجئوا بعبد الناصر يصدق على حكم الإعدام وينفذه.. إن دم سيد قطب ورفيقيه، سيظل لعنة على من سفكوه بغير حق، وسيظل يطاردهم، حتى يثأر له القدر من الطغاة الظالمين، ويستجيب لدعاء المظلومين، الذي يرفعه الله فوق الغمام، ويفتح له أبوب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين.
***
كيف غفلت عن منازل الشهداء ..
ولماذا حزنت على الشهيد هذا الحزن كله.. بينما كان علىّ أن أفرح لعرس استشهاده..
***
في صحيح مسلم:" إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش , فاطلع عليهم ربك إطلاعة . فقال:ماذا تبغون ? فقالوا:يا ربنا . وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ? ثم عاد عليهم بمثل هذا . فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا:نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله:إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون " . .
وعن أنس رضي الله عنه قال:قال رسول الله [ ص ]:" ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا , وله ما على الأرض من شيء . إلا الشهيد , ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات , لما يرى من الكرامة " . [ أخرجه مالك والشيخان ] .
***
من أولي من الشهيد في زماننا بهذا المجد كله؟!..
***نعم..
من أولي من الشهيد في زماننا بهذا المجد كله؟!..
***
كتب في أيامه الأخيرة في رسالتين إلى أحد أصدقائه:
«أما أنا فأجدني خيرا من أي وقت مضى - في عقيدتي وإيماني - وفي وضوح هذه العقيدة وهذا الإيمان في نفسي، وفي وضوح إدراكي وتصوري لهذا الأمر ومقتضياته 0 ووضوح الهدف والوسيلة والطريق والغاية، وكل هذا خير جزيل جميل يرجح كل ما أديته ثمنا له من راحتي وصحتي 0 والحمه لله. .
وقال في الرسالة الثانية :
«أهم من أن أشكرك _ فيما اعتقد هو أن أطمئنك على وأنا في وضعي الذي تعلمه » لقد وجدت الله كما لم أجده من قبل قط ولقد عرفت منهجه وطريقه كما لم أعرفه من قبل قط، ولقد اطمأننت إلى رعايته ووثقت بوعده للمؤمنين كما لم أطمئن من قبل قط 0 وأنا بعد ذلك على ما عهدتني مرفوع الرأس لا أحنيه إلا لله، والله يفعل ما يشاء والله غالب على أمره 0 ولكن أكثر الناس لا يعلمون» 0
كان الصديق هو الأديب الحجازي الشهير الأستاذ أحمد عبه الغفور عطار في مكة المكرمة، وكان الشهيد قد أرسل إليه رسالتين من زنزانته، وشاء الله أن تصلا إليه بطريقة خاصة، وقد نشرها الأستاذ احمد عطار في مجلة (كلمة الحق) بخط يد سيد قطب بالزنكوغراف، وتعتبر الرسالتان وثيقتين هامتين تصوران حالة سيد قطب الإيمانية بعد العذاب الرهيب الذي لقيه، كما تصوران جلده وصبره وجهاده، وثباته وعزته واستعلاءه!.
***
كان سيد قطب متشوقا إلى الشهادة طالبا لها . قال في تفسيره لقوله تعالى : ( ويتخذ منكم شهداء):
«وهو تعبير عجيب عن معنى عميق أن الشهداء لمختارون 0 يختارهم الله من بين المجاهدين، ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد، إنما هو اختيار وانتقاء وتكريم واختصاص 00 إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه» .
ثم اسمعوا الشهيد يقرر أن الشهداء أحياء, فليس الموت خاتمة المطاف ; بل ليس حاجزا بين ما قبله وما بعده على الإطلاق ! إن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة, فهؤلاء ناس منا يقتلون , وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها , ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها . ولكن لأنهم: قتلوا في سبيل الله ; وتجردوا له من كل الأعراض والأغراض الجزئية الصغيرة ; واتصلت أرواحهم بالله , فجادوا بأرواحهم في سبيله . . لأنهم قتلوا كذلك , فإن الله - سبحانه - يخبرنا في الخبر الصادق , أنهم ليسوا أمواتا . وينهانا أن نحسبهم كذلك , ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده , وأنهم يرزقون . فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء . فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء - الذين قتلوا في سبيل الله ? - وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ? وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ; وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضى وأنس , عن هذه الرحلة إلى جوار الله , مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة ! إنها تعديل كامل لمفهوم الموت - متى كان في سبيل الله - وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم , وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم . وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها , بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة , كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة . وحيث تستقر في مجال فسيح عريض , لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة , ومن حياة إلى حياة !
إن الاستشهاد هنا يأتي تابعا للأمانة التي عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.. إن حمل الأمانة هنا يستوجب حملا لا مناص منه.. وواجبا لا محيص عنه.. نعم.. إنه-بتعبير الشهيد- الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله . . وإلا فهي التبعة الثقيلة . تبعة ضلال البشرية كلها ; وشقوتها في هذه الدنيا , وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة ! وحمل التبعة في هذا كله , وعدم النجاة من النار . . فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة ? وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل ?!
***
يقول الشهيد " أن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا ولكن بشرط واحد .. أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم .. وأن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم وأن يقولوا ما يعتقدون أنه حق ويقدموا دماءهم غذاء لكلمة الحق . . إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثما هامدة حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء "
ويقول:
" أنه ليست كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها وتجمعها إنها الكلمات التي تقطر دما لأنها تقتات قلب إنسان حي . . كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان . . أما الكلمات التي ولدت في الأفواه وقذفت بها الألسنة ولم تتصل بذلك النبع الإلهي ألحى فقد ولدت ميتة ولم تدفع البشرية شبرا واحدا إلى الأمام إن أحدا لن يتبناها لأنها ولدت ميتة والناس لا يتبنون الأموات " .
***
لقد سبق أن أوردنا رأي بعض كبار المفكرين أن المعالم أخطر كتاب طيلة خمسمائة عام.. وأخطر ما فيه ليس مجرد الفكر.. بل المنهج.. ومن أجله كما اعترف الكثيرون قتلوه..
يقول الشهيد في المعالم:
إن الجاهلية التي حولنا -كما أنها تضغط على أعصاب بعض المخلصين من أصحاب الدعوة الإسلامية، فتجعلهم يتعجلون خطوات المنهج الإسلامي -هي كذلك تتعمد أحياناً أن تحرجهم. فتسألهم: أين تفصيلات نظامكم الذي تدعون إليه؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ودراسات ومن فقه مقنن على الأصول الحديثة! كأن الذي ينقص الناس في هذا الزمان لإقامة شريعة الإسلام في الأرض هو مجرد الأحكام الفقهية والبحوث الفقهية الإسلامية. وكأنما هم مستسلمون لحاكمية الله راضون بأن تحكمهم شريعته، ولكنهم فقط لا يجدون من (المجتهدين) فقهاً مقنناً بالطريقة الحديثة! .. وهي سخرية هازلة يجب أن يرتفع عليها كل ذي قلب يحس لهذا الدين بحرمة !
