قَدْ لا يَنْفَعُكُمْ أن تَصُومُوا..! وقد لا يَضُرُّكُمْ أن تَزْنُوا ..!!

برغم أن بعض هذه المقالات قد نشر منذ أكثر من عشرين عاما إلا أنها ما تزال صالحة لأن تكتب اليوم، ففساد الحكام وعجزهم وخيبتهم كما كان، وتدهور الأحوال ما يزال..

بغداد عروس عروبتكم

قَدْ لا يَنْفَعُكُمْ أن تَصُومُوا..! وقد لا يَضُرُّكُمْ أن تَزْنُوا ..!!

بقلم :دكتور محمد عباس

 

الشعب ٧-٢-٢٠٠٣

مفتتح أول

هل يمكن أن تتسع هذه الصفحة لغضبى ؟
هذه الصفحة؟
بل هذه الصحيفة؟
كل صحفك يا مصر وكل إذاعاتك؟
كل صحفكم و إذاعاتكم يا عرب ويا مسلمين؟
كل وسائل إعلامك أو إعلانك أيتها الأمة الخانعة الراكعة المستذلة ؟
وما الخنوع والركوع والذل قدر مقدور و إنما شعب مقهور أينما توجهت الأعين يا أمة لا إله إلا الله محمد رسول الله وحيثما خفقت القلوب.
***
رمضان كريم يا عرب … يا مسلمين ..
لكن .. هل هو كريم عليك يا بغداد ..
هل وجدت – يا حبة الفؤاد – من القنابل ما يكفى سحورك …
ومن الصواريخ ما يكفى فطورك …
وهل رويت العطش بالدم ..
أما أنتم  يا عرب .. فهنيئا ..
يا مسلمين … هنيئا …
أكلتم هنيئا وتشربون مريئا ..
ابدءوا المسلسلات والفوازير …
اغرقوا فى ذهول التخمة …
صوموا كما شئتم …
لا تفكروا بالعراق .. فلن يسلى ذلك صيامكم …
لا تذكروا أبدا أن إخوتكم هناك محاصرين لا يجدون طعاما ولا شرابا …
لا تتذكروا أنهم صائمون منذ ثمانية أعوام بلا انقطاع …لا تتذكروه فسوف يفسد شهيتكم لموائدكم العامرة..
صوموا …
لكننى أقسم لكم بالجبار الذى لا يظلم … أن الله لا يقبل صيامكم ...  و أن ليس لكم منه إلا الجوع والعطش..
هل سينبرى لى منكم سفيه يصرخ : " حنثت فى يمينك و أنت صائم " …
أقول للسفيه لا تراع …
فلإن غفر الله لكم تخليكم عن العراق فما أهون ذنبى …
عندما هلك الحجاج أقسم أحد المسلمين بالطلاق ثلاثا أن الله لن يغفر له، و أفتاه الناس أن امرأته طالق منه لأنه لا يدرى إن كان الله يغفر للحجاج أم لا يغفر… واستغلق الأمر على الرجل فنصحوه بالذهاب إلى الحسن البصرى رضى الله عنه، فذهب إليه و ألقى شكايته فقال له الإمام : يا بنى اذهب وعاشر امرأتك ، فوالله لئن غفر الله للحجاج، فلن يضرك أن تزنى …
***
أستميح القارئ عذرا إذ لم أتعود أن أكتب فى خضم هذا الغضب الهادر كالأعاصير الثائر كبراكين النار والجحيم والغارات على العراق، تعودت أن أجتر الألم، أن أعاشره طويلا طويلا فلا أكتب عن الحدث عند وقوعه، إنه جرحى المفغور الذى أنسحب به داخل نفسى كى أبكى بلا دمع و أنزف بلا دم …من أجل ذلك قررت ألا أكتب … لكن صوت القارئ جاءنى عبر الهاتف وهو يبكى وينتحب ويصرخ فىّ:
-                  أيها الكاتب قل لى ماذا أفعل …ماذا نفعل …
ورحت أواسيه و أعزيه و أنا إلى العزاء والمواساة أحوج، وكتمت عنه تساؤلى: كيف أقول لك ماذا تفعل و أنا نفسى لا أعرف ماذا أفعل؟ هل أكتفى بكتابة كلمات فارغة جوفاء لا تنقذ عراقيا ولا تسقط طائرة ولا تدمر صاروخ كروزو أو توماهوك ولا تقتل حاكما خائنا انطلقت طائرات العدو المجرم من بلاده كى تقتل أخوتى؟.يا ليتنى كنت قنبلة تنفجر فى المجرمين والخونة.
