وكأنهم يقولون:قل هو الرئيس أحد..الرئيس الصمد
وكأنهم يقولون:
لشد ما أود، ويود غيري أن يجدوا مسئولا محددا مختصا نسائله فيما يعن لنا من أمور وهموم، لكن مأساتنا الموروثة – في العالم الثالث – الضاربة بجذورها في عمق التاريخ، منذ عصر الحاكم الإله، أن الحاكم له الأمر من قبل ومن بعد، وأن الحكام الصغار ما هم إلا تماثيل أصغر حجما للحاكم الكبير الإله . فليس ذلك وزيرا إنما هو يده التى يبطش بها، وليست تلك صحافة، إنما هي لسانه الذي يصوغ به وجدان شعبه بما يصبه فيها من حائق أو أكاذيب .
وجو كهذا، يجعل معارضة الحاكم كفرا ومعارضة تماثيله الصغيرة نفاقا يؤدى إلى الكفر . تصبح الطريقة الوحيدة المقبولة للتعامل مع الحاكم هي التسبيح بحمده والرضا بقضائه . وقد يحاول الواقع أن يتجمل بأدوات الزينة، تجملا قد يخفى الحقيقة بيد أنه لا يلغيها، فيظل البعض مدركا لها متذوقا مرارتها العلقمية .
وفى نظام حكم كهذا لا يوجد وزراء ولا محافظون ولا قادة وإنما كيانات فقدت ذواتها وأفرغت من محتواها كي تحل محلها ذات الحاكم الإله يحرك القلم في أناملها.. ولا تقدم على فعل لأنها تظنه خطأ أو صوابا وإنما لأن من بيده الأمر شاء ولا راد لمشيئته.
ومن ثم تكون مواجهة هذه الكيانات الفارغة عبثا لا طائل خلفه، وتتبدى عبقرية النص القرآني حين أرسل موسى عليه السلام لا إلى الشعب المغلوب على أمره ولا إلى عبيد الفرعون وكهانه بل إلى فرعون ذاته .
ولقد انقرضت عبادة آمون – رب الشمس- لكن بقايا الطقوس ما زالت سائدة في بعض مظاهر حياتنا، وما زال كعك العيد ينقش على هيئة قرص الشمس عبادة للحاكم الإله، يفعلها البسطاء دون وعى ويفعلها المثقفون بوعي أو دون وعى ربما لذلك يلجأ الكتاب إلى توجيه حديثهم إلى الحاكم، وحتى لو وجهوه لغيره فهم لا يفعلون ذلك إلا توقيا لمخاطر لا يعلم مداها إلا الله والحاكم .
من هنا كان على المثقفين في العالم الثالث على وجه الخصوص دور أساسي في تذكير الحاكم أنه بشر، في المساهمة في ترقية الحكام والمحكومين لنقلهم من طور البداوة والتخلف وعبادة الفرد إلى طور الحضارة .
***
لقاء معرض الكتاب
من هنا كان انزعاجي عظيما، عندما تابعت أحداث لقاء الرئيس بالمثقفين حين وقف أحدهم يتوب إلى الرئيس وينيب إليه، رغم أن الناس يتوبون عن آثامهم لا عن أفكارهم .. وتمنيت من أعماقي أن يرده الرئيس قائلا : هون عليك يا أخي فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بكفر المصيلحة لكن الرئيس لم يقل والمثقفون تابوا.
في خيالى الساذج أن الرئيس حين يحضر مثل هذا المؤتمر إنما يحضر ليتعلم لا ليعلم .
الرئيس يحضر لا لتلمس نبض الأمة فقط، وإنما لاستشراف آفاق المستقبل من صفوة عقول الأمة، أن يعرف من المثقفين ابتكارات خلاقة للعقل المصري الذي دمر خط بارليف وبنى الهرم. لكن بعض المثقفين أثبت أنه ابن لبناة شارع الهرم لا الهرم .
وكان يجب على المحيطين بالرئيس أن يرتبوا اللقاء جيدا وأن توضع أمام سيادته صورة صادقة لتوجهات الرأي العام ومشاعر الناس والأمم وما يتكلمون فيه وما يبكون من أجله – وعلى سبيل المثال لا الحصر – كان يجب أن يكون أمام الرئيس تقرير واف مستفيض صادق عن فجيعة الشعب المصري في حادثة غرق السفينة سالم إكسبريس، حيث كان الشعور القومي مبهظا بحزن ثقيل تحت وطأة الكارثة، واشتعل هذا الحزن غضبا عندما قرأ الناس عن أوجه القصور التى صاحبت الكارثة، إذ إنها كانت نفس الأوجه التى صاحبت كل كوارثنا، التخلف والإهمال الضاربان بجذورهما السرطانية في أعماق نخاعنا كأمة وهيئات ومؤسسات وأنظمة حكم، وقدره هؤلاء جميعا على التبرير واستصدار شهادات بالبراءة من وهنا وهناك، الكل غير مسئول ولم يكن في الإمكان أبدع مما كان، وذلك العميد البحري الذي لم ينقذ، ولم يسمح لغيرة أن ينقذ، أعطوه هو الآخر صك براءة. كان قد قال أنه لا يمكن الإنقاذ في الجو العاصف، في الليلة التالية في نفس الجو العاصف كانت طائرة هليكوبتر إسرائيلية تنقذ راكب قارب مصريا غرق أمام سواحلها ، فكيف ؟!. منذ ربع قرن أيضا كانت إسرائيل تنقذ غرقي إيلات في الليل أمام سواحلنا. ماذا يفعل هذا العميد البحري لو هاجمتنا إسرائيل في ليلة كتلك؟..إسرائيل الآن صديقة ولن تهاجم؟ . إذن يهاجمنا العراق . العراق كسيح بعد ما شاركنا من فعل به. إذن ماذا يفعل إن هاجمتنا السعودية، إذا شاءت أمريكا ذات يوم أن تؤدب مصر .