إن الجاهلية لا تريد بهذا الإحراج إلا أن تجد لنفسها تعلة في نبذ شريعة الله، واستبقاء عبودية البشر للبشر.. وإلا أن تصرف العصبة المسلمة عن منهجها الرباني، فتجعلنا تتجاوز مرحلة بناء العقيدة في صورة حركية، وأن تحول منهج أصحاب الدعوة الإسلامية عن طبيعته التي تتبلور فيها النظرية من خلال الحركة، وتتحدد ملامح النظام من خلال الممارسة، وتسن فيها التشريعات في مواجهة الحياة الإسلامية الواقعية بمشكلاتها الحقيقية.
ومن واجب أصحاب الدعوة الإسلامية ألا يستجيبوا للمناورة! من واجبهم أن يرفضوا إملاء منهج غريب على حركتهم وعلى دينهم! من واجبهم ألا يستخفهم الذين لا يوقنون!
ومن واجبهم أن يكشفوا مناورة الإحراج، وأن يستعلوا عليها، وأن يرفضوا السخرية الهازلة في ما يسمى (تطوير الفقه الإسلامي) في مجتمع لا يعلن خضوعه لشريعة الله ورفضه لكل شريعة سواها. من واجبهم أن يرفضوا هذه التلهية عن العمل الجاد .. التلهية باستنبات البذور في الهواء .. وأن يرفضوا هذه الخدعة الخبيثة!
ومن واجبهم أن يتحركوا وفق منهج هذا الدين في الحركة. فهذا من أسرار قوته. وهذا هو مصدر قوتهم كذلك.
إن (المنهج) في الإسلام يساوي (الحقيقة). ولا انفصام بينهما. وكل منهج غريب لا يمكن أن يحقق الإسلام في النهاية. والمناهج الغريبة يمكن أن تحقق أنظمتها البشرية. ولكنها لا يمكن أن تحقق منهجنا. فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كل حركة إسلامية..
***
يقول الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي في كتابه سيد قطب- الشهيد الحي- مكتبة الأقصى-عمان:
لقي سيد قطب كباقي إخوانه ألوانا شتى من التعذيب لا تضاهيها إلا ألوان التعذيب في محاكم التفتيش في أوروبا في القرون الوسطى 0 ومن هذه الألوان البشعة تسليط الكلاب البوليسية عليه ومطاردتها له لساعات، بينما تنقض هذه الكلاب المدربة الضخمة عل لحمه تنهشه نهشا إذا توقف عن الجري، وقد واجه كل هذا ا بنفس صابرة وقلب ثابت، وعزم عل المضي في الطريق 0 واستعلى بإيمانه، وتذوق حلاوة الاتصال بالله وهان عليه كل ما يلاقيه في سبيل الله.
وكان نصيب سيد قطب وآله من هذا أكثره، حيث وضع في السجن هو وشقيقه وأخواته الثلاثة، وأبناء أخته، وأولاد أخواله، ولاقى الجميع من الأهوال ما لا يوصف ورأى سيد أمام عينيه استشهاد أعز أقربائه وأقربهم إلى قلبه ابن أخيه رفعت بكر شافع ووسع قلبه الكبير ونفسه العظيمة محنته وعذابه الرهيب، وعذاب أهله أمام عينيه، وعذاب أخواته، تحمل هذا كله بقلب صابر ويقين ثابت.
كان سيد يحس إحساس المؤمن بالأشياء قبل وقوعها . فقد توقع هذا كله في فترة اعتقاله الثاني حيث قال : لقد عرفت أن الحكومة تريد رأسي هذه المرة، فلست نادما على ذلك، ولا متأسفا لوفاتي، و إنما أنا سعيد للموت في سبيل دعوتي، وسيقرر المؤرخون في المستقبل : من كان على الصراط المستقيم ؟ الإخوان أم نظام الحكم القائم ؟
ولقد رأى الشهيد بنور الله أن الصراع ليس صراعا بين الإخوان المسلمين وانقلاب عسكر يوليو.. كان الصراع أوسع و أشمل و أهم وأخطر.. – كان – وما يزال- هو الصراع بين الإسلام من جهة.. ومن الجهة الأخرى كان اليهود و الصليبيون وكان القوميون والعلمانيون والشيوعيون مجرد ذيول.
يقول الشهيد:"لقد وقفت على مدى تغلغل الأصابع اليهودية وخطرها بعد طول بحث وعناء، واليهود إذا علموا أني أحيط بذلك فلا بد أن أقتل !"
عندما زاره أحد إخوانه قال له : «رأيت البارحة كأن ثعبانا احمر لف نفسه حولي ثم يقترب فاستيقظت من ساعتها ولم أنم» قال له : لم يا سيدي : هذه هدية سيقدمها لك أحد المؤمنين، هدية ملفوفة بخيط احمر» 0 «قال سيد : ولماذا لا يكون تفسيرها : أنى أكون أنا الهدية المقدمة للمؤمنين 0 قال له صاحبه : «أليس بقاء الصالحين انفع للدعوة الإسلامية ؟ أجاب سيد قائلا : ليس دائما 0 بل ربما كان ذهابهم أنفع، و أنا لا أتعمد التهلكة، ولكن يجب أن نتعمد الثبات مع علمنا أن في الثبات التهلكة وهكذا كان، فبعد تعذيب رهيب، قدم سيد قطب ومجموعة من الإخوان إلى محاكمة صورية، وكان سيد في المحكمة كالأسد يخيف - وهو في قفص الاتهام مجردا من كل وسيلة - بنظراته رئيس المحكمة الذي يتمتع بالسلطة والقوة المادية، فقد كان يتحاشى النظر إلى عيني سيد النافذتين
وقد صدر عليه الحكم بالإعدام مع اثنين من قادة الحركة الإسلامية: يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل وقامت المظاهرات والاحتجاجات تلف أنحاء العالم الإسلامي وعقب صدر الحكم بإعدام الشهيد سيد قطب وأخويه يوم الأحد 21/8/1966م، وعلى إثر إعلان خبر الحكم اهتز العالم الإسلامي كله لهذا الخبر المشئوم، وتداعى المخلصون من الدعاة والمفكرين والعلماء والسياسيين- ممن يعرفون قدر الشهيد سيد قطب وإخوانه من دعاة الإخوان المسلمين- للقيام بواجبهم تجاه هذه المأساة المروِّعة... فقامت مظاهرةُ احتجاج صامتةٌ في شوارع كراتشي بباكستان، نظَّمَها أعضاءُ منظمة "جامات إسلامي" الدينية، ووجهت نداءات وبرقيات إلى عبد الناصر تناشده إعادة النظر في حكم الإعدام من زعماء أربعة أحزاب باكستانية، هي: جامات إسلامي، ومجلس نظام الإسلام، والجامعة الإسلامية، وجامعة عوامي، واتحاد الرابطات الإسلامية في بريطانيا، وفتحي يكن الأمين العام للجماعة الإسلامية في لبنان، وأربعون شخصيةً لبنانيةً علميةً ودينيةً، ومجلس الأمة التونسية، ومفتي الجمهورية التونسية، وولي عهد الأردن، والجمعية التأسيسية في السودان، ورئيس حزب الاستقلال المغربي، ورئيس رابطة العلماء في العراق الشيخ أمجد الزهاوي. وفي يوم 28/8/1966م أرسل الملك فيصل بن عبد العزيز برقيةً لعبد الناصر؛ يرجوه فيها عدم إعدام سيد قطب، وأوصل سامي شرف البرقيةَ لعبد الناصر في ذلك المساء، فقال له عبد الناصر: "أعدموه في الفجر، بكرة، واعرض عليّ البرقية بعد الإعدام"، ثم أرسل برقيةً للملك فيصل يعتذرُ بأن البرقيةَ وصلته بعد تنفيذ حكم الإعدام..
