حوار موقع الفرسان مع الدكتور محمد عباس عن القومية العربية

 محاورة موقع الفرسان مع د محمد عباس عن القومية

  •  
  •  
  •  
  •  

    بسم الله الرحمن الرحيم

    محاورة موقع الفرسان مع د محمد عباس عن القومية العربية

     

    مقدمة

     

    دعني قبل البداية أسرد عليكم هذه الحكاية من القصص الشعبي المفعم بحكمة الأجيال عبر الزمن، إذ يحكى أن رجلا كان يذهب لصلاة الصبح في المسجد كل صباح فأراد الشيطان أن يعطله عن صلاته فكمن له في الطريق إلى المسجد بعد أن تشكل في صورة أحد أصدقائه، وتصنع الشيطان في صورة الصديق أنه سيصحبه إلى المسجد للصلاة معه، وفي الطريق صرخ الشيطان فجأة لأن شوكة دخلت في قدمه وطلب من صديقه أن يخرجها، وهرع الصديق لنجدة صديقه الذي مدّ قدمه ففوجئ الرجل أن القدم ذات حافر مشقوق، فأدرك والرعب يكاد يقتله أنه الشيطان يعبث به فصرخ عاليا، وانطلق لا يلوي علي شيء والشيطان يقهقه خلفه، كان يجري مبتعدا عن طريق المسجد، و ظل الرجل يجري حتى أدرك حيهم فقابل جاره في طريقه إلى المسجد، و حاول الجار أن يهدئ من روعه حتى هدأت نفسه، فسأله عما أفزعه كل هذا الفزع، فأخذ الرجل يحكي له الحكاية حتى وصل إلى الحافر المشقوق فتساءل الجار : مشقوق مثل هذا؟ ومد قدمه فإذا به هو الآخر مشقوق وأدرك الرجل أن الشيطان قد تجسد في صورة جاره، فولى منه فرارا بعد أن ملئ رعبا، واندفع يجري حتى أدرك شارعهم فوجد أخاه خارجا من بيته متوجها للمسجد، و حاول أخوه أن يهدئ من روعه حتى هدأت نفسه، فسأله عما أفزعه كل هذا الفزع، فأخذ الرجل يحكي له الحكاية حتى وصل إلى الحافر المشقوق فتساءل أخوه : مشقوق مثل هذا؟ ومد قدمه فإذا به هو الآخر مشقوق وأدرك الرجل أن الشيطان قد تجسد في صورة أخيه، فانطلق يجري صائحا وهو من الرعب في غاية، إلى أن وصل إلى بيته فهرعت إليه زوجته وأخذت تهدئ من روعه متسائلة عما به، فأخذ يحكي لها عما ألم به حتى وصل إلى الحافر المشقوق فمدت زوجته قدمها صائحة به : مثل هذا ؟

    لا تذكر القصة الشعبية تلك نهاية الحكاية ، أغلب الظن لأنها بلا نهاية.

    تذكرت هذه الحكاية عندما سألتموني عن القومية العربية.

    فحكاية القومية العربية تشبه قصة ذلك الرجل الذي روعه الشيطان ليصرفه عن الصلاة حين تشكل بشكل صاحبه و جاره و أخيه وزوجته، ولم يكن أيا منهم، والنهاية المفتوحة للقصة توحي بإمكانيات للخداع لا حصر لها.

    نعم..

    القومية العربية هي العلمانية هي الليبرإلىة هي الرأسمإلىة هي الاشتراكية هي الشيوعية هي البراجماتية هي الحداثة هي ما بعد الحداثة هي النظام العالمي الجديد..

    هي أيضا الحرية والإخاء والمساواة هي الديموقراطية هي تحرير المرأة هي القطرية هي الماسونية هي الروتاري هي الليونز هي العولمة ..

    هي كل ذلك وكل ما قبله وكل ما بعدة .. إلى ما لانهاية..

    لكن هذا التعدد كله لا يحمل داخله أي ثراء ولا أي تنوع، فما كل واحدة مما ذكرت إلا شكلا، مجرد شكل تجسد الشيطان فيه..

    نعم..

    شكل تجسد الشيطان فيه..

    وكلما انكشف منها شكل لجأ إلى شكل آخر..

    وكانت – دائما – كل الأشكال خداع وما كان سوى الشيطان.

    والكفر ملة واحدة..

    ولن يختلف الأمر حين يرتد المسلم إلى ماركسية أو قومية أو علمانية..أو..أو..أو..

    نعم..

    تجسد الشيطان نفس الشيطان في كل اتجاه من تلك الاتجاهات..

    الصديق الذي تجسد الشيطان على صورته لم يكن فيه من الصديق أي شئ، ولا من الجار ولا من الأخ ولا من الزوجة.

    كان الشيطان خالصا بلا زيادة ولا نقصان.

    وكان الهدف كله هو الخديعة..

    في الحكاية أن يصرف صاحبنا عن صلاة الصبح..

    وفي القومية ومرادفاتها كان الشيطان هو نفس الشيطان و إن اختلفت تجسداته، وكان هدفه في كل الأحوال أن يصرفنا عن الدين كله.

    لا أريد أن أصدمكم ولا أن أدعكم تشعرون بالفجيعة و أنتم تستعيدون ماضيا فعل فيه الشيطان بكم أكثر مما فعله بصاحبنا ذاك..

    ففي القومية كان هناك طائفتان: الأقلون ، فلاسفة القومية وقادتها ومفكروها وكتبتها وطائفة المنتفعين بها، وجل أولئك كانوا يدركون أن القومية مروق من الإسلام..

    أقول جل.. لأن هناك استثناءات نادرة أدعو الله أن يغفر لها بالجهل.. أما الغالبية العظمى من تلك الفئة الأولى فقد كانت تدرك منذ البداية أن القومية خروج على الإسلام.

    الطائفة الثانية هي الأغلبية ، هم الناس في الشارع، هم الجماهير الذين أضلهم سادتهم فضلوا، تلك الأغلبية المسكينة التي خدعتها الأقلية كان وضعها أسوأ من وضع صاحبنا ذاك الذي حكيت لكم للتو حكايته..

    لأن هذه الأغلبية لم تكتف من الغنيمة بالإياب، لم ترجع عن المسجد فقط، بل راحت تصلي خلف الشيطان نفسه..

    نعم ..

    كان الشيطان لهم إماما..

    وكانوا يحسبون أنهم لم يثلموا من الإسلام شيئا.

    غفر الله لهم بجهلهم.

    ***

    لو صفي الفكر واستقام العقل وصلحت النية لكان مثلا واحدا من سيرتنا كافيا لوأد القومية يوم ولدت، ذلك أن سيدنا بلال بن رباح، العبد الحبشي، أفضل بما لا يقاس من أبي طالب، العربي القرشي، عم النبي صلى الله عليه وسلم وسنده في نشر الدين.

    ألم تكن تلك فقط كافية لتدحض فكرا نتنا متخلفا يقوم على التمايز بين الناس على أساس العنصر والجنس؟.

    ***

    التمايز على أساس العنصر..

    العنصر..

    فهل نسينا..

    ألم تكن تلك خطيئة إبليس حين ظن أن عنصره الناري أسمى من عنصر الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام.

    حقا..

    فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور..

    ***

    لا أدعي الحكمة بأثر رجعي.. ولا أريد أن أسبب لأي قارئ من القراء إحساسا بالفجيعة وهو يراجع نفسه كيف وقع ذات يوم في هذا الخطأ الفاجع، كيف خدع هذه الخديعة القاتلة؟ فلقد كنت أنا نفسي واحدا من المخدوعين، ليس بالحماس للقومية، أو حتى الموافقة عليها، فقد كنت دائما أشعر بشيء من النقص والعوار فيها، يجعلها عصية على التطبيق، وكنت أبحث عن السبب في كتب التاريخ والاجتماع والفلسفة، وتلك كانت خطيئتي الكبرى، إذ كيف لم أفهم منذ اللحظة الأولى أنها خروج من الإسلام، و أن هذا هو سر عوارها وعماها.

    ***

    ثم أن جمال عبد الناصر، الذي تلتبس علاقتي به أشد الالتباس، كان بشخصيته الطاغية الآسرة حجابا ستر عنا عوار القومية، التي لم تأخذ دفعتها الهائلة في مجال التطبيق إلا عندما تبناها، فأخرجها من كهوف نتنة لم يكن يقطنها إلا منبوذون من شعوبهم، تنظر إلىهم أمتهم نظرة الريبة مدركة أن جذورهم تمتد إلى أعدائها، وكان معظمهم غير مسلمين، أخرج عبد الناصر القومية من ذلك الكهف المنتن، فتجسد الشيطان فيها ليقدمها للأمة كالأمل الذي طال انتظاره والخلاص الذي أمضّنا الصبر عليه، أخرجها وقدمها إلى الأمة كذلك لتسقط إلى الأبد في عام 1967، بعد عام وبضعة شهور من استشهاد سيد شهداء عصرنا: سيد قطب.

    ***

    لم تكن المشكلة أنني كرهت جمال عبد الناصر، بل كانت المشكلة أنني ذات يوم أحببته: بالتحديد ما بين خطاب التنحي وموته، بعد أن ذُبحنا الذبحة الكبرى في يونيو 67( رغم أننا ذبحنا بعد ذلك ذبحات أكبر)، والتي ربطت بيننا بوشائج الألم الذي لا تنفصم، ولم يكن هينا عليّ، أن أقتنع أن جمال بتبني فكرة القومية العربية قد أساء إلى العرب والمسلمين وكان خطوة كبرى في النكبة الكبرى..

    لم يكن ذلك يهون عليّ، حتى جاء يوم كنت أقرأ فيه من القرآن آية قرأتها عشرات المرات وسمعتها مئات، لكن وقعها في ذلك إلىوم كان وقع زلزال رهيب مروع، أو رصاصة في القلب، دخلت ولم تخرج أبدا.. تلك الآية:

    قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلىكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) التوبة..

    ***

    ولعلي أدعو أن يكون جمال عبد الناصر ممن يغفر الله لهم بجهلهم.

    ولعل دعائي له ذاك يزداد كلما رأيت من جاءوا بعده.

    ***

    تبقى نقطة أخيرة يرفع القوميون لواءها، وهي كاذبة ذلك الكذب الشامل المشترك كقاسم أعظم مع كل مرادفاتها، حين يتهم القوميون من يرفض القومية العربية بأنه يكره لعرب والعروبة..

    كذبت الألسنة وماتت الضمائر وشاهت الوجوه..

    فكيف ننكر فضل العرب وقرآننا أنزل بلسان عربي ونبينا صلى الله عليه وسلم عربي، وقد جمع لنا شيخ الإسلام بن تيمية فصلا في الدليل على فضل العرب جاء فيه ما رواه الترمذي عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول الله إن قريشا جلسوا يتذاكرون أحسابهم بينهم فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله خلق الخلق فجعلني في خير فرقهم ثم خير القبائل فجعلني في خير قبيلة ثم خير البيوت فجعلني في خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا قال الترمذي هذا حديث حسن

    وروى عن سلمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك قلت يا رسول الله وكيف أبغضك وبك هداني الله قال تبغض العرب فتبغضني قال الترمذي هذا حديث حسن غريب.

    وروى أبو جعفر الحافظ الكوفي عن ابن عباس قال قال رسول الله.

    صلى الله عليه وسلم أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي قال الحافظ السلفي هذا حديث حسن.

    ولما وضع عمر الديوان للعطاء كتب الناس على قدر أنسابهم فبدأ بالأقرب فالأقرب إلى رسول الله فلما انقضت العرب ذكر العجم هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس إلى أن تغير الأمر بعد ذلك والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة أصحها ما ذكرناه

    وسبب ما اختصوا به من الفضل والله أعلم ما جعل الله لهم من العقول والألسنة والأخلاق والأعمال وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع أو العمل الصالح والعلم له مبدأ وهو قوة العقل الذي هو الفهم والحفظ وتمام وهو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة فالعرب هم أفهم وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة ولسانهم أتم الألسنة بيانا وتمييزا للمعاني

    وأما العمل فإن مبناه على الأخلاق وهي الغرائز المخلوقة في النفس فغرائزهم أطوع من غرائز غيرهم فهم أقرب إلى السخاء والحلم والشجاعة والوفاء من غيرهم ولكن حازوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير معطلة عن فعله ليس عندهم علم منزل ولا شريعة مأثورة ولا اشتغلوا ببعض العلوم بخلاف غيرهم فإنهم كانت بين أظهرهم الكتب المنزلة وأقوال الأنبياء فضلوا لضعف عقولهم وخبث غرائزهم

    وإنما كان علم العرب ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب أو ما حفظوه من أنسابهم وأيامهم أو ما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم والحروب فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى تلقفوه عنه بعد مجاهدة شديدة ونقلهم الله عن تلك العادات الجاهلية التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتها فلما تلقوا عنه ذلك الهدى زالت تلك الريون عن قلوبهم فقبلوا هذا الهدى العظيم وأخذوه بتلك الفطرة الجيدة فاجتمع لهم الكمال بالقوة.

    انتهى كلام شيخ الإسلام..

    ونحن نؤمن بكل حرف فيه..

    ثم يأتي القوميون ليتهمونا بالعداء للعرب..

    ألا كذبت الألسنة وماتت الضمائر وشاهت الوجوه.. بل لم ينكب العرب بأعدائهم قدر نكبتهم بهم..

    ***

    لقد أطلت مقدمتي..

    والآن هات أسئلتك..

     

     

     

     

     

     

    الأسئلة حول القومية العربية

     

     

    س1: هل لك في أن تقدم تعريفا للقومية العربية؟

    أحب أن أنبه قبل أن نتناول التعريف إلى فخ المصطلحات الذي تناولته في مقالات منشورة، و أريد أن أنبهك لشيء هام جدا فيما يتعلق بمصداقية الكلمة، فالمسلمون يعرفون أن الكون خلق بكلمة من حرفين، بـ:كن، وقد كانت عملية جمع القرآن وتحقيق الأحاديث النبوية الشريفة أعظم عملية موضوعية منهجية في التاريخ، وهي تعطيك دليلا على مدى احتفال المسلمين بالكلمة، فتغيير حرف يمكن أن يترتب عليه تغيير العالم، بل العالمين، فبين الإيمان والكفر شعرة، وهذا الاحتفال بالكلمة انتقل من مرتبة التقديس مع القرآن والكريم والحديث النبوي الشريف، إلى درجة هائلة من تقديس الصدق، فالمسلم يعرف أن المؤمن قد يقتل وقد يزني وقد يسرق لكنه لا يكذب، لذلك فإن المسلم عندما يطلق تعريفا أو مصطلحا فإنه يتحرى الصدق قدر استطاعته، ولقد ترتب علو هذا – على سبيل المثال – أوردوا روايات شاذة، ليدحضوها، لكن أمانتهم لم تسوغ لهم أن يتجاهلوها، ومثل هذه الروايات يستغلها الآن أعداؤنا للنيل من ديننا. أما في الجانب الآخر، جانب التنويريين والمستغربين، فالأمر ليس كذلك، بل إن السمة الجامعة المشتركة في حضارتهم وفكرهم هي الكذب ، الكذب الذي تدعمه قوة الإعلام فإن لم تنجح فبالضغط الاقتصادي فإن لم تنجح فبالصواريخ، لتعاقب بمنتهى القسوة من يتصدى لدحض هذا الكذب أو لفضحه. وما أن ينضم أحد إلى جوقة الهجوم على الإسلام، حتى تتكاتف كل إلىات الغرب لتمجيده، بل لتقديسه، إن نظرة فاحصة مأساوية على حال عالمنا العربي، ستكتشف أن الهجوم علي واحد من المستغربين، بداية من الطهطاوي، ومرورا بقاسم أمين و أحمد لطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين ولويس عوض وجابر عصفور، وليس نهاية بسيد القمني وصلاح عيسى وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وخليل عبد الكريم، الهجوم على أي واحد من هؤلاء، يجابه بمنتهى القسوة والعنف، إذ أن من يهاجمهم، لا بد أن يكون ظلاميا رجعيا متخلفا أو إرهابيا. لقد منحوهم قداسة كقداسة الرهبان والقديسين، ومن يسب القديس لابد أن يكون كافرا يستحق الموت، أما من يسب الأنبياء، وحتى الله، فإنه مستنير، ولابد للقانون، مدعما بالدولة أن يحميه.

    لطالما تمنيت على سبيل المثال أن أري قوميا يتحدث عن حديث نبوي شريف بالتقديس الذي يتحدث به عن كلمة للزعيم الملهم ( من الذي ألهمه إذا كانوا قد أنكروا دور السماء) أو حتى بذات الوله الذي يتلو به رباعيات صلاح جاهين.

    ***

    التعريف الذي تطلبه مني إذن سيكون مشحونا بالكذب، ومثل هذه التعريفات عادة وظيفتها إخفاء الحقيقة لا إظهارها، ولأعطك مثلا صغيرا بشعا على ذلك، فالتعريفات المبهرة التي انطلقت حول الطفل وحقوقه .. و..و..و.... أسفرت في الواقع عن إجرام فاحش.. فالأمر يتعلق بضرورة تعليم الأطفال الجنس!!.. وضرورة منع الكبت الجنسي!!.. وضرورة إباحة الزنا - يسمونه الحب أو العلاقات السوية أو عدم القهر الجنسي!!- ولم يكتفوا بذلك كله، بل طالبوا بحرية الشذوذ أيضا. ومثل آخر لتعريف العلمانية بالعلم، وهو تعريف لم يقل به أحد في الغرب أبدا، لم يقل به إلا علمانيونا ومثقفونا، قالوه وهم يعرفون أنه كذب، لمجرد خداع الناس، لكيلا يقفوا حجر عثرة تعوقهم عن تحيق مآربهم.

    وانظر في نفس هذا الإطار إلى تعريفات أمريكا للحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان والإرهاب والحرية الدينية، فالتعريف في كل واحد منها هو أداة لإخفاء الحقيقة لا لبيانها.

    انظر إلى هذا الإطار الفاجر الذي يجعل من محمد الدرة إرهابيا ومن شارون رجل سلام.

    انظر إلى هذا الإذلال للعراق تحت راية تحرير شعب العراق.

    وانظر..

    وانظر..

    وانظر..

    ***

    في نفس هذا الإطار نستطيع أن نستعرض التعريفات المتاحة للقومية العربية. راجيا من القارئ أن ينتبه ليس لما يقوله التعريف بل لما لا يقوله، أو على الأحرى لما يخفيه.

    أحد التعريفات للقومية العربية يقول أنها حركة سياسية فكرية ، تدعو إلى تمجيد العرب ، وإقامة دولة موحدة لهم ، على أساس من رابطة الدم واللغة والتاريخ .

    الذي لا يقوله التعريف أن القومية تنحي الدين جانبا.

    تعريف آخر للقومية يقرر أنها صلة اجتماعية عاطفية تنشأ من الاشتراك في الوطن والجنس واللغة والمنافع، وقد تنتهي بالتضامن والتعاون إلى الوحدة.

    ومرة أخرى فالمسكوت عنه هو الدين.

    أما جيلنر فيرى أن القومية "هي أساساً مبدأ سياسي يقوم على ضرورة التطابق بين الوحدة السياسية والوحدة القومية".

    وتعرّف القومية في شكلها الأحدث والأكثر انتشاراً بأنها الأمة انطلاقاً من أسس علمانية وثقافية، وهي تساوي بين الأمة و/أو بين مجموعة من الناس يملكون لغة مشتركة وبالتإلى يتشاركون في عناصر من تقإلىد ثقافية شفهية و/أو كتابية مشتركة تعرفهم وتمكنهم من تإلىف وحدة سياسية مستقلة وموحدة. إنها الرغبة في التطابق بين حدود الأمة وحدود الدولة.

    أما المجاهد الشهيد الشيخ عبد الله عزام فيعرف القومية بقوله إنها: مبدأ سياسي اجتماعي يفضل معه صاحبه كل ما يتعلق بأمته على سواه مما يتعلق بغيرها، أو هو: عقيدة تصور وعيا جديدا يمجد فيه الإنسان جماعة محدودة من الناس يضمها إطار جغرافي ثابت، ويجمعها تراث مشترك وتنتمي إلى أصول عرقية واحدة.

    أما التعريف الألمانى فيقول أن القومية لغة بينما ينحو التعريف الفرنسى إلى أنها إرادة..

    فلماذا يا دعاة القومية – يطعن قلبى أننا - تحت شعارات القومية نفقد اللغة والإرادة.. بعد أن فقدنا الدين والسيادة؟!

     

    ***

    يقول جارودى ( الإسلام الحى- دار البيرونى-بيروت) أنه ليس هناك فكرة مناقضة لعقلية الأمة الإسلامية أكثر من فكرة القومية، وهى فكرة تتناقض مع وحدة الإنسانية التي تعتبر المفتاح الرئيسي للنظرة الإسلامية للعالم. كانت القومية تمزيقا للأمة، وكانت مؤامرة غربية صليبية، وكانت شَركا وقعت فيه الثورة، وطعما ابتلعته، فما نجحت في إرساء الدولة القومية ولا هي سعت إلى وحدة الدولة الإسلامية. بل لقد استبعدت الدين أصلا كمحرك للصراع. وتجاهلت تاريخا طويلا مضمخا بالدم والمعارك.

    إلا أن الدراسة المتعمقة تكشف عوار الفكرة من أساسها، فرابطة الدم واللغة والتاريخ لم تجعل من بريطانيا والولايات المتحدة واسترإلىا ونيوزيلندا دولة متحدة، ولا ألمانيا والنمسا، ولا إسبانيا والأرجنتين والتشيلي وكولومبيا وفنزويلا والباراغواي والاورغواي وكوستاريكا وغواتيمالا والسلفادور إلخ.. فإذا كانت هذه الروابط المرتكزة أساسا إلى اللغة والتاريخ قد فشلت في توحيد تلك الدول كلها فلماذا نتصور نجاحها في عالمنا العربي.

    ***

    ولقد اختلف الدعاة إلى القومية في عناصرها ، فمن قائل : إنها الوطن ، والنسب ، واللغة العربية . ومن قائل : إنها اللغة فقط. ومن قائل: إنها اللغة مع المشاركة في الآلام والآمال.

    المجمع عليه أن الدين ليس من عناصر القومية عند الصرحاء منهم، و حتى لو ادعى بعضهم أنها تحترم الأديان كلها من الإسلام وغيره فإن هذا الادعاء لا يتجاوز كونه عنصر مهادنة والأغلب أنه مؤقت، ويحمل سوء نية لا يتغافل عنه إلا متآمر أو أحمق، ذلك أن الإسلام يرفض معطيات القومية أصلا، حيث لا يميز الناس بعضهم عن بعضهم إلا التقوى، أما أتباع الأديان الأخرى فلهم الحقوق التي يكفلها لهم الإسلام وهي هائلة.

    الهدنة المؤقتة التي يتبناها الأقلون من القوميين مع الدين كمثل تلك الهدنة التي خدع بها الغرب المسلمين كي يتحالف معهم ضد الشيوعية لينقلب عليهم بعد ذلك.

    لذلك فإن ادعاء بعضهم – وهم أقلية على أية حال – لا يتجاوز الهدنة المؤقتة التي ينقلبون بعدها عليك، فكيف تتهادن مع يرفض أصلا وجودك إلا إذا كنت سيئ النية. فمن المعروف أن مبادئ الإسلام ومبادئ القوميين متباينة كلياً ، فالذي يعتبره القوميون مصدر القوة ، هو مصدر الضعف والخذلان عند الأمة الإسلامية ، فقوة المسلمين على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وأوطانهم هي في وحدتهم التي توجدها آصرة الدين وليس الوطن أو النسب أو اللغة أو غير ذلك من الأمور التي يلتف حولها القوميون ، وآصرة الدين هي التي كانت سبب قوتهم وعزتهم وسيادتهم للدنيا طوال قرون عديدة ، ولذا كان من غير المعقول ولا الممكن ـ كما يقول الأستاذ المودودي ـ أن توجد في الأمة الإسلامية قوميات على أساس الألوان والأجناس واللغات والأوطان . كما لا يمكن أن توجد في داخل دولة دول كثيرة ومختلفة [1][1].ومن كان مسلماً وأراد أن يبقى على إسلامه فلابد له أن يبطل في نفسه الشعور بأي أساس غير أساس الإسلام ، ويقطع العلاقات والروابط القائمة على أساس اللون والتراب . ولا يمكن بقاء الرابطة الإسلامية مع نشوء الشعور بالقومية العنصرية ومن المغالطة الزعم بأن إحداها تساير الأخرى ، ولا تغايرها .

    الأخطر من ذلك، والذي عانينا منه طويلا، أن الأكثر خبثا من بين القوميين قد استعملوا الدين كعنصر حشد لا كعنصر إيمان واقتناع. كانوا يعرفون أن هذه الأمة لا يحركها مثل الدين، فلماذا لا يستغلونه؟ تماما كما استغله نابليون حين ادعى أنه مسلم، وكالشائعة التي راجت عن إسلام الحاج محمد هتلر!!‍ .. كان عنصر استغلال لا عنصر إيمان. وكانوا منافقين لا مسلمين.