لم يقتصر الحزن القومي علي غرق الباخرة سالم اكسبريس فقط، فلأن جعبتنا مليئة بالأحزان والآلام استدعي الحادث الأليم من الذكريات هزيمة يونيو 67 وقصور أدائنا فيها حتى الكارثة، قصور أدائنا جميعا وعلي رأسنا الجيش وعلي رأسه قواده، أما زلنا كما نحن ؟، أكانت صحوة رمضان صحوة موت واستثناء لا يتكرر؟..
كانت الأسئلة حائرة، وكانت إجابات السر عكس إجابات العلن، فدفنا الحزن في أعماقنا حيا علي انتظار حزن آخر يستدعيه، وسرعان ما جاء هذا الحزن في لقاء السيد الرئيس بالمثقفين في معرض الكتاب حين وقف المؤلف المسرحي علي سالم فإذا بالرئيس يسأله ساخرا:
- هل أنت قريب سالم اكسبريس؟ .
يا خنجرا ينغرس وئيدا في سويداء القلب.
يا دموعا حصرها القهر.
ماذا كنا نفعل لو أن المشير عبد الحكيم عامر سخر من الهزيمة . أكنا نحس نفس نوع الألم ؟ نفس حرقته وعلقمه؟.
آخر ما يمكن أن نتخيل أن نسمع!!.
كـــ: "انتظرنا هم في الشرق فجاءونا من الغرب "!!.
لقد علت أصوات تطالب بإعلان الحداد القومي .
وحين لم تعلنه الحكومة أقمناه في قلوبنا .. لكن السيد الرئيس يجعل من أحزاننا ميدانا للمداعبة كأنه ليس مسئولا عما حدث .
وحتي لو لم يكن سيادة الرئيس مسئولا، حتى لو لم يكن مسئولا عن سفينة غرقت بالمئات من أبناء وطنه، من رعاياه، حتى لو لم يسأله الله – لا عن شاة عثرت بالعراق بل عن فلك غرق في سفاجة – لِمَ لَمْ يمهد له الطريق ويجهز وسائل الإنقاذ، حتى لو لم يكن ذلك كله فلماذا لم يذكره أحد كبار صحفييه بأن رئيس جمهورية إيطاليا لم يكن مسئولا عن الحفرة التي وقع فيها طفل، طفل واحد، لكنه ترك كل أعباء الرئاسة – ولست أظنها هناك أقل من هنا أو أهون – ليقيم في خيمة بجوار الحفرة يتابع بنفسه عمليات الإنقاذ..
لماذا لم يقل له الجهابذة أن علي سالم فعلا قريب سالم إكسبريس، وأننا نحن أقرباؤها كذلك، وفيها دفن لنا أبناء وآباء وأخوه ضاق بهم العيش في بلادهم تحت رعاية فخامته فذهبوا إلى بلاد ظنوها بلاد إخوانهم فلفظتهم، فركبوا السفينة دون قائمة بأسمائهم، أي بؤس !! لكن سيادته يسأل علي سالم إذا ما كان قريب سالم إكسبريس .. فأي بؤس !!
بيد أن ذلك لا يمكن أن يكون خطأ الرئيس وحدة إنما هو يعني بالدرجة الأولي أن من حوله لم ينقلوا له الشعور القومي بعد الكارثة.
ولا ريب أنهم أخبروه أن ليس في الإمكان إبداع مما كان، وأن الناس راضون سعداء وأن ما حدث قضاء وقدر .
ونحن لا نواجه القدر ولا نطالب بمنعه، وإنما نطالب بتنزيهه عن جراء ما تتسم به أعمال بعضنا.
***
علاء حامد اليوم والشيخ الغزالي غدا
وعندما وقف بعضهم ليثير قضية السفيه لا الكاتب علاء حامد، كان في رد الرئيس القول الفصل، محاكم أمن الدولة محاكم عادية رغم ما ينادي به القضاة أنفسهم من إلغائها، حكم الطوارئ يسري رغم تعهد الرئيس نفسه ألا يستعمل إلا ضد الإرهاب المسلح .
لم يقف أحد أمام الرئيس ليقول أن ما حدث كلمة حق يراد بها باطل، وإنه كان يجب علي الدولة لكي تثبت مصداقيتها أن تحيل وزير الثقافة إلى نفس المحكمة لمجاهرته بالفحشاء، وأن يحال أيضا وزير الداخلية السابق بتهمة القذف، كان يجب أن يحدث هذا وإلا تحول القانون إلى سكين في يد مجنون، إذ أنه يمكن للحاكم أن يصدر قانونا بإعدام من يمشى في الشارع، لكنه لن ينفذ هذا القانون إلا على معارضيه، لكن أحدا من المثقفين الذين انتقوا للقاء الرئيس لم يقل له ذلك، لم يطرحوا القضية كما كان يجب أن تطرح، ولقد قرأت كتاب علاء حامد كي ألم بأطراف الحقيقة، وهو كتاب اصطلاحا لا حقيقة، كتاب لأنه رزمة من الورق المطبوع، ليس رواية وليس فنا على الإطلاق، لا يخلو سطر منه من خطأ إملائي أو نحوي، ولا تكاد توجد فيه جملة سليمة أو خيال غير مريض، كل ذلك صحيح أجل، ولو حكم عليه الإعدام لما أسفت عليه، وإن كنت أفضل إحالته لمستشفى الأمراض العقلية بدلا من أن يحصل على شهرة لا يستحقها ولعله سعى إليها . كل هذا صحيح أعترف . لكن السلطة استغلته أسوأ استغلال لا لمواجهة الباطل بل لتكريسه، ولم يقل أحد للرئيس ذلك، لم يقولوا أن الأهرام نفسها نشرت أنها أول من وزع الكتاب، ولم يسأل الرئيس أحد لماذا لم تحول الأهرام أيضا للمحكمة، ولم يقل أحد للرئيس أن مدبولى ليس ناشر الكتاب بل موزعا له، تولى بعد الأهرام توزيعه، لم يقل أحد للرئيس أن هذه الملابسات تجعلنا نشك أن الأمر لا يعدو بكثير تصفية حسابات مع ناشر دأب في مختلف العهود على نشر الرأي المعارض، وإن إدارة الأمر بهذه الطريقة قد أعطى للدولة فرصة ذهبية تحقق بها أغراضها، فالحكم لن ينفذ إلا بعد اعتماد الحاكم العسكري الذي قد يتأخر سنوات وسنوات كما يحدث في قضية 18 و 19 يناير، وفى هذه السنوات يظل السيف مصلتا على عنق ناشر واحد كي يسير على الصراط المستقيم للحاكم لا لله، فإذا انحرف عنه اعتمد الحاكم العسكري الحكم، وهذا الجو كله لا يقصد به الناشر وإنما أراد الكهنة أن يكون هذا الناشر عبرة، من سيجرؤ بعد الآن على نشر كتاب قد تفوح من ثناياه شبهة معارضة للنظام؟ .