***
يا اللـــــــــــــــــــــه..
اللهم العن قوما قتلوه..
خصمهم يوم القيامة فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم
***
في نفس لحظة الإعدام كان هناك في كل مكان دعاةٌ مجاهدون، تختنق أنفاسهم، ويفيض دمعهم، وتعلوهم كآبة وضيق، ولا يدرون لذلك سببًا، منهم الداعية المجاهد أبو الأعلى المودودي في باكستان؛ حيث يروي الشيخ خليل الحامدي- سكرتير المودودي- قائلاً: "غداةَ تنفيذ حكم الإعدام بالشهيد سيد قطب دخلنا على المودودي في غرفته، وكانت الصحافة الباكستانية قد أبرزَت الخبر على صفحاتها الأولى، وقَصَّ علينا أميرُ الجماعة المودودي هذه القصة، فقال: "فجاةً أحسست باختناق حقيقي، ولم أدرك لذلك سببًا، فلما عرفتُ وقتَ إعدام الشهيد سيد قطب في الصحف أدركتُ أن لحظة اختناقي هي نفس اللحظة التي شُنِق فيها سيد قطب".
وبعد استشهاده وتنفيذ حكم الإعدام فيه رثاه علال الفاسي- زعيم حزب الاستقلال المغربي- في مجلة (العلم) المغربية، فقال:
"لقد مضى القضاء وحق الأمر.. لقد حُكم بالإعدام على الداعية الإسلامي الكبير المجاهد سيد قطب، وعلى ثلةٍ من رفاقه، وعلى الرغم من الاستعطافات التي وجَّهتْها النخبة المسلمة في العالم تطلب العفو والقناعة بما دون الإعدام من الأحكام، فإن الحكم قد نُفِّذ، واغتُصبت روحُ البطل الإسلامي سيد قطب واثنين من إخوانه.. إن ذلك مصير الدعاة إلى الخير.. وذلك يترقبه المجاهدون الذين يقولون الحقَّ ولو كان مرًّا..
ووجَّه 48 شخصيةً إسلاميةً وعلميةً وسياسيةً مغربيةً نداءً إلى ملوك ورؤساء العالمَين العربي والإسلامي، جاء فيه: "لقد كانت فجيعةُ الأمة الإسلامية بإعدام الداعية الإسلامي الشهيد الأستاذ سيد قطب ذات أثر بالغ سيبقى على مر السنين، وأحدثت في نفس كل مسلم جرحًا داميًا لن يندمل مهما تطاولت الأيام. (...)
وإنه لممَّا يملأ النفوس بالتفجُّع والألم مصير أُسَر المعتقلين المحرومة من عائليها ومن موارد رزقها، والتي تضم عشرات الألوف من نساء وأطفال وعجَزَة وشيوخ، وإنَّ أقل ما يفرضه علينا ديننا- إذا لم نستطع أن نمد لهم أيدينا بالعون والمساعدة عملاً بواجب التضامن الإسلامي- أن نهيب بالحاكمين في مصر ونناشد قلوبهم وضمائرهم ومشاعرهم الإنسانية، طالبين منهم أن يسارعوا لإسعاف هذه الأُسَر وإنقاذها من براثن الجوع والتشرد والبؤس، وأن يؤمِّنوا الحياة الكريمة لأفرادها.
***
كان الشهيد يرى استشهاده بنور الله.. وكان يراه بالرؤيا الصادقة وقد سبقت بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة بالاستشهاد.. وكان تعليقه بعد صدور حكم الإعدام: )الحمد لله.. لقد عملت خمسة عشر عاما من أجل الحصول على الشهادة)..
***
ويقول الأستاذ عباس السيسي: "حينما كنا في الطريق إلى سماع الأحكام في مبنى مجلس قيادة الثورة نستمع إلى حديث مختصر من الأستاذ سيد قطب؛ حيث قال: إننا مستعدون بكل اطمئنان إلى كل ما يقدره الله لنا، ولا يريد الله لنا إلا الخير، ولعلنا لا نلتقي فلا تجزعوا.. وعلينا أن نستفيد من أخطائنا حتى يتداركها الجيل القادم..
( وهنا يا شيخنا القرضاوي تطفر من عيني دمعة.. فالرجل هنا على وشك الاستشهاد لكنه يتقصى ما يمكن أن يكون قد ارتكبه من أخطاء ليس التماسا للمعاذير بل للاستفادة منها.. الرجل لا يعتبر كلامه قرآنا ولا يرى نفسه منزها عن الخطأ .. يا شيخنا لم قسوت كل هذه القسوة وازورّ قلمك عن الحق كل هذا الازورار) ..
كما أن المستشار عبد الله العقيل يقول في مجلة المجتمع العدد 112 تاريخ 8/8/1972 م : (( إن سيد قد بعث لإخوانه في مصر والعالم العربي أنه لا يعتمد سوى ستة مؤلفات له وهي : هذا الدين , المستقبل لهذا الدين , الإسلام ومشكلات الحضارة , خصائص التصور الإسلامي , في ظلال القرآن , ومعالم في الطريق".
فهل هذا رجل يزعم أن رؤيته هي الرؤية الوحيدة و أن غيره كافر وأن دمه مهدر..؟!.
وقد واصل الشهيد انتقاد نفسه و إخوانه قائلا:
"الواقع أننا لم نكن في هذه المِحنة المفاجِئَة على مستوى المسئولية وقوة التحمل المرجوَّة، فلنتصرف في المستقبل على المستوى المأمول، أقول لكم هذا حتى لا نخدع أنفسنا، وقد أدَّينا واجبنا بإخلاص، وهذا كل ما يعنينا حتى يعلم الله صدق اتجاهنا إليه وإخلاصنا لدعوته.. وهذا كله رغم أننا لم نتسبب في هذه المحنة، ولكن فعل الله كله حكمة.".