    ***

    الصادقون مع أنفسهم من القوميين أدركوا ذلك، أدركوا عبث ما يسعون خلفه، فانتقل بعضهم إلى جماعة المسلمين، أما العض الآخر، فكان كالعشيقة التي خدعها معشوقها فاكتشفت في النهاية أنها مجرد بغي، وبواقع الصدمة راحت تبيع نفسها لمن يدفع الثمن. وفي حالات نادرة، لم يستطيعوا هذا أو ذاك، فأقدموا على الانتحار. وكان من هذا الصنف الأخير الكاتبة أروى صالح، والتي تنبأت في شفافية عإلىة بأن النهاية المنطقية للقومية وإلىسار هي: أن تقع في حجر إسرائيل. ولكم روعتها بشاعة النهاية، ورغم أنها لم تكن تحمل للإسلام اعتزازا فقد روعها تناقض النهاية مع البداية، تضاد الشعار والواقع، فرأت بشفافيتها الحلف الذي تنعقد أواصره بين القوميين وبين إلىسار لمحاربة الإسلام، وأن الخطوة التإلىة لهذا الحزب هو أن يتحالف مع إسرائيل لمحاربة الإسلاميين( الإرهابيين الرجعيين المتخلفين).. ولم يكن لديها من الإسلام رصيد يحميها من الغرق، فكتبت كتابا ضمنته رؤاها، وذهبت إلى خالتها في حي الزمالك، في الدور الحادي عشر، وغافلتها، وقفزت من النافذة.

    في كتابها الذي تجاهله القوميون جميعا: ( المبتسرون ) تقول أروى صالح:

    " لم يعد هناك حلم مشترك، بل خوف مشترك من الخواء الذي يحل بعد ضياع الأحلام، من عدم الأمان الاقتصادي، ومن الوحدة التي تكتسح مجتمعا يبدو الجميع فيه منشغلا بنفسه وقد فقد الموضوع مع ذلك، ليس لديه ما بتبادله مع بعضه البعض سوى الشكوك أحيانا والمنافع طول الوقت،الأفكار فيه ترف غريب فاقد المعنى، شأن الواقع نفسه الذي لم يعد أحد يحلم بالخلاص من سطوته.."

    وتواصل أروى صالح:

    " وسط الانهيار العظيم، أخذ الجميع يبحث عن أرض مضمونة يسند عليها قدميه اللتين اتضح أنهما كانتا معلقتين في الهواء، وفي واقع انعدمت فيه كل أرضية مشتركة بين أفراد المجتمع بأسره، حيث الهم الوحيد الحقيقي هو أن يؤمن كل فرد نفسه ماديا، أصبحت الأسرة - بعد الشغل - هي الحصن الرئيسي للفرد الذي لم يعد ينتمي في الواقع إلا لأسرته، الأرض الحقيقية الوحيدة تحت قدميه، وهو ما لم يمنعها من أن تبلغ ذروة من التحلل لم تعرفها بلادنا من قبل ولم يكن الثوريون السابقون استثناء من هذا البحث عن جزيرة صغيرة خاصة يقف عليها المرء وسط هذا الطوفان، بل لعل حاجتهم كانت أشد ضراوة".

    وتصل أروى صالح إلى تقاطع قمة مأساتها الشخصية مع مأساتها الفكرية، بعد أن تزوجت ثلاث مرات من ثلاثة ثوار قوميين، لتراهم من الداخل، ولتكتشف في كل منهم شذوذا يختلف عن الآخر، وتكتشف بشفافيتها الفائقة سر دعاوى تحرير المرأة، فتحت هذه الدعاوى لا تكلف المرأة الرجل ليزني بها أكثر من ثمن كوبين من الشاي على مقهى " ريش" وقليل من المناقشات في السياسة ثم يتجهان للفراش، وهي بذلك أرخص من أي بغي.

    لقد كانت إدانة أروى صالح للفكر القومي وإلىساري إدانة هائلة لم يكلف أحد القوميين نفسه عناء الرد عليها أو أنهم أشفقوا من مواجهة من يعلمون أنها كشفت بصدقها عارهم وخواءهم فأحاطوا كتابها بالصمت حتى انفجر ذلك الصمت بانتحارها..

    ***

    كانت هذه شهادة شاهد من أهلها.

    ***

    يعلي الفكر القومي من شأن رابطة القربى والدم على حساب رابطة الدين ، وإذا كان بعض كتاب القومية العربية يسكتون عن الدين ، فإن بعضهم الآخر يصر على إبعاده إبعاداً تاماً عن الروابط التي تقوم عليها الأمة ، بحجة أن ذلك يمزق الأمة بسبب وجود غير المسلمين فيها ويرون أن رابطة اللغة والجنس أقدر على جمع كلمة العرب من رابطة الدين .

    ولقد تسبب هؤلاء الخونة بموقفهم ذلك في انفراط العقد ، فلنقل على سبيل المثال أن خمسة بالمائة من العالم العربي تشكله ديانات أخرى: المسيحية أساسا، من أجل هذه الخمسة بالمائة ضحى هؤلاء الحمقى بالرابطة الإسلامية التي تربط العرب بغير العرب الذين يعيشون في البلاد العربية ونسبتهم لا تقل عن 20% : الأكراد والبربر والنوبيون والزنوج على سبيل المثال. فإذا كنا سنعلي قيمة العنصر في سبيل القومية العربية فلماذا لا نسمح لهذه الأقليات كلها أن تنفصل عن هذه الدولة العربية؟!.

    كانوا يمزقون الدولة العربية وهم يزعمون توحيدها.

    ولقد تنازلوا عن الدين كي يصلوا إلى قاسم مشترك مع الأقباط، لكن الأقباط أعلوا من شأن دينهم، وانتموا إلى كنائس خارج أوطانهم العربية.. ولأول مرة في التاريخ.

    ***

    نعم.. يرى دعاة الفكر القومي أن الحدود بين أجزاء هذا الوطن هي حدود طارئة ، ينبغي أن تزول وينبغي أن تكون للعرب دولة واحدة ، وحكومة واحدة ، تقوم على أساس من الفكر العلماني.

    كان على الأمة أن تدرك من مجرد اقتران العلمانية بالقومية أنها مروق من الإسلام.. لكنهم لا يتركوننا لمجرد استنتاجاتنا.. إذ ما نلبث أن نقرأ:

    - و يدعو الفكر القومي إلى تحرير الإنسان العربي من الخرافات والغيبيات والأديان (!!!) .

    - لذلك يتبنى شعار : (( الدين لله والوطن للجميع )) . والهدف من هذا الشعار ، إقصاء الإسلام عن أن يكون له أي وجود فعلي من ناحية ، وجعل أخوة الوطن مقدمة على أخوة الدين من ناحية أخرى .

    - يرى الفكر القومي أن الأديان و الأقليات والتقليد المتوارثة عقبات ينبغي التخلص منها من أجل بناء مستقبل الأمة .

    - يقول عدد من قادة هذا الفكر : نحن عرب قبل عيسى وموسى ومحمد عليهم الصلاة و السلام .

    · ويقرر الفكر القومي أن الوحدة العربية حقيقة أما الوحدة الإسلامية فهي حلم

    - وأن فكرة القومية العربية من التيارات الطبيعية التي تنبع من أغوار الطبيعة الإجتماعية ، لا من الآراء الاصطناعية التي يستطيع أن يبدعها الأفراد .

    - كثيراُ ما يتمثل دعاة الفكر القومي بقول الشاعر القروي .

    هبوني عيداً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم

    سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم

    - ويقول بعضهم الآخر : إن العروبة هي ديننا نحن العرب المؤمنين العريقين من مسلمين ومسيحيين ، لأنها وجدت قبل الإسلام وقبل المسيحية، ويجب أن نغار عليها كما يغار المسلمون على قرآن النبي والمسيحيون على إنجيل المسيح

    ويقرر بعضهم الآخر أن المرحلة القومية في حياة الأمة ، مرحلة حتمية ، وهي آخر مراحل التطور كما أنها أعلى درجات التفكير الإنساني .

    ***

     

    س2: منذ متى ظهر هذا المصطلح؟

    في تغيرات المجتمع والتاريخ لا تستطيع أن تقول أن الأمر بدأ في الساسة صباحا من يوم كذا عام كذا..!! لأن تلك التغيرات تستغرق عشرات العقود بل والقرون حتى تتطور وتتشكل لكي تظهر أخيرا، ومن ناحية فإننا نستطيع أن نجد ملمحا للقومية في العصبية القبلية العربية في الجاهلية، والتي كانت أكثر تقدما و إنسانية من العلاقات السائدة في روما وفارس، حيث الاستعباد بمعناه الكامل وتقديس الملك الذي كانوا يعتبرونه من نسل الآلهة، كان كسرى أو قيصر يستعبدان كل من دونهما، وكل من دونهما يستعبدون كل من دونهم في سلسلة للعبودية لا تنتهي، نفس الشئ كان مع فرعون قبل ذلك.

    ولأول مرة يعرف فيه التاريخ معنى الأمة كان مع ظهور الإسلام، حين وجدت أمة لها شكلها ومنهجها وعقد العلاقة مع الحاكم، ومنهاج العلاقة بين الأفراد.

    كانت ثورة هائلة في التاريخ البشري، فلأول مرة لا يميز إنسانا عن إنسان قبيلة ولا وطن ولا جنس ولا لون، والناس سواسية كأسنان المشط لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

    كانت أوروبا قد سقطت قبل ذلك بقرن ونصف قرن في حمأة العصور الوسطى، منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية سنة 476 أى قبل الهجرة بنحو من مائة وخمسين سنة، و وكما يقول لنا العلامة محمود شاكر أن أوروبا كانت ساقطة فيما هو أسوأ من القرون الوسطى قبل ذلك بقرون طويلة. كانوا في جاهلية جهلاء، أهلها همج هامج، لا دين يجمعهم، وعند مجىء الإسلام لم يكن سلطان الكنائس المسيحية مبسوطا علي معظم أوربا المعروفة الآن، كانت روما قد سقطت والشمال كله وثنيون برابرة ، و كان سلطانهم مبسوطا على الشام ومصر وشمال أفريقية منذ قرون طويلة سبقت، وفي طرفة عين، في أقل من ثمانين سنة، تقوض فجأة سلطان الرومان على هذه الرقعة الواسعة، وتقوض أيضا سلطانها على نفوس الجماهير الغفيرة من رعاياها ، الذين دخلوا الإسلام طوعا، بل و أعجب من ذلك، صاروا هم جند الإسلام وحماة ثغوره وعواصمه، وحصروا الروم في الشمال، وجاهدت الدولة البيزنطية في الشمال أن تسترد ما ضاع، وظلت أربعة قرون تحاول أن تعود فتخترق هذا العالم الإسلامى من طرفه الشمالى عند الشام، وذهب جهدها هدرا، ولم يغن عنهم السلاح شيئا، وكل يوم يمر، يزداد رعايا الرهبان والملوك انبهارا بالإسلام وخلقه وثقافته وحضارته، وظل الصراع مشتعلا مدة أربعة قرون بين الروم المحصورين في الشمال وبين المسلمين الذين يتاخمونهم جنوبا، وتدبر الأمر قادتهم، وداخلتهم الخشية أن يفضى الأمر إلى زوال سلطانهم عن جنوب أوروبا، وخيم إلىأس فانطلق الرهبان يجوبون شمال أوروبا ليدخلوا أهلها من الهمج الهامج الذي لا دين له في النصرانية، ليكونوا بعد قليل مددا لجيوش جرارة تطبق على ثغور الإسلام ، ويعدوهم لخوض المعركة العظمى ، ثم جاء ما يبدد هذا إلىأس، هذه هى الجيوش الجرارة من النورمنديين والصقالبة والسكسون بقيادة الرهبان وملوك الإقطاع التي جيشت من الهمج الهامج جيوشا تتدفق من قلب أوروبة، تريد مرة أخرى اختراق العالم الإسلامى من شماله في الشام، ونشبت الحروب الصليبية التي استمرت قرنين كاملين (489-690 هجرية/ 1096- 1291 ميلادية) ، وفي خلالها استولوا على جزء من أرض الشام، و أقام به بعضهم إقامة دائمة، و أنشأوا ممالك، وخالطوا المسلمين مخالطة طويلة، كانت فرحة رائعة لهم لكنها انتهت بالإخفاق وإلىأس من حرب السلاح، وخمدت الحروب تقريبا بين الإسلام والصليبية نحو قرن ونصف قرن، ثم وقعت الواقعة، اكتسحت الأرض الرومية في آسيا، في شمال الشام، ودخلت برمتها في الإسلام، وفي يوم الثلاثاء 20 من جمادى الأولى سنة857/ 29 مايو سنة 1453 ميلادية، سقطت القسطنطينية، ودخلها محمد الفاتح بالتكبير والتهليل، إذن فقد وقعت الواقعة، واهتز العالم الأوروبى كله هزة عنيفة ممزوجة بالخزى والخوف والرعب والغضب والحقد، ولكن قارن ذلك إصرار مستميت على دفع هذا الخزى، و إماطة هذا الخوف والرعب، وإشعال نيران الغضب والحقد، ومن يومئذ بدأت أوروبا تتغير ، لتخرج من هذا المأزق الضنك، وبهمة لا تفتر ولا تعرف الكلل، بدأ الرهبان معركة أخرى أقسى من معارك الحرب، معركة المعرفة والعلم….. فقد أدركوا أنها الوسيلة للانتصار علينا…

    ***

    نترك العلامة محمود شاكر ونقرأ في كتاب "محمد" تإلىف كارين آرمسترونج أن بعض الأوروبيين أصبحوا يعتقدون آنذاك أن الإسلام قد يكتسح الممالك المسيحية اكتساحا شاملا، وفي سنة 1453، بعيد الفتح التركى لإمبراطورية بيزنطة الذي أتى بالإسلام إلى عتبة أوروبا، بدأ الأوروبيون يفكرون في ضرورة العثور على أسلوب جديد لمواجهة الخطر الإسلامى، قائلين أنه من المحال أن يلقى الهزيمة في ميدان القتال أو عن طريق أنشطة التبشير التقليدية، ثم جاء عصر النهضة الأوروبية، واكتسب الغرب الثقة في ذاته، ولم يعد الأوربيون يجفلون فرقا من الخطر الإسلامى، بل أصبحوا ينظرون إلى الدين الإسلامى نظرة المترفع الذي يجد فيه بعض التسلية والترفيه..

    ***

    ونترك كارين آرمسترونج لنكمل الحكاية الدامية مع الدكتور محمد عمارة الذي يستحثنا أن ننظر إلى مآسينا كحلقات من حلقات الصراع بين المشروع الاستعمارى الغربى وبين الإسلام و أمته وعالمه وحضارته، إنهم لا ينسون أبدا ونحن لا نتعلم أبدا ، لقد أقاموا الدورة الأوليمبية في أسبانيا سنة 1992 ميلادية احتفالا بمرور خمسمائة عام على اقتلاع الإسلام من غرب أوروبا عندما سقطت غرناطة ( 897 هـ/ 1492م) ، وفي ذلك الوقت (1992) كان الصرب يقومون باقتلاع الإسلام من وسط أوروبا( وكنا نحن نشاركهم احتفالهم الدامى بتسليم بغداد وفلسطين في مدريد).. وكان وزير الإعلام الصربى يصرح أن ما يحدث هو " طليعة الحروب الصليبية الجديدة ضد الإسلام"…

    وكنا نشاركهم ونتحالف معهم على أنفسنا…

    يقول الدكتور محمد عمارة: إن هذه القرون الخمسة التي مرت على سقوط غرناطة واقتلاع الإسلام – بالإبادة ومحاكم التفتيش- من غرب أوروبا لم تكن هدنة من الغرب تجاه الإسلام، بل لقد مثلت في حقيقة الأمر غزوة صليبية دائمة، ومتعددة الحلقات، والجهات ، على امتداد هذه القرون.. لقد بدأت الصليبية الغربية منذ اللحظة التي سقطت فيها غرناطة حتى مشروعها الاستعمارى الكبير الذي بدأ بتطويق عالم الإسلام تمهيدا لغزو قلبه وذلك حتى يتحقق نهب الثروة واحتلال الأرض وتغريب العقل وكسر شوكة الإسلام، وفي إطار هذا المشروع وعلى جبهاته توالت الوقائع والأحداث والمعارك البارزة في صراع الغرب ضد الإسلام وأمته وعالمه، فتحقيقا لمخطط تطويق العالم الإسلامى جهز الأسبان بعد شهر من سقوط غرناطة أسطول كولومبس للذهاب إلى جزر الهند الشرقية الإسلامية، دورانا حول إفريقيا لاكتشاف طريق تطويق عالم الإسلام، فلما ضل كولومبس الطريق وذهب إلى أمريكا نهض البرتغإلىون بذات المهمة بعد خمسة سنوات فوصل فاسكو دى جاما إلى رأس الرجاء الصالح مكتشفا طريق الالتفاف الأوروبى حول عالم الإسلام وليواصل رحلة الالتفاف والتطويق إلى المحيط الهندى، وبعد سنوات قليلة حقق البرتغإلىون أول انتصاراتهم فوق الساحل الهندى ضد جيش الممإلىك الذي خرج من مصر لمجابهة هذا التطويق، وما هى إلا سنوات حتى كان البرتغإلىون بقيادة ماجلان – الذي تمجده كتبنا المدرسية يٌقتل وهو يحارب المسلمين في الفليبين، ويبدأ عصر الاستعمار الغربى الصليبى للفليبين التي تحولت إلى النصرانية بعد الإسلام وأصبح اسم عاصمتها : "مانيلا" بعد أن كانت تُنطق : " أمان الله" …. وبعد مرحلة التطويق لعالم الإسلام بدأت مرحلة الغزو لقلبه: حملة بونابارت على مصر( 1798) تلتها بعد فشلها حملة فريزر (1807) ثم غزو الفرنسيين للجزائر ثم هيمنة البريطانيين على الخليج العربى وعدن ثم احتلال الفرنسيين لتونس والإنجليز لمصر والإيطإلىين لليبيا وفرنسا للمغرب ثم كان عموم البلوى عندما وزع الغرب بقايا العالم العربى بين قواه الاستعمارية في معاهدة سايكس بيكو التي تبعها وعد بلفور ليأتى بعد ذلك إلغاء رمز الوحدة الإسلامية وتحطيم وعائها بإسقاط الخلافة الإسلامية عام 1924 وطى صفحتها من الوجود للمرة الأولى في تاريخ الإسلام. وعندما حقق الغرب هذا الانتصار في تطويق العالم الإسلامى وغزو قلبه واحتلال أوطانه لم يُخف قادته أن ذلك جميعه قد تم ومنذ سقوط غرناطة في إطار حملة صليبية شنها الغرب على ديار الإسلام وواصل معاركها طوال هذه القرون، فالجنرال الفرنسى جورو يقتحم قبر صلاح الدين الأيوبى بعد احتلاله لدمشق ويركله بقدمه ويقول : " ها قد عدنا ياصلاح الدين" والجنرال الإنجليزى اللنبى يقول عندما احتل القدس – بمساعدة عربية!!- : الآن انتهت الحروب الصليبية…

    ***

    ننتهى من حديث محمد عمارة لننتقل إلى "محمد حسنين هيكل" في كتابه حرب الخليج- آخر حرب صليبية ما تزال – حيث يلخص الأمر كله بقوله" … وعندما بدأ الغرب المسيحى (القرن الخامس عشر) يلتف حول القلب العربى الإسلامى، كان الخليج بعيدا يواجه مصيره دون أن يلتفت إليه بالقدر الكافي أحد، كان القلب العربى الإسلامى (مصر وسوريا) يقف حاجزا دون الغرب(…) مرتكزا في الشرق على الدولة المغولية الإسلامية في الهند، ومستندا في الغرب على الدولة أو الدول الإسلامية في الأندلس. وحاول الغرب المسيحى في الحروب الصليبية كسر الحاجز عند القلب، ولكنه فشل واستدار إلى الأطراف، فإذا سقطت في يده أمكن تطويق القلب وكسر الحاجز و إزالته تماما … وتحقق النجاح………….." ..

    ***

    كانت كل تلك الحضارات تحمل تاريخ حضارة وتعصب جنس وجبروت بشر وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، ولقد أعادت الدولة الرومانية الشرقية فجور وجبروت الحضارة الإغريقية، حيث كانت الإنسانية أو الوحشية لا ترتبط بأي قيم مجردة، لكنها ببساطة تعنى هل ستبيد الشعوب التي تحتلها عن بكرة أبيها أم تكتفي باستعباد أهلها واستنزاف ثرواتهم..

    قبل الإسلام انفردت الإمبراطورية الرومانية الشرقية بقيادة العالم في نظام عالمي جديد أحادى القطب..

    سنة 476 ميلادية..

    تذكروا هذا التاريخ..

    تذكروه، فهو بداية ما يطلقون عليه في الغرب: القرون الوسطى والتي تمتد من هذا التاريخ حتى تنتهي بفتح القسطنطينية عام 1453 م.

    كانت هذه القرون في أوروبا عصور الجهل و الظلام الخرافة، لكننا لم نتساءل :هل كانت كذلك مقارنة بما قبلها؟ بالدولة الرومانية الغربية أو باليونان مثلا؟ لا، بل إنهم يتباهون بحضارتهم قبل ذلك سواء تقدم روما المادي والعسكري أو تقدم أثينا في الفلسفة والرياضيات . ظلام العصور الوسطى، إذن كان كذلك لأن هذه الفترة ( 1476-1453م) قورنت ببزوغ الحضارة الإسلامية والتي شكلت تقدما روحيا باهرا وتقدما ماديا لا يبارى، نعم، كانت عصور ظلام للغرب عندما نقارن علماءهم بعلماء الدولة الإسلامية، وعندما نقارن مدنا بمدن، ففي هذه الفترة شيد المسلمون مدنا يقارب سكانها المليون بينما كانت كبرى عواصم الغرب في ذلك الوقت مجرد أكواخ تشكل قرى صغيرة لا يزيد تعدادها عن بضع مئات، هى عصورهم المظلمة إذن، أما بالنسبة لنا نحن فقد كانت عصورنا المضيئة المبهرة، فيها بدأت الرسالة المحمدية، فيها أنزل القرآن، فيها كان للسحاب أن يمطر حيثما تسوقه الرياح ففي بلاد المسلمين سيمطر، فيها كان أكثر من نصف المعمورة مسلما، حرىٌّّ إذن بها أن تكون عصور فخارنا.. دعاة التنوير في بلادنا ينظرون إلى الأمور بعيون أعدائنا!! ويحذروننا كل آن وآخر من العودة إلى ظلام القرون الوسطى!!..

    تنبهوا يا قراء إلى نمط آخر من التزوير يمارسه رواد التنوير.. إنهم دائما يحذرون من أن يعود بهم الظلاميون أمثالنا إلى جهالات القرون الوسطى لكنهم يتجنبون تماما أن يقولوا للناس ما هى الفترة التي تشملها هذه القرون، لأن رجل الشارع العادي لو اكتشف أن هذه الفترة تشتمل على فترة الرسالة لكشف دورهم و أدرك خيانتهم وللفظهم على الفور، يدركون ذلك، لذلك يطلقون التعبير غامضا ليسرى في هدوء ودون مقاومة بين الناس سريان سم حية رقطاء، وبعد أن يكمل السم مفعوله بعد أن يلوثوا وجدان الأمة وبعد أن يزيفوا وعيها، وعندها تكون الأمة قد وصلت إلى درجة من البوار لا يفيدها فيها أن تعرف و أن تكتشف..

    يقول على عزت بيجوفيتش في كتابه: الإعلان الإسلامى :لقد توفي محمد صلى الله عليه وسلم سنة 632 ميلادية، وفي أقل من مائة عام على وفاته انتشرت القوة الروحية والسياسية لرسالته إلى بقعة هائلة من الكرة الأرضية ممتدة من المحيط الأطلسى إلى الصين ومن بحيرة آرال إلى منابع النيل فتحت سوريا سنة 634م وسقطت دمشق أمام الجيش الإسلامى سنة 635م، ووصل الإسلام إلى الهند سنة 641 م، و إلى قرطاج سنة 647م، و إلى سمرقند سنة 647م، وكان المسلمون على أبواب القسطنطينية سنة 717م، وفي سنة 720م كانوا في جنوب فرنسا، وكان هناك مساجد في شانتونج سنة 700م، وحوالى سنة 730 وصل الإسلام إلى جزيرة جاوه..

    ولم يغفر الرومان لنا قط أننا حررنا بلادنا من استعمارهم..

    لم يغفروا ولم ينسوا..