وكنت مازلت أواصل الحديث إلى نفسي عندما جاءنى صوت القارئ:
-                  وددت أن الله كان قد خلقنى حمارا أو كلبا، كى لا أعانى مثل هذا الألم الذى أعانيه الآن.
وكنت أتساءل كيف يمكن أن أنقل النار التى فى قلبى على الورق فلا يحترق ..؟!
وكنت أتساءل أيضا : كيف يمكن أن أعبر عن انفعالى؟ كيف يمكن أن أنقله إلى القارئ؟ هل يمكن أن أنزح بحرًا بكوب ؟!
أكتب، و أعيد ما كتبت، وفى كل مرة أتساءل فى خيبة أمل: هل هذه البداية تتناسب مع حجم النار والقصف والألم؟

مفتتح آخر

كلب شرس مجنون عقور داعر .. وكلبة عجوز شمطاء… وجراء صغيرة هنا وهناك، تتلمظ تلمظ وحش مفترس، كان كلما أفلتت منه إلى حين فريسته، يستدير، يلعق شواربه، يكمن فى دغل، مترقبا لحظة أخرى، وسببا آخر هولا محالة واجده، كى ينقض على ضحيته، وقد زاد من غضبه وشراسته ووحشيته وحيوانيته إفلات الفريسة المؤقت منه.
أما الفريسة فمعوّق مشلول هائل الحجم منبطح بلا حراك ولا وعى ولا أمل..
الفريسة مشلولة منبطحة على مساحة أرض هائلة لها تخوم أرضكم يا مسلمين ويا عرب..
الكلب الشرس المجنون العقور الداعر .. والكلبة العجوز الشمطاء، وحتى الجراء تنهش لحم المعوق المشلول فلا يتحرك، لا يطرف له طرف، ولا يملك من وسائل التعبير سوى التماعة كئيبة فى عيون خابية منطفئة …
أراجع ما كتبت وأهتف فى ضيق:
ياله من مفتتح فج..!!
***
يجب أن أكتب .. يجب أن أقاوم اليأس والألم لأكتب..
لقد  اخترت منذ زمان طويل أنه إذا كان هذا العالم ينقسم إلى جلادين وضحايا، ومجرمين و أبرياء،  يتفرج عليهم شياطين خرس  أو متواطئون، أو مشاركون  بجريمة الصمت عن الجريمة، لو كان العالم ينقسم إلى ذلك، وليس ثمت اختيار آخر،  فقد اخترت أن أكون  شهيدا..
يا أمّة …
ثمة وضع أشرف من العجز المطلق اسمه الاستشهاد..
يا أمة : أنت تنقمين على حكامك خضوعهم وخنوعهم، و أنت تعلمين أن خضوعهم وخنوعهم لأن عروشهم وحياتهم مرتبطة بنظرة من كلينتون أو إشارة من إصبعه…
لماذا تتناقضين – إذن – يا أمّةُ مع نفسك ، لماذا تخافين نفس الخوف منهم، الخوف الذى تبررين به لنفسك عجزك عن التغيير وشَللَك، وليس أمامك من عذر تلتمسينه إلا أن مواجهة الحكام قد تعنى الموت، فإن كنت يا أمة على حق فى خوفك فحكامك أيضا على حق فى خوفهم …
يا أمة، يا مؤمنين، ألم يشتر الله أموالكم و أنفسكم بأن لكم الجنة … فهل رجعت فى البيعة…
يا أمة : ألم يرسم الله لك طريق النصر؟ ألم يعطك مفاتيحه حين أمرك بأن تقاتلى الكافرين كافة كما يقاتلونك كافة..
يا أمّة : ألم تؤمرى : لتسوُّنّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم..
يا أمة : من سنن الله أنه أعطى الدنيا للكافر إذا سعى لها سعيها ..
و أنه أعطى الآخرة والدنيا للمؤمنين إذا سعوا لهما سعيهما …
لكنه سبحانه – يا أمة – قد حكم على المنافقين وحكمه عدل أن يخسروا الدنيا والآخرة..