و أكاد أصرخ:
- لله درك.. بعد كل هذا الاحتمال ثم تقول أنكم لم تكونوا على مستوى المسئولية وقوة التحمل المرجوَّة..
غفر الله لك يا شيخنا القرضاوي..
***
يقول الموقع المنتمي للشيخ يوسف القرضاوي "إسلام أون لاين" :
لقد كان إعدام الشهيد سيد قطب – حدثاً أليماً هز العالم العربي والإسلامي وأثار العلماء والدعاة وجماهير الإسلام، ولكنه في الوقت نفسه أُثلج صدور اليهود والصليبين والملاحدة الشيوعيين أعداء الإسلام .
ولقد استنكر المسلمون هذه الجريمة الشنعاء، وأقيمت صلاة الغائب عليه في المشرق والمغرب وأصدر الكثير من الصحف الإسلامية والعربية وغيرها أعداداً خاصة عن الشهيد سيد قطب وإخوانه، وتوقع الكثيرون من العلماء والدعاة أن تصيب المجرمين قارعة فلم تمض سوى شهور حتى حصلت نكبة عام 1967م حيث هزم عبد الناصر شر هزيمة.
ويقول الأستاذ يوسف العظم في كتابه: سيد قطب رائد الفكر الإسلامي المعاصر :
إنه حقًا قطب الجماعة والجبل الذي يُلتف حوله ويفتدى به لو أستطيع بالغالي والنفيس، وكان مخلصًا، داس بكبريائه على مناصب الطغاة عن قناعة، ورفض كل لين أو هون يقوده إلى نعيم الدنيا ويحرمه من نعيم الآخرة.. (...)أما المحكمة التي قُدم إليها الشهيد سيد قطب وإخوانه فليست جديدةً على كل حال.. لقد عرفتها مصر الثورة من قبل، كان ذلك عام 1954م حين قدمت العالم الشهيد عبد القادر عودة، والمجاهد محمد فرغلي، وفريقًا من طلائع الفداء جزءًا من مسرحية ساخرة وتمثيلية دامية.. انتهت بهم إلى حبال المشانق، في الوقت الذي أعيد فيه ثلاثة عشر بحارًا يهوديًا من بحارة السفينة اليهودية (بات جاليم) إلى إسرائيل وألسنتهم تلهج بالشكر والثناء والدعاء للثورة التي أحسنت معاملتهم وأكرمت مثواهم في جناح مفروش مؤثث بكل وسائل الراحة في السجن الحربي العتيد ..وأعلنت "مصر الثورة " بمناسبة زيارة المشير عبد الحكيم عامر إلى فرنسا، وفي الوقت الذي كان فيه الشهيد سيد قطب يُقدم للموت، أن قضية التجسس لصالح إسرائيل، والتي اتهم بها المكتب التجاري الفرنسي كأنها لم تكن، وأُخلي سبيل المتهمين عربونًا جديدًا من الثورة والثوار على أن مطاردة الأحرار أولى من مطاردة الجواسيس، وأن قتل الأبرياء من قادة الفكر ورجال العقيدة هو الهدف الأول والأخير من أهداف ثورة التحرير..والطلائع الثورية ..
ونعود إلى قاعة المحكمة لنلتقي بأعجب حلف يجمع بين القاضي والدفاع والنيابة العامة والجمهور حيث يتمارى الجميع في إلصاق ما يرون للسلطان من تهم، وهم يسخرون من إنسان سلبوه كل مقومات الدفاع عن النفس وحرموه من أبسط مقومات الحرية.
إن القاضي في كل الشرائع والقوانين الكونية يسمع رأي النائب العام الذي يحاول إدانة المتهم، ثم رأي الدفاع الذي يبذل جهده لتبرئة موكله، ثم رأي المتهم إن رغب في ذلك وكان لديه ما يقوله.
أما القاضي في محاكم الثورة العتيدة فمهامه كثيرة، ليس بينها الإصغاء بتعقل، والاستيعاب بإنصاف وتقصي الحقيقة بتجرد – ليصدر الحكم بعد ذلك بنزاهة لا يشوبها سوى عجز الإنسان عن إدراك الحقيقة وبلوغ الحق المطلق.
إن القاضي في محاكم الثورة التي أُلَِّفت قصتها ووضع حوارها وتم إخراجها على يد رجال المخابرات، همه تنفيذ المؤامرة وسوْق الأبرياء إلى حبال المشانق وزنازين الطغاة.. وإذا كان القاضي يقوم بدور الممثل الأول.. فالجمهور يقوم بدور "الكومبارس" ذلك أن كل خفقة في صدره ونبضة من دمه وخلجة في وجهه وكلمة ينطق بها.. كلها تعلن تحيزه وتؤكد أن الحكم صادر في مخيلته، واضح في تصوره قبل بدء المحاكمة، وكل ما يجري على ملأ الجمهور تمثيل في استوديوهات دوائر المخابرات التي يسمونها محكمة الثورة
ولكي تقرب الصورة للقارئ.. وينقل إلى أجواء الإنصاف الثوري والعدالة الاشتراكية، لا بد من سرد وقائع ونقل ألفاظ وعبارات بعينها صدرت في قاعة المحكمة التي حكمت على الداعية الشهيد وصحبه الأبرار بالموت. لا يُسمح للجمهور بالدخول إلى قاعة المحكمة إلا ببطاقات أُعدت من قبل، ووزعت قبل بدء المحاكمة بأسبوع على الأقل.. تمامًا كتلك التي توزعها مؤسسات تلفزيونية معينة تختار بها نوعيةً معينةً من الناس لتحضر برنامجًا من برامج الجوائز والمسابقات. وإذا علمنا أن دوائر المخابرات الثورية هي التي تقوم بطبع البطاقات وتوزيعها، أدركنا أي جمهور هذا الذي يحتل المقاعد في قاعة المحكمة ويطلق النِكات بين الحين والحين، لينال من عِرض متهم، أو يهزأ بكرامة سجين، بالإضافة إلى الضحك الصاخب المشترك الذي يطلقه الجمهور الكريم تجاوبًا مع ما يطلقه القاضي النزيه والحكم العادل من نِكات بذيئة أو لغو حديث .
والنائب العام.. أو المدعي العام..إنه لا يسوق الأدلة على الإدانة، ولكنه يسوق عبارات السخرية والألقاب التي تبدأ بـ(القطب الأغر) و(القطب اللامع)، وتنتهي (بزعيم الإجرام وعصابة الإرهاب الآثمة).
أما الأدلة والحجج فلا داعي لها؛ ألا يكفي أن أبواق الإعلام المسعورة خارج القاعة وقبل يوم المحاكمة قد مهّدت الأجواء والأصداء، وأصدرت حكمها مسبقًا على المتهمين، وأعلنت خيانتهم، وطالبت أن يًُحكم على البعض بالموت والبعض بالسجن المؤبد... ومن الغريب العجيب أن تأتي مطالبة النائب العام بنسخة مما تطالب به الصحف وما ترجوه الإذاعة وما يرغب فيه التليفزيون، وأن تجيء أحكام القاضي النزيه مطابقةً منسجمةً مع تلك المطالب وتلك الرغبات .