ومحكمة أمن الدولة محكمة عادية ولم يجرؤ المثقف على مناقشة الرئيس في ذلك . والأزهر يصادر كتبا ليس من حقه أن يصادرها لكن الرئيس يعلم فيلغى قرار الأزهر وليس من حق الرئيس أيضا ذلك . لكن المقصود من ذلك كله أن يكرس الأمر في أذهان الكل أنه لا هو إلا هو، هو الخصم والحكم والقاضي والمشروع والمانع والمانح والجبار لا نسأله رد حكم القضاء بل اللطف فيه .
ولقد بدأت الحكاية بعلاء حامد حتى تحظى من الدهماء بإجماع، لكن هل نسيتم حكم الفقهاء ذات يوم على سيد قطب بالخروج على الإسلام هل نسيتم ..؟ هل نسيتم سعيد بن جبير وقبلهم آلاف وبعدهم آلاف . إنه علاء حامد بالأمس ومحمد عباس اليوم، أما غدا فعادل حسين وفهمي هويدى والشيخ محمد الغزالى . فعوا الدرس أن السلاطين : لا يرفعون سيف الحدود إلا لباطل وأن الملوك ما دخلوا قرية إلا جعلوا أعزة أهلها أذلة .
ولست أظن الرئيس مبارك أو أيا من زملائه يغضب منى إذا ما سميت نظام حكمه بما سماه به الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على مناهج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم يكون ملكا جبرية ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على مناهج النبوة "
لا أظن الرئيس مبارك يغضب إذا سميت نظام حكمه بالنظام الجبري، وعليه أن يساعدنا وعلينا أن نساعده كي ينفذ أمر الله، لتعود خلافة على مناهج النبوة فهل يساعدنا المحيطون بالرئيس أو يساعدونا على ذلك، أم أنهم سيحملون يوم القيامة عنه ذنوبه .
الحق أنى أتساءل بقلق عنهم، عما ينقلونه له من نبض الناس . إن الرئيس بشر يخطئ ويصيب، لكن لأنه رئيس فهو يحمل أوزاره وأوزار تابعية، لذلك قال عمر بن الخطاب: إن من ولى أمر المسلمين فاجرا فهو فاجر مثله عليه وزر ما فعل.
الرئيس يحتاج إلينا أكثر من حاجتنا إليه لأن عبئه أكبر ومسئوليته أمام الله أفدح، وإنه مسئول عمن قربهم واصطفاهم فخانوا الأمانة ونكثوا بالعهد وكذبوا .
***
قمع الفعل وقمع الفكر
لقد كان دور لواءات وعمداء جهاز الأمن دائما هو قمع الفعل، أما الدور المنوط ببعض لواءات وعمداء الصحفيين فهو قمع الفكرة . أن تسبق أجهزة الأمن في دورها، وحتى في أهميتها، ألا تجرم الفعل فقط بل تحرمه أيضا، أن تستأصل شأفة المشكلة من جذورها، أن يصبح كل ما يشتم منه رائحة معارضة السلطان إثما يستحق العقاب الشديد، وأن توصم كل بطولة بما يجلب الخزي والعار والفضيحة، وأن يتهم كل من يدافع عن قضية عامة بالسعي لمصلحته الخاصة، أنه يخفى خلف أغراضه المعلنة أهدافا دنيئة وخططا أشد دناءة، و يجب ألا يكل اللواءات والعمداء من الهجوم عليهم أمام الناس كي يكرهوهم ويحتقروهم .
في كل قضايانا، لا في كارثة الخليج وغرق سالم إكسبريس وطوفان النوبارية فقط، في كل قضايانا أقرأ صحفنا القومية فيعتصر الأسى قلبي متسائلا : قومية ؟ قد تكون، لكن قومية من؟ ..
قومية العرب أم قومية أمريكا أم قومية إسرائيل ؟ عندما أتابع الإذاعات والصحافة الأجنبية أجد أن صحافتنا القومية أشد لنا عداء وأعلى نكيرا، وعندما تعرض هذه الصحف على الأجيال القادمة فسوف تجد عناء كبيرا في الاقتناع بأنها كانت تصدر من القاهرة لا من تل أبيب .