فلماذا تخسرين الدنيا والآخرة يا أمة …؟!
***
 أيها القارئ ، أتوسل إليك، أن تعى ما أكتبه لك ، أتوسل إليك، من أجل هذه الأمة، وفى سبيل الله، وأتوسل أيضا إلى جلالة كل ذى جلالة وفخامة كل ذى فخامة ومعالى كل عال وسمو كل أمير، و أتوسل إلى كل كاتب ومفكر فى هذا البلد ،  فما يحدث لو استمر، فلن تقوم لهذه الأمة قائمة ، أقصدكم جميعا، لا مطالبا بهز عروشكم ولا  بتقويض حكوماتكم ولا بمؤاخذتكم على ما اقترفتموه، لا أقصد هز أى حكومة بل أطالب بأى حكومة ..بشرط واحد فقط هو أن تكون بالحق والفعل حكومة!! … ولا أهدد  أى دولة بل أطالب بأى دولة تستشعر وتفهم وتعى وتقابل تحدى الوجود الذى نواجهه بما يستحقه كى تنقذ الأمة  من الفناء والتلاشى، الأمة التى أصبحت كالرجل المريض، الذى بلغ من سوء حالته فى نظر أعدائه وبعض القائمين على الأمر فيه، أن أصبح لا يحتمل  حتى العلاج، بله البتر، فكل حديث صريح أو صحيح إنما هو بعينه الخوض فى حقل ألغام قد ينفجر فى أى لحظة، والأسلم  والآمن  ترك هذا المريض يموت، ليحصل كل على ميراثه من تركته، غير مدركين أن العدو الجاثم قد رهن المغانم منذ زمن، ولم تبق إلا المغارم … الصراحة  إذن  مخاطرة  غير محسوبة يقدم عليها من تروّّعه احتمالات فناء  الأمة، فهو إذ يقاوم، لا يقاوم العدو فقط، ولا المرض فقط، بل أولئك الأبناء السفهاء، الأوغاد، الخونة، الجهلة، المستهترين، المتخلفين،  الذين لا يأبهون من الوطن إلا بما ينالونه منه، ما ينهشونه من لحمه، وما يغتصبونه من جسده، ويستنزفونه من دمه،  حتى آخر رمق..
***
ثمة عناء آخر للكاتب  وهو يعبر عن مواقفه و آرائه، فكم هو معذّّب أن يحاول اختيار منهج الكتابة ونوع الألفاظ وشكل الجمل وحتى الحروف وعلامات الترقيم  التى يصوغ بها موضوعه، كى يتناسق الشكل مع الموضوع ، فالكتابة مثل اللحن السيمفونى، و كالألوان، ونحن لا نستطيع أن نعبر عن الحزن بلحن مرح، ولا عن الفرح بلون أسود، لكن ماذا يفعل الكاتب إذا أصاب انفجار كل أدواته فلا يعود لديه سوى الصراخ والألم ..
  يجب أن يبحث الكاتب أيضا عن  مفردات اللغة  التى يكون معناها واحدا بينه وبين قارئه، فالكلمات مترجم عيىُّ وغبى، وذات اللفظ قد يحمل معانى مختلفة باختلاف موقع وثقافة سامعه، وعلى سبيل المثال فإن كلمة   النار  تعنى لرجل الدين معنى يختلف تماما عن المعنى الذى تعطيه نفس الكلمة لشرطى المطافئ أو لصانع الخبز أو لربة بيت أو لعالم فى معمل، أو لضحية ينتظر قصف الصواريخ فى بغداد..
على الكاتب ألا يكتب قبل أن يعايش، ليحاول بعد ذلك قدر جهده أن ينقل لقارئه بتجرد و أمانة ما أحسّه وعايشه  .. لكن …  هل أستطيع الآن أن أفعل ذلك ؟؟ هل أستطيع أن أنقل إليكم مدى خطورة ما أتحدث فيه، ومدى  ضرورة أن تتخذوا  فيه قرارا ؟ هل أستطيع أن أوصل إلى القارئ  وإلى الأمة كلها فداحة ما يحدث، كى يخرج من صمته وسلبيته وسكونه، فهو إن اتحد مع الباقين القادر على إرغام الحكام  على التصدى لمسئوليتهم…والأعداء على التراجع…
***
هل أستطيع أن أكتب عن العراق الآن؟!..