ونقف بين يدي القاضي لنسمع العجب العجاب:
يسأل المتهم، فإذا ما نهض البريء المعذب للإجابة، انطلق القاضي قائلاً: "ما فيش داعي.. خلاص ما أنا عارف إنت حاتقول إيه أنا أقول الحكاية.." ويحاول المتهم أن يسرد جزءًا من الجواب على السؤال الموجَّه له.. فيقاطعه القاضي العادل بقوله.. "أيوه حتقول لنا معالم في الطريق.. كفاية بأه... اجلس مكانك"!
ومحامو الدفاع في قضية الأبرياء... أمرهم لا يقل عجبًا وموقفهم لا يقل غرابةً، إن مهمتهم في المحكمة تنحصر في كيْل المديح لعدالة القاضي بعد دعاء خاشع أن يحفظ الله الرئيس المفدّى من كل سوء.. ثم لمحة عن تاريخ الرئيس التي سخرته العناية الإلهية لرفع مستوى الشعب المصري، وإنقاذه من الذل والمهانة، ويختم الدفاع خطبته بفقرتين مهمتين.. الأولى اتهام السجين الذي يدافع عنه المحامي الأمين بالجنون أو المرض النفسي أو الكذب والحقد والغرور، والثانية يطلب بها رحمة المحكمة.
لقد منعت السلطات الظالمة يومذاك عددًا من المحامين العرب الذين تطوعوا من السودان والمغرب والأردن وغيرها للدفاع عن المتهمين.. منعتهم من دخول مصر والمرافعة أمام محكمة الثورة.. وفي الوقت الذي تعلن فيه قرارات مؤتمر المحامين العرب أنه يحق لأى محام عربي أن يترافع أمام محكمة عربية، ولم يجد مثل هذا القرار الجائر موقفًا منصفًا أو اعتراضًا كريمًا من محامىّ التقدمية والثورية في كل أجزاء الوطن العربي المنكوب
ولما لاحظ القائمون على أمر المحاكمة خارج المحكمة أن نشر وقائع الجلسة ولو مزورةً مشوهةً يُطلع الناس على جانب من الحقيقة ويبين لهم بعض الحق.. أمروا بمنع نشر وقائع الجلسات على الصحف.. وقد نسوا أنها جلسات علنية كما أعلنوا... واكتفوا بنشر خبر لا يتعدى أربعة أسطر يشير إلى أن محاكمة المتهمين ما زالت جارية... وأن الأحكام ستصدر قريبًا.
ولو قُدِّر للجمهور المُبعد عن قاعة المحكمة أن ينفذ إليها، وأن يحتل مقاعدها لوجد كثيرًا من مواقف الجرأة التي يعلنها الشباب المؤمنون والسجناء الأبرياء بأنهم أصحاب عقيدة.. وأنهم يعملون لخلاص ديارهم من كل طاغوت، وإنقاذها من كل تبعية ..
ولقد وقف الداعية الشهيد سيد قطب يسخر من المحكمة التي أمر قاضيها وطلب إليه أن يذكر الحقيقة كما يريدها لا كما وقعت، فقال وقد كشف عن صدره وظهره الممزق بالسياط وأنياب الكلاب البوليسية الثورية: أتريدون الحقيقة... هذه هي الحقيقة !
فضجت القاعة بالاشمئزاز وأشاح الجمهور بوجهه؛ ألمًا وازدراءً لما يقع في سجون مصر الثورة.. رغم أن معظم جمهور القاعة من زبانية الثورة وزبائن المخابرات، كان الناس يتتبعون بلهفة ما يجري في محكمة الثورة.. وكانوا على علم من مجريات الحوادث وسرد الوقائع ولهجة القاضي والنيابة والدفاع.. بأن الموت ينتظر فريقًا من الأبرياء، الذين نذروا أنفسهم في سبيل الله، وإنقاذ مصر من هلاك محقق".
***
ولقد أبدى الشيخ يوسف القرضاوي امتعاضه من قيام اللواء فؤاد الدجوي، بمحاكمة سيد قطب، فإن من العجب حقا أن يحاكم رجل عسكري ـ مهما يكن خبرته ومعرفته ـ رجلا في حجم سيد قطب الأديب الناقد العالم المفكر.
***
لشد ما يمزق قلبي أن هذا الصعلوك الأسير الجاهل الجبان كان هو القاضي الذي يحاكم الشهيد..
كانت كلاب النار تطارد الشهداء..
وجمال عبد الناصر ـ كما يقول الشيخ القرضاوي ـ هو الرئيس المسئول دستوريا وقانونيا عما تفعله حكومته، وهو الذي صدق على حكم إعدام سيد قطب، وهو الذي رفض أي شفاعة فيه، وأصم أذنيه عن استغاثات العرب والمسلمين.
***
كتاب أمن الدولة الذين تمنحهم السلطة المكانة والمنابر والثروة وتلبسهم الأمة ثوب الخزي والعار يتسارعون كحيوانات مسعورة لنهش لحم الشهداء، فيدعي الواحد منهم أن هناك تناقضا بين أقوال هذا وذاك من الإخوان المسلمين، ثم يبنون تحليلهم للأحداث على هذا التناقض. ومن ناحية هم يعرفون الحقائق أكثر مما نعرفها.. فمثقف أمن الدولة ليس إلا خادما لضابط أمن الدولة .. وهم يعرفون ما حدث فعلا وليس ما يطلب منهم أن يروجوه. يعرفون حجم التعذيب وجحيمه.. ويعرفون كيف انتزعت الاعترافات.. ويعلمون كيف ابتسرت الأقوال.. وكيف شوهت.. وكيف نسبت إلى المجاهدين أقوال لم يقولوها.. و أفعال لم يقترفوها.. ولقد كان الكثيرون من كتاب أمن الدولة ضحايا لجهاز الأمن الباطش الجبار، ولكن تعذيبهم كان مجرد ترويض وتدريب على الطاعة. تماما كما تدرب وتروض كلاب الصيد الشرسة.
وهنا نقول أنه من الطبيعي أن تتناقض الأقوال، و أن تتعدد الروايات، ووظيفة المؤرخ الحقيقية أن يصطاد الحقيقة من بين النفايات، لا أن يترك الحقيقة أني وجدها ويقتات على النفايات فقط، كالخنازير، وهو الأمر الذي نلحظه في معظم كتابات العلمانيين عن الإخوان المسلمين.