    فبعد أن دكت مدافع محمد الفاتح العثماني القسطنطينية واستيلائه عليها وخروج كثير من فلاسفة القسطنطينية وعلمائها إلى روما وإلى غيرها من مدن أوروبا كان ذلك إيذانا للأوروبيين بالتنبه من سبات طويل وعميق عاشوا فيه . وبدأ عندهم عصر عرف بعصر التنوير أقبل فيه الأوروبيون على دراسة العلم من جديد وعلى تلمس ذاتهم تلمسا جديدا. في ذلك الوقت كان المجتمع الأوروبي يخضع لنظام إقطاعي، حيث تكون منطقة واسعة بكاملها بكل ما فيها من مزارع، من مدن، من قرى ومن عليها وما عليها من حيوان وإنسان تكون ملكا لشخص واحد يتصرف فيها كيف يشاء فله أن يقتل من يشاء أن يقتله، أن يهجر من يريد أن يهجره، له أن يتصرف في كل شيء على تلك الأرض. كانت أوروبا كلها مقسمة إلى إقطاعيات . هذه الإقطاعيات أو رؤساء المقاطعات، ملوك المقاطعات يخضعون لملك أكبر منهم يسمى الإمبراطور وتنظمهم دولة واحدة عرفت عندنا نحن الشرقيين بالإمبراطورية الرومانية الغربية تمييزا لها عن إمبراطورية الروم الشرقية والتي نسميها في كتب التاريخ عادة بيزنطة، وكانت عاصمتها القسطنطينية والتي فتحت أخيرا عن طريق الدولة العثمانية . وبسقوطها انتهى عهد الإمبراطورية الرومية الشرقية وبقيت الإمبراطورية الرومية الغربية . الأباطرة الذين يحكمون هذه الأرض أو القارة الأوروبية كانوا يخضعون أيضا لبابا الفاتيكان والناس عبيد للإقطاعيين، الإقطاعيون تابعون للإمبراطور، والإمبراطور تابع للبابا الموجود في كنيسة الفاتيكان والحاكم المطلق في أوروبا كان هو بابا الفاتيكان، و بطبيعة الحال الأباطرة في أوروبا ابتدءوا يتمردون على البابا، بسبب جشع البابوات وفسادهم من ناحية، وبسبب انفجار حركات الإصلاح الديني التي قوضت من سلطة البابا ونقلت التمرد عليه من إطار المستحيل إلى إطار الممكن. وقد وجد الأمراء في ذلك فرصة أن يستقل كل واحد منهم بقطعة من الأرض التي تحت سلطانه ونشأت هنالك الدولة القومية في أوروبا . هذه تسمى فرنسا، وتلك تسمى بريطانيا وهنا مثلا تسمى بروسيا وهناك جرمانيا وهناك سلوفاكيا إلى غير ذلك من الدول القومية . وصار في كل دولة قومية إمبراطور غير الإمبراطور الذي يكون في الدولة القومية الأخرى ؛ وبذلك فقدت روما سلطتها المهيمنة على أوروبا ككل.

    وكان دخول الصناعة سببا في تسارع الصراع بين الإقطاعيين وبين الملوك والأباطرة وأدى ذلك إلى تفتيت الإقطاع في أوروبا.

    وانقسمت أوروبا أو جرى الصراع في أوروبا على ناحيتين، في ألمانيا مثلا الصراع كان هو حول قدسية الدولة القومية أو عدم قدسية الدولة القومية، هيجل يرى أن الدولة القومية مقدسة ولا يجوز المساس بها وهيجل هذا هو الذي أوجد منطق الجدل أو المنطق الجدلي المعروف بالديالكتيك ؛ وطبعا هو فيلسوف قومي مثالى متعصب. وجاء كارل ماركس اليهودي فجمع بين الديالكتيكية الهيجلية الجدلية والمادية التي جاء بها فيورباخ ليخرج لنا الديالكتيكية المادية. منذ ذلك الوقت أصبح الصراع في أوروبا على نحوين، صراع في شرق أوروبا يقوم على أساس نظرية وجدلية معينة، وصراع في غرب أوروبا يقوم بدون التفات إلى نظرية مادية أو غير مادية ولا يهمه أن يصلي الإنسان أو لا يصلي ولا يهمه أن يكون الإنسان مؤمنا أو لا يكون وإنما الذي يهمه هو أن تنتصر هذه الطبقة أو تلك الطبقة، الجوهر الذي يجمع الجهتين من أوروبا شيء واحد هو أن هذا الصراع سواء كان على نحو الرأسمإلى الغربي أو على نحو الديالكتيك الماركسي في شرق أوروبا وأن كلا من الصراعين جاء تنظيره وفلسفته على أساس لا علاقة لها بالدين. طبعا في أوروبا الغربية الصراع أفرز الديمقراطية، في أوروبا الشرقية الصراع أفرز دكتاتورية البروليتاريا.

    انتهى هذا الزخم والتدافع بالثورة الفرنسية التي تعتبر البداية الحقيقية ( أو على الأحرى نضج الثمار) للفكرة القومية.

    مع الثورة الفرنسية صدرت (وثيقة حقوقق الإنسان) واجتاح أوروبا فكر جديد هيأ الأرضية لكتابة المنطلقات النظرية لحقوق الإنسان، ومن الذين استهوتهم (أفكار الحرية) الفيلسوف الألماني (فيخته) ـ عام 1800 ـ إلا أنه اكتشف خطأ ما آمن به بعد أن لمس عنصرية (وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية)، لهذا ركّز (فيخته) جهوده على إحياء نظرية (الدولة التجارية المطلقة)، التي اعتبرها أفضل الطرق لتوحيد (العرق الألماني بوطن قومي واحد وأمة ألمانية واحدة)، وإنشاء دولة اقتصادية قوية لها حقوق غير منقوصة عن حقوق (فرنسا وبريطانيا).

    وقد اعتبرت جهود (فيخته) الأساس النظري الأول للأطروحة القومية، التي استفاد منها (شارل موراس) و(بارس)، اللذان انطلقا ينظران ويكتبان عن (الأسس القومية الأوروبية)، فيما بلغ التعصب بـ(موراس) إلى اعتبار (العناصر القومية) مهمة لكي تتحول الأمة إلى (شخصية اعتبارية) تعطي السلطة الحاكمة (قوة استبدادية مطلقة) للتحكم بالفرد والمجتمع.

    ويعتقد المؤرخون أن نظرية (القومية الأوروبية المتعصبة) قادت إلى ظهور (النازية والفاشية)، وسهّلت ظهور (دكتاتورية الدولة) في أوروبا، وحدوث الحروب العالمية.

    ***

    كان هذا بعض من التاريخ الذي سبق وواكب نشوء الفكرة القومية..

    ***

    كانت هذه هي الخلفية التي نشأ في إطارها الفكر القومي..

    وكما ذكرنا أن الإسلام كون أول أمة في التاريخ.. و كان أساسها هو الدين..

    وعندما بدأت أوروبا في النهوض فقد عجزت عن تكوين أمة كالأمة الإسلامية، فقد كانت الخلافات الطائفية بين الفرق المسيحية المختلفة أشد حتى من الخلافات بين هذه الفرق وبين الإسلام.

    وعلى سبيل المثال ففي الحملة الصليبية الرابعة وفي طريقهم إلى القدس اغتصب نصارى الغرب "القسطنطينية "المدينة التي يحرسها الله ، وقتل الصليبيون إخوانهم الصليبيين من غير إعلان حرب وهتكوا أعراض نسائهم وسرقوا كنائس "فخر إلىونان "، وخطفوا عظام القديسين ونبشوا قبور أبطال المسيحية وعربدوا فوق مذبح الرب السامى، حدث كل ذلك والصليبيون في طريقهم - في الحملة الصليبية الرابعة -إلى حرب مقدسة- ليخلصوا بيت المقدس والقبر المقدس من المسلمين المتوحشين!!..

    وما حدث بعد ذلك يرويه المؤرخ "أومان" :

    فقأوا عينى البطريرك خليفة المسيح وحامل تاجه وعصاه ولفوا به القسطنطينية (سبع لفات) وفي النهاية قطعوا رأسه والقوه في البسفور!.. .. قتلوا ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف من أهالى المدينة المجردين من السلاح وأظهر الجيش انقيادا للشهوة والشراسة. ولا يقل جميع الكتاب الغربيين تحمسا عن الكتاب الإغريق في إظهار فظائع كرنفال الخطف والنهب الذي قام في هذا الوقت – إذ كان كل فارس أو جندي يستولي على المنزل الذي يريده ويتصرف في سكانه كما يشاء، ولم يكن مصير الكنائس والأديرة أحسن من مصير المساكن الخاصة، وقد وضع الجنود السكارى إحدى العاهرات في الكرسي البطريركي في كنيسة سانت صوفيا وأمروها أن تتلو أغانى بذيئة وترقص رقصات خليعة أمام المذبح السامي، وكان يوجد كثيرون من رجال الدين مع الجيش الصليبي ولكنهم بدلا من أن يحاولوا وضع حد لهذه الأعمال التي صدرت من مواطنيهم، وكانت تقوم على انتهاك الحرمات، كرسوا أنفسهم لنهب خزائن الكنائس من جميع العظام المقدسة التي كانت مخزونة فيها"..

    كانت هذه هي العلاقة بين فئتين مسيحيتين!!

    ***

    في أوروبا بدأت المحاولات الأولى لتحليل ظاهرة القومية من قبل جون ستيوارت ميل وارنست رينان، ومن ثم توسع في التحليل كل من كارل كاوتسكي، واوتو بوير، وفلاديمير ايليتش لينين، وجوزيف ستالين، وكارلتون هاينـز، وهانز كون وكارل دويتش وآخرين. ومن بين المحاولات الأخيرة ثمة مساهمات لكل من ا.ج. هوبسبوم، وبنديكت اندرسون، وارنست جيلنر.

    أما في العالم العربي فان الاهتمام بالقومية وجد افضل تعبير عنه في كتابات ساطع الحصري وميشال عفلق اللذين وفرا القاعدة النظرية للقومية العربية. وذلك إلى جانب كتابات أخرى لأنطون سعادة في القومية السورية وأحمد لطفي السيد في القومية المصرية. وعلى الرغم من النكسات المتتابعة على المستوى السياسي فان الاهتمام بالقومية العربية، وخصوصاً في أوساط المثقفين، بقي مستمراً.

    ولا يطعن في بعض هذه الأسماء دعوتها إلى القطرية لا القومية، فالقطرية نفسها قومية على أساس آخر: فظهر عند الأتراك القومية الطورانية وظهر عند العرب القومية العربية، وظهرت قومية سورية تدعو إلى الفينيقية وكذا، وظهرت قومية فرعونية في مصر، وقومية آشورية في العراق..

    ***

    الدكتور عبد الله عزام[2][2] ممن يرون أن البداية الحقيقية للفكر القومي في العالم الإسلامي عامة والعربي خاصة هي الحملة الفرنسية على مصر و أن حملة نابليون هي النقطة الأولى في بداية تحويل العرب من الإسلام إلى القومية، وقد اختمرت هذه الفكرة في ذهن نابليون على أثر المقاومة التي حركها الأزهر بنداء (الله اكبر) واقتنع الغرب بهذه الفكرة. وخرج الفرنسيون من مصر، وجاء محمد علي باشا. وكان محمد علي ضابطا ألبانيا- لا يعرف العربية – وكان هو بداية القومية العربية!!

    كان محمد علي معجبا بالفرنسيين منذ صغره على صلة بفرنسي اسمه ليون (6‎). ثم استقدم إلى مصر د. (كلوت) الطبيب الفرنسي ليكون مستشاره فأشار عليه بفكرة القومية . وبدأ محمد علي يرسل البعثات إلى فرنسا فرجعت البعثات تحمل بذور الفكرة القومية ومن بين هؤلاء رفاعة الطهطاوي الذي أقام في باريس 1826- 1831 فحمل فكرة الثورة الفرنسية القومية.

    كان محمد علي باشا يطمع في امبراطورية عربية تنفصل عن الحكم العثماني، وقد زين له هذا الأمر الغرب (الفرنسيون بالذات) فأرسل ابنه ابراهيم باشا واحتل الشام كلها، ومكث حكم ابراهيم في بلاد الشام سبع سنوات 1833 - 1840م. وقد كان لهذه السنوات أثر عميق في تغيير مجرى الأحداث في الشام ولمدة قرن ونيف. فماذا صنع ابراهيم باشا في الشام ؟ لقد ألغى الأحكام الإسلامية المطبقة في الشام مما أفقدها مناعتها الإسلامية وجعلها بؤرة للتآمر على عاصمة الخلافة بعد ذلك، كما شجع الجمعيات التبشيرية ومدارسها وأما أبوه في مصر فكان جلساؤه دائما من السفراء والسائحين والمنصرين، وقد واكب هذا كارثة أخرى هي قدوم البعثات البروتستنتية (الأمريكية).

    ***

    وفي نفس هذا الوقت، اشترت أمريكا مزبلة في بيروت، وأسستها لكي تصبح الجامعة الأمريكية بعد ذلك، كان كل طلابها لمدة عقود من المسيحيين، وكان كل دعاة القومية الأوائل من طلابها ، وكان اسمها في البداية (الكلية السورية الانجيلية) وكان أول رئيس لها هو (دانيال بلس) راهب أمريكي يحمل الدكتوراة في اللاهوت، وبقي رئيسا للجامعة حتى 1902، وخلفه ابنه هوارد بلس.

    أن أثر الجامعة الأمريكية، في المنطقة لا يوازيه أي أثر في الفكرة القومية. ولقد خرجت الجامعة أجيالا من قادة بلاد الشام على مدى قرن ونيف. ومن أساتذتها المعروفين برعاية الفكر القومي قسطنطين زريق الذي تخرج على يديه جورج حبش.

    وكان ناصيف إليازجي: (1800- 1871م) اللبناني المسيحي، ممن عمل مع البعثة الأمريكية. وفي مطبعتها مع سمث وفانديك، قام هو وابنه ابراهيم إليازجي بترجمة التوراة، وكان ابنه ابراهيم هو أول من اسس (جمعية بيروت السرية) وابراهيم – داعي القومية - هذا كان نصرانيا، ماسونيا عاش ما بين (1847- 1906 ) مات في مصر ونعته المحافل الماسونية فيها.

    وكان منهم أيضا بطرس البستاني: 1819 - 1883 وهو لبناني كان يعمل مترجما في القنصلية الأمريكية في بيروت وغير دينه من ماروني إلى بروتستنت بسبب صداقته مع المبشرين.

    ويعتبر اليازجي والبستاني من الرواد الأوائل لفكرة القومية العربي، فلقد قام تلاميذهم بالتنظيمات القومية التي آتت أكلها فيما بعد وأثمرت هذا الإقصاء لدين الله عن الحياة وتربية الرواد الذين يعتبرون القومية مثلهم الأعلى تقدم له القرابين والتضحيات.

    ***

    لم يقتصر الهجوم العلماني القومي على الشام فقط، بل ذهب إلى عقر دار الخلافة الإسلامية، فأشعلوا فيها من الفتن والمؤامرات والضغوط والغواية ما دفع السلطان محمود الثاني للقضاء على الإنكشارية العثمانية سنة 1826م ثم أمر باتخاذ الزي الأوروبي الذي فرضه على العسكريين والمدنيين على حد سواء، ولم تكن القومية سافرة في ذلك الوقت، كان أبويها هما السافران: التغريب والعلمانية .

    وفي نفس الاتجاه استقدم السلطان سليم الثالث المهندسين من السويد وفرنسا والمجر وانجلترا وذلك لإنشاء المدارس الحربية والبحرية . وأنشأ أحمد باشا باي الأول في تونس جيشا نظاميا ، وافتتح مدرسة للعلوم الحربية فيها ضباط وأساتذة فرنسيون وإيطاليون وإنجليز . وافتتحت أسرة الفاجار التي حكمت إيران كلية للعلوم والفنون على أساس غربي سنة 1852م .

    كانت مقدمات الهجوم شاملة وقد طالت العالم الإسلامي كله، فى المغرب والشمال الإفريقي كله و في الهند و إندونيسيا .. وكل بلد مسلم.

    ***

    كان طفل القومية يشب ويترعرع على جثة العالم الإسلامي.

    - منذ 1830م بدأ المبتعثون العائدون من أوروبا بترجمة كتب فولتير وروسو ومونتسكيو في محاولة منهم لنشر الفكر الأوروبي الذي ثار ضد الدين الذي ظهر في القرن الثامن .

    و أنشأ كرومر كلية فيكتوريا بالإسكندرية لتربية جيل من أبناء الحكام والزعماء والوجهاء في محيط إنجليزي ليكونوا أداة المستقبل في نقل ونشر الحضارة الغربية .

    وقد قال اللورد لويد (المندوب السامي البريطاني في مصر) حينما افتتح هذه الكلية سنة 1936م : كل هؤلاء لن يمضي عليهم وقت طويل حتى يتشبعوا بوجهة النظر البريطانية بفضل العشرة الوثيقة بين المعلمين والتلاميذ .

    كان نصارى الشام من أول من اتصل بالبعثات التبشيرية وبالإرساليات ومن المسارعين بتلقي الثقافة الفرنسية والإنجليزية ، كما كانوا يشجعون العلمانية التحررية والقومية وذلك لعدم إحساسهم بالولاء تجاه الدولة العثمانية.

    وأسس بطرس البستاني 1819-1883م في عام 1863م مدرسة لتدريس اللغة العربية والعلوم الحديثة فكان بذلك أول نصراني يدعو إلى العروبة والوطنية إذ كان شعاره : حب الوطن من الإيمان . كما أصدر صحيفة الجنان سنة 1870م التي استمرت ست عشرة سنة وقد تولى منصب الترجمة في قنصلية أمريكا ببيروت مشاركا في الترجمة البروتستانتية للتوراة مع الأمريكيين سميث وفانديك.

    كان بعض المسيحيين لا يستطيعون المجاهرة بعدائه للدولة العثمانية مباشرة، فقد كانت الأغلبية حولهم مسلمة تناصر عاصمة الخلافة، وهي حقيقة اجتهد الغرب والقوميون كي يخفوها، بل أن يدّعوا العكس تماما.

    والتقف هؤلاء المسيحيون فكرة القومية العربية، التي تمكنهم من الخروج على الخلافة مستترين برداء العروبة.

    و وكان منهم جورجي زيدان 1861-1914م الذي أنشأ مجلة الهلال في مصر وذلك في سنة 1892م ، وقد كان على صلة بالمبعوثين الأمريكان ، كما كانت له سلسلة من القصص التاريخية التي حشاها بالافتراءات على الإسلام والمسلمين .

    وأسس سليم تقلا صحيفة الأهرام في مصر وقد سبق له أن تلقى علومه في مدرسة عبية بلبنان والتي أنشأها المبشر الأمريكي فانديك.

    وأصدر سليم النقاش صحيفة المقتطف التي عاشت ثمانية أعوام في لبنان انتقلت بعدها إلى مصر في سنة 1884م .

    كان المستشرق مستر بلنت صديق الأفغاني ومحمد عبده يطوف هو وزوجته مرتديا الزي العربي ، داعيا إلى القومية العربية وإلى إنشاء خلافة كان سعد زغلول : زوج ابنة أول رئيس وزراء مصري يتعاون مع الاحتلال الانجليزي من أوائل من تخلوا عن المرجعية الإسلامية.الذي صار وزيرا للمعارف سنة

    و كان أحمد لطفي السيد 1872-1963م يدعو إلى الإقليمية الضيقة وهو صاحب العبارة المشهورة التي أطلقها عام 1907م وهي مصر للمصريين وقد تولى شؤون الجامعة المصرية منذ تسلمتها الحكومة المصرية عام 1916م وحتى 1941م تقريبا .

    ويذكر الدكتور عبد الله عزام كيف قامت البعثات التبشيرية بإنشاء الجمعيات التي تنادي بالفكر القومي وأهمها:

    1 - جمعية الآداب والفنون: 1847 أسستها البعثة التبشيرية الأمريكية وعلى رأسها سمث وفانديك والبستاني وناصيف اليازجي. لم يمضي عليها عامان حتى بلغ أعضاؤها خمسين عضوا أكثرهم من النصارى السوريين في بيروت ولم يكن فيهم مسلم واحد ولا درزي. وبقيت الجمعية خمس سنوات.

    2-الجمعية الشرقية: 1850 أسسها اليسوعيون وكان يشرف عليها الأب دبرونر.

    3- الجمعية العلمية السورية: سنة1857م بلغ أعضاؤها مائة وخمسين عضوا، اشترك فيها بالاضافة إلى مؤسسيها النصارى من أتباع البعث، بعض المسلمين والدروز ونالت اعتراف الحكومة بها 1868م.

    4-جمعية بيروت السورية: 1875م، يقول جورج انطونيوس: ( يرجع أول جهد منظم في حركة العرب القومية 1875 أي قبل ارتقاء عبدالحميد العرش بسنتين - حين ألف خمسة شبان من الذين درسوا في الكلية البروتستنتينية السورية -الجامعة الأمريكية- ببيروت جمعية سرية وكانوا جميعا من النصارى ولكنهم أدركوا قيمة انضمام المسلمين والدروز إليهم، فاستطاعوا أن يضموا إلى الجمعية نحو اثنين وعشرين شخصا ينتمون إلى مختلف الطوائف الدينية ويمثلون الصفوة المختارة المستنيرة في البلاد، وكانت الماسونية قد دخلت قبل ذلك بلاد الشام على صورتها التي عرفتها أروبا، فاستطاع مؤسسو الجمعية السرية، عن طريق أحد زملائهم أن يستميلوا إليهم المحفل الماسوني الذي كان قد أنشئ منذ عهد قريب ويشركوه في أعمالهم) .

    كانت الأيادي الماسونية - اليهودية - هي التي تبنت فكرة القومية العربية، وهي نفس الأيادي التي كانت تحرك في الوقت ذاته القومية الطورانية التي يتبناها يهود الدونمة في سالونيك وتعقد اجتماعاتهم في بيوت اليهود الإيطاليين.

    وقد حاول السلطان عبد الحميد تدارك الأمر، ومواجهة الحركة القومية، ففرت قياداتها – وكان معظمها كما قلنا من المسيحيين- إلى القاهرة حتى تعيش الفكرة القومية في محضن الرعاية البريطانية حيث يجثم كرومر المعتمد البريطاني، فهاجرت العائلات النصرانية والكتاب النصارى إلى القاهرة لتكون القاهرة منطلقا لمحاربة عاصمة الخلافة ولنشر الأفكار العلمانية والقومية لتحل تدريجيا محل الإسلام ولتكون رابطة عربية بدل الرابطة الإسلامية ومن بين هذه الأسماء التي هاجرت:

    ابراهيم إلىازجي بن ناصيف إلىازجي: ماسونيان، وإبراهيم هذا نعته المحافل الماسونية في القاهرة. وأسس جريدة (الضياء).

    فارس نمر وصهره شاهين مكاريوس: صاحب جريدة (المقطم) إلىومية، ومجلة (المقتطف الشهرية) وهما نصرانيان ماسونيان.

    سليم تقلا: الذي اسس الأهرام (جريدة يومية) تصدر حتى يومنا هذا.

    جورجي زيدان: صاحب دارالهلال وله مؤلفات كثيرة.

    أديب اسحق: (مدير صحيفة (مصر) وسليم نقاش (مدير إدارة صحيفة التجارة) وهذان النصرانيان من الشام كانا يعملان بارشاد جمال الدين الأفغاني وهو الذي أسس هاتين الصحيفتين (16).

    روزإلىوسف: جاءت من الشام نصرانية ثم تظاهرت بالإسلام وسمت نفسها فاطمة إلىوسف، ولكنها أصدرت المجلة باسمها القديم (روز إلىوسف).

    أحمد فارس الشدياق: ماروني اعتنق البروتستانتيه على يد البعثة الأمريكية، ثم جاء مصر وأصدر صحيفة (الجوائب )، ثم أسلم على يد باي تونس.

    وكانت أفكار تلاميذ المبشرين، من يسمونهم رواد التنوير تمهيدا للعلمانية، فقد كانت آراؤهم قنطرة عبرت عليها العلمانية والقومية إلى العالم الإسلامي كما حطم الحاجز النفسي بين الكافرين والمسلمين، وأصبحت نفوس المسلمين قابلة لتقبل الأفكار الواردة وعلى رأسها القومية.

    ثم جاء تلاميذ محمد عبده ليعمقوا هذا التيار وليقودوا المجتمع بعلمانتيهم.

    فمثلا لطفي السيد: عمق الوطنية الاقليمية وتزعم الدعوة الى التاريخ الفرعوني.

    وجاء سعد زغلول: وسلمه كرومر وزارة المعارف لينادي بالاتجاه الوطني الإقليمي الفرعوني على الصعيدين السياسي والاجتماعي، ويقول كرومر: (بأني سلمته وزارة المعارف لأنه من تلاميذ الشيخ عبده).

    وجاء قاسم أمين: ليوضح العموميات ويفصل مجمل ما كان يدعو إليه الشيخ عبده وينادي بخلع الحجاب ونزع الحياء من حياة المرأة.

    ***

    لقد كان قلبي ينزف ألما و أنا أقرأ عن هذه الفترة، أقرأ على سبيل المثال مذكرات السلطان عبد الحميد ومن حوله.

    كانت بريطانيا المجرمة تفعل في الخلافة ما فعلته قبل ذلك في الهند وبعد ذلك في فلسطين..

