الدكتور محمد عباس ينعي والدته
الدكتور محمد عباس ينعي والدته ويكتب
: صبيحة الأربعاء ماتت أمي..
تقول شهادة ميلادها أنها كانت في الثانية والتسعين..
بالنسبة لي.. كانت في الثانية والعشرين......
منذ ستة وعشرين عاما كان أبي رحمه الله مريضا واصطحبته إلى الدكتور على مؤنس.
بعد أن فحصه همست له:
- How is he?
فأجابني إجابة لا أنسى وقعها الصاعق:
كان يريد أن يقول أنه عاش بما فيه الكفاية
كانت إجابته قذيفة خارقة حارقة أصابت أعمق أعماق روحي..
وددت أن أصرخ فيه: إنه أبي.. أبي وكفى.. ليس للأب ولا للأم عمر.. إنهما خارج نطاق الزمن .. لا يشيخان أبدا.. ولا يهرمان أبدا..
***
مازلت أذكر مفاجأتي من قصيدة شعرية للشاعر "أبو القاسم الشابي مطلعها:
ما كنت أحسب بعد موتك يا أبي ... أن الحياة جميلة وتطاق
(وللقصيدة روايات أخرى) ..
لم أصدق الشاعر أن الحياة بعد موت أحد الأبوين يمكن أن تكون جميلة وتطاق..
فيما بعد.. عندما عشت في كبد.. وهرمت في كمد.. أدركت أن الحياة كانت ابتلاء هائلا.. وأنها لم تكن أبدا جميلة وتطاق.. لا قبل موت الأبوين ولا بعدها.
***
في مقالات سابقة حدثتكم بإيجاز شديد عن علاقتي بأبي رحمه الله..
لم أتحدث عن أمي رحمها الله إلا عن دورها في قضية " وليمة لأعشاب البحر".. وهو موقف أذكره لكم داعيا الله أن يجعله في ميزان حسناتها يوم القيامة.
***
أتذكر في دهشة أن أمي لم ترني أبكي قط.. أنا صلب جدا أمام الناس.. لكنني بكّاء عندما أقرأ أو أكتب.
***
أمي.. عاشت عمرها كله عابدة صوامة قوامة.. حتى عندما فقدت القدرة على النطق السليم كانت ترتل السور الطويلة دون أن تخطئ في حرف واحد. فإذا تعمد أحد الأقارب الخطأ أمامها في آية كي يختبر تركيزها كانت ترده وتنهره في غضب.
كانت كتلة من الحنان والقلق المشبوب عليّ.
كانت تخاف عليّ من النسيم.
ويا للكارثة لو أصابتني نزلة برد أو سعال.
ويا للهول لو تأخرت عن موعدي ساعة..
كانت تتصور على الفور موتي..
***
عام 1970 كنت قد أعددت للمعادلة البريطانية للسفر إلى بريطانيا للحصول على الزمالة.. فقد كان ذلك حلم جيلي كله..
لم يخطر ببالي أنها سترفض..
عندما طرحت عليها الأمر قالت كلمة واحدة: "لا"
لم أسألها لماذا ..
لقد تصرفت فيما تملك..
لا أقول هذا تدليلا على طاعتي لكن لأبين لكم وجه الصراع الذي سأطرحه أمامكم على الفور
***
عام 2000 كنت قد كتبت في صحيفة الشعب خمسين مقالا متوالية بعنوان: "الوعي ينزف من ثقوب الذاكرة".
كنت أكتشف وأكشف المؤامرة الهائلة على الإسلام .. منذ حملة نابليون على الأقل عندما أتي زرع القرون السابقة أكله وبدأت ثماره المرة بمحمد على ..
آخر ثماره السيسي..
كان الهدف هو تدمير الإسلام..ولتدمير الإسلام كان لابد من تدمير الهوية.. ولتدميرهما معا كان لابد من تدمير الإنسان نفسه.
في الغرب يستطيع الناس أن يعيشوا دون دينهم.. بل إن حياتهم تكون أفضل دون دينهم.. لأن دينهم ليس دينا.. أما نحن.. فإننا نخسر الدنيا والآخرة عندما نعيش دون دين.
***
فاجأتني رواية "وليمة لأعشاب البحر."
كان السباب فيها للقرآن الكريم وللرسول صلى الله عليه وسلم سافلا فاجرا كافرا..