إزاء تناقضات بعض صحافتنا القومية فكرت ذات يوم في إعداد كتاب كاد أن يمثل للطبع، وفيه تابعت على مدى شهر واحد جهد الصحافة الهائل في تزييف وعي الأمة، و في حجب المعلومات عنها وفى طمس الحق ونشر الباطل، وهالنى ما وجدت لكنني اكتشفت أن جهدي قاصر عن الإحاطة بطوفان الكذب والتدليس والنفاق، وهو على أي حال جهد لم يحظ بما يستحق من متابعة وتمحيص وتحليل، قد لا يستطيع غير متخصص الإحاطة به، وربما لهذا السبب بالإضافة إلى حالة الإحباط القومي الذي نعيشه لم أتابع ما بدأت، بيد أنني أرجو أن تكون هذه الكلمة دافعا لمتخصصين لبحث هذا الأمر، لدراسة التطور الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي لكبار الصحفيين في مختلف العهود، أن يكشف البحث تناقض الآراء والمواقف، تناقض ما ينشر في نفس الصحيفة .. في نفس اليوم وفى نفس الأسبوع وفى نفس العام وفى نفس العهد، مقارنا بما نشر في صحف أخرى، وأن يمتد البحث كي يشمل مختلف العهود … وباعتبار أن الصهيونية مذهب سياسي آمن به يهود ومسيحيون ومسلمون وملحدون فيجب على الباحث أن يبحث لنا عن كتابنا الصهاينة.
ربما يحدث في عصر غير موبوء كعصرنا، أن تمارس أجهزة الأمن دورها الحقيقي في صيانة أمن عقل الأمة ووجدانها بأن تبحث عن الدوافع الجنائية خلف المواقف الفكرية للصحفيين والصحف، الدوافع الجنائية وليست السياسية أو الفكرية، الدوافع الجنائية والتي تشمل – فيما تشمل الرشوة الصريحة البواحة والعمولة والاختلاس وإهدار المال العام والتربح والتستر والتزوير والكذب، ولا تنتهى إلا ببحث علاقة ذلك كله بالتجسس الصريح المباشر لمصلحة الأعداء، بالخيانة العظمى.
سيدي عبد القادر ..
غرقت زاوية سيدي عبد القادر بعد انهيار جسر النوبارية، وهرع المسئولون وذهب المسئولون ورجع المسئولون وكتب الصحفيون وتم شفط الغضب الشعبي العام قبل شفط مياه الطوفان ثم لاشيء .. ثم نسى كل شئ.
على أي حال يبقى مجال لدور لفنان مبدع كنور الشريف ليقدم الواقعة في عمل هائل يحمله بكل ما في الدنيا من عجز واستهتار وفشل، فقد ظلت القرية والمصانع الضخمة التى تحيط بها تغرق رويدا طيلة سنوات ثلاث، والناس يجأرون بالصراخ للمسئولين دون جدوى، حتى إن مواطنا واحدا كتب مائة برقية لكل المسئولين، مائة برقية بعضها بالطبع للرئيس، وصبيحة الطوفان، عندما بدأت المياه تتسرب إلي أحد المصانع الضخمة جاء من يقوى الجسر إزاء المصنع فقط منكرا آية جاء بها القرآن من ألف وأربعمائة عام أن الخرق يغرق السفينة كلها، وحاول الأهالي – الرعاع السفهاء الجهلاء – أن يشرحوا للمسئولين الجهابذة العلماء أن تقوية الجسر في جزء سيؤدى لانهيار الأجزاء الأخرى، وعندما واصل المسئولون عملهم حاول الأهالي منعهم بالقوة، لكنهم إزاء القوة والبطش والجبروت والثقة الكاملة، تراجعوا، ربما لو لم يتهدم الجسر في ذات اليوم، لأتى الأمن المركزي ليحاصر القرية التى قاومت السلطات، ليستبيحها، لكن الطوفان سبق، وتشرد في العراء خمسون ألفا .. ضاع كل ما يملكون وكانت الخسائر – كما قالت الصحف – نصف مليار جنيه ..
يرتفع الشجن بما يحدث في زاوية سيدي عبد القادر إلى مستوى الرمز، النبوءة، تحذير القدر، لأنهم يا سيدي الرئيس يقوون الجسر فقط أمام بيتكم، لكن المبالغة في ذلك ستؤدى إلى انهياره علينا وعندئذ نغرق وتغرقون.
من رحمة ربنا أنه جعل لنا من السم الناقع دواء، ومن الكوارث عبرة، ومن الخطايا عظة لعلنا نتذكر أو نخشى .
لكننا والطوفان لم يجف في زاوية سيدي عبد القادر والناس في العراء ما زالت دموعهم طوفانا آخر نفاجأ بصحيفة محترمة تقول : " كان الرئيس مبارك على علم كامل بكل تفاصيل الحادث منذ وقوعه لحظة بلحظة، وبأدق التفاصيل حيث فاجأ المسئولين في الموقع بمعلومات عن أسباب الكارثة لم تكن واضحة أمامهم "
يا إلهى، إن كان يعلم كل شئ هكذا، إن كان يعلم السر وأخفى، فلِمَ لَمْ يسمع جئير الناس هناك طيلة سنوات ثلاث .
إنهم يؤلهون الرئيس – كل رئيس – طالما وجد، فإن مات أو قتل انقلبوا على أعقابهم فأخذوا ينبشون قبره ويسلخون أهله ويرجمون ذكراه .
وهم بذلك يا سيادة الرئيس لن يضروا الله شيئا، لكنهم يضرونك أنت ويضرونا معك، ديدان مقززة تتغذى على الجسد طالما هو حي، فإذا مات نهشته ثم انتقلت إلى غيره .
أجل .. كم تسئ إليك هذه الأقلام وتيك الصحف يا سيادة الرئيس، تسئ إليك حتى لتصبح أخطر عليك من أعدي أعدائك، تسئ إليك حين لا تهدى إليك عيوبك، وتسئ إليك حين تسعى لتأليهك.