    كانت الدولة الإسلامية تُذبح، ولو أدرك عامة المسلمين ما يحدث لها لافتدوها بدمائهم. لكنهم كانوا معزولين عما يحدث، وتلك من خطايا الدولة العثمانية، وكان الغرب والخونة من بني جلدتنا والمغفلون هم الذين يسيطرون على الأمور. وكانت وسيلتهم في ذلك دعاوى القومية والعلمانية والتحديث.

    ***

    كانت الخلافة العثمانية تقاوم الاحتضار، وكما يقول الدكتور عبد الله عزام فقد استطاعت شخصية عبدالحميد الفذة أن تجمد الدعوة إلى القومية خاصة وأنه رفع شعار (يا مسلمي العالم اتحدوا). وقبل نهاية القرن التاسع عشر عقد مؤتمر بال سنة 1897 الصهيوني، وقرروا إنشاء وطن لليهود في فلسطين، وزار هرتزل السلطان عبدالحميد مرتين وعرض عليه مبلغ (150) مليون جنيه وانشاء اسطول عثماني والدفاع عن سياسته في أوربا وأمريكا وسداد كثير من ديون الدولة العثمانية، مقابل السماح لليهود بشراء بعض الأراضي في فلسطين. وكان جواب السلطان عبدالحميد قاطعا: (بأن قطع عضو من أعضائي أهون علي من أن تقطع فلسطين - من الدولة العثمانية).

    فبدأت أجهزة البث تعمل ليل نهار ضد السلطان عبدالحميد، وقد أصبحت القاهرة وباريس أهم مراكز التآمرعلى السلطان، وتجمع في القاهرة كذلك شباب تركيا الفتاة - وهم من أعداء الله وأدعياء القومية الطورانية - تحركهم أصابع إليهودية في سلانيك وايطاليا وأسبانيا.

    ويتحدث الدكتور عزام عن العوامل الهامة في تطور الحركة القومية ومنها استلام جمعية الاتحاد والترقي الحكم: في تركيا بعد اسقاط السلطان عبدالحميد في 27 نيسان سنة 1909، وبدأت المناداة بالقومية الطورانية التركية، ومن فلاسفتها خالدة أديب -اليهود ية - التي أصبحت فيما بعد وزيرة للمعارف. وكذلك ضياكوك ألب: وهو تلميذ اليهودي دوركايم وتلميذ إليهودي الآخر مويزألب.

    ومن المعلوم أن قادة الاتحاد والترقي كلهم على الإطلاق من الماسون وليس منهم واحد مسلم الأصل أو تركي العرق. فانور بولندي، جاويد -يهود دونمة- كراسو - يهودي اسباني... وبدأت جمعية الاتحاد والترقي بفرض عملية التتريك على جميع المحافظات العربية وغيرها. ففرضت التركية في الدواوين والمدارس والمناهج كخطوة من خطوات تشجيع القومية الطورانية. وكانت بريطانيا واليهود من وراء ذلك.

    وعملية التتريك الجبري على يد يهود الدونمة أدى إلى ردود فعل عنيفة لدى العرب بإنشاء الجمعيات السرية والعلنية التي رعتها بريطانيا واليهود.

    وقد شجع ذلك على تشكيل الجمعيات العلنية والسرية: التي تنادي بالقومية العربية وتنادي بفصل الدول العربية عن الأتراك. وكان السلطان عبد الحميد يطاردهم في الشام.. فيهربون إلى القاهرة ليحميهم اللورد كرومر.

    وقد ترتب على هذا كله نجاح المؤامرة الغربية عامة والبريطانية خاصة في ترك مرجعية الإسلام إلى المرجعية القومية فدخل الشريف حسين الحرب العالمية بجانب بريطانيا ضد تركيا.

    كان الشريف حسين يتلمس المناسبة للتخلص من الحكم التركي خاصة وأنه أحس أن الاتحاديين سنة 1914 يريدون التخلص منه. وكان عبدالله بن الحسين آنذاك نائبا في البرلمان التركي وقد اتصل بكتشنر (المعتمد البريطاني في مصر) ورونالدستورز المستشار الشرقي في دارالاعتماد البريطاني.

    وأعلن الشريف الحرب على تركيا يوم الاثنين 5حزيران سنة 1916 (وسبحان ربي! كانت هزيمة العرب في 5 حزيران يوم الاثنين سنة 1967) وقد وعدته بريطانيا باستقلال بلاد العرب وبتتويجه ملكا عليها، وكان كتشنر قد أصبح وزيرا للحربية البريطانية واستلم مكماهون معتمدا بريطانيا في مصر، وحدثت المكاتبات المعروفة بينه وبين مكماهون ووعدوه بملك البلاد العربية بعد استقلالها.

    واندفع الشريف حسين بكل طاقته – مدفوعا بالإنجليز - يؤجح نارالحمية العربية ضد الأتراك وهزم الأتراك. وتمت اتفاقية سايكس بيكو لتقسيم البلاد العربية بين بريطانيا وفرنسا وأعطيت فلسطين لليهود بوعد بلفور وكان الجزاء الجميل للشريف حسين أن نفته بريطانيا ست سنوات وسلبت ملكه. كانت هذه النتيجة الأسيفة الأليمة للتعاون مع الإنجليز وصدق الله العظيم (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) (37).

    ولقد حذر الكثيرون الشريف حسين من مغبة غدر الإنجليز ومن هذه الفاجعة المتوقعة ومنهم الشيخ رشيد رضا و شكيب أرسلان (38) إلى الشريف عندما بلغه عزم الشريف لغزو سوريا مع جيوش الحلفاء قائلا: أتقاتل العرب بالعرب أيها الأمير، حتى تكون ثمرة دماء قاتلهم ومقتولهم استيلاء انجلترا على جزيرة العرب وفرنسا على سوريا واليهود على فلسطين). وقد أمر الشريف حسين بمنع دخول مجلة "المنار" التي يصدرها الشيخ رشيد رضا من دخول مكة.

    ويذكر الدكتور عبد الله عزام أن وقفة العرب بجانب الحلفاء ضد تركيا المسلمة نقطة تحول كبرى في الفكر القومي والتجمع على أساس القومية. إذ لم يكن الإنجليز يحلمون في يوم من الأيام أن يقف العرب بجانبهم ككفار ضد بني دينهم وعقيدتهم. يقول لورنس (40) ( رجل المخابرات البريطاني وملك الصحراء العربية كما يسمونه ): (وأخذت أفكر طيلة الطريق إلى سوريا وأتساءل هل تتغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية؟ وهل يغلب الاعتقاد الوطني المعتقدات الدينية؟ وبمعنى أوضح هل تحل المثل العليا السياسية مكان الوحي والإلهام وتستبدل سوريا مثلها الأعلى الديني بمثلها الأعلى الوطني).

    ***

    ويعتبر الغرب هذا الموقف نقطة تحول إلى مرحلة جديدة في التفكير القومي. كتبت الايكونومست في حزيران سنة 1962 تحت عنوان (الاسلام ضد القومية ) مايلي: (لقد وضع العرب منذ الحرب العالمية الأولى القومية في المكان الأول حين قاتلوا بجانب الانجليز الكفار - من أجل التحرر من المسلمين الأتراك. وباستثناء البقية الهزيلة من الإخوان المسلمين فليس هناك في العالم العربي اليوم أناس ذوو تفكير سياسي يضعون مجتمع الدول الاسلامية فوق قوميتهم العربية).

    فهل أدركتم الآن يا قراء سر الهجوم الضاري على الإخوان المسلمين .. ومن وراءه؟..

    وهل لاحظتم أن الدول القومية بالذات هي التي دبرت لهم أبشع المذابح..

    سوريا ومصر والعراق..

    ثم الجزائر..

    ثم..

    ثم..

    ***

    في فترة احتضار الخلافة، كان ما يرعب الغرب أن تدرك الأمة غاية ما يحدث، وكانت فرائصهم ترتعد إزاء تهديد السلطان عبد الحميد بإعلان الجهاد.

    وكانت بريطانيا بالذات ثم فرنسا و إيطاليا وباقي الغرب يعدون جيشا من الخونة والمغفلين العرب كي يخدروا الأمة ويزيفوا وعيها.

    كان من الممكن أن يكون رد الفعل على انهيار الخلافة عودة الأمة إلى أصولها، إلى الطريق الصحيح، لكن الغرب كان قد جهز السماسرة كي يضلوا الأمة عن طريقها، وكان على رأس هؤلاء: القوميون والشيوعيون.

    كان النصارى خلف القوميين..

    وكان الصهاينة خلف الشيوعيين..( راجع طلعت رميح- مجلة المنار-2002).. بل لقد ثبت بعد ذلك أن المخابرات الغربية كانت تمول الشيوعيين العرب: راجع كتاب: من يدفع أجر العازف للكاتبة البريطانية فرانسيس ستونز.

    نعم .. كان النصارى خلف القوميين.. وكان الصهاينة خلف الشيوعيين.. كانت هذه الحقيقة مستحيلة التصديق في بداية القرن العشرين..

    ولكن انظروا إلى نهايات الأمور في القرن الحادي والعشرين..

    إلى الصليبية الصهيونية..

    و إلى موقف روسيا..

    هل تفاجأ الآن أيها القارئ: كم أن هذا الكلام صحيح؟!..

    ***

    كانت الأصابع تحركهم من الخارج، وربما لم يفطن بعض القوميين ولعض الشيوعيين للعلاقة الوثيقة بيتهم..

    وكان هذا ضروريا لنجاح الخطة..

    كان الاتجاهان معا يستهدفان الإسلام..

    وكان يمكن للأمة المسلمة أن تنخدع لدعاوى القومية.. و كان من الصعب عليها تقبل الشيوعية.. لذلك اقتضت الخطة انفصالهما في البداية..

    ولم تكن القومية العربية ـ كما لاحظ ذلك الدكتور قسطنطين زريق بقادرة على تحمل ثقل المذهب الاشتراكي ، بحيث أخلت مكانها لـ"الاشتراكية" فحلت "الاشتراكية العربية" بسرعة محل " القومية العربية" . وبدأت تختفي "الاشتراكية العربية" نفسها ليحل محلها " التطبيق العربي للاشتراكية"

    كان جراب القوميين خاليا من المعرفة والتراث بعد أن نفضوا أيديهم من الإسلام فقرروا صياغة القوانين من أي مصدر - عدا الاسلام- أما (العقيدة) في الله، والنظرة إلى الكون والانسان والحياة، فليس عندهم نصوص في هذا، ولذا لجئوا إلى الماركسية لملأ الفراغ الفكري عندهم. أما الأخلاق: أي بيان قائمة الحلال والحرام في المجتمع العربي، فليس هنالك أي شيء من هذا، ولذا فأخلاق المجتمعات العربية -بدون اسلام- اخلاق نفعية تبنى على المصلحة والمنفعة المؤقتة العاجلة. والغاية تبرر الوسيلة -كما قال ميكافيلي-.

    بعد ذلك بنصف قرن.. في مرحلة أخرى من الخطة.. اتحد القوميون والشيوعيون معا.. وتبنت جميع الدول القومية العربية بلا استثناء الفكر الشيوعي أو الاشتراكي..

    ***

    نعم..

    كان رعب الغرب أن تفيق الأمة الإسلامية على الكارثة فنعود إلى الإسلام..

    لذلك جهزوا سماسرة القوميين والشيوعيين ليضلوها عن الطريق..

    سمسار خلف سمسار..

    وخائن خلف خائن..

    وعندما انتهت القومية وانهارت الشيوعية فإن نفس السماسرة الخونة والمغفلين ما يزالون يمارسون نفس الدور في التضليل تحت رايات العلمانية والحداثة والتنوير.

    ***

    بعد الحرب الأولى وإن كانت التجربة القومية مريرة إلا أنه برز عامل جديد وهو: جثوم الاستعمار بثقله على كاهل العالم العربي وأصبح هذا العامل وترا جديدا يعزف عليه دعاة القومية ومفكروها، خاصة بعد ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين وقيام ثورة سنة 1936 الفلسطينية. فهناك نقاط بارزة مابين الحربين الأولى والثانية أدت الى ازدياد التفكير القومي أهمها:[3][3]

    1- الاستعمار البريطاني والفرنسي وقد نقل معه:

    أ- العلمانية (اللادينية) إلى أجهزة الدولة ورفع الطبقة الممزقة اجتماعيا، المتفلتة أخلاقيا، المستعدة للنفاق وايقاد البخور واشعال الشموع للحاكم الجديد.

    وأصبحت هذه الطبقة هي المستعمر الجديد وإن كانت من ابناء المنطقة.

    ب - المناداة بالأفكار القومية كبديل للاسلام وكأساس للتفكير والتجمع، والتنفير من الاتجاه الديني وأخذ العبرة من التاريخ الأسود المرير لرجال الدين في العصور الوسطى في أوربا.

    ج- أصبح نغم التحرر من الاستعمار مادة دسمة للطبقات الناقمة على الإسلام والتي زيفت التاريخ لتجعل الخلافة الإسلامية استعمارا تركيا يتساوى مع الاستعمار الصليبي مستغلة بعض فترات الحكم التركي لتشويه صورة الإسلام.

    2 - إسقاط الخلافة على يد مصطفي كمال اتاتورك وما تبع ذلك من تفكير جدي بإنشاء تنظيم حركي إسلامي لإعادة الخلافة وقيام حركة (الاخوان المسلمين) على يد حسن البنا.

    3 - بروز التفكير القومي على شكل تنظيمات يقودها النصارى وبرز حزب البعث، والقوميون العرب، والقوميون السوريون على السطح، وكانت الجامعة الأمريكية محضنا دافئا لكثيرمن هذه الأفكار.

    كان حزب البعث قد أصبح هو الممثل للتيار القومي الذي ترعاه بريطانيا وفرنسا، ولكن الصراع كان على أشده بين قادة الحزب حتى أنه في انتخابات سنة 1955 للمؤتمر القطري كانوا يقولون: (عفلق جاسوس انجليزي والحوراني فرنسي والبيطار عميل لأكثر من دولة ). أما الاتهامات بالسرقة والجرائم الخلقية فحدث عنها ولا حرج.

    و لقد كان الحزب مأوى يتجمع فيه كل الناقمين على الاسلام أوالطامعين في الحكم: فانتبه النصيريون إليه ودخلوه ليكون سلما إلى دولتهم النصيرية، ودخل فيه الاسماعيليون مثل سامي الجندي وعبدالكريم الجندي.

    والدروز: مثل سليم حاطوم، واليهود : مثل أحمد رباح الذي كان رئيسا للحزب في دمشق، وإيلي كوهين لم يكن المؤسسون لحزب البعث مسلمين أصلا: فزكي الأرسوزي نصيري ملحد، وميشيل عفلق نصراني - قيل أنه يوناني الأصل.

    ***

    وقد ظلت الدعوة إلى القومية العربية محصورة في نطاق الأقليات الدينة غير المسلمة ، وفي عدد محدود من أبناء المسلمين الذين تأثروا بفكرتها ، ولم تصبح تياراً شعبياً عاماً إلا حين تبنى الدعوة إليها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر حين سخر لها أجهزة إعلامه وإمكانات دولته . ولم يؤثر عبد الناصر في عدد كبير من المصريين في اتجاه حملهم على تبني القومية العربية فحسب ولكنه ما لبث أيضاً ان تحول إلى التجسيد الحي للقومية العربية بالنسبة إلى الكثير من العرب في المغرب والمشرق العربيين وفي الجزيرة العربية.

    ***

    باختصار شديد يقول جورج كيرك في كتابه" موجز في تاريخ الشرق الأوسط": " إن القومية العربية ولدت في دار المندوب السامي البريطاني"..

    ونضيف نحن إليه: والجامعة العربية أيضا..

    ونضيف أيضا إليه أن كل الدول القومية، لم تحترم شيئا في حياتها كما احترمت حدود سايكس بيكو!..

    و أن الدول القومية، التي ترتكز في فلسفة وجودها على اللغة العربية، كانت هي أكثر الدول التي أساءت إلى اللغة العربية وامتهنتها.. بل لقد بلغ الأمر أن ممثلا سفيها مثل عادل إمام.. وكاتبا مغفلا مثل محمد جلال راحا في أعمالهما الفنية يعتبران اللغة العربية الفصحى دليلا لا يدحض على الإرهاب والجمود والتخلف..

    وكانت أجهزة إعلام الدول القومية(!!) تحتفل بهذه الإساءة للغة أيما احتفال.

    ***

    لقد كان منطقيا أن ننتقد ونرفض تخلف وظلم وبطش نظام الحكم في الدولة العثمانية، واضعين في الاعتبار كيف قلب عباد الشيطان الصورة، لقد تعرضت الدولة العثمانية القدر هائل من التشويه، وبرغم كل ذلك، حتى لو صدق ما قالوه، فقد كان على مشاعرنا أن تتوجه ضد ظلم مؤسسة الحكم لا وحدة الدولة… لأن ما حدث يشبه تماما أن يسوغ لنا اختلافنا وانتقادنا لنظام الحكم في مصر أن نطالب بتقسيمها إلى دول …و أن تطالب المحافظات بالانفصال عن القاهرة…

    تاريخهم المجرم الذي تعدل مناهجنا الدراسية كى توافقه يغفل أن تركيا في مطلع هذا القرن كانت قد أصبحت دولة عربية!! وحتى عهد كمال أتاتورك كان تعدادها 32 مليون نسمة منهم عشرة ملايين عربى وسبعة ملايين ونصف المليون من الأتراك والباقى جنسيات أخرى…أثار الغرب أيامها النعرات القومية مشجعا القومية… ثم سحق القومية رافعا لواء الوطنية … ثم هاهو ذا يسحق الأوطان لتقسيمها على أساس ديني …

    النقطة الهامة جدا في هذه الدراسة أن القومية لم تكن الوحش الوحيد الذي أطلقه الغرب لافتراس الإسلام، كان جزءا من منظومة كاملة، كانت العلمانية إحدى مفرداتها.

    إن نشر الفكر القومي لم يكن سوى إحدى الخطوات على طريق التغريب في القرن التاسع عشر وقد انتقل من أوروبا إلى العرب والإيرانيين والترك والإندونيسيين والهنود ، إلى كيانات جزئية تقوم على رابط جغرافي يجمع أناسا ينتمون إلى أصول عرقية مشتركة .

    وفي نفس الإطار نشأ الاهتمام ببعث الحضارات القديمة ، يقول المستشرق جب: وقد كان من أهم مظاهر سياسية التغريب في العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن … وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا ولكن من الممكن أي يلعب في المستقبل دورا مهما في تقوية القوميات المحلية وتدعيم مقوماتها .

    لقد عرض روكفلر الصهيوني المتعصب تبرعه بعشرة ملايين دولار لإنشاء متحف للآثار الفرعونية في مصر وملحق به معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفن.

    انظروا مثلا إلى الاهتمام البالغ الذي يحظى به كاتب تافه مثل جمال الغيطاني.. أدرك من أين تؤكل الكتف فراح يكتب عن الحضارة الفرعونية فتستضيفه الإذاعة البريطانية بالساعات الطوال – وهي ساعات مأجورة بالطبع- .. وذلك طبيعي من إذاعة بريطانية أو حتى إسرائيلية..

    لكن الفضائيات العربية كانت تفعل نفس الشيء.

    ***

    في نفس الاتجاه تكفلت النخبة المستغربة في العالم العربي بنشر المذاهب الهدامة كالفرويدية والداروينية والماركسية والقول بتطور الأخلاق (ليفي برويل) وبتطور المجتمع (دوركايم) والتركيز على الفكر الوجودي والعلماني والتحرري والدراسات عن التصوف الإسلامي والدعوة إلى القومية والإقليمية والوطنية والفصل بين الدين والمجتمع وحملة الانتقاص من الدين ومهاجمة القرآن والنبوة والوحي والتاريخ الإسلامي والتشكيك في القيم الإسلامية عن فكرة الجهاد وإشاعة فكرة أن سبب تأخر العرب والمسلمين إنما هو الإسلام .

    ***

    نريد أن ننظر للأمر نظرة شاملة بعد اكتمال الانهيار لكي نراه أوضح: ففي نفس الوقت الذي انفجرت دعاوى القومية في البلقان فيه كانت تنفجر في أرجاء عالمنا العربى.. [4][4] تركيا دولة احتلال فاستقلوا.. أنتم الأصل و أنتم الأعرق.. بريطانيا العظمى تؤيدنا وفرنسا أيضا.. نقع في الفخ.. نحارب جيش الدولة الأم مع بريطانيا.. تنهزم الدولة الأم.. تتفتت الدولة الأم.. هيا يا غرب أنجز وعدك.. فإذا به يأتى ليحتل أرضنا ويرمل نساءنا و ييتم أطفالنا وينزح ثرواتنا وينزع كرامتنا القومية.. تخلف ما دفعكم إلىها سوى عقل مريض.. لُدِغْتم.. ثم ما لبت العرب حتى راح يعبث في عقولكم مرة أخرى: ما الذي يربط المصرى ذا الحضارة الموغلة في التاريخ أكثر من سبعة آلاف عام ببدوى جاهل؟.. لكنهم في الطرف الآخر كانوا يقولون لهم: ما علاقة العرب بالفراعنة..؟.. إن المصريين كالأتراك يريدون احتلال بلادكم.. شحاذون طامعون في ثرواتكم.. دعوا القومية إلى القطرية.. مصر أولا ومصر أخيرا.. مصر قبل الجميع.. سوريا قبل الجميع.. العراق قبل الجميع الحجاز قبل الجميع.. الكويت قبل الجميع.. فلما اندفعنا إلى القطرية اكتملت الدائرة لنعود من حيث بدأنا لكن لصالحهم هذه المرة.. فإذا بهم يثيرون الفتن الطائفية لتبرز دعاوى تقسيم الأقطار على أساس دينى .. السودان مهدد ومصر مهددة والمغرب مهدد ولإسرائيل مطالب دينية في المدينة.. التقسيم على أساس دينى.. الأساس الذي حرضونا على الدولة العثمانية من أجله!!..

    لم نحاول أن نربط أجزاء الصورة لنفهم وندرك فطفقنا على سبيل المثال نشيد بكتاب على عبد الرازق :" الإسلام و أصول الحكم " الذي لم يكن صدوره بعد انهيار الدولة الإسلامية بعام واحد مجرد صدفة ... لا … بل كان تعضيدا للإنجليز لهدم دولة المسلمين المحورية... كان الإنجليز قبلها بنصف قرن قد أخذوا يبثون العصبيات القبلية والقومية كى تأكل نيرانها الدولة الإسلامية الواحدة … وكانوا قد وعدوا كل قومية بالاستقلال … كما وعدوا الشريف حسين بتكوين الدولة القومية العربية الكبرى كدولة محورية للمسلمين إن هو ساعدهم على هدم الدولة الإسلامية في تركيا … وبلعنا الطعم … وجاء أوان تنفيذ وعد لم تكن بريطانيا تنوى أبدا تنفيذه … كان حنثها بكل الوعود قد جاوز كل الحدود وكانت تحتاج إلى محلل منا فتقدم الشيخ على عبد الرازق ليفتى أن الإسلام ليس دولة ولا يحق أن يكون له دولة …

    لم نحاول كما لم يحاول الاتجاه القومى أن يفهم .. ووجدنا على سبيل المثال الكارثة من قال عن رجال ثورة يوليو52 بأنهم كانوا يستلهمون فكر كمال أتاتورك بل ويعتبره بعضهم مثلا يحتذى … لقد اعتذرت ذات يوم لهم بأن ثقافتهم المحدودة لم تترك لهم المجال ليفهموا … لكننى صرخت من الألم عندما وجدت حتى مصطفي النحاس ... الزعيم الوطنى يمجد ما فعله كمال أتاتورك فيقول : ".... ولست أعجب فحسب لعبقريتهالسياسية بل أعجب أيضا لعبقريته الخالقة وفهمه لمفهوم الدولة الحديثة التي تستطيع وحدها في الحالة العالمية الحاضرة أن تعيش وتنمو …" فيرد عليه الإمام حسن البنا قائلا: " هل يفهم من هذا التصريح أن دولةالنحاس باشا - وهو الزعيم المسلم الرشيد - يوافق على أن يكون الأخذ بعد الانتهاء من القضية السياسية ببرنامج كالبرنامج الكمالى يبدل كل الأوضاع فيها ويقصيها عن الشرق والإسلام ويسقط من يدها لواء الزعامة...لقد كان من أعز الأمانى أن يؤيدكم الله فيؤيد بكم الدين والأخلاق ..."…

    ***

    لم نحاول أن نكمل الصورة..

    لم نحاول أن نقرأ التاريخ..