كنت قد قرأت قبل ذلك بأربعين عاما على الأقل سبابا مروعا على لسان المستشرقين..
وبرغم ذلك كنت مندهشا أن يكون المستشرقون على هذه الدرجة من البذاءة والكذب.. لكنني كنت مذهولا كيف لم تهبط عليهم صاعقة من السماء..
فيما بعد ازداد فهمي للسنن الإلهية..
لكنني في خضم "الوعي ينزف من ثقوب الذاكرة" أدركت أن المؤامرة وصلت إلى نخاعنا.. والأمر لم يعد يقتصر على المستشرقين .. بل إن كاتب الرواية الكافرة فاجر يزعم أنه مسلم وناشره وزير ثقافة يزعم أنه مسلم.. وطابعه رئيس حزب يزعم أنه مسلم (الطابع الحقيقي من الباطن: وتلك قصة فساد مروعة)
العينان الجدباوتان الضنينتان بالدمع استسلمتا لطوفان لا يريد أن ينقطع.. ظللت كلما خلوت بنفسي أبكي..
هانت عليّ الدنيا عندما هان عليهم القرآن..
هانت عليّ الدنيا عندما هان القرآن على ولاة أمورنا..
هانت عليّ الدنيا عندما هان القرآن على شيوخ أزهرنا..
هانت عليّ الدنيا عندما هان القرآن على رئيسنا..
هانت عليّ الدنيا عندما هان القرآن على نخبنا القذرة..
هانت عليّ الدنيا عندما هان القرآن على صحافتنا..
هانت عليّ الدنيا عندما هان القرآن على فضائياتنا..
هانت عليّ الدنيا ..
***
فكرت أن أذهب للأزهر يوم جمعة مرتديا كفني صارخا : "من يبايعني على الموت" ثم أصحب من يبايعني لنحيط بقصور الرئاسة فلا ننصرف إلا بعد رد الكيد عن ديننا. فكرت في أشياء أخرى كثيرة. لكن استقر رأيي في النهاية على أن أكتب مقالا بعنوان: "من يبايعني على الموت"
جلست طول الليل أكتب.. أثناء كتابته بكيت كما لم أبك قط.. شعرت بآلام شديدة في جسدي وآلام في الزمن وآلام في التاريخ وآلام في كتبي وآلام في صدري.. ظننت أنني سأصاب بجلطة في القلب وأموت على الفور.. ملأني الخوف .. ليس من الموت الذي لم أجزع منه أبدا.. فأنا دائم الشوق لربي.. لكنني كنت خائفا أن أموت قبل أن أكمل المقال فألقى الله يوم القيامة ولم أدافع عن قرآنه وألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن أموت دفاعا عنه.
في النهاية أكملت المقال..
لم يبق إلا أن أرسله للصحيفة – وتلك تفاصيل أخرى يستطيع من يرغب أن يقرأها في سلسلة مقالات :" من يبايعني على الموت" التي أعدت نشرها مؤخرا..
لكنني اكتشفت مذهولا ومضطربا أنه توجد خطوة أخرى لا بد أن أتخذها قبل إرسال المقال..
أن أستأذن أمي ..
أستأذنها في دخول معركة ستنتهي في الأغلب الأعم باستشهادي..
كنت أدرك خطورة ما أنا مقدم عليه وأنني أصوب مقالي إلى أساس بنيان يدعمونه منذ ثلاثة قرون..
وأنني أقف وحدي لا أجد لي ناصرا إلا الله أواجه جحافل جيوش الصليبية والصهيونية والكفر والطواغيت .. (فوجئت حتى الذهول بالدعم الهائل من الأستاذ عادل حسين عليه رحمة الله)
وكنت أدرك أن رد الفعل سيكون عاصفا.. وأنني سأعتقل في اليوم الأول.. وأنني سأستشهد في نفس اليوم..
كنت أتذكر الحديث النبوي الشريف: "فيهما فجاهد".. وهو حديث صحيح ورد في صحيح البخاري .. (على عكس الحديث الآخر: قد ماتت التي كنا نكرمك من أجلها.. فلم أجد له أصلا)
كان لابد من استئذان أمي إذن..
***
ذهبت إلى أمي..
وواجهتني المشكلة الكبرى لأول مرة في حياتي.. أنني أقاوم رغبة هائلة في أن أجهش أمامها في البكاء..