متى يبرح الخفاء فنسمع الترانيم الكافرة التى تتردد في صدورهم تنم عنها أقوالهم :
قل هو الرئيس أحد ..
الرئيس الصمد ..
قل هو الرئيس أحد … الرئيس الصمد ..
وجو كهذا، يجعل معارضة الحاكم كفرا ومعارضة تماثيله الصغيرة نفاقا يؤدى إلى الكفر . تصبح الطريقة الوحيدة المقبولة للتعامل مع الحاكم هي التسبيح بحمده والرضا بقضائه . وقد يحاول الواقع أن يتجمل بأدوات الزينة، تجملا قد يخفى الحقيقة بيد أنه لا يلغيها، فيظل البعض مدركا لها متذوقا مرارتها العلقمية .
وفى نظام حكم كهذا لا يوجد وزراء ولا محافظون ولا قادة وإنما كيانات فقدت ذواتها وأفرغت من محتواها كي تحل محلها ذات الحاكم الإله يحرك القلم في أناملها.. ولا تقدم على فعل لأنها تظنه خطأ أو صوابا وإنما لأن من بيده الأمر شاء ولا راد لمشيئته.
ومن ثم تكون مواجهة هذه الكيانات الفارغة عبثا لا طائل خلفه، وتتبدى عبقرية النص القرآني حين أرسل موسى عليه السلام لا إلى الشعب المغلوب على أمره ولا إلى عبيد الفرعون وكهانه بل إلى فرعون ذاته .
ولقد انقرضت عبادة آمون – رب الشمس- لكن بقايا الطقوس ما زالت سائدة في بعض مظاهر حياتنا، وما زال كعك العيد ينقش على هيئة قرص الشمس عبادة للحاكم الإله، يفعلها البسطاء دون وعى ويفعلها المثقفون بوعي أو دون وعى ربما لذلك يلجأ الكتاب إلى توجيه حديثهم إلى الحاكم، وحتى لو وجهوه لغيره فهم لا يفعلون ذلك إلا توقيا لمخاطر لا يعلم مداها إلا الله والحاكم .
من هنا كان على المثقفين في العالم الثالث على وجه الخصوص دور أساسي في تذكير الحاكم أنه بشر، في المساهمة في ترقية الحكام والمحكومين لنقلهم من طور البداوة والتخلف وعبادة الفرد إلى طور الحضارة .
***
لقاء معرض الكتاب
من هنا كان انزعاجي عظيما، عندما تابعت أحداث لقاء الرئيس بالمثقفين حين وقف أحدهم يتوب إلى الرئيس وينيب إليه، رغم أن الناس يتوبون عن آثامهم لا عن أفكارهم .. وتمنيت من أعماقي أن يرده الرئيس قائلا : هون عليك يا أخي فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بكفر المصيلحة لكن الرئيس لم يقل والمثقفون تابوا.
في خيالى الساذج أن الرئيس حين يحضر مثل هذا المؤتمر إنما يحضر ليتعلم لا ليعلم .
الرئيس يحضر لا لتلمس نبض الأمة فقط، وإنما لاستشراف آفاق المستقبل من صفوة عقول الأمة، أن يعرف من المثقفين ابتكارات خلاقة للعقل المصري الذي دمر خط بارليف وبنى الهرم. لكن بعض المثقفين أثبت أنه ابن لبناة شارع الهرم لا الهرم .
وكان يجب على المحيطين بالرئيس أن يرتبوا اللقاء جيدا وأن توضع أمام سيادته صورة صادقة لتوجهات الرأي العام ومشاعر الناس والأمم وما يتكلمون فيه وما يبكون من أجله – وعلى سبيل المثال لا الحصر – كان يجب أن يكون أمام الرئيس تقرير واف مستفيض صادق عن فجيعة الشعب المصري في حادثة غرق السفينة سالم إكسبريس، حيث كان الشعور القومي مبهظا بحزن ثقيل تحت وطأة الكارثة، واشتعل هذا الحزن غضبا عندما قرأ الناس عن أوجه القصور التى صاحبت الكارثة، إذ إنها كانت نفس الأوجه التى صاحبت كل كوارثنا، التخلف والإهمال الضاربان بجذورهما السرطانية في أعماق نخاعنا كأمة وهيئات ومؤسسات وأنظمة حكم، وقدره هؤلاء جميعا على التبرير واستصدار شهادات بالبراءة من وهنا وهناك، الكل غير مسئول ولم يكن في الإمكان أبدع مما كان، وذلك العميد البحري الذي لم ينقذ، ولم يسمح لغيرة أن ينقذ، أعطوه هو الآخر صك براءة. كان قد قال أنه لا يمكن الإنقاذ في الجو العاصف، في الليلة التالية في نفس الجو العاصف كانت طائرة هليكوبتر إسرائيلية تنقذ راكب قارب مصريا غرق أمام سواحلها ، فكيف ؟!. منذ ربع قرن أيضا كانت إسرائيل تنقذ غرقي إيلات في الليل أمام سواحلنا. ماذا يفعل هذا العميد البحري لو هاجمتنا إسرائيل في ليلة كتلك؟..إسرائيل الآن صديقة ولن تهاجم؟ . إذن يهاجمنا العراق . العراق كسيح بعد ما شاركنا من فعل به. إذن ماذا يفعل إن هاجمتنا السعودية، إذا شاءت أمريكا ذات يوم أن تؤدب مصر .