كيف أستطيع الادعاء أن حرفى الدال والميم اللذين يكونان كلمة " دم " ستحمل إليك معنى النزيف الحادث فى العراق.. لا نزيف واحد حُرْمته عند الله أكبر من حرمة الكعبة .. بل نزيف مئات الألوف .. ونزيف وطن..
وهذا الصاروخ الذى تشاهدونه على شاشة التلفاز أنيقا لامعا يشق أجواز الفضاء كيف أنقل لكم  صورة لحظة انفجاره، لحظة الهدم والدم والألم والانفجار والانكسار، ولحظة العناق الدامى بين شظية من شظاياه وقلب من قلوب ضحاياه..
هل أستطيع أن أبلل  صفحات تلك الصحيفة  بالدم كى تتخضب يدا القارئ به إذ يقرأ،  ليفهم ويحس ويعى ويعايش أى نوع فظيع من القهر والعذاب يعانيه إخوتنا فى العراق.
هل أستطيع أن أدس بين الصفحات أشلاء بشرية، لأيد مقطوعة، وعيون مفقوءة، وبطون مبقورة، وقلوب مسحوقة، وأكباد مهترئة، وجماجم منفجرة، كى يحس القارئ ويعى ويعايش ما يحدث لإخوتنا فى العراق؟!
هل أستطيع أن أجعل من السطور فى هذه الصفحة سياطا و أسلاكا مجدولة  تنهال على وعى القارئ ليحس بشىء شبيه لما يعانيه العراق ؟
وهل أستطيع أن أستعمل بدلا من الحبر  الذى دنسته أقلام كثيرة دم الشهداء- رغم أنوفهم – و الذى يسفكه  المجرم الجبار كلينتون وتابعه بلير..
هل أستطيع أن أشعل صفحات هذه الصحيفة  بين يدى القارئ  ، ليحس بما يحس به عراقى يحترق بالنابالم.
هل أستطيع أن أبث فى الكلمات رائحة لحم بشرى مشوى كى يشم القارئ رائحة لحم إخوته فى العراق يشوى على أبشع محرقة عرفها التاريخ الآن؟! لقد ألقت أمريكا على العراق عام 91 ما يوازى أربع قنابل نووية، لكنها فى الأيام الثلاثة الأولى من المجزرة الحالية قصفت العراق بعدد من الصواريخ يفوق جميع ما قصفتها به عام 91. والحساب هنا لم يشمل صواريخ الوحوش صبيحة السبت، وقد قالوا أنها أعنف الغارات و أكثفها..
 هل أستطيع أن أجعل القارئ يقرأ هذا المقال وهو مبتور اليدين بعد أن  هدم صاروخ أمريكى بيته وبترت إحدى شظاياه يديه..
هل أستطيع أن أصوغ من تلك الحمم المنصهرة المنثالة من داخلى تمثالا يحرق لامسه ويعمى الناظر إليه، أو أن أرسم بألوانها الدامية لوحة تتحرك فيها الجمادات وتصرخ ..
 هل أستطيع أن أجعل صفحات هذه الصحيفة  تنفجر بين يدى القارئ،  أو تنوح  وتلطم  ..