من الطبيعي أن تتعدد الروايات، و أن تتناقض على سبيل المثال رواية المجاهدة زينب الغزالي مع رواية الأستاذ فريد عبد الخالق عن تنظيم 1965. ومن الطبيعي أن يختلف شكل ومضمون الحديث من المستشار الهضيبي إلى أي منهما، و أن يقول لأحدهما ما يخفيه عن الآخر، والعكس صحيح، وذلك ليس مبررا فقط، بل هو مطلوب، خاصة في ذلك الإطار المروع الرهيب الذي كانت الأحداث تدور في إطاره.. بل إن الشهيد سيد قطب نفسه يقول ذلك صراحة في :"لماذا أعدموني" حين يقول أنه حاول أن يحمي الشباب خلفه بعدم رواية الأحداث كاملة، إلا أنه وبعد أن اعترف الجميع وجاوزت الاتهامات ما حدث يعيد سرد أقواله بالتفصيل. فهل كان المطلوب من الشهيد أن يعترف على أبنائه وتلاميذه؟.. وهل من حق كاتب من كتاب أمن الدولة أن يصيح ويعوي كلما وجد ما يدعي أنه تناقض.
بل إن الشهيد في يومه الأخير يكاد يصرح أن هناك ما أخفاه.. ففي لقائه الأخير بشقيقته حميدة قبل الإعدام بساعات حملها رسالة للمرشد الهضيبي قائلا : «إن رأيت الوالد المرشد فبلغيه عني السلام وقولي له: «لقد تحمل سيد أقصى ما يحتمله بشر حتى لا تمس بأدنى سوء».
فهل في ذلك أي سوء يا كتاب السوءات والسوء؟!.
***
ويصف الصحافي محمد رجب الساعات الأخيرة للشهيد قائلا: (مالم تنشره الصحف- ط2-مطابع مؤسسة أخبار اليوم):
قررت الدولة أن ينفذ الحكم سرا كيلا تثير المشاعر الإنسانية في الشارع المصري والعربي على حد سواء(...) والسبب الأهم ..وضع بعض رؤساء الدول الذين يتدخلون بين ساعة وأخرى لمنع تنفيذ هذا الحكم بأي ثمن .. أمام الأمر الواقع فلا يبقى أمامهم سوى الدعاء بالرحمة على الفقيد بعد إعدامه .. وصدرت الأوامر حاسمة وقاطعة إلى كل وسائل الإعلام بعدم إبراز أخبار هذا الحكم .. بل كان بعض الصحفيين لا يعرفون أن الحكم قد نفذ إلا بعد إتمام الإعدام بساعات طوال .. ثم يورد محمد رجب واقعة غريبة.. وهي أن صحافيا واحدا فقط من أكبر الصحافيين سمح له بحضور الإعدام بشرط أن يخرج لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم.. ويخشى محمد رجب من اللبس فيؤكد أن هذا الصحافي لم يكن مصطفي أمين فقد كان في السجن قبلها بأسابيع وليس على أمين فقد كان هاربا في لندن..
فهل كنت أنت هذا الصحافي يا محمد حسنين هيكل..
هل كنت أنت..
هل كنت أنت..
وهل كنت تحمل للشهيد ما كانت الشيوعية فاطمة المحجوب تحمله من حقد لا يرتوي أبدا على الإسلام و أهله؟!..
نعم..
كل أعداء الله من شيوعيين ويساريين وقوميين وصليبيين ويهود ومشركين كانوا يحملون للشهيد نفس الإحساس.
كانت فاطمة المحجوب عضوا في مجلس الشعب السوداني..
وقد اجتمع المجلس ليرسل وفدا رفيع المستوى بصورة عاجلة إلى عبد الناصر لرجائه إرجاء تنفيذ حكم الإعدام.. وتمت الموافقة بالإجماع ما عدا النائبة الشيوعية "فاطمة المحجوب" التي صاحت وناحت وصرخت بأعلى صوتها.. "هذا الرأس المجرم يجب أن يحطم"، وهذا الرأس المدبر يجب أن يعلق على أعواد المشانق"، وتم سفر الوفد بأقصى سرعة.. ولكن عبد الناصر تقاعس عن مقابلة الوفد.. حتى استقبله بعد تنفيذ حكم الإعدام.. مبدياً أسفه أن الوفد جاء متأخراً.
ومرت الأيام.. وقام جعفر نميري بحركة 25 مايو 1969م، وكان من أهم المشاركين معه في هذا الانقلاب الرائد هاشم محمد العطا، زوج فاطمة المحجوب النائبة الشيوعية السالفة الذكر..
وسرعان ما شغل هاشم العطا منصباً مهماً في الوضع الجديد، لكنه سرعان ما لجأ – كعادة الشيوعيين دائما- إلى التآمر من الداخل، حيث دبَّر انقلاباً على نميري... ولم يعش الانقلاب سوى 72 ساعة.. وصدرت الأحكام المشددة بإعدام الانقلابيين، اجتمع مجلس الشعب المصري وقرر إرسال وفد عاجل إلى السودان لرجاء الرئيس نميري تأجيل حكم الإعدام وإعادة النظر فيه.. وذهب الوفد الشيوعي المصري.. ولكن الأقدار أعادت فتح الصفحة نفسها حيث تقاعس الرئيس نميري عن استقبال الوفد.. بنفس طريقة عبد الناصر، مع وفد الرجاء في الشهيد سيد قطب.. ولم يستقبل نميري الوفد إلا بعد إنفاذ حكم الإعدام في الشيوعي الرائد هاشم محمد العطا، زوج النائبة الشيوعية فاطمة المحجوب!!.
سبحان الله..
***
هل كنت تحمل ذات الشعور للشهيد يا محمد حسنين هيكل؟
أثناء كتابة هذا المقال كان هيكل على قناة الجزيرة وكان يتحدث عن الملك سعود وعبد الناصر.. وموقف هيكل من آل سعود مشهور.. وهو موقف يراد بكلمات الحق فيه باطل.. وعلى الرغم من كثرة اندهاشات هيكل فإن شيئا لم يدهشه في مواقف الملك سعود قدر اندهاشه لأنه أبدى اعتراضه على تأييد عبد الناصر لليونان المسيحية ولمكاريوس القبرصي ضد تركيا المسلمة..
لم يورد هيكل سببا للدهشة.. ولا مبررا للانحياز.. ولا تبريرا لموالاة الكفار.. فقط اندهش.. وكأنما يولد العلماني على عداء الإسلام أينما كان وحيثما كان إلا أن تتداركه رحمة الله فتهديه.
نعم..
موقف هيكل ضد الإسلام فطري وبديهي من المسلمات.. والمسلمات والبديهيات لا تحتاج إلى دليل.
يكفي أن يندهش لنندهش معه..!!
ثم أنه لو أورد الدليل لشككنا في أمره..
و إنه من الذكاء بحيث لا تكتشف أكاذيبه بسهولة.. تساعده على ذلك ذاكرة حديدية.. لكن الأمر يفلت منه أحيانا ليعترف.. مثلما حدث وهو يتحدث مزهوا كيف أنه أصر على أن يغير السادات خطابه في 15 مايو 1971.. كان السادات يريد مهاجمة من أسماهم مراكز القوي لأنهم حاولوا منعه من التفاوض مع وزير الخارجية الأمريكية آنذاك وليم روجرز.. لكن هيكل يواجهه في حسم و إصرار.. فيذكره بأن الشعب لا تهمه مفاوضاته مع روجرز لكن تهمه الديموقراطية.. وظل يلح على السادات حتى اقتنع أخيرا أن يتكلم عن الديموقراطية و ألا يذكر موضوع روجرز على الإطلاق..