لم يقتصر الحزن القومي علي غرق الباخرة سالم اكسبريس فقط، فلأن جعبتنا مليئة بالأحزان والآلام استدعي الحادث الأليم من الذكريات هزيمة يونيو 67 وقصور أدائنا فيها حتى الكارثة، قصور أدائنا جميعا وعلي رأسنا الجيش وعلي رأسه قواده، أما زلنا كما نحن ؟، أكانت صحوة رمضان صحوة موت واستثناء لا يتكرر؟..
كانت الأسئلة حائرة، وكانت إجابات السر عكس إجابات العلن، فدفنا الحزن في أعماقنا حيا علي انتظار حزن آخر يستدعيه، وسرعان ما جاء هذا الحزن في لقاء السيد الرئيس بالمثقفين في معرض الكتاب حين وقف المؤلف المسرحي علي سالم فإذا بالرئيس يسأله ساخرا:
- هل أنت قريب سالم اكسبريس؟ .
يا خنجرا ينغرس وئيدا في سويداء القلب.
يا دموعا حصرها القهر.
ماذا كنا نفعل لو أن المشير عبد الحكيم عامر سخر من الهزيمة . أكنا نحس نفس نوع الألم ؟ نفس حرقته وعلقمه؟.
آخر ما يمكن أن نتخيل أن نسمع!!.
كـــ: "انتظرنا هم في الشرق فجاءونا من الغرب "!!.
لقد علت أصوات تطالب بإعلان الحداد القومي .
وحين لم تعلنه الحكومة أقمناه في قلوبنا .. لكن السيد الرئيس يجعل من أحزاننا ميدانا للمداعبة كأنه ليس مسئولا عما حدث .
وحتي لو لم يكن سيادة الرئيس مسئولا، حتى لو لم يكن مسئولا عن سفينة غرقت بالمئات من أبناء وطنه، من رعاياه، حتى لو لم يسأله الله – لا عن شاة عثرت بالعراق بل عن فلك غرق في سفاجة – لِمَ لَمْ يمهد له الطريق ويجهز وسائل الإنقاذ، حتى لو لم يكن ذلك كله فلماذا لم يذكره أحد كبار صحفييه بأن رئيس جمهورية إيطاليا لم يكن مسئولا عن الحفرة التي وقع فيها طفل، طفل واحد، لكنه ترك كل أعباء الرئاسة – ولست أظنها هناك أقل من هنا أو أهون – ليقيم في خيمة بجوار الحفرة يتابع بنفسه عمليات الإنقاذ..
لماذا لم يقل له الجهابذة أن علي سالم فعلا قريب سالم إكسبريس، وأننا نحن أقرباؤها كذلك، وفيها دفن لنا أبناء وآباء وأخوه ضاق بهم العيش في بلادهم تحت رعاية فخامته فذهبوا إلى بلاد ظنوها بلاد إخوانهم فلفظتهم، فركبوا السفينة دون قائمة بأسمائهم، أي بؤس !! لكن سيادته يسأل علي سالم إذا ما كان قريب سالم إكسبريس .. فأي بؤس !!
بيد أن ذلك لا يمكن أن يكون خطأ الرئيس وحدة إنما هو يعني بالدرجة الأولي أن من حوله لم ينقلوا له الشعور القومي بعد الكارثة.
ولا ريب أنهم أخبروه أن ليس في الإمكان إبداع مما كان، وأن الناس راضون سعداء وأن ما حدث قضاء وقدر .
ونحن لا نواجه القدر ولا نطالب بمنعه، وإنما نطالب بتنزيهه عن جراء ما تتسم به أعمال بعضنا.
***
علاء حامد اليوم والشيخ الغزالي غدا
وعندما وقف بعضهم ليثير قضية السفيه لا الكاتب علاء حامد، كان في رد الرئيس القول الفصل، محاكم أمن الدولة محاكم عادية رغم ما ينادي به القضاة أنفسهم من إلغائها، حكم الطوارئ يسري رغم تعهد الرئيس نفسه ألا يستعمل إلا ضد الإرهاب المسلح .
لم يقف أحد أمام الرئيس ليقول أن ما حدث كلمة حق يراد بها باطل، وإنه كان يجب علي الدولة لكي تثبت مصداقيتها أن تحيل وزير الثقافة إلى نفس المحكمة لمجاهرته بالفحشاء، وأن يحال أيضا وزير الداخلية السابق بتهمة القذف، كان يجب أن يحدث هذا وإلا تحول القانون إلى سكين في يد مجنون، إذ أنه يمكن للحاكم أن يصدر قانونا بإعدام من يمشى في الشارع، لكنه لن ينفذ هذا القانون إلا على معارضيه، لكن أحدا من المثقفين الذين انتقوا للقاء الرئيس لم يقل له ذلك، لم يطرحوا القضية كما كان يجب أن تطرح، ولقد قرأت كتاب علاء حامد كي ألم بأطراف الحقيقة، وهو كتاب اصطلاحا لا حقيقة، كتاب لأنه رزمة من الورق المطبوع، ليس رواية وليس فنا على الإطلاق، لا يخلو سطر منه من خطأ إملائي أو نحوي، ولا تكاد توجد فيه جملة سليمة أو خيال غير مريض، كل ذلك صحيح أجل، ولو حكم عليه الإعدام لما أسفت عليه، وإن كنت أفضل إحالته لمستشفى الأمراض العقلية بدلا من أن يحصل على شهرة لا يستحقها ولعله سعى إليها . كل هذا صحيح أعترف . لكن السلطة استغلته أسوأ استغلال لا لمواجهة الباطل بل لتكريسه، ولم يقل أحد للرئيس ذلك، لم يقولوا أن الأهرام نفسها نشرت أنها أول من وزع الكتاب، ولم يسأل الرئيس أحد لماذا لم تحول الأهرام أيضا للمحكمة، ولم يقل أحد للرئيس أن مدبولى ليس ناشر الكتاب بل موزعا له، تولى بعد الأهرام توزيعه، لم يقل أحد للرئيس أن هذه الملابسات تجعلنا نشك أن الأمر لا يعدو بكثير تصفية حسابات مع ناشر دأب في مختلف العهود على نشر الرأي المعارض، وإن إدارة الأمر بهذه الطريقة قد أعطى للدولة فرصة ذهبية تحقق بها أغراضها، فالحكم لن ينفذ إلا بعد اعتماد الحاكم العسكري الذي قد يتأخر سنوات وسنوات كما يحدث في قضية 18 و 19 يناير، وفى هذه السنوات يظل السيف مصلتا على عنق ناشر واحد كي يسير على الصراط المستقيم للحاكم لا لله، فإذا انحرف عنه اعتمد الحاكم العسكري الحكم، وهذا الجو كله لا يقصد به الناشر وإنما أراد الكهنة أن يكون هذا الناشر عبرة، من سيجرؤ بعد الآن على نشر كتاب قد تفوح من ثناياه شبهة معارضة للنظام؟ .