هل أستطيع أن أبث الروح فى تلك الحروف المتراصة الميتة  فتنفجر بالحياة من الألم فتنقل للقارئ فى نفس اللحظة التى يقرأ فيها صرخة عراقى يموت، أو نواح أم ينزف ابنها بين يديها ولا تجد ما تعالجه به بعد أن منع المجرم الأمريكى عنها كل وسائل الإنقاذ، أو صرخة ابن كانت يده فى يد أبيه فتسقط قنبلة فتبقى اليد ويختفى الأب،  صرخة  تلاشى منها كل أمل فى معونة شقيق، وانهدمت فيها إرادة الأمة، صرخة طويلة مشروخة مذهولة مذبوحة راجية متضرعة صاخبة جياشة هادرة مهدورة مرتجفة بالخوف واهتزازات القصف عمياء بدخان الحرائق، غير مدركة من أين يجيئها العدوان ولا سببه، صرخة لا يتخيل  أن مثلها يمكن أن يصدر من عضو بشرى كالحنجرة و إنما كل خلية فى الجسد الإنسانى تصرخ صرختها الخاصة فخلايا الحنجرة تصرخ وخلايا القلب تصرخ وخلايا الكبد تصرخ  وخلايا الدم تصرخ، وخلايا الجلد التى يقابل  النابالم تصرخ، وخلايا الجسد كلها تتحور إلى خلايا للألم تستقبله وتعبر عنه  مسقطة كل أبجديات اللغة فلا يبقى من كل حروف كل لغات العالم سوى  حرفين هما : آه، ويذوب الموصوف فى الصفة   منصهرا تحت حرارة قصف الـبى 52 والكروزو والتوماهوك  فإذا الآه ليست تعبيرا عن الألم بل هى الألم ذاته  وقد استدعته نداءاته  ليقود كالمايسترو فرقة الخلايا الصارخة مطلقة جميعا فى تناغم وحشى سيمفونية الألم المروع التى تعزفها خلايا الجسد الإنسانى المعذب الذى فقد ذاكرته  ففقدت أفعال اللغة أزمانها ولم يعد لديه ماض ولا حاضر ولا مستقبل، لم يبق إلا فعل الأمر : اقصف ، أحرق، انتهك، اركع، اعترف، انسحق، تلاش،اعترف،اكشف، انصع لقرارات الأمم المتحدة، وهو لا يستطيع  وبين القصف والقصف قصف  أن يجيب، فخلايا الذاكرة قد فقدت الذاكرة لتطلق هى الأخرى صرختها المجردة من الزمان، فكأنما هزيم الغارات وصفارات الإنذار يغطى الوجود الإنسانى عبر كل تاريخه المعذب بين جبروت الجلادين الفجرة  وعذاب الضحايا وعجزهم إزاء إجرام عدو وجبن شقيق ..
هل يمكن أن أنقل إلى القارئ صوت صرخة وطن يُذبح …حين يصرخ الرمل والنهر والشجر والحجر…
هل يمكن أن يسمع القارئ وعيناه تجريان على هذه السطور  صوت انفجار قنبلة أو انهيار أمل، صوت العظام وهى تتهشم، والمفاصل وهى تنخلع، والشظايا وهى تشق طريقها بين اللحم والعظم، والنفوس  وهى تنكسر ، وكرامة الوطن وهى تُذبح؟..
 هل يمكن أن يرى القارئ  ولو لثانية واحدة مشهد الخنزير ريتشارد بتلر وهو يمتهن كرامة مليار من البشر بل البشرية كلها  ، هل يمكن أن يرى القارئ ذلك و أن يخصف على مشهد  العار  فى خياله الدامى صفحات هذا الصحيفة .. هل يمكن  …. هل يمكن ….  و هل تغنى هذه الدموع التى  يذرفها القارئ  الآن وهو يقرأ، وهل تجدى فى إطفاء النار المشتعلة فى ضحية واحدة من ضحايا القصف الوحشى المجنون، القصف الذى لم يتعرض له عبر كل التاريخ سوى إخوتكم وسوف تتعرضون بالتأكيد له غدا أو بعد غد …
 هل أنجح فى أن أجعل القارئ يحس بثوان فقط من الانسحاق الذى يعانيه الآن  فى نفس هذه اللحظة  واحد من آلاف الضحايا فى العراق ، ثوان فقط ، هل يمكن أن أنقل إلى القارئ شيئا من مشاعر اللهفة المحمومة والأمل المجنون الذى يعتمل فى نفس رجل أو طفل أو امرأة هناك، مدنى أو عسكرى – فالبيانات المجرمة التى ترددها إذاعات مجرمة ترى أن ذبح العسكريين وحرقهم فى النظام العالمى الجديد حلال- ، دعكم إذن من كونه رجلا أو طفلا أو امرأة أو مدنيا أو عسكريا، دعكم حتى من كونه عراقيا، عربيا، مسلما، هَبُوهُ مجرد إنسان .. بشر.. وقد هاجمه وحش مجنون  فينتظر من إخوته فى البشرية أن يهرعوا إليه لينقذوه… فإن لم يهرع إليه إخوته فى البشرية فإخوته فى اللغة والدين والمصير… إن لم يكن لأجل الأخوة المشتركة فمن أجل المصير المشترك … فما يحدث للعراق اليوم سوف يحدث لنا غدا…