وهذه الواقعة بمثابة المفتاح لشخصية هيكل ومنهجه..
ومن خلالها نستطيع فهم موقفه من التاريخ ومن الصدق ومن الحق ومن اصطناع الواقع وتلوين الأحداث بما يشاء.. كما نفهم موقفه من الإخوان المسلمين عموما ومن الشهيد على سبيل الخصوص.
***
نعود إلى الصحافي محمد رجب:
أمام حجرة الإعدام كانت اللحظات الأخيرة ..
نودي على المتهم .. الاسم سيد قطب إبراهيم .. العمر 60 عاما .. المهنة : أستاذ سابق وعالم من خيرة علماء المسلمين .. التهمة : محاولة قلب نظام الحكم ..
الرجل المحكوم بإعدامه يبدو أشجع ممن حوله وكأن الموت يفر منه رعبا بينما هو مقبل عليه .. كانت المرة الأولى و ربما أيضا الأخيرة .. التي شوهد فيها عشماوي كرجل له قلب .. انه لا يمارس مهنته كما اعتاد .. إنه الآن مكره على تنفيذها .. أول مرة يتصادف فيها أن يقوم عشماوي بإعدام شخص يعرفه .. بل ويعرفه عن قرب .. دون أن يلتقي به من قبل .. كان يسمع عنه من أقاربه ومعارفه وأصدقائه .. يحفظ شكله دون أن يراه» .. يعرف أسماء كتبه وكأنه قد وقع له بإهداء خاص .. شيء صعب، بل ومرير، أن تقتل رجلا تحترمه بيدك .. أصعب منه أن ينظر إليك مبتسما وأنت تلف حبل المشنقة حول عنقه .. كما كانت نظرات سيد قطب إلى عشماوي لحظة الإعدام ..
يستطرد محمد رجب قائلا:
طلب الواعظ من سيد قطب أن يتلو الشهادتين .. ولكن سيد قطب يبتسم في بشاشة وهو يربت على كتف الواعظ قائلا :
_ وهل ترى أنى جئت إلى هنا .. إلا من اجل تلك الكلمات ؟
ويكاد الواعظ أن يخر مصعوقا أمام العالم الأكبر والداعية الإسلامي الأشهر .. بهت لون الواعظ .. اصفر وجهه.. تحشرج .. تاهت كل الكلمات فوق لسانه .. امتلأت ملامحه وصوته بالخجل .. تضاءل أمام نفسه فجأة .. ولم ينقذه سوى نظرات حانية عطوف من عين الشيخ العالم .. وابتسامة رضا حاول بها أن يخفف من آلام ومتاعب رده على واعظ الأوقاف قليل الحيلة والعلم .. أمام علوم سيد قطب
أما ممثل النيابة يختتم حديثه هو الآخر بجملة تقليدية :
- نفسك في حاجة ؟
لكن الشيخ العالم لم يطلب شيئا .. لا شيء في تلك اللحظة يعادل حلاوة اللقاء مع الخالق .. لذلك كان سيد قطب حريصا على أن يلبى النداء أن لم يكن قبل موعده بلحظة .. ففي لحظة موعده بالضبط .. كل هذه الإجراءات كانت تضايقه .. لأنها تؤخره عن موعد الحب الأكبر .. واللقاء العظيم بملك الملوك ..
وتقدم سيد قطب نحو المكان الذي سينتهي فيه أجله الدنيوي، كان يعرف أن الحجرة التي يدخلها باسقا الآن .. هي أخرما تشاهده عينه .. وفيها ستصعد روحه إلى السماء .. ليخرج بعدها من نفس الحجرة جثة لا نبض فيها ..
لكنه كان واثق الخطى .. رابط الجأش .. قوى الأعصاب .. في قمة تركيزه واتزانه .. كان منشغلا بالشهادتين همسا و كان قد انتقل إلى عالم..
لم تكن مصر تشعر بشيء ..
الصحف الصادرة صباح هذا اليوم لم تقترب خطوة من سجلات وصحف التاريخ «الحقيقي» لمصر .. بينما خبر إعدام سيد قطب بكل ثقله التاريخي تتجاهله الصحف ..
جريدة الأخبار صباح 26 أغسطس 1666 .. وجعلت خبر إعدام سيد ~ على الصفحة السادسة عل مساحة عمود في يسار الصفحة .. في مكان غير ظاهر بالمرة .. وكتبت الخبر في أربعة اسطر.. قالت في عنوان الخبر :
تنفيذ حكم الإعدام
.. ثم فصلت العنوان المبهم مكتفية بثلاثة اسطر :
"نفذ فجر اليوم حكم الإعدام في كل من سيد قطب إبراهيم ومحمد يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل " ..
لم يكن هذا هو حال جريدة الأخبار وحدها ..
بل ربما كانت جريدة الأخبار أفضل حالا من باقي الصحف الصادرة نفس هذا اليوم .. ولم يكن هذا التحامل الغريب من وضع وسائل الإعلام .. لكن القيادة السياسية أمرت بألا يكون للإعلاميين أي حق في مناقشته ..
ولم يكن سيد قطب نفسه حريصا على أن يشعر أحد بإعدامه لإيمانه المطلق في أن حياته ومماته بيد ملك واحد يراقب الأحداث من فوق سبع سماوات كن سيد قطب حريصا على شيء واحد هو عظمة اللقاء الذي يؤمن إيمانا ..راسخا أنه لقاء القمة لأن قمة اللقاء مع ملك الملوك لا تكون إلا إذا كان الضيف القادم من الأرض من الأنبياء أو الرسل أو الشهداء أو الأولياء الصالحين
واقتربت لحظة الإعدام
وقبل أن يرتدى سيد قطب طاقية الإعدام همس بكلمات سريعة .. أشبه بالدعاء .. وقد سأل الصحفي الكبير الوحيد الذي سمح له بحضور الإعدام عشماوي وألح عليه أن يعرف ماذا قال سيد قطب في تلك اللحظة الأخيرة من عمره .. وكانت آخر سبع كلمات سمعها الداعية الإسلامي :
اللهم اجعل دمى لعنة في عنق عبدا لناصر..
ولكن الصحافي الكبير لم يستطع أن ينشر كلمة واحدة من الكلمات السبع .. وان كان يردد دائما حتى الآن .. انه لم يعش في حياته أبشع من مشهدين .. إعدام سيد قطب وجثمان السادات في مشرحة المعادى
رفض الشهيد أن يستنقذ حياته بالاعتذار إلى قاتله.. ورفض مع سيد قطب أيضا اثنان من إخوانه .. تم إعدامهما بعد إعدام سيد قطب بخمس دقائق .. هما محمد يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل . رفض الثلاثة أن يستذلوا أنفسهم من اجل حياة هم على يقين من أنها لا تعادل جناح بعوضة عند خالقها سبحانه وتعالى .. كانوا يعرفون أن المحكمة التي حاكمتهم برئاسة الدجوي كانت اظلم ألمحاكم في التاريخ ..