ومحكمة أمن الدولة محكمة عادية ولم يجرؤ المثقف على مناقشة الرئيس في ذلك . والأزهر يصادر كتبا ليس من حقه أن يصادرها لكن الرئيس يعلم فيلغى قرار الأزهر وليس من حق الرئيس أيضا ذلك . لكن المقصود من ذلك كله أن يكرس الأمر في أذهان الكل أنه لا هو إلا هو، هو الخصم والحكم والقاضي والمشروع والمانع والمانح والجبار لا نسأله رد حكم القضاء بل اللطف فيه .
ولقد بدأت الحكاية بعلاء حامد حتى تحظى من الدهماء بإجماع، لكن هل نسيتم حكم الفقهاء ذات يوم على سيد قطب بالخروج على الإسلام هل نسيتم ..؟ هل نسيتم سعيد بن جبير وقبلهم آلاف وبعدهم آلاف . إنه علاء حامد بالأمس ومحمد عباس اليوم، أما غدا فعادل حسين وفهمي هويدى والشيخ محمد الغزالى . فعوا الدرس أن السلاطين : لا يرفعون سيف الحدود إلا لباطل وأن الملوك ما دخلوا قرية إلا جعلوا أعزة أهلها أذلة .
ولست أظن الرئيس مبارك أو أيا من زملائه يغضب منى إذا ما سميت نظام حكمه بما سماه به الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على مناهج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم يكون ملكا جبرية ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على مناهج النبوة "
لا أظن الرئيس مبارك يغضب إذا سميت نظام حكمه بالنظام الجبري، وعليه أن يساعدنا وعلينا أن نساعده كي ينفذ أمر الله، لتعود خلافة على مناهج النبوة فهل يساعدنا المحيطون بالرئيس أو يساعدونا على ذلك، أم أنهم سيحملون يوم القيامة عنه ذنوبه .
الحق أنى أتساءل بقلق عنهم، عما ينقلونه له من نبض الناس . إن الرئيس بشر يخطئ ويصيب، لكن لأنه رئيس فهو يحمل أوزاره وأوزار تابعية، لذلك قال عمر بن الخطاب: إن من ولى أمر المسلمين فاجرا فهو فاجر مثله عليه وزر ما فعل.
الرئيس يحتاج إلينا أكثر من حاجتنا إليه لأن عبئه أكبر ومسئوليته أمام الله أفدح، وإنه مسئول عمن قربهم واصطفاهم فخانوا الأمانة ونكثوا بالعهد وكذبوا .
***
قمع الفعل وقمع الفكر
لقد كان دور لواءات وعمداء جهاز الأمن دائما هو قمع الفعل، أما الدور المنوط ببعض لواءات وعمداء الصحفيين فهو قمع الفكرة . أن تسبق أجهزة الأمن في دورها، وحتى في أهميتها، ألا تجرم الفعل فقط بل تحرمه أيضا، أن تستأصل شأفة المشكلة من جذورها، أن يصبح كل ما يشتم منه رائحة معارضة السلطان إثما يستحق العقاب الشديد، وأن توصم كل بطولة بما يجلب الخزي والعار والفضيحة، وأن يتهم كل من يدافع عن قضية عامة بالسعي لمصلحته الخاصة، أنه يخفى خلف أغراضه المعلنة أهدافا دنيئة وخططا أشد دناءة، و يجب ألا يكل اللواءات والعمداء من الهجوم عليهم أمام الناس كي يكرهوهم ويحتقروهم .
في كل قضايانا، لا في كارثة الخليج وغرق سالم إكسبريس وطوفان النوبارية فقط، في كل قضايانا أقرأ صحفنا القومية فيعتصر الأسى قلبي متسائلا : قومية ؟ قد تكون، لكن قومية من؟ ..
قومية العرب أم قومية أمريكا أم قومية إسرائيل ؟ عندما أتابع الإذاعات والصحافة الأجنبية أجد أن صحافتنا القومية أشد لنا عداء وأعلى نكيرا، وعندما تعرض هذه الصحف على الأجيال القادمة فسوف تجد عناء كبيرا في الاقتناع بأنها كانت تصدر من القاهرة لا من تل أبيب .