***
هل يمكن أن أبلغ القارئ أن  استهانتهم بنا قد بلغت أنهم هناك فى واشنطن ولندن وتل أبيب لا يخفون عنا أنباء المجزرة التى أعدوها لنا ، و أنهم يفرقون قطيعنا، لأنهم يعلمون أنه حين يتفرق الغنم  تقودها العنزة الجرباء، لا يخفون عنا مصير قطيعنا المندفع نحو المجزرة وهو فرح بها نشوان، الذين يحرصون على إخفاء الحقيقة عنا هم جل حكامنا، كما تسخر منه تلك الحثالة من المثقفين التى تدعى الاستنارة، أما الأعداء فيناقشونه فى دراساتهم علنا وقد أمنوا أن الجسد الميت لا يتحرك، يقيده حكامه ويخدعه مثقفوه كى يسلموه للذبح، منذ عام 1982 اعترفت  مجلة المواجهة (كيفونيم) فى القدس العدد 14- فبراير 1982-  ص 49 وما بعدها بالمؤامرة ( هل يمكن تسمية الخطة المعلنة مؤامرة؟!) وفضحت ما يحدث للعراق اليوم فلماذا نكذبها يا كلاب النار فيما ذكرته عما سيحدث لمصر غدا، تقول المجلة بالحرف  :" لقد غدت مصر، باعتبارها كيانا مركزيا، مجرد جثة هامدة، لا سيما إذا أخذنا فى الاعتبار المواجهات التى تزداد حدة بين المسلمين والمسيحيين، وينبغى أن يكون تقسيم مصر إلى دويلات منفصلة تاريخيا هو هدفنا السياسى على الجبهة الغربية خلال سنوات التسعينات، وبمجرد أن تتفكك أوصال مصر  وتتلاشى سلطتها المركزية فسوف تتفكك بالمثل بلدان أخرى مثل ليبيا والسودان وغيرهما من البلدان الأبعد، ومن ثم فإن تشكيل دولة قبطية فى صعيد مصر، بالإضافة إلى كيانات إقليمية أصغر و أقل أهمية ، من شأنه أن يفتح الباب لتطور تاريخى لا مناص من تحقيقه على المدى البعيد، وإن كانت معاهدة السلام قد أعاقته فى الوقت الراهن. وبالرغم مما يبدو فى الظاهر، فإن المشكلات فى الجبهة الغربية أقل من مثيلتها فى الجبهة الشرقية ، ولعل تجزئة لبنان إلى خمسة دويلات بمثابة نموذج  لما سيحدث فى العالم العربى بأسره، وينبغى أن يكون تقسيم العراق وسوريا إلى مناطق منفصلة على أساس عرقى أو دينى أحد الأهداف الأساسية إسرائيل على المدى البعيد. والخطوة الأولى لتحقيق هذا الهدف هى تحطيم القدرة العسكرية لهذين البلدين. فالبناء العرقى لسوريا يجعلها عرضة للتفكك، مما قد يؤدى إلى قيام دولة شيعية على طول الساحل، ودولة سنية فى منطقة حلب، وأخرى فى دمشق،بالإضافة إلى كيان درزى قد ينشأ فى الجولان الخاضعة لنا، وقد يطمح هو الآخر  إلى تشكيل دولة خاصة، ولن يكون ذلك على أى حال إلا إذا انضمت إليه  منطقتا حوران وشمالى الأردن، ويمكن لمثل هذه الدولة، على المدى البعيد، أن تكون ضمانة للسلام والأمن فى المنطقة،وتحقيق هذا الهدف فى متناول يدنا. أما العراق، ذلك البلد الغنى بموارده النفطية، فهو يقع على خط المواجهة مع إسرائيل، ويعد تفكيكه أمرا مهما بالنسبة إسرائيل، بل إنه أكثر أهمية من تفكيك سوريا، لأن العراق يمثل على المدى القريب أخطر تهديد لإسرائيل."
***
انتهى حديث المجلة الإسرائيلية الذى أود أن أصفع به الوجوه الشائهة التى تتجاهله من وجوه الحكام أو المحكومين..
وددت أن أصفع به تلك الوجوه الصفيقة الخائنة التى تنطلق من أرضها الطائرات المجرمة للعدوان على إخوتنا فى العراق.. بل وتلتمس المعاذير المجرمة فى أن ثمة اتفاقيات مبرمة مع هذه الدولة أو تلك ينبغى الوفاء بها!!