    لم نتنبه لما حدث مع محمد على حتى بعد أن قام بالدور المطلوب خير قيام .. فإن الجيش الذي صنعته له فرنسا، وقام بتدريبه سليمان باشا الفرنساوى قد استخدمه محمد على لا في محاولة الاستقلال عن الخلافة فحسب، بل في محاربة الخليفة نفسه ! وقد كاد يتغلب على جيش الخليفة بالفعل لولا تدخل بريطانيا.. تظاهرا بالوقوف في صف الخليفة، وغيرة في الحقيقة من أن تستأثر فرنسا بصداقة السلطان، وبالنفوذ في مصر! وفي الوقت نفسه لتخدم الهدف العام للصليبية بطريقة أخرى.. فقد أوقفت بريطانيا محمد على عند حده في ظاهر الأمر، و منعته من مهاجمة الخليفة، وفي الوقت ذاته ضمنت له الاستقلال الفعلى عن الخليفة، وكرست أول شق عميق لفكرة الدولة الإسلامية المحورية.. سلحته أوروبا كى يستنزف قوة الإسلام وكى يكون كل الضحايا مسلمين.. هذا بينما تجمعت أوربا الصليبية كلها لتحطيم محمد على في معركة نافارين لأنه نسى نفسه وتجرأ على مهاجمة دولة صليبية هى إلىونان ! فقد كبّرته الصليبية وسلحته لمحاربة الإسلام فقط ، فإذا فعل ذلك فله كل العون . أما إذا هاجت أطماعه لحسابه الخاص ، فمسّ أحد الصليبيين بسوء، فإنهم يتحدون عليه لتحطيمه تحطيما كاملا إذا لزم الأمر..

    ***

    لقد كان جهل الشعب العربي بالصورة الحقيقية للقومية العامل الرئيسي على اجتيازها العقبة الأولى وتمريرها على المسلمين وخاصة بعد ان تبناها البيطار وكسر طوق حصر القومية فقط على العناصر المسيحية..

    يعد ساطع الحصري 188080?-1968م داعية القومية العربية وأهم مفكريها وأشهر دعاتها، وله مؤلفات كثيرة تعد الأساس الذي يقوم عليه فكرة القومية العربية ، ويأتي بعده في الأهمية مشيل عفلق .

    كان ساطع الحصري من موقعه في إطار الدولة العثمانية منخرطاً في سلك (الاتحاد والترقي) الحزب التركي الطوراني الذي حمل راية التتريك ضد العرب. ولكنه في لحظة ما انقلب من موقفه الطوراني ليحمل راية القومية العربية وليجعل من نفسه منظراً لها.

    كيف يدافع عن قوميتين متعارضتين إلا لهدف مشترك واحد: القضاء على الإسلام.

    دعته الحكومة العربية التي تشكلت في سورية بعد الانفصال عن الدولة العثمانية، وكلفته بوظيفة مفتش عام للمعارف ثم مديراً عاماً للمعارف في سورية، ويوم أعلن المؤتمر السوري استقلال سورية وتُوج فيصل بن الحسين ملكاً على سورية بتاريخ 8 آذار1920، وقامت أول حكومة عربية دستورية، أُختير الحصري وزيراً للمعارف فيها، كما أصدر مجلة باسم (التربية والتعليم) نشر فيها عدة مقالات تربوية ووطنية.

    يوم احتل الفرنسيون دمشق، غادر الحصري سورية مع مليكها المبعد عن العرش فيصل الأول، مرافقاً مليكه في رحلاته بين العواصم الأوروبية، وبعد أن توج فيصل ملكاً على العراق استدعى ساطع الحصري الذي كان وقتها في مصر يطّلع على الأوضاع التربوية والتعليمية فيها، ليعمل مستشاراً لشؤون المعارف في الدولة العراقية الجديدة، حيث تسلم طيلة ما يقارب العشرين عاماً عدة مناصب تربوية في بغداد.

    كرر ساطع الحصري النظريات الغربية عن القومية باعتبار اللغة والتاريخ المشترك المكونين الأساسيين لتكوين الأمم (مع لكنة أعجمية شديدة كانت في لسانه العربي). وكان يعتبر الدين (الإسلام) عنصراً ثانوياً مكملاً في حرص مسبق على تفتيت الرابطة الإسلامية التي كانت تقوم عليها الدولة العثمانية. ومع أن ساطع الحصري قد نادى في كل دراساته بدولة قومية علمانية إلا أنه كان يؤكد أن علمانيته لا تعني (اللادينية) كما كان يفهمها كثير من رفاقه وإنما كان يؤكد على أن الدين بعد شخصي في حياة الفرد مردداً بذلك الموقف العلماني الغربي.

    نظر الحصري إلى الإسلام على أنه حركة تجديدية عربية كان لها دورها في صنع تاريخ الأمة العربية ولكنه يرى أن قراءة التاريخ بأعين معاصرة تؤكد أن دور الإسلام في العصر الحديث قد غدا ثانوياً أو هامشياً.

    ومثله مثل الكثير من دعاة القومية حاول ساطع الحصري أن يعيد الاعتبار إلى المرحلة الجاهلية باعتبارها تمثل المهد الذي نشأت فيه الدعوة الإسلامية حيث يغمز هؤلاء القوميون كثيراً البعد الرباني لهذه الدعوة محاولين أن يصوروها وليدة البيئة العربية الجاهلية بكل معطياتها السلبية والإيجابية.

    يعتبر ساطع الحصري أحد الرواد الأوائل للفكر القومي العربي وهو بسبب عصبيته المسبقة ضد الإسلام وجهده المتكرر لإقصائه عن دوره الحقيقي في حياة الأمة قد شارك تاريخياً في صنع الفجوة بين مكونات الأمة الأساسية (الدين) و(القومية) وكان لهذه الفجوة أثرها في بعثرة جهود الأمة وضرب قواها بعضها ببعض.

    والحصري من الآباء الروحيين لكثير من الأحزاب القومية العربية ومن هنا فقد كنا نجد أن وزارات المعارف والمجامع العربية تفتح له أبوابها من قطر إلى قطر (سورية، العراق، مصر، لبنان، الجامعة العربية) وكل هذه التسهيلات لا ترتبط بمقدرة الرجل فقط وإنما ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموقفه الأصلي من الدولة العثمانية ومن الوحدة الإسلامية.

    ***

    لم تكن القومية إلا ستارا كتلك الستائر التي يخفون بها بناية شرعوا في هدمها.. وقد تواكبت معها جهود كانت تتيح للمغيبين أن يفيقوا وللعميان أن يبصروا.. لكنها لا تعمى الأبصار بل تعمي القلوب التي في الصدور.

    ولم تقتصر هذه الجهود على العالم العربي بل امتدت لتشمل العالم الإسلامي بأسره.

    في المغرب: حاولت الادارة الفرنسية أن تشد أزر الروح الجنسية بين بربر مراكش، فقامت با صدار الظهير البربري في 61 مايو سنة 1930 الذي قضى بتنفيذ الأحكام العرفية البربرية وقانونهم الخاص بالأحوال الشخصية بدل الشريعة الاسلامية.

    وفي اندونيسيا: اكتشفت الحضارة الجاوية - الهندوكية.

    وفي لبنان: أثار سعيد عقل و يوسف السود وفيكتور خلاط شبح الفنيقية وقالوا: بأن لبنان لا ينتمي إلى العرب بل جزء من حضارة البحر المتوسط - ايطإلىا، إلىونان.

    وفي مصر: اثيرت الحضارة الفرعونية خاصة بعد اكتشاف توت عنخ آمون، وبعد أن حل شاملبيون حجر روزيتا، وتولى سلامة موسى، ولطفي السيد، ثم سعد زغلول، وطه حسين الدعوة إلى الفرعونية، وبدأت تظهر أسماء رعمسيس، الأهرام نقمرتيتي، أبوالهول، واتخذ أبو الهول شعارا ليمثل نهضة مصر، وفي زمن عبدالناصر أقيم السد العإلى فأثارت إلىونسكو همة العالم لانقاذ معبد أبي سنبل الفرعوني، ونقل تمثال رمسيس - فرعون موسى- الى القاهرة وكلف الملايين.

    وأصبح الأتراك ينادون بشعار (تركيا للأتراك) ومصر (للمصريين)، يقول كويلرينغ عن لويس توماس (104): (أنه قد استطاع أن يرسم الخطوط العريضة للظروف التاريخيه والأجتماعية للحركة التي انتهت بالزعماء الآتراك المحدثين إلى تحقيق مبدأ تركيا للأتراك وهذا المبدأ الذي سار عليه أغلب شعوب المنطقة ولذلك كان الكماليون يقولون (نريد أن نبني إسلاما تركيا يصبح ملكا لنا وجزءا في مجتمعنا الجديد على نحو الكنيسة الأنجليكانية التي هي نصرانية على النمط الأنجليزي).

    وفي مصر العربية كانت أضواء هذه الصيحات تتجاوب فتحرك الببغاوات المصرية التي تلعب بها الأصابع الغربية (الانجليزية بالذات) فتنادي (بفرعونية مصر)، فقال طه حسين: (المصري فرعوني قبل أن يكون عربيا)، وقال طه: (لو وقفا الإسلام بيني وبين فرعونيتي لنبذت إسلامي).

    وعليه فانه ليس من الغريب اهتمام الغرب الكبير بالأثار والمتاحف الوطنية، فتأسست قبل قرن تقريبا هيئات غربيــة للأشــراف علـى التنقيب فـي العالـم الإسلامي، لـربط المسلميـن بالآثــار وبالقيــم والأعلام الذين كانـوا قبل مجيء الاسلام، فجـاء (بوتا) ولايارد إلى العراق BOTTA AND LOYARD‎‏. (ومارييت) MARIET في مص‏وسشلمان في تركيا (106)، ثم أنشئوا دوائر الأثار والمتاحف الوطنية، وليس عجيبا تبرع مؤسسة ؛رو كفلر اليهود ية« بعشرة ملايين دولار لإنشاء متحف للأثار الفرعونية ومعهد لتخريج رجال الأثار(107‏)، ولعلنا بعد هذا نصل إلى سبب النص في صك الإنتداب البريطاني على فلسطين مادة (12‏): يجب أن تضع الدولة المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ هذا الانتداب قانونا خاصا الاثاروالعاديات). كل هذا لقطع صلة المسلمين باسلامهم وربطهم بالجاهلية الأولى حتى يتسنى للغرب أن يستعبدهم ويذلهم تحت يده.

    وفي إيران (108): قام الصفويون والحكم البهلوي بتوهين العلاقة مع العالم الاسلامي، فأنشأ الحكم البهلوي أكاديمية للتخلصمن المفردات العربية في الفارسية، واكتشفت الأكاديمية مجد ايران القديمة وبزغ مذهب زرداشت من جديد واحتل مكانا مرموقا في بلاد السبع والشمس، وبدأت العمارات الجديدة تبنى على الطراز الأخميني القديم، وأقام الشاه محمد رضا بهلوي احتفالا بمناسبة مرور (52‏) قرنا على كورش صانع الأمبراطورية الفارسية وثارتفي ايران قوميات أخرى: مثل: البلوش - الأكراد، العرب.

    وفي العراق: ثارت النعرات، فنادى بعضه بالقومية العربية، ونادى الأكراد بقوميتهم الكردية، والأتراك بالتركية، وثارت الدعوات الأشورية والكلدانية.

    وفي الهند: تأججت نار العصبية الهندية، وأصبح الهنود يفخرون بالهندية و يرون الانقطاع عن ماء زمزم في مكة إلى نهر (جنجا) ويتغنون بأبطال لهندوس (بهيم أرجن، رامها) (109‏). وأصبحوا ينظرون إلى الفتح العربي على انه استعمار واستعباد واحتلال الغريب لأرض الوطن.

    وفي الأردن وفلسطين: ارتفعت الأصوات بالتغني بالأمجاد القبلية القديمة، وقامت النزاعات بين قبائل الشمال والجنوب في شرق الأردن وبين الفلسطينيين وبين أبناء شرق الأردن، وأصبحنا نسمع مؤاب، فيلادلفيا، عمون:

    ***

    ولنترك الدكتور عبد الله عزام يلخص لنا الأمر كله: فقد حاول الغرب الصليبي تقويض الدولة الإسلامية عن طريق الحروب العسكرية ، فيما سمي بالحروب الصليبية ، ولكن كلها تحطمت على صخرة الإسلام القوية ، وكان لصلاح الدين الأيوبي الكردي المسلم دور عظيم في تحطيم تلك الحملات .

    وأيقن مفكروا الغرب الصليبي أنه لا سبيل إلى البلاد الإسلامية والإسلام حي ينبض في عروقهم ، فبدأوا يشنون مع الحروب الإستعمارية حروباً من نوع آخر ، تستهدف هدم الإسلام في قلوب المسلمين ، فبدأ ما عرف بالاستشراق الذي كان في حقيقته عبارة عن شبكة للجاسوسية تنقل للدولة الاستعمارية الحديثة أمثل الطرق للسيطرة على بلاد المسلمين ، وتهدم دينهم بعد أن كانوا يدفعون الجزية لمدة قرون عديدة للخاقان التركي المسلم .

    وعمل المستشرقون كخبراء ـ للحكومات الغربية ـ بشؤون الشرق الإسلامي ، وسيطر الغرب في القرن التاسع عشر على البلاد الإسلامية ، ولكن وجد أن الإسلام ما يزال يحرك الشعوب ، فأوحي إلى من أوحي إليه بالقومية .

    كما ذكرنا أن القومية العربية فكرة أوروبية المنشأ . أما الذين قاموا على نقلها ونشرها في المنطقة العربية فهم النصارى ، فالفكرة أوروبية والتنفيذ صليبي .

    أما الأهداف التي من أجلها ظهرت دعوى القومية فهي : طرد تركيا ـ دولة الخلافة ـ من المنطقة ، وتفريغ المنطقة والعالم الإسلامي من دينه بإحلال العروبة مكان الدين ، وبالتإلى يمكن أن يدخل مكانه أي دين أو فكر جديد في المنطقة ، وهذا ما حدث .

    أما كون النصارى هم الذين بدأوا بالدعوة لهذه الفكرة ، وكانوا هم زعماء القوميين في المنطقة ، فهذا واضح جداً كما أشار إليه معرّب كتاب " لعبة الأمم " . من أن أكثر من تسعين بالمائة من قادة حركة القومية العربية هم خريجو الجامعة الأمريكية في بيروت ، ويشير كذلك إلى أسماء زعماء القومية العربية وكلهم من النصارى ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر :

    ميشيل عفلق زعيم حزب البعث العربي الاشتراكي ، وأنطون سعادة زعيم القوميين السوريين ، وجورج حبش زعيم القوميين العرب ، وقسطنطين زريق وغيرهم .

    بدأت الدعوة للقومية العربية بجمعية الآداب والفنون سنة (1847) وأسسها إبراهيم إلىازجي وبطرس البستاني ، وهما من النصارى ، ثم تحول اسمها إلى الجمعية العلمية السورية سنة (1868) وكانت تدعو العرب إلى الانفصال عن تركيا ، وطالما علمونا أشعار إبراهيم النازجي في المدارس وحتى الآن مازالت تدرس إذ يقول :

    تنبّهوا واستفيقوا أيها العرب لقد طمى السيل حتى غاصت الركب

    أقداركم في عيون الترك نازلـة وحقكم بين أيدي الترك منتهـب

    ويقول إدورد عطية ـ أحد دعاة القومية : " كان المسيحيون يكرهون السيادة التركية ويتطلعون نحو التحرر " .

    وجاء في كتاب " المجتمع العربي " الذي ألفه مجموعة من الأساتذة في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية :" إن أول حركة ذات صبغة عربية قامت في العالم العربي صد الحكم التركي ، واتخذت العروبة أساساً وهدفاً ، كانت جمعية سرية يتزعمها مجموعة من الشباب المسيحي في بيروت وتهدف إلى التفرقة بين العرب والأتراك ، والذي أوحى بفكرة تأسيس القومية رجل يسمى ( إلياس جبّالين ) من بلدة دوك مكايل ، وكان أستاذاً للغة الفرنسية في الجامعة الأمريكية ، وكان من بين الطلاب إبراهيم إليازجي ويعقوب فرهود وشاهين مكاريوس ، وكان الأستاذ معجباً بالثورة الفرنسية .

    أما أنها غربية التخطيط فيقول أستاذهم فيليب حتى ـ وهو معروف عندهم أنه مؤرخ الأجيال الذي مجده القوميون ـ يقول :" كان من نتيجة الاحتكاك بين العقلية السورية والنتاج الفكري الغربي أن تولدت فكرة القومية ، واستمدت وحيها من أكثر النظريات السياسية الأمريكية ، بخلاف القومية التركية التي جاءت متأخرة عن القومية العربية ، واستمدت وحيها من الثورة الفرنسية " .

    ويقول حتى " لقد كان ظهور مبادئ القومية العربية في العقد السابع من القرن التاسع عشر على يد رجال الفكر الثوريين ، وأغلبهم من اللبنانيين المسيحيين الذين تثقفوا في المدارس الأمريكية في بلادهم ، ومما لا ريب فيه أن القومية بضاعة غربية استوردها العالم بما فيه الشرق العربي من أوربا " أما عن التنظيم الدقيق للقومية فكان أول من اهتم به " نجيب عاذوري " النصراني في هذا القرن وكوّن جمعية " عقيدة الوطن العربي " في باريس وألّف كتاباً سماه " يقظة الأمة العربية " وفي سنة (1907) أصدرت جريدة الاستقلال العربي .

    يقول ساطع الحصري :" إن القومية العربية بدأت بنجيب عاذوري الذي يضع آماله العربية السورية في فرنسا أولاً وفي بريطانيا ثانياً " .

    ثم كان بعد ذلك مؤتمر باريس الذي عقده نجيب عاذوري ، واتفق المؤرخون على اعتباره أساس القومية الحديثة فيقول عنه إميل صوصائيل :" إنه كان ـ أي المؤتمر ـ خإلىاً من المطالبة بالاستقلال حتى لا نحرج بعض الدول الأوروبية التي كانت تشجع الدول العربية وتمدها بالأموال ، وقد صرح الزهراوي ـ رئيس المؤتمر ـ لمراسل جريدة فرنسية : إنه ليس للمؤتمر علاقة بولايات العرب غير العثمانية ـ أي الشمال الأفريقي ـ وأشاد فيه بالمدنية الأوروبية ووزارة الخارجية الفرنسية " .

    إنها دين جديد يريد القوميون أن يحلوه محل الإسلام ، فذلك واضح جداً في كتاباتهم ، ومن أقوالهم ، ومن ومنهم من يصرح بذلك دون مواربة .

    فيقول عمر فاخوري في كتابة كيف ينهض العرب : " لا ينهض العرب إلا إذا أصبحت العروبة مبدأ يغار عليه العربي كما يغار المسلم على قرآنه " .

    ومن هنا نرى أن مساعدة حكومات الاحتلال الغربية الحكومات الوطنية ـ في الشرق الإسلامي والعربي خاصة ـ في كل المشاريع التي من شأنها تقوية الشعوبية فيها ، وعمل الحدود بين البلاد ، وإبراز تاريخ هذه البلاد ما قبل الإسلام ، وتدريسه للطلاب والتفاخر بالحضارات القديمة المصرية والأشورية وغيرها ، وجعل الاختلاف حتى في الأشياء البسيطة كغطاء الرأس والزي القومي وكل ذلك يعمق فكرة القومية في نفوس الناس.

    ويستمر القوميون في الدعوة لأن تحل العروبة محل الإسلام ، فيكتب بعض القوميون الذين يتسمون بأسماء المسلمين ، فيقول محمود تيمور في مجلة " العالم العربي " عدد (171) : " وأن كُتّاب العرب في أعناقهم أمانة بأن يكونوا حواريين لتلك النبوة الصادقة ـ القومية العربية ـ يزكونها بأقلامهم " .

    ويقول في هذا الصدد أيضاً علي ناصر الدين في كتابه " قضية العرب" : " العروبة نفسها دين لنا نحن القوميين العرب المؤمنين العريقين من المسيحيين والمسلمين ، ولئن كان لكل عهد نبوته المقدسة فإن القومية العربية هي نبوة هذا العصر " . ويقول في مجلة العربي عدد (2) يناير (1959) : " القومية العربية يجب أن تنزل من قلوب العرب أينما كانوا منزلة وحدة الله من قلوب المسلمين " .

    ويزداد التبجح والكفر في قول إبراهيم خلاص ـ البعثي السوري ـ في مجلة الجيش السوري في (25/4/1967) أي قبل الهزيمة أو النكسة بشهر ونصف تقريباً فيقول : " والطريق الوحيد لتشييد حضارة العرب وبناء المجتمع العربي هو خلق الإنسان الاشتراكي العربي ، الذي يؤمن أن الله والأديان والإقطاع ورأس المال والمتخمين وكل القيم ليست إلا دمى محنطة في متاحف التاريخ " . تعالى الله عما يقول علواً كبيرا .

    فها هي أقوال وكتابات القوميين ومن أوحي لهم واضحة في أنهم يريدون أن تحل القومية محل الإسلام ، ومن هنا قامت كل الانقلابات العسكرية في المنطقة العربية منذ أول انقلاب ، تم فيها وكان في سوريا على يد حسني الزعيم ، ثم انقلاب مصر عام 1952م ، ولقد كانت الشعارات التي ترفعها هذه الانقلابات هي القومية العربية .

    وحتى الأحزاب التي تمخضت في أرض الواقع ، كل مؤسسيها وزعمائها من النصارى ، فظهرت أحزاب البعث العربي الأشتراكي ، وحزب القوميين العرب وحزب القوميين السوريين .

    أما حزب القوميين العرب فخرج من الجامعة الأمريكية ، فلقد كان رئيس الجامعة دودج وقسطنطين زريق يشجعون الآراء القومية وسط الطلاب ويدفعون الطلاب دفعاً للقيام بمظاهرات ضد فرنسا باسم العروبة .

    ورّبى قسطنطين زريق تلميذاً قاد القوميون العرب ومازال ، هو جورج حبش .

    أما القوميون السوريون ، فزعيمهم أنطون سعادة الذي قُتل ثم تولت أرملته القيادة ، وبعدها جاء أسد أشقر ثم جورج عبدالمسيح .

    وحزب البعث بشقيه ، صاحب الخيانات الكبيرة ، فزعيمه هو ميشيل عفلق الذي نال من البابا وساماً رفيعاً ، وقال له البابا : " لقد فعلت ما لم تفعله جميع الجمعيات التبشيرية طيلة ثلاثة قرون " . وحينما عاد إلى العراق " الإله العائد " ومن المضحكات المبكيات ما حدث عندما هلك ، فقد أقيمت عليه صلاة الجنازة في كل أرجاء العراق ، وصلى أبناؤه عليه مع المصلين ، ومن الجدير بالذكر أن صدام حسين الرئيس العراقي ـ وهو تلميذ وفيّ للهالك عفلق يقول : إن جلسة واحدة مع الاستاذ ـ كما كان يطلق عليه ـ استلهم منها مدداً لمدة ستة شهور آتية .

    وجدير بالذكر كذلك أن عفلق هو الذي أوعز للانجليز بتدبير الانقلاب الذي قام به أحمد حسن البكر ، وعين صداماً نائباً له .

    ولكن لماذا كانت العقيدة الشيوعية هي عقيدة كل الأحزاب ؟

    كل الأحزاب القومية العربية ذات فكر اشتراكي ، وذلك لأن القومية كما ذكرنا أنفاً جاءت لتقوض الإسلام وتخرجه من نفوس وقلوب المسلمين ، فكان لا بد من وجود فكرة عقائدية يعتنقها الناس والمجتمعات ، وذلك لأن المجتمعات لا تقبل الفراغ .

    وهكذا كان ديدن الشباب الذين فتنوا بالقومية العربية في الخمسينات والستينات ، يتفاخرون بأنهم قوميون عرب اشتراكيون تقدميون ، وكانت الأسماء المفضلة لهم هي : كاسترو ، وجيفارا ، وهوشي منّه ، وماو ، وغيرها من أسماء زعماء الاشتراكية ، بل أن بعضهم لم يكن يسمي نفسه إلا بأبي جهل وأبي لهب ، ولعل قصة وزير الصحة الأردني الذي كنى نفسه : بأبي لهب معروفة .

    ظلمات بعضها فوق بعض :

    وكما اقتربت القومية العربية بالعداء للإسلام ، وكما هو واضح من كلام منظريهم ومفكريهم ، اقترنت القومية والقوميون بالعمالة للاستعمار وأعداء الأمة ، وإذا ذهبنا نستعرض خيانات القوميين وعمالاتهم التي أظهرها الله على ألسنتهم وألسنة الذين كانوا يعملون لحسابهم ، لطال المقام وطال ولكن نذكر منها طرفاً للتدليل والاستشهاد على أن شعار القوميين المرفوع ما هو إلا دهان باطنه العمالة والخسة ، وظاهرة التقدمية والثورية إلى آخر هذه الشعارات .

    ففي سنة (1939) طالبت عصبة التحرر الوطني التي أنشأها الشيوعيون في فلسطين بجلاء الإنجليز ، وتشكيل حكومة مشتركة بين اليهود والعرب ، وفي حرب (1948) تحول أعضاء عصبة التحرر الوطني إلى قادة عصابات مسلحة ، يذبحون الشعب الفلسطيني ، وكان في هذه العصبة توفيق طوبي وإبراهيم بكر المحامي ، وفؤاد نصار في يافا .

    أما سقوط فلسطين وإعلان دولة اليهود فقد كان للقوميين العرب دور بارز في ذلك

    الوطنية والقومية كلامها وثنٌ، يقدم الجنس والوطن على الإسلام، ويجعل رابطة الوطن والجنس أعظم من رابطة الإسلام .