إزاء تناقضات بعض صحافتنا القومية فكرت ذات يوم في إعداد كتاب كاد أن يمثل للطبع، وفيه تابعت على مدى شهر واحد جهد الصحافة الهائل في تزييف وعي الأمة، و في حجب المعلومات عنها وفى طمس الحق ونشر الباطل، وهالنى ما وجدت لكنني اكتشفت أن جهدي قاصر عن الإحاطة بطوفان الكذب والتدليس والنفاق، وهو على أي حال جهد لم يحظ بما يستحق من متابعة وتمحيص وتحليل، قد لا يستطيع غير متخصص الإحاطة به، وربما لهذا السبب بالإضافة إلى حالة الإحباط القومي الذي نعيشه لم أتابع ما بدأت، بيد أنني أرجو أن تكون هذه الكلمة دافعا لمتخصصين لبحث هذا الأمر، لدراسة التطور الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي لكبار الصحفيين في مختلف العهود، أن يكشف البحث تناقض الآراء والمواقف، تناقض ما ينشر في نفس الصحيفة .. في نفس اليوم وفى نفس الأسبوع وفى نفس العام وفى نفس العهد، مقارنا بما نشر في صحف أخرى، وأن يمتد البحث كي يشمل مختلف العهود … وباعتبار أن الصهيونية مذهب سياسي آمن به يهود ومسيحيون ومسلمون وملحدون فيجب على الباحث أن يبحث لنا عن كتابنا الصهاينة.
ربما يحدث في عصر غير موبوء كعصرنا، أن تمارس أجهزة الأمن دورها الحقيقي في صيانة أمن عقل الأمة ووجدانها بأن تبحث عن الدوافع الجنائية خلف المواقف الفكرية للصحفيين والصحف، الدوافع الجنائية وليست السياسية أو الفكرية، الدوافع الجنائية والتي تشمل – فيما تشمل الرشوة الصريحة البواحة والعمولة والاختلاس وإهدار المال العام والتربح والتستر والتزوير والكذب، ولا تنتهى إلا ببحث علاقة ذلك كله بالتجسس الصريح المباشر لمصلحة الأعداء، بالخيانة العظمى.
سيدي عبد القادر ..
غرقت زاوية سيدي عبد القادر بعد انهيار جسر النوبارية، وهرع المسئولون وذهب المسئولون ورجع المسئولون وكتب الصحفيون وتم شفط الغضب الشعبي العام قبل شفط مياه الطوفان ثم لاشيء .. ثم نسى كل شئ.
على أي حال يبقى مجال لدور لفنان مبدع كنور الشريف ليقدم الواقعة في عمل هائل يحمله بكل ما في الدنيا من عجز واستهتار وفشل، فقد ظلت القرية والمصانع الضخمة التى تحيط بها تغرق رويدا طيلة سنوات ثلاث، والناس يجأرون بالصراخ للمسئولين دون جدوى، حتى إن مواطنا واحدا كتب مائة برقية لكل المسئولين، مائة برقية بعضها بالطبع للرئيس، وصبيحة الطوفان، عندما بدأت المياه تتسرب إلي أحد المصانع الضخمة جاء من يقوى الجسر إزاء المصنع فقط منكرا آية جاء بها القرآن من ألف وأربعمائة عام أن الخرق يغرق السفينة كلها، وحاول الأهالي – الرعاع السفهاء الجهلاء – أن يشرحوا للمسئولين الجهابذة العلماء أن تقوية الجسر في جزء سيؤدى لانهيار الأجزاء الأخرى، وعندما واصل المسئولون عملهم حاول الأهالي منعهم بالقوة، لكنهم إزاء القوة والبطش والجبروت والثقة الكاملة، تراجعوا، ربما لو لم يتهدم الجسر في ذات اليوم، لأتى الأمن المركزي ليحاصر القرية التى قاومت السلطات، ليستبيحها، لكن الطوفان سبق، وتشرد في العراء خمسون ألفا .. ضاع كل ما يملكون وكانت الخسائر – كما قالت الصحف – نصف مليار جنيه ..
يرتفع الشجن بما يحدث في زاوية سيدي عبد القادر إلى مستوى الرمز، النبوءة، تحذير القدر، لأنهم يا سيدي الرئيس يقوون الجسر فقط أمام بيتكم، لكن المبالغة في ذلك ستؤدى إلى انهياره علينا وعندئذ نغرق وتغرقون.
من رحمة ربنا أنه جعل لنا من السم الناقع دواء، ومن الكوارث عبرة، ومن الخطايا عظة لعلنا نتذكر أو نخشى .
لكننا والطوفان لم يجف في زاوية سيدي عبد القادر والناس في العراء ما زالت دموعهم طوفانا آخر نفاجأ بصحيفة محترمة تقول : " كان الرئيس مبارك على علم كامل بكل تفاصيل الحادث منذ وقوعه لحظة بلحظة، وبأدق التفاصيل حيث فاجأ المسئولين في الموقع بمعلومات عن أسباب الكارثة لم تكن واضحة أمامهم "
يا إلهى، إن كان يعلم كل شئ هكذا، إن كان يعلم السر وأخفى، فلِمَ لَمْ يسمع جئير الناس هناك طيلة سنوات ثلاث .
إنهم يؤلهون الرئيس – كل رئيس – طالما وجد، فإن مات أو قتل انقلبوا على أعقابهم فأخذوا ينبشون قبره ويسلخون أهله ويرجمون ذكراه .
وهم بذلك يا سيادة الرئيس لن يضروا الله شيئا، لكنهم يضرونك أنت ويضرونا معك، ديدان مقززة تتغذى على الجسد طالما هو حي، فإذا مات نهشته ثم انتقلت إلى غيره .
أجل .. كم تسئ إليك هذه الأقلام وتيك الصحف يا سيادة الرئيس، تسئ إليك حتى لتصبح أخطر عليك من أعدي أعدائك، تسئ إليك حين لا تهدى إليك عيوبك، وتسئ إليك حين تسعى لتأليهك.
متى يبرح الخفاء فنسمع الترانيم الكافرة التى تتردد في صدورهم تنم عنها أقوالهم :
قل هو الرئيس أحد ..
الرئيس الصمد ..
تعليقات
إرسال تعليق