ولم تكن تلك الرغبة امتدادا لبكاء طول الليل.. كانت لسبب آخر.. كنت خائفا حتى الموت ألا تأذن لي في نشر المقال خوفا عليّ.. وكنت سأقع في صراع عنيف جدا بين صوابين.
قلت لكم مرات أن الصراع الحقيقي لا يكون بين صواب وخطأ.. حين يكون الأمر محسوما لأيهما تنحاز..
الصراع الحقيقي هو ما يكون بين صواب وصواب..
كنت مرعوبا من أن لا توافق..
وكنت أسأل نفسي:
- هل أطيعها إن لم توافق؟ أم أنتصر لديني حتى لو لم توافق؟ هل هذا هو جهاد الدفع الذي لا يستلزم أن أستأذنها؟ وهل بهذا أطيع سيدي وحبيبي ومولاي الذي أمرني: "فيهما فجاهد"؟ وهل إذا عصيتها ونشرت المقال يكون ذلك انتصارا لديني أم لهوى نفسي.. وهل إذا استجبت لها ولم أنشر المقال يكون ذلك طاعة خالصة لله ورسوله أم يكون الشيطان يدلس عليّ كي أنجو من الموت.
كان الصراع رهيبا ومروعا. كان الجمر في يدي. يتركها ويسري في دمي.. محتفظا بوهجه ولهيبه.. فيصبح القلب مليئا بجمرات النار.. بل تصبح كل خلية من خلاياي تتأجج فوق جمرة.
***
المشكلة الأخرى أنني كنت عاجزا عن استعمال أداتي الأساسية في إقناعها:
الكلام....!!!
كنت أدرك أنني لو تكلمت فسوف أجهش بالبكاء..
حاولت أن أتحكم في نفسي وأن ألخص لها الأمر في أقل قدر من الكلمات:
- أمي.. أستأذنك في كتابة مقال قد يترتب عليه استشهادي
هتفت مرتاعة ملتاعة:
- لا.. لماذا يا ولدي.. انتظر حتى أموت.. لا تبتليني فيك يا ولدي.. لقد كان أبوك يعرف أن الطريق الذي تسير فيه سينتهي باعتقالك وما هو أكثر وكان يدعو الله أن يسبق أجله ابتلاءه فيك.. وقد استجاب الله له.. وأنا أدعو بذلك لنفسي ايضا.
في ألفاظ متقطعة متلجلجة قلت لها:
- إنهم يسبون القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم
نظرت إلىّ في ذعر لا حد له..تساءلت :
- معقول..؟ أوصل الأمر إلى هذا الحد؟.. كيف..
صمت ّ طويلا كي أستجمع نفسي وأمنع طوفان البكاء
وأخيرا نطقت الكلمة بعد أن استجمعت آخر ذبالة للتحكم في نفسي:
- أمي: يقولون عن القرآن أنه .. أنه.. خراء
أطبقت على شفتيّ بعزم من حديد كي أمنع صرخة كانت تريد أن تتردد في جنبات الكون..
رحت أنظر إليها كما لو كانت ستحكم عليّ يالبراءة أو الإعدام.
لست أنسى أبدا تلك النظرة الصارمة التي تجمعت فيها نظرات أمهات الشهداء جميعا عبر التاريخ وهي تقول..
- انشر المقال يا ولدي.. وقد احتسبتك عند الله شهيدا..
***
وانقلبت مصر.. علينا لا لنا..
ووقف على أبو شادي المسئول عن نشر الكتاب يقول:
- لو منحونا عشرة أعوام أخرى لجعلنا تكرار هذا الكلام طبيعيا أمام الناس.
ها هو الانقلاب قد جاء يا علي على أمل أن يمنحك تلك السنوات العشر..
***
كانت أمي في ذلك الوقت في الثامنة والسبعين من عمرها..
والرقيقة الضعيفة تحول ضعفها إلى قوة جبارة وإلى صمود مذهل..
والتي كانت تنهار لاحتمال إصابتي بنزلة برد بدا أنها لن تأبه إن شقوها وشقوني بمنشار..
***
وفي الأيام التالية راح اليساريون والشيوعيون والناصريون والمواطنون الشرفاء يتصلون بها بالهاتف مهددين إياها طالبين منها أن تمنعني من مواصلة الكتابة..
وآلت هي على نفسها أن تحاول هدايتهم..فراحت تناقشهم..
لم تكن تدري أنهم أنجس وأكفر من الشيطان ذاته.