    وهكذا دخل الشرق العربي في مرحلة الاستعمار الأوروبي وتجزئة المنطقة العربية إلى وحدات وكيانات سياسية تكافح الاستعمار الأوروبي بعد اختفاء الدولة العثمانية، وكان نصيب الشريف حسين من ثورته، تمجيد القوميين والغربيين له في كتب التاريخ بوصفه قائد "الثورة العربية الكبرى".. والحق أنها كانت الخيبة العربية الكبرى.

    ***

    وهنا يجب أن نركز على نقطة خطيرة، هي أن القوميين عندما أفرغوا العروبة من الإسلام قد أفقدوها جوهرها كله.. فأمة بلا ماضي أو بماض مشوه لا شك أنها أمة تائهة متذبذبة لن تبصر طريقها أبداً ، وهذا عين ما يرمي إليه هؤلاء ، أي أن الأمر ليس مجرد خطأ غير مقصود في تشويههم التاريخ بهذا الأسلوب ، أو زلل عن جهالة ، وإنما الأمر عمد موجه تقصد من ورائه هذه الدارسات المنحرفة ، إلى أن ترسب مفاهيم جديدة وخطيرة في أذهان الناشئة ، تتمثل في إقناعهم بإمكانية عزل مجتمعهم عن الإسلام ، بل ووجوب ذلك !! مستثمرين البحث التاريخي ، في إحداث هذه الخلخلة الفكرية ، عن طريق تشويه مواقف التاريخ وحقائقه ، واتجاهات شخوصه وإعادة ترتيبها ، بما يوافق وجهات عقائدية ومذهبية معينة حيث ينعكس هذا التشويه – ضرورة – على التكوين العقلي والنفسي للمسلم المعاصر ومواقفه من تحديات نهضته الحاضرة .

    إن المارقين مذهبياً وحضارياً وأخلاقياً عندما يتجهون إلى إعادة كتابة التاريخ ، فإن العقلاء لن يفهموا من هذه الوجهة إلا أنها محاولة جديدة لتمزيق التاريخ نفسه ، وجعله رقعاً يرقع بها كل منا ثوبه المذهبي المجلوب ، أو يستر بها عواره الحضاري المتغرب .

    إن الفوضى والانتهازية ، والتلاعب الفاضح بالأحداث ، وتزويرها الصريح أحيانا ، يقع الآن في تناول الباحثين لأحداث القرن الحالى ، بل العقود القريبة التي خلت ، فكيف بهم إذا امتدت أيديهم – غلت أيديهم – إلى تاريخنا القديم ، والذي يفصلنا عنه القرون الطوال ، والأزمان المتطاولة والحقب المديدة ؟! .

    وإذا أضفنا إلى ذلك ما قرره ( أ.لوشاتلييه ) من أن الهدف الأول والمقصود الأكبر ، من عمليات التبشير في ديار المسلمين بالذات هو ( هدم الفكرة الدينية الإسلامية ) استطعنا أن نكشف عن أحد المسالك الخطيرة ، التي يتوجه إلىها البث الفكري المعادي وذلك هو مسلك ( هدم الفكرة الإسلامية عن طريف أحد أبنائها ) أو بتغبير آخر ( الغزو من الداخل ) .

     

     

     

    س3:ما الرابطة بين القومية العربية والشريعة الإسلامية؟

     

    اختلافات القوميين في النظرة للإسلام اختلافات شكلية، فقد اختلفوا في النظرة إليه في الماضي أما في الحاضر فهم على اتفاق أنه يجب أن ينبذ من الحياة، أما بالنسبة للاسلام في الماضي:

    1- فمنهم الجاحد لفضله أبدا: مثل قسطنطين زريق الذي يرى أن العرب هم نقلة لحضارة اليونان والرومان ولم يصنعوا حضارة.

    2 - ومنهم المغفل: أمثال علي عبدالرازق (الاسلام وأصول الحكم) وخالد محمد خالد (من هنا نبدأ) الذين يرون أن الدين هو أساس التفرقة والتمزق ولذا يجب إبعاده من المجتمعات.

    3- ومنهم المنكر فقط وليس جاحدا بالمرة: مثل ميشيل عفلق: فهو يرى أن الاسلام وثبة من وثبات الأمة العربية ولكن لا يرد ذلك إلى الوحي والنبوة فقدارات الأمة العربية تجمعت في الماضي حتى أنتجت محمدا.

    4- ومنهم المذبذب والمنافق: مثل حازم نسيبة

    ولقد أدت الدعوة القومية العلمانية إلى قطع صلة العرب بالدول الاسلامية وتمزيق العالم العربي الى دويلات هزيلة حتى تبقى في قبضة العالم الغربي والشرقي، تتسابق في ولائها لأمريكا أو إلى روسيا لتحمي أنظمتها في المنطقة. وقد أدى ذلك إلى تضخم الكيان الاسرائيلي الذي أصبح تنينا يفتح شدقيه يبتلع كل فترة جزءا من بلاد العرب. وأدى أيضا إلى انهيارات في معظم النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، و إلى نشوء أجيال ليس لها هوية معينة، وليس لها أي مبدأ في الحياة، لا تعلم لماذا تعيش؟ ممزقة خلقيا متفسخة اجتماعيا، متفككة أسريا، أفئدتهم هواء، تراهم كل يوم في رأي، يغيرون أفكارهم كما يغيرون أزياءهم في الاعتقاد والاقتصاد والثقافة والاجتماع .

    يقول زويمر - زعيم المنصرين - مخاطبا المبشرين (إنكم أعددتم شبابا في ديار الاسلام لا يعرف الصلة بالله ولايريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الاسلام فجاء النشئ الاسلامي طبقا لما أراده الاستعمار لا يهتم للعظائم ويحب الراحة والكسل ولا يصرف همه في الدنيا إلآ في الشهوات) .

    إن هذا الشرق لم يشهد في يوم من الأيام وحدة ولا عزة ولم يكن له كيان إلآ بالاسلام الذي وحده أول مرة ولن يجد نفسه مرة ثانية إلآ بالاسلام.

    ويقول جب: (إن الأسلوب الذي استطاعت به طبقة المتغربين تأمين قبضتها الثابته على السلطة في الدولة... كان القومية... فالقومية هي فكرة غربية تماما).

    وإن سبب انتشار القومية في العالم العربي هو سيطرة الغرب نفسه على العالم الاسلامي.

    ان القومية ليست الدواء الناجع لأمراضنا، بل هي داء عضال مما أصابنا، يقول سمث: (وتاريخ الشرق الأدنى الحديث يدل أن القومية المجردة ليست القاعدة الملائمة للنهوض بالواجب الشاق، ومالم يكن المثل الأعلى إسلاميا على وجه من الوجوه، لن تثمر الجهود البتة).

    وما أجمل كلمة سيد نا عمر بن الخطاب ننهي بها هذا البحث: (نحن قوم أعزنا الله بهذا الدين ومهما ابتغينا العزة - عن غير طريقه - أذلنا الله).

    يرى الدكتور عبد الله عزام والشيخ بن باز وجل العلماء أن القومية كفر مخرج من الملة.

    يقول الدكتور عزام:

    1- القومية العربية: تقيم التجمع واللقاء على أساس الجنس والأرض بدل العقيدة. وهذا يصطدم مع الاسلام.

    2 - القومية العربية: تفضل النصراني العربي على المسلم الباكستاني أو التركي وهذا يناقض القرآن (إن أكرمكم عندالله أتقاكم...).

    3 - القومية العربية: تنصر اليهود ي العربي أو النصراني العربي على المسلم الباكستاني أو الأفغاني وإن كان الحق للباكستاني أو الأفغاني أو الايراني.

    وهذا يناقض (فاصبحتم بنعمته إخوانا....)، (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه).

    4- القومية العربية: توإلى الكفار وتتبع القادة الكفار، فهي تقدم كلام ميشيل عفلق أو جورج حبش أو اساتذتهم أمثال نيتشة وروسو على أي كلام آخر ولو كان كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. والله يقول (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم...) (82).

    5 - القومية العربية: لا تقبل أن تجعل قانونها من الاسلام خوفا من اثارة النعرات الدينية والطائفية كما يدعون فهي تريد أن تبعد 90% من أبناء الدول العربية عن اسلامهم وتخرجهم عن دينهم مراعاة لشعور فئة قليلة من النصارى العرب. (وإذا قيل لهم تعالوا الى ما انزال الله والى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم....) (83).

    6 -القومية العربية: لا ترى أن الاسلام صالح لهذا الزمان، ولذلك كثيرا ما تصف الاسلام بالرجعية والجمود والتأخر، وتصف العلمانية والتحلل من الدين بالتقدمية والتحرر.

    7 - القوميون العرب: يرون أن الاسلام وثبة من وثبات الأمة العربية أدت دورها ومضت، وأما إلىوم فهناك مبادئ أخرى تؤدي دورها دون الاسلام الذي لايستطيع أن يواكب العصر.

    8 - القوميون يرون أن القومية العربية دين جديد له سدنته وحواريوه وأتباعه وقديسوه، يقول محمود تيمور (84): (وان كتاب العرب في أعناقهم أمانة هي أن يكونوا حواريين لتلك النبوة الصادقة - القومية- يزكونها باقلامهم)، ويقول علي ناصر الدين (84) في مقدمة كتابه (قضية العرب ط3): (العروبة نفسها دين عندنا - نحن القوميين العرب- المؤمنين العريقين من مسلمين ومسيحيين، ولئن كان لكل عصر نبوته المقدسة، إن القومية العربية لهي نبوة هذا العصر)، جاء في مجلة العربي (85) عدد 2 ص 9 يناير 59: (الوحدة العربية يجب أن تنزل من قلوب العرب أينما كانوا منزل وحدة الله من قلوب قوم مؤمنين )، ويقول عمر فاخوري (كيف ينهض العرب): (لا ينهض العرب إلآ إذا أصبحت العربية - أو المبدأ العربي - ديان يغارون عليها كما يغار المسلم على قرآن النبي الكريم وغرضي من هذا الكتاب تشكيل ديانة جديدة هي الجنسية أو العنصرية العربية).

    9 - القومية العربية: تقديم للجاهلية على الاسلام (أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)، والجاهلية: هي كل حكم غير حكم الله. ولقد رأينا أن زكي الأرسوزي (43) يرى أن الجاهلية العربية هي الفترة الذهبية في حياة العرب ويراها مثله الأعلى.

    10 - القوميةالعربية: طاغوت جديد (صنم جديد) والطاغوت: كل حكم غير حكم الله، وكل ما أطيع من دون الله، وكل من تحاكم إليه الناس دون الله، سواء كان صنما أو كاهنا أو شيطانا أو قانونا أو وطنا أو‏قوما أو زعيم قبيلة أو عشيرة أو بلدا. وهذا كفر بنص القرآن (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل إلىك وما أنزل من قبل يريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزال الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فيكف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) (86)، صدق الله العظيم: إنهم يقولون لا نريد إلآ الاحسان والتوفيق بالقومية، لا نريد إلآ الوحدة الوطنية، ونريد أن نتلافي الخلافات المذهبية والطائفية والدينية. يقول ابن كثير (87): (من ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة فقد كفر. فكيف بمن تحاكم إلى إلىاسا - قانون جنكيرخان - وقدمها عليه - على الاسلام - لا شك أن هذا يكفر باجماع المسلمين)، ويقول سيدقطب (إن الذي يحكم على عابد الوثن بالشرك ولا يحكم على الذي يتحاكم إلى الطاغوت بالشرك. ويتحرج من هذه - الحكم بالكفر على من يتحاكم إلى الطاغوت - ولا يتحرج من تلك، إن هؤلاء لا يقرأون القرآن، فليقرأوا القرآن كما أنزل،وليأخذوا قول الله بجد (وان أطعتموهم إنكم لمشركون).

    وبعد: فهذه نقاط عشرة كل واحدة منها تخرج القومي من الاسلام وتكفره كفرا ينقله عن الملة الاسلامية.

    ويقول الشيخ بن باز: إن هدف القومية غير هدف الإسلام وإن مقاصدها تخالف مقاصد الإسلام والدليل على ذلك أن الدعوة إلى القومية العربية وردت إلينا وجاءت من أعدائنا الغربيين ليكيدونا بها نحن المسلمين ولفصل بعضنا عن بعض وتحطيم كياننا وتفريق شملنا على نحو قاعدتهم المشؤومة ( فرق تسد ) وذكر كثيرمن مؤرخي الدعوة إلى القومية العربية ومنهم مؤلف الموسوعة العربية : أن أول من دعا إلى القومية العربية هم الغربيون على أيدي بعثات التبشير في سويا ليفصلوا الترك عن العرب ويفرقوا بين المسلمين

     

    (( القومية أو الوطنية أو القبلية أو الحزبية أو النعرات العرقية أو الطائفية أو ما أشبه ذلك كلها يجمعها أنها تنافي وتخالف التفاضل بين الناس بالتقوى .))

    ، لأن هذا المشروع السياسى هو جوهر الدين وأساسه ، أو بصريح عبارة سيد قطب (نقلا عن المودودى): أن كلمة "دين" في القرآن تعنى على وجه الدقة والتحديد نظام الحكم

    رغم أن الفترة الزمنية التي نجح فيها القوميون في امتلاك أزقّة الأمور والحكم ، كانت ومازالت أسوأ الاحقاب الزمنية التي مرت ، وليس على الأمة العربية فحسب ، ولكن على كل الأمة الإسلامية فكم من الهزائم مُنيَ بها العرب وكم من عداوات وأحقاد فيما بينهم لازالت إلى الآن تطحن الشعوب العربية المسلمة طحنا .

    ما ذلك إلا جرّاء لمخالفة نص الرسول عليه الصلاة والسلام الذي يقول : ( لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى ) وقوله : ( دعوها فإنها منتنة ) بعد ما سمّاها جاهلية .

     

    س4:ما هي الفوائد التي يمكن للقومية العربية أن تقدمها للأمة العربية؟

    للقومية العربية فوائد جمة .. لكن ليس للأمة العربية بل لأعداء الأمة العربية، لأمريكا و إسرائيل.

    أما الفائدة التي يمكن أن تؤديها للأمة فهي أن تدفن نفسها بعد أن تعفنت.

    لقد زيفت وعي الأمة حتى أوردتها موارد الهلاك، وهي تشترك مع الحداثة التي تنادي بالقطيعة المعرفية، بعد أن قامت بالتمهيد لها بتزييف التاريخ، فلكي تسوغ ارتماءها في أحضان الشيوعية والاشتراكية أخفت عن الأمة التاريخ الأسود للاتحاد السوفيتي.

    لقد راجعني كثير من القراء بل وبعض الكتاب فيما ذكرته في أحد مقالاتي من أن روسيا الأصلية كانت تشكل 7% فقط من مساحة الاتحاد السوفيتي، أما الـ93% الباقية.. ففلسطين أخرى..

    والحقيقة أن النسبة كانت أفدح مما ذكرت.. لأنني انتقيت لحظة متأخرة في التاريخ!!.

    سوف أحاول قدر ما أستطيع في المساحة المتاحة أن أضع رؤوس موضوعات شديدة الإيجاز:

    - في عام 18 هجرية (638م) أرسل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائده عياض بن غنم والصحابي الجليل حذيفة بن اليمان فلم يأت عام 24هـ (644م) إلا و قد خضع جنوب القوقاز كله للحكم الإسلامي.

    - لجأ الأمويون والعباسيون لتعزيز الفتح في بلاد القوقاز إلى توطين العناصر العربية في تلك المناطق ليعلموا الناس الإسلام. وكانت البداية توطين 24000 من أهل الشام في المنطقة تبعتها عشرات أخرى من الآلاف.. و ذلك تفسير ما يقولونه اليوم هناك عن أصولهم العربية.

    - حتى سنة 921 م كانت روسيا غير موجودة، كان الموجود إمارة حقيرة اسمها موسكوفيا، مساحتها 250 كيلومترا مربعا، وكان عدد سكانها مائة ألف يصفهم شاهد عيان هو العالم و المؤرخ المسلم " ابن فضلان" بأنهم : " أشر خلق الله على الأرض".

    - بعد ذلك وحتى القرن الحادي عشر كانت روسيا الأوروبية مقسمة إلى أربع وستين إمارة. وظلت موسكو قرية مغمورة حتى القرن الثالث عشر حيث كان دوق روسيا الأعظم يقسم يمين الولاء للمسلمين ويعلن خضوعه وجميع الأمراء الروس لهم ويدعون لهم في الكنائس. كان إيفان الأول موظفا عينه الحكام المسلمون لتحصيل الجزية من الروس.. فكان يسرق لنفسه أضعاف الجزية وبدأ في تكوين جيش قوى بالمال المسروق.. وحتى عام 1480 كانت روسيا تدفع الجزية للمسلمين القوقازيين.

    - وحتى ذلك الوقت لم تكن مساحة روسيا تتجاوز مساحة مصر لكنها أخذت بعد ذلك تتوسع توسعا همجياً فوق جماجم المسلمين حتى بلغت اليوم خمسة عشر ضعفاً من حجمها.

    - في منتصف القرن السادس عشر الميلادي بدأ إيفان الرابع المسمى "بالرهيب" ( حفيد إيفان الأول أجير المسلمين) هجومه وتغلب على بعض إمارات المسلمين ودخل عاصمتهم قازان ثم استراخان فقام بقتل كل سكان تلك المدن في مجزرة هائلة عام 959هـ (1552م). وفى عام 988 (1580م) و بعد معارك استمرت 56 عاما سقطت سيبريا بعد أن كانت تحكم بالإسلام..

    - عام 1604 حيث قام القيصر بوريس جودونوف بهجوم كبير على داغستان في محاولة لاحتلالها ولكن حملته انتهت بكارثة كبرى فقد دمر المسلمون جيشه وحطموا القلاع الروسية على أنهار سولاك وسونجا وتريك.

    - و في عام 1722م بدأت حملة روسية استعمارية جديدة بقيادة بطرس (المسمى بالكبير). و استطاع بطرس انتزاع داغستان من جسد الأمة الإسلامية . ثم استولى للمرة الأولى في التاريخ على شمال الشيشان و شرقها .

    - توالت المصائب بتولي كاثرين عرش روسيا و تلك المرأة كان حلمها وهدفها المعلن هو السيطرة على بلدان المسلمين و تحويلها إلى بلدان أرثوذكسية .

    - لم يكتمل سقوط القوقاز والشيشان بين أيدى البرابرة الهمج إلا في عام 1785..

    - إن القوقاز التي احتلتها روسيا تقارب مساحتها مساحة أوروبا.. و دولة منها هي الداغستان -وليست السودان- هي أكبر بلد في العالم الإسلامي من ناحية المساحة.

    - خان الحكام وساوموا وتنصر بعضهم أما العلماء و القادة فحملوا راية الجهاد ضد الروس. . و كان أولهم الشيخ منصور الشيشانى الذي استطاع أن يذل ناصية الروس على أرض القوقاز الإسلامية. . وذلك بعد أن تمكن من إلحاق هزائم متتالية و مذلة بالروس خلال ما يقرب من تسع سنوات (1783-1791م).ثم استطاع الروس أن يأسروا الشيخ منصور أثناء معركة ضارية تسمى تتار-تومب عام 1791م .. فخلفه في الجهاد الإمام مولا الداغستانى.. ثم الإمام شامل.. الذي قاد المقاومة في عام 1824، فحقق انتصارات هائلة حتى تمكن الروس من أسره بعد خمسة ثلاثين عاما من الجهاد.

    - بعد الحرب العالمية الثانية قتل ستالين نصف مليون شيشانى ( 60% من الشعب الشيشانى ذلك الوقت ) .. لكن أبناء الشهداء عادوا ليواصلوا الجهاد..

    - و حتى عام 1928 كانت اللغة الشيشانية تكتب بالحروف العربية..

    ***

    يقول المؤرخ جون بادلي في كتابه: "الغزو الروسي للقوقاز" : لو اتحدت إيران وتركيا لتم هزيمة الروس هزيمة ساحقة..

    ويقول المؤرخ الروسي فادييف:" إن الحرب القوقازية شلت حركات الجزء الأكبر من الجيوش الروسية بعض الوقت، ولولاها لاستطاعت الجيوش الروسية أن تحتل الشرق جميعه من مصر إلى اليابان".

    ***

    ولقد أخفى القوميون هذا كله عن الأمة سترا لعارهم.. وتسويغا لقبول الأمة للفكر الاشتراكي الذي لا يقل عن الفكر الصليبي أو الصهيوني ضراوة.

    ***

    في بحث قيم بعنوان "الشعوبية الجديدة" يؤكد محمد مصطفي رمضان أن القومية العلمانية مشروع مستورد ، ثم يتساءل تساؤل الإقرار لا الاستنكار:هل افلست القومية العربية وصار لزاما عليها ان تلملم اوراقها وتنسحب خارج التاريخ والحاضر بعد ان تحمل نفسها مسؤولية كل ماحدث للامة خلال القرن العشرين وهل على التيار القومي بكل تشعباته وفروعه واجتهاد شعبه وتناحرها ان يخلي الساحة لسواه بعد ان يعلن ادانة نفسه وافلاسه ووصوله الى درجة من الجمود لاتجدي معها المراجعة ونقد الذات، والتصحيح .

    ***

    وإذا كنا نؤمن إيماناً جازماً بأننا أمة مسلمة مرجعيتها كتاب الله وسنة رسوله وأنهما مصدر الهدى والنور اللذان صنع الله بهما الأمة وأحياها فإن الأمر يصبح أمر ( دين ) فقضية ( الولاء ) والهوية ، ليست من قبيل ( الفكر العام ) حتى يجوز لكل أحد أن يبتدع فيها جديداً أو يستدرك فيها على علماء الأمة وإجماع السلف ، وإنما هي مسألة ( علمية ) بكل ما يحمله ( العلم ) من قداسة وقواعد ومناهج ، وبكل ما يستدعيه ( الاجتهاد ) من شروط وإمكانات ، تبدأ من الشرط الأخلاقي ( العدالة ) ثم الشروط العلمية المتفق عليها .

     

    س5: كيف ينظرالعرب والغرب لهذه القومية في الوقت الراهن؟

    لقد كانت القومية العربية العلمانية مجرد محطة في طريق تجزئة الأمة يتم تجاوزها بعد استنفاذ أغراضها واستثمارها من قبل العدو.

    وقد بدأ العالم العربي يكتشف أن كل رؤاه السابقة التي انحرفت عن الإسلام لم تكن سوى حلقة من حلقات الحصار..

    أما الغرب فقد تكفل بتدمير القومية في 67 وفي حربي الخليج الأولى والثانية، وهو على وشك اجتياح القوميات الصغري التي تفتت القومية العربية إليها تحت وطأة ضرباته

    ***

    إذا شئنا أن نلخص هدف الغرب في جملة جامعة مانعة، لما كانت هذه الجملة إلا: إنما أتيت لأدمر مكارم الأخلاق..!!

    و لأن الإسلام نزل على البشرية ليتمم مكارم الأخلاق فليس ثمة قوة في العالم بقادرة على وقف هذا الوحش الغبي المسعور إلا الإسلام والمسلمين.

    إن إدراكنا لحتمية الصدام هو سبيلنا الوحيد لا إلى الانتصار فقط.. بل إلى مجرد حماية وجودنا وديننا. لذلك فإن كل القوى الإسلامية الداعية إلي الحوار والتقريب و إزالة أسباب الخلاف إنما هي – علمت أم لم تعلم – تقوم بدور النخاس الذي يقوم بترويض العبيد كي يحسنوا خدمة زبائنه وسادته الراغبين في بضاعته.

    وكان القوميون من أول المغررين..

    ***

    وما دام الصدام حتميا فإن علينا أن ننظر إلى الوضع الكارثة الذي نجد الآن أنفسنا فيه بعد أن خاننا الحكام والنخبة وظلوا كل تلك الفترة يتخلصون من كنزنا الإسلامي ليستبدلوه بالوباء الغربي.

    نجح الغرب أن يحاصرنا في حلقات.. حلقة خلف حلقة.. كظلمات فوقها ظلمات.. وقد تواكب مع ذلك ضرائب حروب لم نحاربها في الوقت المناسب، أو حروب دخلها القوميون فانهزموا هزائم ساحقة، وجهادا لم نجاهده كما ينبغي للجهاد أن يكون، فإذا بالعالم يتداعى علينا كما تتداعى الأكلة على قصعتها.

    فالهند على سبيل المثال، الهند التي لم نجاهد فيها كما ينبغي للجهاد أن يكون، تحولت من مملكة إسلامية إلى خطر علي الإسلام. والصين، التي غزت بلادا إسلامية يوجد فيها الآن أكثر من مائة مليون مسلم، تخشى اشتداد ساعد الإسلام الذي سيطالب حين استعادة قوته بعودة بلاده، وروسيا التي تشكل البلاد الإسلامية المحتلة 93% من مساحتها ( نعم.. مساحة الاتحاد السوفيتي في القرن الخامس عشر كانت 7% من مساحته الآن.. أما الـ 93% الأخرى كلها فهي بلاد إسلامية استولت عليها روسيا تماما كما استولى اليهود على فلسطين).. و..و..و..