أبصق فى تلك الوجوه الشائهة و أصرخ مع أحمد مطر:
رأت الدول الكبرى تبديل الأدوار..
فأقرت إعفاء الوالى واقترحت تعيين حمار..
ولدى توقيع الإقرار، نهقت كل حمير الدنيا باستنكار:
نحن حمير الدنيا لا نرفض أن نُتعب00
أو أن نُركب، أو أن نضرب، أو حتى نُصلب ..
لكنا نرفض في إصرار..
أن نغدو خدما للاستعمار ..
إن حموريتنا تأبى أن يلحقنا هذا العار !..
***
يوم الاثنين الماضى كنت أقول لنفسى أننى سأواصل الكتابة عن العراق طيلة شهر رمضان ..
كنت أريد أن أكمل المقالة السابقة التى لا أدرى والله لماذا نشرتها فى هذا الوقت بالتحديد رغم أن حساباتى كانت تقول أن العراق قد أفلت من الضربة طيلة شهر رمضان وربما حتى ما بعد موسم الحج ، فهل – يا ترى – أحس بدبيب الكارثة قلبى؟!..
كنت أريد أن أفكر، أن ألج لجة الآلام، حيث يتناثر الزمن ويتبعثر تبعثر أشلاء شهداء مخبأ العامرية، وأشلاء أولئك الشهداء الذين لم يعرفوا بعد أنهم سيستشهدون  فأرى في ركن من أركان ملجأ العامرية طرفا من بركة الذهب التى حاول المستعصم أن يفتدى بها نفسه والدولة العباسية، وكان الصليبيون قد يئسوا من هدم الإسلام وغزو بلاد المسلمين بعد هزيمتهم في مواقع متعددة على رأسها حطين، فاتصلوا بالتتار وأغروهم باقتسام بلاد المسلمين، وكان المستعصم هو الخليفة وقد اتخذ الخائنين نصيرا  فضللوه وأوردوه موارد التهلكة، وأقنعوه بأن ينشد السلام مع التتار على أن يتركوه خليفة، وكان –والتاريخ يستدير – لا يعرف الفارق بين السلام والاستسلام، وغرته الأمانى  فلم يتوقع ما حدث فعلا وما سيحدث حين نقض هولاكو عهدا لم يكن إلا حيلة ككامب ديفيد وأوسلو وواى بلانتيشن . غفل عنها الخليفة كما يغفل عن أوطاننا حكامنا، فضاعت الخلافة وانهدمت الدولة، كما نخشى أن نضيع وأن تضيع بغداد مرة أخرى، فحينها جىء بالمستعصم ذليلا أسيرا، فأهانه هولاكو وطلب منه الذهب والجواهر فأحضر له جميع ما فى قصوره، فأخذه منه قائلا : هذا لعبيدنا فأين ما هو لنا ؟ فاصطحبهم الخليفة ودلهم على بركة هائلة ممتلئة بالذهب، كان يستطيع بها أن يجند مئات الألوف لينقذ بها شعبه ويحتفظ بالكرامة بملكه، فلما ذهبوا بالذهب إلى هولاكو أمر بأبناء الخليفة فذبحوا وببناته فسبين، وبالخليفة نفسه فوضعوه في جوال وقتلوه رفسا.. ستقتلون رفسا يا من وضعتم الأوراق كلها فى يد العدو، يا مستسلمين، يا مُخترقين، سيقتلكم هولاكو الأمريكى، بعد أن تسلموا الذهب لإسرائيل  وتكشفوا أرصدتكم الخبيئة وتسلموها له، سيقتلكم رفسا، ستقتلون رفسا بعد أن تركتم بلادكم تسقط بلدا بعد بلد ..
 كان الوزير ابن العلقمى هو الذى خان الخليفة وضلله فنال من السفاح مكافأته فتولى الحكم لكن الله لم يهمله ولم يمهله فنفق  في عامه فتولى ابنه بعده فنفق هو الآخر في نفس العام ..
 يا ولاة أمورنا : وزراؤكم ومستشاروكم من نسل ابن العلقمى، وإن كان كل هذا التفريط كى تحتفظوا بإماراتكم وعروشكم، فسوف ينالها أبناء العلقمى وسوف تقتلون رفسا ..