في الأيام التالية تحول الأمر إلى تهديد بحرقي وحرق أبنائي.. وهي مع كل تهديد تزداد صلابة..
وانتهى بهم الأمر إلى موشح من أقذر أنواع السباب كل ساعة أو ساعتين..
لم تكن أمي في حياتها قد سمعت أو عرفت هذه الألفاظ..
أبدا.. أبدا.. أبدا..
لكن.. لم يصبها أي انهيار.. كانت تزداد تحديا..
حاولت أن أمنعها من الرد بل أن أقطع الهاتف عنها لكنها أبت وأصرت على المواجهة.
لو تعلق الأمر بي ما اهتممت.. لكنه مع أمي كان ذوب رصاص منصهر..
في النهاية.. وفي مداخلة على فضائية طلبت من وزير الداخلية أن يراقب هاتف أمي وهاتفي من أجل السب والقذف والتهديد بالقتل.
وعلى الفور.. في نفس اللحظة انقطعت تلك المكالمات.. كما لو كانت تصدر من مكتب الوزير.
***
في الأسابيع التالية.. وحملة مسيلمة وجوبلز عليّ وعلى صحيفة الشعب التي نشرت المقال وحزب العمل صاحب الصحيفة كنت أتوقع الاعتقال كل يوم. وكان ما يرعبني حقا أن أمي قالت أنها لن تتركهم يعتقلوني إلا بعد أن تقاومهم حتى يقتلوها لتشاركني في الشهادة. وكنت أتوسل إليها ألا تفعل.
***
ربما أكون مدينا بحياتي لطلاب الأزهر الذين خرجوا في
مظاهرات صاخبة كبحت جماع الدولة ورغبتها في مزيد من التصعيد..
***
***
هذا موقف واحد من مواقف أمي التي عاشت حياتها كلها لله..
أدعو الله أن يجعله في ميزان حسناتها..
وأن يجعل قبرها روضة من رياض الجنة
***
حاشية: العزاء طبقا للسنة يقتصر أساسا على تشييع الجنازة.. لا بهرجة ولا نشر في الصحف ولا بدع.. وأرجو ممن يريد أداء الواجب أو المجاملة أن يدعو لها بالرحمة وأعتذر عن استقبال المعزين في هذا اليوم "الثالث" لانشغالي بشئون عائلية.
منذ ستة وعشرين عاما كان أبي رحمه الله مريضا واصطحبته إلى الدكتور على مؤنس.
بعد أن فحصه همست له:
- How is he?
فأجابني إجابة لا أنسى وقعها الصاعق:
? How old is he
وأجبته أنه في الثانية والسبعين..كان يريد أن يقول أنه عاش بما فيه الكفاية
كانت إجابته قذيفة خارقة حارقة أصابت أعمق أعماق روحي..
وددت أن أصرخ فيه: إنه أبي.. أبي وكفى.. ليس للأب ولا للأم عمر.. إنهما خارج نطاق الزمن .. لا يشيخان أبدا.. ولا يهرمان أبدا..
***
مازلت أذكر مفاجأتي من قصيدة شعرية للشاعر "أبو القاسم الشابي مطلعها:
ما كنت أحسب بعد موتك يا أبي ... أن الحياة جميلة وتطاق
(وللقصيدة روايات أخرى) ..
لم أصدق الشاعر أن الحياة بعد موت أحد الأبوين يمكن أن تكون جميلة وتطاق..
فيما بعد.. عندما عشت في كبد.. وهرمت في كمد.. أدركت أن الحياة كانت ابتلاء هائلا.. وأنها لم تكن أبدا جميلة وتطاق.. لا قبل موت الأبوين ولا بعدها.
***
في مقالات سابقة حدثتكم بإيجاز شديد عن علاقتي بأبي رحمه الله..
لم أتحدث عن أمي رحمها الله إلا عن دورها في قضية " وليمة لأعشاب البحر".. وهو موقف أذكره لكم داعيا الله أن يجعله في ميزان حسناتها يوم القيامة.
***
أتذكر في دهشة أن أمي لم ترني أبكي قط.. أنا صلب جدا أمام الناس.. لكنني بكّاء عندما أقرأ أو أكتب.
***
أمي.. عاشت عمرها كله عابدة صوامة قوامة.. حتى عندما فقدت القدرة على النطق السليم كانت ترتل السور الطويلة دون أن تخطئ في حرف واحد. فإذا تعمد أحد الأقارب الخطأ أمامها في آية كي يختبر تركيزها كانت ترده وتنهره في غضب.