    يترتب علي هذا أن العالم كله يخشى أن يستعيد المسلمون قواهم، ليطالبوا بحقوقهم المغتصبة.

    يتكالب العالم كله على العالم الإسلامي تكالب الفريسة على الضحية التي عجز رعاتها عن حمايتها.. بل خانوا وهانوا فساهموا في اصطياد الفريسة.. وكان ما كان فتكالبت الوحوش على الغنيمة..

    دائرة الحصار تلك تشمل العالم كله.. داخلها دائرة حصار أخرى تشمل حكام العالم الإسلامي الذين أوصلوا الأمة إلي ما وصلت إليه قرنا بعد قرن عن طريق الجهل والخيانة والسطحية والأنانية وقصر النظر.. داخل دائرة حصار الحكام دائرة أخرى هي دائرة الجيوش.. التي تركت مهمتها الأساسية لحماية بلادها لتكون وحدات متخلفة سيئة التدريب تابعة للجيش الأمريكي ولا تتحرك إلا لصالح أمريكا أو لحماية أنظمة الحكم التي ترضى عنها أمريكا.

    داخل دائرة الحصار تلك توجد دائرة حصار أخرى أخس و أشرس هي دائرة أجهزة الأمن الضارية المتوحشة والتي قدمت لها القومية المسوغ والتدريب، لتدمر وجدان شعوبها خدمة للموساد والسي آي إيه. . دائرة بلا دين ولا خلق ولا ضمير.. دائرة لا تقل وحشية وشيطانية عن الوحش الأمريكي نفسه.. بل ربما تزيد.

    داخل دائرة حصار الأمن توجد دائرة حصار الإعلام الذي تكفل عبر القرن الماضي على الأقل بغسيل مخ أمته وتزييف وعيها خدمة للحاكم النخاس وللقرصان الغربي. إعلام لم يتورع طيلة الوقت عن الكذب المجرم ترويضا للأمة.

    وما القومية والعلمانية والحداثة إلا فصولا في المأساة.

    داخل دائرة الإعلام يوجد دائرة المثقفين، وهم في الغالب الأعم ليسوا مثقفين بأي معنى، فما هم سوى موظفين عينتهم جهة الإدارة التي تعين رجال الأمن ( أو على الأحرى وحوش الأمن) وبنفس المنهج، وهم أيضا وحوش وذئاب ضارية كانت وظيفتهم نهش عقيدة الأمة وتسفيه لغتها و أخلاقها.. لا أقول لمصلحة العقيدة الغربية أو الأخلاق .. بل أقول لمصلحة انعدام العقيدة الغربية وانعدام الأخلاق.

    في عام 1912- على سبيل المثال – كانت المظاهرات الحاشدة تخرج في العالم العربي تأييدا لكوسوفا وكان عشرات الشعراء يكتبون فيها القصائد العصماء .. وسنة 1995- على سبيل المثال أيضا وبعد قرن من القومية– لم يكن أحد من معظم الناس قد سمع مجرد سماع عن كوسوفا ولا أحد كان يعرف مكانها على الخريطة بله تاريخها الإسلامي.. وكان عشرات الشعراء مشغولون بكتابة قصائد تمجد الشذوذ الجنسي وتجترئ على الله سبحانه وتعالى وتسخر من القرآن الكريم وتسب الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وكانت حلقة الفساد والكذب تتخلل هذا كله وتستنزف الأمة المحاصرة في مركز الدائرة التي تحيطها كل هذه الحلقات من الحصار.

    ***

    إنني أقدم لكم يا قراء هذه الصورة القاتمة البالغة السواد لا لكي أبث اليأس في قلوبكم بل لأزرع الأمل.. ولأقول لكم أن أمة احتملت كل هذا الحصار والنزيف والخيانة والقهر ولم تمت هي أمة موصولة بحبل السماء وستنهض لتنتصر.. إن شاء الله..

    ***

    عبر التاريخ كله كانت الدولة الغازية تتحمل نفقات الغزو كي تنهبه بعد ذلك.. حتى بريطانيا المجرمة فعلت ذلك.. أما أمريكا الأكثر إجراما فقد قلبت الآية و أصبحنا نحن الذين نمول لها حروبنا ضدنا!!..

    ***

    انظر أيها القارئ في أي بقعة من بقاع عالمنا الإسلامي إلى حكومتك وقارن كيف تسوسك ثم قارن كيف تسوس أمريكا عالمنا الإسلامي.. انظر وقارن.. وستكتشف على الفور أن الكفر ملة واحدة.

    نعم..

    والفكرة القومية ليست سوى ابن شرعي للفكر الصليبي والصهيوني.

    سند حكم الحاكم في العالم الإسلامي هو رضاء أمريكا عنه، هذا الحاكم يعامل شعبه كعدو أعزل، أما هو فيملك الدبابات والطائرات وفرق الأمن والأسلحة التي يستوردها من أمريكا طبقا لحاجة الاقتصاد الأمريكي وليس طبقا لاحتياجات بلده.. وتسهل له أمريكا الحصول على العمولات والرشاوى لتكون نقطة ضغط عليه في أي وقت. هذا الحاكم سيعين وزراء ومساعدين علي شاكلته، وسيدرب جهاز أمن قوي شرس في أمريكا.. وسيستورد أجهزة التعذيب من أمريكا.. وسيقرب ويعلي كتابا منافقين مزورين يعلون من شأنه.. وسيعين معارضة مستأنسة هزيلة وهزلية للديكور أمام الغرب.. وستحلل له أمريكا ما يفعل.. 40% من ميزانية أي دولة إسلامية تنفق على تأمين البيت الحاكم: ابتداء بالجيش والأمن والأحزاب المصطنعة والصحف الحكومية التي تخسر المليارات بغير حساب وانتهاء بالسرقة والأموال المهربة.. وبلد يستنزف 40% من ميزانيته فيما لا طائل خلفه لا يمكن أن يحقق أي تنمية اقتصادية.. وتتدهور الأحوال ويزيد السخط على الحاكم فتزداد حاجته إلى الأسلحة والجيش والأمن ليتفاقم الوضع ويتفاقم الانتقاد فلا يجد الحاكم إلا تفتيت قوى شعبه كي يتناحر كل فصيل منها مع الفصيل الآخر..

    كل هذا يتم على حساب الشعب وبماله.. حصار الشعب وترويعه وقتله وتهديد أمنه يتم على حسابه وبماله.

    ***

    والآن انظر أيها القارئ إلى أمريكا.. إنها تتعامل بنفس المنهج.. التفتيت.. استثارة العداوات التي زرعتها بريطانيا المجرمة كألغام موقوتة.. محاباة الفاسدين أعداء شعوبهم.. تسليط كل دولة على الأخرى.. أما عندما تقوم هي بمهمة الغزو والدمار فإن البلد الذي لا يدفع نصيبه في الفاتورة يكون مهددا هو الآخر بغزوه وتغيير نظامه.. وحتى عندما يدرك الحكام خطورة الوضع عليهم فإن كل حاكم منهم يرتاب في شقيقه فيسارع إلى مزيد من التورط والخيانة كي يحظى عند القرصان الأمريكي بالحماية.

    ***

    كان الاستعمار دائما كذلك.. كان شيطانا.. وكان كالشيطان يغطي غواياته بالشعارات والمواثيق والقوانين حتي لو كانت زائفة.. حتى جاء القرصان بوش.. ليتصرف لأول مرة في التاريخ على مستوى الدول كقرصان وقاطع طريق وبلطجي.. ولم يعد يسعى لتغطية غاياته ولا لتسويغ سلوكه إلا كما يلجأ القرصان وقاطع الطريق والقاتل المأجور لتفسير لماذا يرتكب جرائمه.

    ***

    إن حرية السوق – أساس النظرية الرأسمالية كلها - لا تؤمنها حركة السوق التي خدعونا بها عشرات العقود بل تؤمنها البوارج والصواريخ والطائرات والانقلابات العسكرية التي يقوم بها ضد الحاكم الخائن جنرال أشد خيانة.. والانقلاب خلفه أمريكا..

    وشفافية البورصة تسفر عن عمليات النصب والاحتيال والتهديد والخطف والاغتصاب.. والاحتيال خلفه أمريكا..

    وفي هذا كله تفوق بوش – كرمز لحضارة الغرب – على الشيطان ذاته والذي لم يكن يملك من وسائل الإفساد سوى الغواية.. أما هو فقد تعدى مرحلة الغواية إلى الإرغام بأقوى جيش في التاريخ و أسلحة دماره الشامل.

    ***

    الآن تبدأ الحلقات في الانهيار..

    ولكي تعلموا كيف: انظروا إلي أي بلد إسلامي.. أي بلد فيها يستطيع جيشه أن يفديه بروحه وهو الذي تم تدجينه و إفساده فلم يعد يصلح لخوض حرب مع جيش آخر.. و إنما لمجرد مواجهة المظاهرات بالدبابات والطائرات....

    بل أي نائب أو وزير يأتمنه و أي صحيفة من الصحف التي نماها ورعاها لن تكون أول من يمزق لحمه عندما تقترب القوات الأمريكية..

    ***

    إن الخيانة التي كانت تحمي وترسخ الاستقرار في السلطة هي بذاتها الآن هي الخيانة التي تهدد..

    الآن تدرك الأمة كما لم تدرك أبدا أن عدوها أقرب من أمريكا بكثير..

    والآن يدرك الحكام أن الخطر عليهم إنما هو من أمريكا ومن عملائه المقربين..

    أكلت الخيانة نفسها.. والأخلاء الآن بعضهم لبعض عدو..

    وتلك بداية انعكاس الدورة..

    ***

    في ظل القومية يقف شارون أثناء انعقاد المؤتمر ليقول: إن دخول الأقصى لا يحتاج إلا لمجرد خلع حذائي؟! هذا هو العائق الوحيد أمام شارون فقد جعل حملكم ومخاضكم وصياحكم وتهييجكم أدنى من الجهد الذي يستلزمه خلع حذائه!!

    س6: ما الدور الذي يمكن أن تلعبه القومية العربية أمام العولمة؟

    الاستسلام التام.

    الاستسلام والخراب والدمار..

    الاستسلام وليس الانضمام..

    س7:هل ترى أن صلاحية القومية العربية لاتزال سارية المفعول؟

    لم تكن أبدا سارية المفعول بالنسبة للعرب والمسلمين، كانت مرحلة هامة لصالح الغرب، وقد أدت دورها بالكامل في القضاء على القوة الوحيدة التي كان يمكن لها التصدي للغرب، القوة الإسلامية. أدت دورها كاملا في ذلك، ولم يعد للغرب فيها مأرب، فتخلى عنها، فسقطت.

    س8: هل مرت القومية العربية بفترة ذهبية وبارزة؟

    لم تكن فترة ذهبية عظيمة بل كانت فترة تضليل هائلة أغوت الناس وجرفتهم وضللتهم.

     

    س9:ما هي المراحل التي مرت بها القومية العربية؟ وإلى أين وصلت؟

    بدأت فكرة القومية متمثلة في حركة سرية تألفت من أجلها الجمعيات في عاصمة الخلافة العثمانية، ثم في حركة علنية في جمعيات أدبية تتخذ دمشق وبيروت مقرا لها، ثم في حركة سياسية واضحة المعالم في المؤتمر العربي الأول الذي عقد في باريس، فظلت الدعوة إلى القومية العربية محصورة في نطاق الأقليات الدينية غير مسلمة وفي عدد محدود من أبناء المسلمين؛ ولم تصبح تيارا شعبيا عاما إلا حين تبنى الدعوة إليها الرئيس المصري جمال عبدالناصر.

    س10: كيف يمكن لرابطة القومية العربية تستفيد من الرابطة الإسلامية؟

    طريقة واحدة فقط: أن يتوب القوميون ويعودوا إلى الإسلام.

    س11: ما رأيك في القومية العربية؟

    كفر بالله وخيانة للوطن وتدمير للأمة.

    س12: لماذا تبنيت هذا الموقف؟

    لأنني مسلم..

    ولأنني أري كما يرى الجميع اليوم أن الغرب كان يأكلنا قطعة قطعة..وهو يتقلب الآن حتى على عملائه من القوميين فيتهمهم بالإرهاب..

    وقد كان القوميين إرهابيون فعلا.. لكن ضدنا نحن المسلمين لا ضده

    ليس لدي شك في أن ثلاثية الشيطان التي مارسها الغرب ضدنا منذ ألف عام أو يزيد ، وهى: الاستشراق ثم التبشير ثم الاستعمار، والتي تمخضت بعد اكتمال الثلاثية الأولى عن ثلاثية ثانية هي السيطرة على التعليم والإعلام والثقافة، ولم يكن يتسنى لهم الوصول إلى ذلك دون ثلاثية أخرى، هي نظام حكم قومي علماني، أنكر الدين كمرجعية و إن لم يعلن ذلك، ورجل أمن غبي يهدر أمن أمته ويسومها سوء العذاب، ومثقف خائن، يتقاضى ثمن خيانته مجدا وشهرة، ليسفر الأمر، عن ضابط أمن دولة، يوازيه مثقف أمن دولة، وكما يجوز لضابط أمن الدولة، أن يمثل دور المعارض للنظام، ليخترق المعارضين ويهدمهم من الداخل، فإن المثقف الذي باع نفسه يقوم بنفس الدور، خاصة عندما يدعي أنه يجدد الإسلام من داخل الإسلام.

    ***

    ليس لدي شك، في أن الدور الذي قامت به الإسرائيليات للدس على الإسلام، وتشويه وعي المسلمين، و صناعة الفتن، و إشعال الحروب، وسحق الأمة، قد ورثته منها قوافل المبشرين الصليبيين، وشاركت فيه، ومع تقدم خطوات المؤامرة، كان من المحتم أن يدخل العملاء المحليون، عملاء القومية، من حكام ومثقفين، لإكمال الإجهاز على الأمة، لأن تزييف الوعي الذي لا يستطيعه كرومر يستطيعه الخديوي، والذي لا يستطيعه كوهين يستطيعه أمين، وما لا يستطيعه دافيد يستطيعه السعيد.. وما لا يستطيعه ميجور.. يستطيعه منصور.

    ليس لدي شك في أن هذا الدور الذي اضطلع به في سالف الزمان اليهود والمبشرون يقوم به الآن: القوميون العلمانيون عامة والشيوعيون خاصة، فمنذ بداية القرن العشرين، حرموا الأمة من فرصة نادرة لاستعادة وعيها وطريقها الصحيح، بالعودة إلى مرجعية الإسلام. كان الاستعمار جاثما علي كل بلادنا الإسلامية، ورفعوا هم لواء الحرب، لا على الاستعمار بل على الإسلام.

    ***

    كان الهجوم ضاريا وعنيفا، وكانت مصر، بلد الأزهر، هي القلعة الفكرية الحصينة للإسلام، وكانت تركيا حصنه العسكري، وتعرض البلدان معا لأقصي محاولات السحق، لكن الضغط التي تعرضت له مصر كان ضغطا مزدوجا، فبالإضافة للسحق العسكري، كان المطلوب منها أن تكون حصان طروادة، لتنطلق منها عملية تغريب العالم الإسلامي وعلمنته، وللوصول إلى ذلك، شهدت الساحة الثقافية فيها مهازل لا يمكن أن يتصورها العقل، ويكفي أن تلاميذ اللورد كرومر، في مطلع القرن العشرين، هم الذين يقودون الفكر في مصر حتى الآن، بل إن من يراجع التقارير السنوية للورد كرومر، يجد الحداثيين العصريين الذين يمسكون بمقاليد الثقافة والفكر في مصر يرددون نفس مقولاته، وبنفس الألفاظ. والمحزن حتى الموت، أن نفس المرض الوبيل قد انتقل إلى معظم بلاد عالمنا العربي.

    ومهما كان جهل النجم الحداثي وضحالته، فإن ثلاثيات الشيطان لا تتخلى عنه أبدا. وليست بعيدة فضيحة الدكتور لويس عوض، عندما قرأ بعين الغشاوة والجهل كلمة " الصليان" – بالياء- على أنها " الصلبان" بالباء كي يثبت الخلفية المسيحية لا الإسلامية لأبي العلاء المعري، ولا هو بعيد ذلك الجهل الفادح الذي تورط فيه الدكتور نصر حامد أبو زيد، عندما اتهم الإمام الشافعي بأنه كان متحزبا لبني أمية، دون أن يعلم أن الإمام الشافعي لم يولد إلا بعد انتهاء الدولة الأموية.. ولا فضيحة الدكتور – دكتوراه مجهولة النسب والأصل- سيد القمني في كتاباته عن الدولة الهاشمية، عندما جعل الحفيد يولد قبل جده!..

    وكان أولئك جميعا نجوم القوميين..

    حتى فضيحة ذلك القومي الذي ظهر علي إحدى القنوات الفضائية ليجدد الإسلام مستشهدا بالقرآن ليذكر سورة الرمز ، فيواجهه محاوره بأن القرآن لا توجد فيه سورة بهذا الاسم، فيؤكد العلماني أنه قرأها منذ ساعات قليلة و أنه واثق مما يقول، وعندما واجهه محاوره بأن السورة هي سورة "الزمر" لا "الرمز"، لم يسقط العلماني مغشيا عليه، ولم يذكر أحد من العلمانيين هذه السقطة أبدا.

    ***

    السمة الجامعة المشتركة في ثلاثيات الشيطان، هي الكذب، الكذب الفادح الفاضح، الكذب الذي تدعمه الثلاثيات جميعا، وتعاقب بمنتهى القسوة من يتصدى لدحضه أو لفضحه.

    وما أن ينضم أحد إلى جوقة الهجوم على الإسلام، حتى تتكاتف ثلاثيات الشيطان كلها لتمجيده، بل لتقديسه، بل إن نظرة فاحصة مأساوية على حال عالمنا العربي، ستكتشف أن الهجوم علي واحد من رواد تلك الحركة، بداية من الطهطاوي، ومرورا بقاسم أمين و أحمد لطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين ولويس عوض وجابر عصفور، وليس نهاية بسيد القمني وخليل عبد الكريم، الهجوم على أي واحد من هؤلاء، يجابه بمنتهى القسوة والعنف، إذ أن من يهاجمهم، لا بد أن يكون ظلاميا رجعيا متخلفا أو إرهابيا. لقد منحوهم قداسة كقداسة الرهبان والقديسين، ومن يسب القديس لابد أن يكون كافرا يستحق الموت، أما من يسب الأنبياء، وحتى الله، فإنه مستنير، ولابد للقانون، مدعما بالدولة أن يحميه.

    ***

    في المسلسل التليفزيوني : " قاسم أمين" الذي تعرضه قنوات تلفازية عديدة، خدمة للمجهود العلماني، وحربا على الإسلام، لم يتطرق المسلسل أبدا لكتاب قاسم أمين : "المصريون"، الذي كتبه قبل سفره إلى فرنسا، مدافعا عن الإسلام، ولا عن كتاب مرقص فهمي الذي صدر قبل كتابه :" تحرير المرأة" والذي يحتوي علي كل أفكار قاسم أمين، و أظن المسلسل لن يتطرق أبدا إلى رجوعه عن أفكاره قبل موته، ولا عما يقال عن موته انتحارا بعد إفلاسه بسبب القمار، فذهب إلى شركة تأمين وأمن على حياته بمبلغ ضخم ثم انتحر.

    بل إن المسلسل وقع في جريمة فادحة للتدليس علي الناس، فلكي لا يكشف أن قاسم أمين قد تمت صياغته وتصنيعه في مفرخة اللورد كرومر، فقد أخفي المسلسل عامدا متعمدا اسم كرومر ليضع مكانه اسمه الأصلي: "إيفيلين بارنج" وهو الاسم الذي لا يعرفه المشاهدون.

    ***

    لا يتسع المجال لذكر أكاذيبهم عندما يدافعون بالباطل عن طه حسين وعلي عبد الرازق علي سبيل المثال، ولا عن إشادتهما بخالد محمد خالد عندما انحرف، وصمتهم صمت القبور عندما عاد إلى الصواب.

    ***

    ولقد أسفرت التجربة ، عن استقطاب العنيف الذي حدث بإذن الله ليميز الله به الخبيث من الطيب. فعندما نتناول بعضا من القضايا الرئيسية في الأعوام الأخيرة، مثل قضية الأمة المحورية في فلسطين، وقضايا العراق و أفغانستان والشيشان، وقضية الوليمة، سنجد في هذا الاستقطاب: أن من يدافع عن فلسطين كلها مسلمة عربية، هو الذي يدافع عن أفغانستان والعراق والشيشان، وقدسية الله وعدم جواز السخرية بالدين، وفي الجانب الآخر.. ستجد الأوباش جميعا.. وعلى رأسهم القوميون.

    ***

    المشروع الفكري للقوميين – كما شهد شاهد منهم هو الدكتور فؤاد زكريا – ليس مشروعا.. لأنهم لا يملكون في الحقيقة سوي مشروع واحد: هو محاربة المشروع الإسلامي.

    ولم يقل لنا فؤاد زكريا: لصالح من؟

    ***

    هل تريدون يا قراء جملة وحيدة تجمع أعداء الإسلام جميعا وتلخص مشروعهم كله، علي اختلاف أصولهم ومشاربهم ودعاواهم..

    إليكم هذه الجملة..

    إن مشروعهم هو مشروع "كرومر"..

    أما مشروع اللورد كرومر فهو:

    إن الدين الإسلامي دين جامد لا يتسع صدره للمدنية الإسلامية، ولا يصلح للنظام الاجتماعي، وأن الإسلام دين موضوع ابتدعه عربي بدوي أمي ما قرأ في حياته صحيفة، ولا دخل مدرسة، ولا سمع حكمة اليونان، ولا رأى مدينة الرومان، ولا تلقي شيئاً من علوم الشرائع والعمران.

    بل لنترك اللورد كرومر يلخص لنا الأمر بنفسه..

    جئت إلى مصر لأمحو ثلاثاً : القرآن والكعبة والأزهر ..

    ***

    س13: كيف يمكن تفعيل رابطة القومية العربية لحل مشاكل الواقع العربي؟

    حل مشاكل الواقع لا يأتي بتفعيلعا بل بالقضاء عليها..

    حيث إن أساس القومية هو إبعاد الدين الإسلامي عن معترك حياة العرب السياسية والإجتماعية والتربوية والتشريعية فإنها تعد ردة إلى الجاهلية ، وضرباً من ضروب الغزو الفكري الذي أصاب العالم الإسلامية ، لأنها في حقيقتها صدى للدعوات القومية التي ظهرت في أوروبا .

    ردة يصفها سماحة الشيخ ابن باز بأنها : " دعوة جاهلية إلحادية تهدف إلى محاربة الاسلام والتخلص من أحكامه وتعاليمه " . ويقول عنها : " وقد أحدثها الغربيون من النصارى لمحاربة الاسلام والقضاء عليه في داره بزخرف من القول .. فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإسلام واغتر بها كثير من الأغمار ومن قلدهم من الجهال وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان " . ويقول أيضاً : " هي دعوة باطلة وخطأ عظيم ومكر ظاهر وجاهلية نكراء وكيد سافر للإسلام وأهله " .

    ويقول الشيخ عزام: إن اعتناق مبادئ القومية العربية -وغير العربية كالكردية والايرانية- كفر ينقل عن الملة ويخرج من الاسلام.

    فمن اعتنق مبادئ القومية فإنه يخرج من الاسلام فلا تؤكل ذبيحته، ولا تنكح البنت القومية، ولا يزوج القومي من بنات المسلمين، ولا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يقبر في مقابر المسلمين، ولا يرد عليه السلام، ولا يترحم عليه إذا مات ـفلا نقول يرحمه الله- ولا يرث الشاب القومي من أبيه المسلم، ولا يرثه أبناؤه إن كانوا مسلمين ويخالفونه في مذهبه القومي. وإذا اعتنق الشاب القومية وهو متزوج مسلمة فتطلق منه وتحرم عليه، وإذا بقيت على صلة به، فالصلة الجنسية بينهما زنا، وأولادهما أولاد زنا، وعورة المرأة المسلمة أمام الفتاة القومية كعورتها أمام الرجل فلا يحل لها كشف رأسها أمام الفتاة القومية. والمرأة اذا اعتنقت القومية وهي متزوجة مسلما ينفسخ العقد حالا.

    1- سيقول أناس: ان بعضهم يصلي ويصوم أحيانا !!، فنقول: إن الصلاة والصيام لا يقبلان مع فساد العقيدة والشرك، فلقد كان الجاهليون يصلون ويحجون ويدعون ولكن الله رد أعمالهم كلها لأنها ليست مبنية على إيمان بالله وبرسوله وبدينه، ولأن الأفعال الصالحة لا تقبل من الكفار.

    2 - وسيقول آخرون: إن كثيرا من الحزبيين منتفعون من أجل المناصب والأموال يقبلون على الحزب!!، فنرد عليهم: نحن لا نعلم الغيب ونجري أحكامنا على الظاهر ونحاسبهم على ما يخرج من أفواههم وندع قلوبهم إلى الله- عز وجل- فالقاعدة العامة: أن القومي كافر، والاستثناء إنما هو استثناء من عموم القاعدة فلا يثبت إلآ بدليل قوي يرجح على الأصل، أي أننا إذا تأكدنا من شاب أنه يكره القومية ويحب انتهاءها ويقاوم في الواقع انتشارها فإننا نحكم له بالاسلام.