وكانت أحكامها على كل لسان قبل النطق بها ..
لقد خشيت الدولة من إحالة قضية سيد قطب و إخوانه إلى القضاء العادي .. لأنه ربما اظهر حقيقة وبراءة هؤلاء وتقضي بعقاب من قدموهم إلى المحاكمة وسط مظاهرة من الأدلة الكاذبة ..
ويواصل محمد رجب..
ظنت القيادة السياسية أنها أعدمت المد الإسلامي.. وخنقت فكر الإخوان .. وشنقت عقلهم المفكر .. الشيء الوحيد المؤكد .. هو أن الذي اعدم وخنق وشنق هو جسد سيد قطب، وليس المد الإسلامي أو فكر الإخوان وعقلهم المفكر .. الحاكم الديكتاتور يمكنها تعذيب الأجساد وإعدامها أينما وحيثما شاء .. لكنه يعجز عن مقاومة « الفكر » .. العقيدة تتغلب دائما .. تصبح أقوى من بطش الحاكم الديكتاتور .. وقد تصيبه بالجنون وحرق الدم أو تعجل بنهايته دون أن تموت من بطشه أو تحرقها ناره ..
***
لكن محمد رجب يواصل بعد ذلك بما أجد في نفسي حرجا منه..
لقد قبلت روايته السابقة على أنها – ككل رواية - تحتمل الصواب والخطأ..
ولقد مالت نفسي إلى عدم تصديق أن سيد قطب دعا على عبد الناصر في كلماته الأخيرة..
ذلك أنني أضع نفسي مكان الشهيد ( وكلما وضعت نفسي مكانه لا أتمالك دموعي خوفا وخجلا ورعبا.. لأنني و أنا واحد من عامة الناس أجلس على عرش ملك و أتقمص شخصه).. أضع نفسي مكانه فلا أذكر عبد الناصر أبدا..
أتذكر شجاعة صدام حسين ساعة إعدامه..( ولا تثريب في التشبيه رغم الفارق)..
أضرب هذه الشجاعة والثبات في مليون أو مليار لتكون النتيجة هي شجاعة وثبات سيد قطب..
أكاد أقسم أنه لم يتذكر عبد الناصر في هذه اللحظات أبدا..
كان عاليا.. عاليا جدا..
وكان عبد الناصر كأسفل ما يكون..
كان الشهيد ساعتها يرى الله بقلبه فكيف ينشغل عقله بسواه..
كيف لمن يرى الضوء الباهر الساطع الصاعق أن يرى الدخان الأسود المتصاعد من ذبالة..
إنني واثق أنه كان مشغولا بذكر الله وبحضرته عن أي شيء آخر..
بل إنني واثق أنه لو تذكر عبد الناصر في تلك اللحظة لما تجاوزت مشاعره نحوه العطف والازدراء والخوف على الأمة من الهاوية التي يدفعها إليها.. لكن دون أي غضب أو ضغينة..
***
لكن محمد رجب لا يكتفي بهذا بل يتجاوز إلى ما أبادر برفض تفسيره له ( وفرق بين رفض التفسير ورفض الرواية) ليتحدث عن الظواهر غير العادية التي حدثت يوم الإعدام .. ويتساءل:
هل كانت السماء غاضبة إلى هذا الحد ؟
ثم يواصل:
لم تمض سريعات قليلة على تنفيذ حكم الإعدام في الشهداء الثلاثة حتى كانت السماء ترد بعنف بالغ .. وتضيء النور الأحمر في مظاهرة احتجاج مثيرة .. هطلت الأمطار والثلوج في عز الصيف .. بينما كان الجو جحيما لا يطاق منذ اليوم الأول في أغسطس وحتى لحظة إعدام سيد قطب .. فجأة تكهرب الجو .. .. تناثرت قطع الثلج من السماء وكأنها تقذفها علينا .. وترجمنا بها .. دفاعا عن سيد قطب وحبا لإيمانه وثقته وبراءته ..
***
والحقيقة أنني أرفض التفسير فهاهو ذا سيدنا ومولانا صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته..
ثم يواصل الكاتب ما أوافقه فيه فيقول:
ولم تمض أسابيع على إعدام سيد قطب ورجالات الإخوان المسلمين حتى بدأ مرض عبد الناصر الخطير و لتبدأ الأزمات تحل بمصر واحدة تلو الأخرى وبعد تسعة شهور من إعدام سيد قطب كانت نكسة 1967 المريرة فحاشا الله أن ينصر قاتل سيد قطب ولم يكد عبد الناصر يفيق من العار السياسي الكبير حتى كانت أزمته الكبرى مع صديق عمره عبد الحكيم عامر وتبادلهما الاتهامات بالخيانة حتى مات الصديق مقتولا أو منتحرا .. وبقى عبد الناصر وحيدا أمام كل هده النكبات . إلا أن وحدته لم تدم طويلا .. أسلم الروح بعد ثلاث سنوات من إعدام سيد قطب .. عانى فيها آلام المرض وعار الهزيمة .. لم يذق فيها طعم السعادة أو الرضا يوما واحدا..
مات عبد الناصر ولم يمت سيد قطب..
مازالت كتبه تملأ المكتبات بينما اختفت صور عبد الناصر ومسحت خطبه.. بل إن الذين هللوا لإعدام سيد قطب هم أنفسهم الآن الذين يقولون في عبدا لناصر أبشع مما قال مالك في الخمر .
***
هي النهاية التي حاولت أن أؤجلها قدر ما أستطيع لكنها حانت يا حبيبي..
هي النهاية أيها السيد.. أيها القطب..
لكنني الآن أفهم..
أنني أودعك لأموت أنا..
ولتبقي أنت حيا عند الله إلى أن يشاء الله..
تبقي حيا لا تذكر من عذابك في الدنيا شيئا..
تبقى حيا مأجورا إن شاء الله بكل طلقة تطلق في سبيل الله يطلقها غرسك..
تبقى حيا وروحك في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش , فاطلع عليك ربك إطلاعة . فقال:ماذا تبغي ? فتقول:يا ربي .. وأي شيء أبغي وقد أعطيتني ما لم تعط أحدا من خلقك ? ثم عاد عليك بمثل هذا . فلما رأيت أنك لا تترك من أن تسأل قلت:أريد أن تردني إلى الدار الدنيا فأقاتل في سبيلك حتى أقتل فيك مرة أخرى - لما ترى من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله:إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون " . .
فاهنأ يا حبيبنا بالشهادة..
وعش قرير العين..
لا يحزنك الفزع الأكبر..
تعليقات
إرسال تعليق