كانت كتلة من الحنان والقلق المشبوب عليّ.
كانت تخاف عليّ من النسيم.
ويا للكارثة لو أصابتني نزلة برد أو سعال.
ويا للهول لو تأخرت عن موعدي ساعة..
كانت تتصور على الفور موتي..
***
عام 1970 كنت قد أعددت للمعادلة البريطانية للسفر إلى بريطانيا للحصول على الزمالة.. فقد كان ذلك حلم جيلي كله..
لم يخطر ببالي أنها سترفض..
عندما طرحت عليها الأمر قالت كلمة واحدة: "لا"
لم أسألها لماذا ..
لقد تصرفت فيما تملك..
لا أقول هذا تدليلا على طاعتي لكن لأبين لكم وجه الصراع الذي سأطرحه أمامكم على الفور
***
عام 2000 كنت قد كتبت في صحيفة الشعب خمسين مقالا متوالية بعنوان: "الوعي ينزف من ثقوب الذاكرة".
كنت أكتشف وأكشف المؤامرة الهائلة على الإسلام .. منذ حملة نابليون على الأقل عندما أتي زرع القرون السابقة أكله وبدأت ثماره المرة بمحمد على ..
آخر ثماره السيسي..
كان الهدف هو تدمير الإسلام..ولتدمير الإسلام كان لابد من تدمير الهوية.. ولتدميرهما معا كان لابد من تدمير الإنسان نفسه.
في الغرب يستطيع الناس أن يعيشوا دون دينهم.. بل إن حياتهم تكون أفضل دون دينهم.. لأن دينهم ليس دينا.. أما نحن.. فإننا نخسر الدنيا والآخرة عندما نعيش دون دين.
***
فاجأتني رواية "وليمة لأعشاب البحر."
كان السباب فيها للقرآن الكريم وللرسول صلى الله عليه وسلم سافلا فاجرا كافرا..
كنت قد قرأت قبل ذلك بأربعين عاما على الأقل سبابا مروعا على لسان المستشرقين..
وبرغم ذلك كنت مندهشا أن يكون المستشرقون على هذه الدرجة من البذاءة والكذب.. لكنني كنت مذهولا كيف لم تهبط عليهم صاعقة من السماء..
فيما بعد ازداد فهمي للسنن الإلهية..
لكنني في خضم "الوعي ينزف من ثقوب الذاكرة" أدركت أن المؤامرة وصلت إلى نخاعنا.. والأمر لم يعد يقتصر على المستشرقين .. بل إن كاتب الرواية الكافرة فاجر يزعم أنه مسلم وناشره وزير ثقافة يزعم أنه مسلم.. وطابعه رئيس حزب يزعم أنه مسلم (الطابع الحقيقي من الباطن: وتلك قصة فساد مروعة)
العينان الجدباوتان الضنينتان بالدمع استسلمتا لطوفان لا يريد أن ينقطع.. ظللت كلما خلوت بنفسي أبكي..
هانت عليّ الدنيا عندما هان عليهم القرآن..
هانت عليّ الدنيا عندما هان القرآن على ولاة أمورنا..
هانت عليّ الدنيا عندما هان القرآن على شيوخ أزهرنا..
هانت عليّ الدنيا عندما هان القرآن على رئيسنا..
هانت عليّ الدنيا عندما هان القرآن على نخبنا القذرة..
هانت عليّ الدنيا عندما هان القرآن على صحافتنا..
هانت عليّ الدنيا عندما هان القرآن على فضائياتنا..
هانت عليّ الدنيا ..
***
فكرت أن أذهب للأزهر يوم جمعة مرتديا كفني صارخا : "من يبايعني على الموت" ثم أصحب من يبايعني لنحيط بقصور الرئاسة فلا ننصرف إلا بعد رد الكيد عن ديننا. فكرت في أشياء أخرى كثيرة. لكن استقر رأيي في النهاية على أن أكتب مقالا بعنوان: "من يبايعني على الموت"
جلست طول الليل أكتب.. أثناء كتابته بكيت كما لم أبك قط.. شعرت بآلام شديدة في جسدي وآلام في الزمن وآلام في التاريخ وآلام في كتبي وآلام في صدري.. ظننت أنني سأصاب بجلطة في القلب وأموت على الفور.. ملأني الخوف .. ليس من الموت الذي لم أجزع منه أبدا.. فأنا دائم الشوق لربي.. لكنني كنت خائفا أن أموت قبل أن أكمل المقال فألقى الله يوم القيامة ولم أدافع عن قرآنه وألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن أموت دفاعا عنه.