***
صبيحة الثلاثاء رأيت وفزعت وجزعت وتقززت … رأيت الأطفال الفلسطينيين يذرفون الدموع أمام كلينتون وعرفات … كانوا يتوسلون إليه ويستعطفونه بمجرد همهمات ضائعة بين ارتجافات تنتحب والشهيق صراخ والزفير نواح وما أدرى كيف كان المترجم يترجم هذا الألم الذليل وكيف استطاع عرفات أن يحيا بعد هذا الذل ولو دقيقة.
قلت لنفسي هذا الداعر الفاجر لم يأت إلى هنا من أجل فلسطين، فأى داهية دهياء أتانا بها …
وقلت لنفسى: بل سأكتب عن فلسطين..

لكن مساء الأربعاء جاء بخطب يطم… جاء بأخبار قصفك يا عراق..
*    *    *
العلج الأمريكى الداعر كلينتون يصرح أنه لولا دعم قوى من بعض الدول العربية لما استطاع مهاجمة العراق..
يا رب …
أهلكهم …
أما أنت يا أمة فليس أمامك سوى الضغط على حكامك ..
يا أمة : لا قبل الله منك صوما إن لم تضغطى على حكامك لينتهى على الفور قصف العراق.. ولا فبل الله منك صوما إن استمر حصار العراق أو أى بلد عربى آخر..
هل يبلغ بى الأمل أن أهتف هتاف مصطفى بكرى فى صحن الأزهر :
أطردو السفير الأمريكى من القاهرة ..
أطردو السفير البريطانى ..
اطردوا السفير الإسرائيلى…
***
يا صدام حسين حاول أن تتبع تكتيكا آخر غير احتمال الضرب حتى الموت …
أغرق سفينة أمريكية فى الخليج، افعل أى شئ ترد به شيئا من رمق الحياة إلينا..
يا صدام حسين اسحب موافقتك على قرارات الحصار المهينة التى ارتضاها العراق بعد الحرب والحصار..
اصرخوا يا مسلمين ويا عرب ..
اصرخوا فى ولاة أموركم عبيد الغرب الذين لم يطيعوا الله أبدا كما يطيعون كلينتون ولا يقدسون القرآن أبدا كما يقدسون ما تدعى الولايات المتحدة كذبا أنها قرارات الأمم المتحدة.. اصرخوا فيهم : بل من حق العراق ومن حقنا جميعا أن نصنع السلاح النووى والبيولوجى ما يحمينا من غدرهم وبطشهم..فوالله لو أن الله نفسه هو الذى أمرهم بتجريد العراق من سلاحه ما أطاعوا مثل طاعتهم العمياء..
اصرخوا فيهم : تجريد العراق من سلاحه ليس شرطا للإيمان ولا مدخلا للجنة بل هو طريق جهنم..
اصرخوا .. ثم لا تكتفوا بالصراخ …
***
أما أنتم يا معشر الساسة، فدعونى لا أخفى عنكم أننى طيلة الأيام الماضية ، و كلما سمعت عن احتجاج دولة أجنبية وقارنته بخنوعكم وصمتكم ، كنت أصرخ :
-                  يا له من عار …
وعندما شاهدت احتجاج إيران وتساميها عن ثأر طويل مع العراق وقارنته بصمتكم الذليل صحت:
-                  يا له من عار …
وعندما تابعت موقف روسيا وسحبها لسفرائها طفقت أقارن موقف ساستنا و أنوح:
-                  يا له من عار..
وعندما تابعت محطات الإرسال التليفزيونى والإذاعة فى العالم العربى فاض بى الألم فتمتمت فى ذهول:
-                  ياله من عار..
وعندما صرح السفير الأمريكى فى القاهرة أن دول إعلان دمشق تتفهم الموقف الأمريكى انتظرت أن يرد أحد عليه ، فلما التزموا صمت القبور تأوهت :
- ياله من عار
وكنت بين كل عار وعار أترنم مع المعرى :
يَسُوسونَ الأمورَ بغير عقلٍ  . . .  فينفذُ أَمرُهُمْ ويُقالُ سَاسَهْ       
      فَأُفّ من الحياةِ و أُفّ مِنِّى  . . . وَمِنْ زَمَنٍ رِئَاسَتُهُ خَسَاسَة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

أيهم أولى بالاتباع: علماء السلاطبن فقهاء الخليج أم هؤلاء.

بعد مائة عام