في النهاية أكملت المقال..
لم يبق إلا أن أرسله للصحيفة – وتلك تفاصيل أخرى يستطيع من يرغب أن يقرأها في سلسلة مقالات :" من يبايعني على الموت" التي أعدت نشرها مؤخرا..
لكنني اكتشفت مذهولا ومضطربا أنه توجد خطوة أخرى لا بد أن أتخذها قبل إرسال المقال..
أن أستأذن أمي ..
أستأذنها في دخول معركة ستنتهي في الأغلب الأعم باستشهادي..
كنت أدرك خطورة ما أنا مقدم عليه وأنني أصوب مقالي إلى أساس بنيان يدعمونه منذ ثلاثة قرون..
وأنني أقف وحدي لا أجد لي ناصرا إلا الله أواجه جحافل جيوش الصليبية والصهيونية والكفر والطواغيت .. (فوجئت حتى الذهول بالدعم الهائل من الأستاذ عادل حسين عليه رحمة الله)
وكنت أدرك أن رد الفعل سيكون عاصفا.. وأنني سأعتقل في اليوم الأول.. وأنني سأستشهد في نفس اليوم..
كنت أتذكر الحديث النبوي الشريف: "فيهما فجاهد".. وهو حديث صحيح ورد في صحيح البخاري .. (على عكس الحديث الآخر: قد ماتت التي كنا نكرمك من أجلها.. فلم أجد له أصلا)
كان لابد من استئذان أمي إذن..
***
ذهبت إلى أمي..
وواجهتني المشكلة الكبرى لأول مرة في حياتي.. أنني أقاوم رغبة هائلة في أن أجهش أمامها في البكاء..
ولم تكن تلك الرغبة امتدادا لبكاء طول الليل.. كانت لسبب آخر.. كنت خائفا حتى الموت ألا تأذن لي في نشر المقال خوفا عليّ.. وكنت سأقع في صراع عنيف جدا بين صوابين.
قلت لكم مرات أن الصراع الحقيقي لا يكون بين صواب وخطأ.. حين يكون الأمر محسوما لأيهما تنحاز..
الصراع الحقيقي هو ما يكون بين صواب وصواب..
كنت مرعوبا من أن لا توافق..
وكنت أسأل نفسي:
- هل أطيعها إن لم توافق؟ أم أنتصر لديني حتى لو لم توافق؟ هل هذا هو جهاد الدفع الذي لا يستلزم أن أستأذنها؟ وهل بهذا أطيع سيدي وحبيبي ومولاي الذي أمرني: "فيهما فجاهد"؟ وهل إذا عصيتها ونشرت المقال يكون ذلك انتصارا لديني أم لهوى نفسي.. وهل إذا استجبت لها ولم أنشر المقال يكون ذلك طاعة خالصة لله ورسوله أم يكون الشيطان يدلس عليّ كي أنجو من الموت.
كان الصراع رهيبا ومروعا. كان الجمر في يدي. يتركها ويسري في دمي.. محتفظا بوهجه ولهيبه.. فيصبح القلب مليئا بجمرات النار.. بل تصبح كل خلية من خلاياي تتأجج فوق جمرة.
***
المشكلة الأخرى أنني كنت عاجزا عن استعمال أداتي الأساسية في إقناعها:
الكلام....!!!
كنت أدرك أنني لو تكلمت فسوف أجهش بالبكاء..
حاولت أن أتحكم في نفسي وأن ألخص لها الأمر في أقل قدر من الكلمات:
- أمي.. أستأذنك في كتابة مقال قد يترتب عليه استشهادي
هتفت مرتاعة ملتاعة:
- لا.. لماذا يا ولدي.. انتظر حتى أموت.. لا تبتليني فيك يا ولدي.. لقد كان أبوك يعرف أن الطريق الذي تسير فيه سينتهي باعتقالك وما هو أكثر وكان يدعو الله أن يسبق أجله ابتلاءه فيك.. وقد استجاب الله له.. وأنا أدعو بذلك لنفسي ايضا.
في ألفاظ متقطعة متلجلجة قلت لها:
- إنهم يسبون القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم
نظرت إلىّ في ذعر لا حد له..تساءلت :
- معقول..؟ أوصل الأمر إلى هذا الحد؟.. كيف..
صمت ّ طويلا كي أستجمع نفسي وأمنع طوفان البكاء
وأخيرا نطقت الكلمة بعد أن استجمعت آخر ذبالة للتحكم في نفسي:
- أمي: يقولون عن القرآن أنه .. أنه.. خراء
أطبقت على شفتيّ بعزم من حديد كي أمنع صرخة كانت تريد أن تتردد في جنبات الكون..
رحت أنظر إليها كما لو كانت ستحكم عليّ يالبراءة أو الإعدام.
لست أنسى أبدا تلك النظرة الصارمة التي تجمعت فيها نظرات أمهات الشهداء جميعا عبر التاريخ وهي تقول..
- انشر المقال يا ولدي.. وقد احتسبتك عند الله شهيدا..
***
وانقلبت مصر.. علينا لا لنا..
ووقف على أبو شادي المسئول عن نشر الكتاب يقول:
- لو منحونا عشرة أعوام أخرى لجعلنا تكرار هذا الكلام طبيعيا أمام الناس.
ها هو الانقلاب قد جاء يا علي على أمل أن يمنحك تلك السنوات العشر..
***
كانت أمي في ذلك الوقت في الثامنة والسبعين من عمرها..
والرقيقة الضعيفة تحول ضعفها إلى قوة جبارة وإلى صمود مذهل..
والتي كانت تنهار لاحتمال إصابتي بنزلة برد بدا أنها لن تأبه إن شقوها وشقوني بمنشار..
***
وفي الأيام التالية راح اليساريون والشيوعيون والناصريون والمواطنون الشرفاء يتصلون بها بالهاتف مهددين إياها طالبين منها أن تمنعني من مواصلة الكتابة..
وآلت هي على نفسها أن تحاول هدايتهم..فراحت تناقشهم..
لم تكن تدري أنهم أنجس وأكفر من الشيطان ذاته.
في الأيام التالية تحول الأمر إلى تهديد بحرقي وحرق أبنائي.. وهي مع كل تهديد تزداد صلابة..
وانتهى بهم الأمر إلى موشح من أقذر أنواع السباب كل ساعة أو ساعتين..
لم تكن أمي في حياتها قد سمعت أو عرفت هذه الألفاظ..
أبدا.. أبدا.. أبدا..
لكن.. لم يصبها أي انهيار.. كانت تزداد تحديا..
حاولت أن أمنعها من الرد بل أن أقطع الهاتف عنها لكنها أبت وأصرت على المواجهة.
لو تعلق الأمر بي ما اهتممت.. لكنه مع أمي كان ذوب رصاص منصهر..
في النهاية.. وفي مداخلة على فضائية طلبت من وزير الداخلية أن يراقب هاتف أمي وهاتفي من أجل السب والقذف والتهديد بالقتل.
وعلى الفور.. في نفس اللحظة انقطعت تلك المكالمات.. كما لو كانت تصدر من مكتب الوزير.
***
في الأسابيع التالية.. وحملة مسيلمة وجوبلز عليّ وعلى صحيفة الشعب التي نشرت المقال وحزب العمل صاحب الصحيفة كنت أتوقع الاعتقال كل يوم. وكان ما يرعبني حقا أن أمي قالت أنها لن تتركهم يعتقلوني إلا بعد أن تقاومهم حتى يقتلوها لتشاركني في الشهادة. وكنت أتوسل إليها ألا تفعل.
***
ربما أكون مدينا بحياتي لطلاب الأزهر الذين خرجوا في
مظاهرات صاخبة كبحت جماع الدولة ورغبتها في مزيد من التصعيد..
***
***
هذا موقف واحد من مواقف أمي التي عاشت حياتها كلها لله..
أدعو الله أن يجعله في ميزان حسناتها..
وأن يجعل قبرها روضة من رياض الجنة
***
حاشية: العزاء طبقا للسنة يقتصر أساسا على تشييع الجنازة.. لا بهرجة ولا نشر في الصحف ولا بدع.. وأرجو ممن يريد أداء الواجب أو المجاملة أن يدعو لها بالرحمة وأعتذر عن استقبال المعزين في هذا اليوم "الثالث" لانشغالي بشئون عائلية.
تعليقات
إرسال تعليق