    ولا بد من معرفة أن هؤلاء المنتفعين هم انصار الكفر بهم ينتشر وعلى أكتافهم يقوم.

    3 - وسيقول فريق ثالث: إن معظم الأفراد جهلة بالحكم الشرعي !! فنرد عليهم: الجاهل يعلم ويبين له الحكم فإن أصر فإنه يحكم عليه بالكفر. فإذا كتب بعض العلماء الذين يوثق بدينهم مقالات أو كتبا في تكفير القوميين فإن هذا يكفي في التبليغ ولم يبق الجهل عذرا بعد البيان.

    4 - وقد يسأل شاب قومي: ما حكم القومي إذا تاب ورجع: هل يقضي الصلواة والصيام؟ فنقول -والله المستعان- (الاسلام يجب (يقطع) ما قبله) فليس عليه أن يقضي الصلاة والصيام. وفي الحديث (إذا أسلم العبد فحسن اسلامه، يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها (قدمها). وفي الحديث الآخر (إذا أسلم العبد فحسن اسلامه، كتب الله كل حسنة كان أسلفها، ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها).

     

     

     

    على عزت بيجوفيتش

    في كتابه الهام الإعلان الإسلامى [12] – ترجمة وتقديم الأستاذ محمد يوسف عدس – يتحدث على عزت بيجوفيتش عن النخبة المثقفة الخائنة فيقرر أنه من بين السلع المشكوك في قيمها- مما يجلبه مستغربونا معهم إلى أوطانهم - أفكار "ثورية" مختلفة وبرامج إصلاح ، و"مذاهب إنقاذ" موصوفة لعلاج جميع المشكلات . فإذا تأملناها مليا نجد- لدهشتنا- نماذج لا يصدقها عقل في قصر نظرها وارتجالها. ثم يضرب المثل بمصطفي كمال أتاتورك" الذي كان قائدا عسكريا أكثر منه مصلحا ثقافيا ، والذي ينبغى وضع خدماته لتركيا في حجمها الصحيح ؛ ففي أحد برامجه الإصلاحية منع لبس الطربوش . . وطبعا ظهر على الفور أن تغيير غطاء الرءوس لا يعنى تغيير ما في هذه الرءوس ولا تغيير عادات أصحابها .

    لقد واجهت أمم كثيرة خارج العالم الغربى- على مدى قرن من الزمن - مشكلة: كيف تنتسب إلى الحضارة الغربية ، هل ترفضها كلية . . أم تختار منها بحذر . . أم نأخذها كلها خيرها وشرها؟ ولقد تحددت عوامل سقوط كثير من هذه الأمم أو ارتفاعها بالطريقة النى أجابت بها على هذا السؤال المصيرى . فهناك إصلاحات تعكس حكمة أمة ما ، وإصلاحات تمثل خداع أمة لنفسها ، والمثل على ذلك قائم في نموذجين هما: إلىابان وتركيا. [13]

    في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين يجد المتأمل أن كلا الدولتين تقدمان صورة شبيهة جدا لدول أخرى مثيلة . فقدك كانت الدولتان تمثلان إمبراطوريتين قديمتين ، كل منها له ملامحه ومكانته التاريخية . كلاهما وجدت نفسها على نفس المستوى من التطور . . كلاهما يملك ماضيا باهرا . . وهذا يشير إلى الامتياز العظيم وإلى العبء العظيم في نفس الوقت . . وفي كلمة واحدة كانت فرصتهما في المستقبل - عند نقطة معينة- تكاد تكون متساوية .

    ثم جاءت الإصلاحات المشهورة في كل من الدولتين . أما إلىابان - فلكى تستمر في الحياة بطريقتها الخاصة وليس بأى طريقة أخرى- حاولت أن توحد بين تقإلىدها الخاصة وبين متطلبات التقدم. بينما اتجه التقدميون دعاة الحداثة في تركيا إلى سلوك الطريق المعاكس فتخلوا عن تقإلىدهم واندفعوا في طريق التغريب . فماذا كانت النتيجة؟.. أصبحت اليوم تركيا من الدرجة الثالثة ، بينما إلىابان ترتفع إلى القمة بين أمم العالم. ويبدو الاختلاف بين فلسفة الإصلاح إلىابانى وفلسفة الإصلاح التركى أكثر وضوحا في موقفهما المختلف من مسألة حروف الكتابة: حيث قامت تركيا بإلغاء حروف الكتابة العربية في حين أن هذه الحروف لبساطتها ولأنها تتألف من ثمانية وعشرين حرفا فقط – تعتبر واحدة من أكمل وأرقى حروف الكتابة وأكثرها انتشارا في العالم . أما إلىابان فقد رفضت دعوة مستغربيها في تبنى حروف الكتابة اللاتيني وأصرت على الاحتفاظ بنظام كتابتها المعقد الذي يحتوى على 880 شكلا صينيا بالإضافة إلى46 حرفا أخرى. ورغم ذلك فلا يوجد في إلىابان أمية بينما نجد تركيا بعد أربعين سنة من استخدام الحروف اللاتينية تزيد الأمية فيها على خمسين في المائة من تعداد السكان الذين يجهلون القراءة والكتابة . وتلك نتيجة تجعل الأعمى يسترد بصره .

    وليس هذا هو كل شىء ، فقد أصبح واضحا أن القضية لم تكن مجرد حروف كتابة هى مجرد وسيلة للتسجيل ، ولكن الأسباب الحقيقية وبالتالى النتائج التي ترتبت عليها كانت أكثر عمقا وأكبر خطرا . فجوهر كل حضارة أو تقدم إنسانى يكمن في الاستمرارية وليس في التخريب والتنكر للماضى . إن طريقة الأمة في الكتابة هى الطريقة التي تتذكر بها الأمة وتستمر في وجودها التاريخى . وعندما ألغت تركيا الحروف العربية فقدت كل ثراء الماضى الذي حفظته الكلمة المكتوبة . وبهذا الإجراء وحده وضعت الأمة على حافة البربرية . ومع سلسلة أخرى من الإصلاحات المماثلة وجدت الأجيال التركية نفسها بلا دعامة روحية تقوم حياتها . . وجدت نفسها في فراغ روحى بعد أن فقدت ذاكرتها الماضية . . فمن الذي استفاد بهذا الوضع؟ .

    فهل تستطيع دولة لا تعرف هويتها ولا تعرف أين تمتد جذورها أن تكون لنفسها صورة واضحة عن الموقع الذي تنتمى إليه ، والأهداف التي يجب أن تسعى لتحقيقها؟ .

    قد يبدو النموذج الذي قدمه "أتاتورك " مفجعا ، ومع ذلك فانه يمثل النمط الغربى لفهم مشكلات العالم المسلم كما يمثل الطريقة التي يفكر بها الغربيون والمستغربون لإصلاح هذه المشكلات.

     

    س14: تعرضت بعض الأقطار العربية لهجمات مختلفة من الغرب مثل السودان والصومال ومصر وليبيا وغيرها كيف تقيم دور القومية العربية أمام هذه المشاكل؟

    القومية العربية هي المأساة التى خلعت رابطة الإسلام ومرجعيته فوقعنا فيما نحن فيه ولا نستطيع الخروج منه.

    إنها ليست السودان والصومال ومصر وليبيا فقط.. بل كل الدول العربية والإسلامية..

    لقد خلعت الدول العربية رداء الإسلام وارتدت رداء العصبية النتن..

    تركت كنزا و أخذت وباءً..

    أفقدتنا المرجعية التي كان يمكن أن نحاسب بها وعليها

    إذ ما هو نموذج الإجابات الصحيحة التي نراجع عليها قرارات أي بلد عربي لنعلم إن كان قد نجح أم رسب؟

    هل هى مرجعية الدولة القطرية؟ أم مرجعية القومية العربية ؟ أم مرجعية الإسلام والخلافة؟؟

    فإن كانت مرجعيتنا هى الدولة القطرية الوطنية فما لنا وفلسطين ومالنا و السودان والصومال ومصر وليبيا..و..و..

    إن كانت مصر أولا وأخيرا فلماذا لا تكون العراق أيضا أولا و أخيرا والكويت أيضا بل و إسرائيل..

    إن كانت خطوط الخرائط في أطالس الجغرافيا هى المرجعية فلماذا نلوم من تباعدت خطوطهم..

    إن العروبة لا قيمة لها بدون محتواها الإسلامى الذي يعطيها قيمتها ومعناها ومحتواها..

    فإن نزعنا الإسلام من الصراع فإننا ننزع العروبة أيضا..

    فإن أفرغنا مشكلتنا مع اليهود من الإسلام والعروبة معا فماذا يبقى..

    تبقى مشكلة الفلسطينيين مع اليهود وهى مشكلة لا ناقة لنا فيها ولا جمل.. وليس مطروحا أبدا أن نحارب من أجلها بنفس الدرجة التي تعفي كوستاريكا من الحرب إلى جوار الفلسطينيين.

    نعم .. إن كانت مرجعيتنا هى الدولة القطرية الوطنية فإن الوشائج التي تربطنا بالفلسطينيين لا تفرض علينا سوى إبداء نوع من التعاطف ربما يقل عما نبديه الآن.

    نوع التعاطف الذي نبديه مع شيلى أو نيكاراجوا أو التبت أو زنوج جنوب أفريقيا قبل الاستقلال.

    (دعونا الآن من أن مرجعيتنا دون الدولة القطرية بكثير.. بل دون الدولة القَبَلِيّة أيضا .. فقد تدهورت الأمور في كثير من بلادنا لتصبح مرجعية النخبة الحاكمة هى مرجعية العصابات واللصوص)

    ***

    فإن كانت مرجعيتنا هى القومية العربية ( بعد أن نفرغها من روحها الإسلامى لتصبح هيكلا محنطا لا يصلح إلا لمتاحف التاريخ) فلماذا نندهش عندما تسقط دعاوانا ودعاوى القومية في الدنيا كلها تسقط أو سقطت تحت معاول محو التمايز وطمس الهوية إضافة إلى القصور الكامن في الفكرة

    لماذا لا نصدق طه حسين وسلامة موسى و أحمد لطفي السيد وعلى عبد الرازق وموجات الحداثة التي تلطمنا لنقتنع أن ما يربط مصر – على سبيل المثال بالغرب أكثر مما يربطها بالشرق؟

    ما هو الإجبار الذي يدفع أى دولة عربية على الاحتفاظ بهويتها العربية وتحمل أعباء التزاماتها؟

    أليس واردا – ليس على سبيل المثال ولا الخيال .. بل على سبيل الواقع- أن دولة أو دولا ترى في القومية العربىة رداء تمزق وبلى و أكل الدهر عليه وشرب وبال.. و أن الأفضل لها أن تلجأ إلى قومية أخرى أو أن تخلع رداء القومية كلية لتلحق بالعولمة في نظامها الجديد.

    بل أليس واردا - ليس على سبيل المثال ولا الخيال .. بل على سبيل الواقع الذي يحدث الآن – أن دولة عربية أو دولا ترى في إسرائيل صديقا وفي بعض العرب عدوا؟

    لماذا نتعسف فنلبس الدول القطرية ثوب القومية الذي بلى وضاق. لماذا نرغم هذه الدولة أو تلك على اعتناق رؤى.. ولماذا لا نتركها على اقتناعها بأن مصلحتها في العلاقة مع أمريكا وإسرائيل ولو ضد العرب؟

    ما هى المرجعية

    هل هناك مرجعية غيبية للقومية العربية ترغم الجميع على الالتحاف بها والتسربل بغطائها؟

    في ظل رؤى نخبنا فقد سلبنا الإسلام غيبيته.. و أصبح الحديث عن الغيب تخلفا ورجعية وظلامية و إرهابا.

    هل نمنح تلك القوة الغيبية للعروبة دون الإسلام؟.

    هل نقدس المدنس وندنس المقدس؟.

    وهل الرؤية القومية إجبار أم اختيار؟.

    فإن كانت إجبارا فما هى دوافعه؟

    هل هى اللغة؟

    سنترك اللغة لنتحدث لغة أخرى!!.. اذهب الآن إلى السعودية والخليج.. إن لم تكن تجيد الإنجليزية فلن تستطيع التعامل في الأسواق..!!..

    اذهب إلى أماكن النخبة في أي بلد عربي..

    إنهم لا يتكلمون العربية..!!

    هل هو العرق؟

    أنسابنا مختلطة وعروقنا شتى..

    هل هو التاريخ؟..

    فلماذا إذن نشوه تاريخنا ونعتمد رؤى أعدائنا فيه؟

    هل هو الجوار؟

    إسرائيل جار..

    وبالنسبة لدول المغرب ففرنسا جار.. وبالنسبة للمشرق فالهندوس جار.. وبالنسبة للشمال فالإرثوزكس جار .. وبالنسبة للجنوب فالوثنيون جار..

    وإن كان من حقنا أن نقطع أوصال الإسلام لنشكل من أشلائه ما شاء لنا الهوى فلماذا نصادر على أي دولة أن تفعل نفس الشيء بالقومية فتفسرها بما شاء لها هواها.. حتى لو كان التفسير مسخا شائها يمثل النقيض على طول الخط..

    ألم تفعل ذلك بالإسلام..

    ألم نصمه بالإرهاب والظلامية والتخلف؟..

    ولماذا نعتب على واحد منهم صرح عن رأيه في أن يذهب المسجد الأقصى "في ستين داهية!!" .. أستغفر الله العظيم.. عليه وزر ما قال لكننى لا أملك إلا تقريظ جهره بالفحشاء التي يمارسها الآخرون في الخفاء وربما أكثر

    لكن.. لماذا لا تكون القومية العربية هى التي تذهب "في ستين داهية؟

    نعم.. إن كانت القومية العربية اختيارا فلماذا نلوم من يختار سواها؟

    ***

    في كتاب: أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ : الدكتور جمال عبد الهادى و آخرين – دار الوفاء- المنصورة-مصر يقول المؤلفون:

    لقد عقد اليهود مؤتمرهم في عام 1897 في مدينة بال بسويسرا بناء على طلب تيودور هرتزل النمساوى اليهودى . وكانت القرارات ومنها إنشاء دولة يهودية في فلسطين تجمع شتات اليهود من أنحاء العالم .. وقد عرض هرتزل على السلطان عبد الحميد الثانى أن يصدر فرمانا بالسماح لليهود الأجانب بالهجرة إلى فلسطين ، والتوطن فيها، وأن يدفع ، اليهود عند صدور الفرمان مبلغا كبيرا من المال ، ثم يقومون بعد ذلك بدفع جزية سنوية للدولة. وجاء الرد على لسان السلطان عبد الحميد: انصحوا هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، إنى لا أستطيع أن تخلى عن شبر واحد من فلسطين فهى ليست ملك يمينى بل ملك شعبى. لقد ناضل شعبى في سبيل هذه الأرض ، ورواها بدمه ، فليحتفظ اليهود بملايينهم . وإذا مزقت إمبراطوريتى يوما فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن . أما وأنا حى فإن عمل المبضع في بدنى لأهون على من أن أرى فلسطين قد بترت من إمبراطوريتى . وهذا أمر لا يكون . إننى لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة). وجاء اليوم الذي يتخذ فيه الخونة قرارا بعزل السلطان عبد الحميد الثانى عن العرش وقد حمل إليه قرار العزل وفد من ثلاثة أعضاء كان أحدهم يهوديا اسمه (قره صو) أفندى الذي يكن العداوة والبغضاء للسلطان ، لأن الأخير كان قد طرده من قصره حين حاول التأثير عليه لقبول تهجير اليهود إلى فلسين وتوطينهم فيها

    نعم.. خلع سلطان الدولة العثمانية وخليفة المسلمين أحد أبناء اليهود الذين حرم عليهم فلسطين

     

    ***

    إننى أدرك أن الدولة العثمانية لم تكن في بعض أحوالها – وليس كلها – إلا صورة مشوهة للخلافة.. ومع ذلك فإن هذه الصورة المشوهة استطاعت الحفاظ على فلسطين ليضيعها بعد ذلك صناديد القومية العربية بصورتها الأصيلة.. وبلا ثمن

    ***

    في الكتاب القيم: مفهوم الدولة: عبد الله العروى: المركز الثقافي العربى- الدار البيضاء يقول المؤلف

    " تعاقبت على الرقعة الجغرافية التي تكون اليوم الوطن العربي دول متعددة ، تختلف الواحدة عن الأخرى إما بالانتماء المذهبى أو القبلي أو العرقي . فنقول الدولة العربية ، الدولة الفاطمية ، دولة الخوارج ، دولة الملثمين . . . الخ . تعني الكلمة هنا الجماعة المستقلة بالسلطة المستأثرة بالخيرات وتعني في نفس الوقت الامتداد الزمني لتلك الاستفادة. لنرتفع إلى مستوى التجريد ، فنتكلم عن الدولة إطلاقا ، أى عن الشكل العام لتنظيم السلطة العليا في جميع الدول المذكورة . تنتفي الصفات العرضية ، المذهبية والقبلية والجنسية، باستثناء صفة واحدة هي الصفة الإسلامية

    ***

    ألا ترون يا قراء أننا في أقطارنا الآن قد استبعدنا الأصيل واستبقينا العارض؟

    ***

    لقد قدمت لنا القومية العربية نظم الحكم العميلة الخائنة التي قادتنا إلى الخراب..

    كانت أسوأ من أي عهد آخر في التاريخ..

    حتى أبوجهل كان أعلم من حكامنا وأبو لهب كان أقل قسوة منهم..

    فلننظر إلى نمط الحكم الذي يعدنا الإسلام به.

    ***

    في إيجاز معجز وإعجاز مذهل يتحدث ابن خلدون عن ثلاثة أنماط من الحكم:

    - النوع الأول: الملك الطبيعي وهو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة

    - النوع الثانى: الملك السياسي وهو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار. ثم يعود ابن خلدون ليقسم هذا النوع من الحكم إلى قسمين: نوع يهدف إلى مراعاة الصالح على العموم ونوع ثان يهدف إلى مصلحة السلطان فقط

    - النوع الثالث: الخلافة وهي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إلىها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به

    ***

    النوع الأول الذي ذكره ابن خلدون هو السائد في جل العالم الإسلامى، حكم القهر والتسلط والجبروت والهوى، فما أضيعنا إذا طلبنا ممن كانت مرجعيته تلك أن يناصر فلسطين أو العراق أو السودان أو الشيشان !! هذا الصنف لن يناصر إلا نفسه، ومواجهته بالمنطق تسفيه للمنطق لأن الهوى لا المنطق مبدؤه ومنتهاه

    النوع الثانى بقسميه: الذي يهدف إلى مصلحة الدولة والذي يهدف إلى مصلحة الحاكم فقط

    النوع الثالث: هو المهجور، هو الذي لا يكف ولاة أمورنا عن إقناعنا أنه هو الإرهاب والظلامية والتحجر والجمود والقرون الوسطى ومحاكم التفتيش. وليس صدفة بالطبع، أن هذا النوع من الحكم هو الذي يمكننا من أن نحاسب ولاة أمورنا، وهو الذي لا نستطيع معه أبدا أن نقول : ما لنا وفلسطين، ففلسطين الأرض ليست وطنا، ولا مصر ولا السودان ولا الشيشان ولا الكويت ولا العراق، الإسلام هو الوطن، وعلى كل مسلم أن يدافع عنه، بنفس المسئولية ونفس الحمية ونفس الإثم إن لم يفعل

    ***

    يوضح محمد عبد الله العروى أن ما يفصل الملك عن الخلافة ليس تطبيق الشرع بل الهدف المتوخى من ذلك التطبيق . قد يجدد حاكم ما معالم الشرع لأسباب سياسية عقلية ، ليحفظ الأمن ويشجع على العمل والإنتاج ، وبالتإلى ليزيد في عمر دولته ، في حين أن الخلافة هى تطبيق الشرع لتحقيق مقاصده وليست تلك المقاصد إلا مكارم الأخلاق . لا يكفي أن نقول : هدف الشرع هو المصلحة ، حتى لو فهمنا منها مصلحة العموم ، أى زيادة الخيرات وتقدم العلوم واستدامة السلم والأمن . يقول ابن رشد ، الفقيه المالكى: إن الشرع اعلى من الناموس العقلي ، ويصرح ابن خلدون : " وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها فمذموم أيضا لأنه نظر بغير نور الله . . لان الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم . ) يعني هذا الكلام وهو كلام الفقهاء جميعا أن الدولة السلطانية التي تطبق الشرع حرفيا ليست خلافة لأنها تهدف من وراء ذلك التطبيق إلى الراحة والاستقرار ، أى إلى غاية دنيوية أما الخلافة فهى الحكم الذي يهدف من وراء المصلحة الدنيوية المحققة إلى مقصد الشريعة . إلى ما يسميه الفقهاء وغيرهم مكارم الأخلاق لا يكون الحكم خلافة إلا إذا نظر إلى ذاته كأداة في خدمة هدف أعلى ، لا تكون الدولة خلافة إلا إذا جاوزت أهدافها الذاتية . عندئذ قد يكون الجهاد علامة على ذلك التجاوز وقد لا يكون . إذا كان الهدف منه هو التوسع فهو داخل في سياسة الدولة لا اكثر ولا اقل و إذا كان الهدف منه هو إعلاء كلمة الله فقد يدل على إحياء الخلافة ، بشرط أن تكون كلمة الله هي العليا في الداخل قبل التوجه إلى الخارج

    ***

    نعم المرجعية هنا هى الإسلام

    إجبار على المسلم لا اختيار

    ففي اللحظة التي يقر فيها أنه مسلم تنعقد مسئوليات الإسلام عليه ..

    ومنها أن الإسلام - لا خطوط الخرائط في أطالس الجغرافيا – هو الوطن..

    وبذلك يكون الدفاع عن فلسطين ليس تضامنا مع شقيق أو قريب .. بل هو دفاع عن النفس نخاطر بآخرتنا إن لم نبذل غاية الجهد فيه..

    أما هؤلاء – الطابور الخامس من أنصار القومية وسواها– الذين يلتحفون بعباءة الإسلام دون أن يلتزموا بأوامره وينتهوا بنواهيه فليسوا سوى عملاء للشيطان والأعداء يريدون أن يفسدوا علينا ديننا ودنيانا

    وهم بالفعل مرقوا من الإسلام..

    فهل تدرك أيها القارئ الآن سر رعبهم من إثارة قضية التكفير

    فللإسلام مرجعيته و أعمدته و أركانه فمن خرج عليها فقد خرج عن الإسلام.. فماذا يرعبهم من ذلك إلا رعب جاسوس يحمل جواز سفر مزور من اكتشاف التزوير.. جاسوس ما دخل إلا ليخرب ويهدم

    ***

    في حوار مع المستشار طارق البشرى كان أحد اليساريين يحاول حصاره بذلك النوع العفن من الأسئلة الذي تمرسوا عليه، كان يحاول أن يبتز منه رفضا مطلقا للتكفير.. وأجاب المستشار الكبير قائلا: لو أن ماركسيا جاء إليك ليقول أنه كف عن الإيمان بالمادية الجدلية.. هل ستواصل اعتباره ماركسيا أم تقرر أنه كفر بالماركسية؟!.. سوف تقول بالطبع – وهذا حقك – أنه كفر بأمر معلوم من الماركسية بالضرورة ولذلك فقد كفر بالماركسية. ورد المستشار السؤال بسؤال..

    - لماذا تحرمون المسلمين من هذا الحق؟

    ***

    ليس ثمة أمل ولا حل إلا بحكم إسلامى

    هو الأرقى والأفضل والأعظم

    حكم الخلافة

    بمثل هذا الحكم نستطيع أن نقوم اعوجاج ولاة أمورنا بأقلامنا وبسيوفنا إن لزم الأمر

    ***

    ولقد صدقت يا سيدى ومولاى وحبيبى يا رسول الله صلى الله عليك وسلم.. لا يصلح آخر هذه الأمر إلا بما صلح به أوله..

     

    س15: ما تأثير القومية العربية على الجانب الثقافي وخصوصا الإعلام وكذلك على الجانب الإقتصادي في داخل الوطن العربي وخارجه؟

     

    كما أدركنا من العرض السابق فإن فكرة القومية العربية هي فكرة غربية بالكامل تمت صياغاتها وتصديرها إلينا، ليس من أروقة الجامعات بل من دهاليز المخابرات..

    كانت الثقافة هي ميدان المعركة الأول، وبعده يأتي النهب الاقتصادي والتدمير السياسي..

    يقول العلامة محمود شاكر في كتابه: أباطيل و أسمار:

    " فهذه الفصول التى كتبتها ، ترفع اللثام عن شئ عن هذه القصة التى تجرى أحداثها فى أخطر ميدان من ميادين هذا الصراع، وهو ميدان الثقافة والأدب والفكر جميعا، ويزيده خطرا : أن الذين تولوا كير هذا الصراع ، والذين ورثوهم من خلفهم ، إنما هم رجال منا، من بنى جلدتنا ، من أنفسنا، ينطقون بلساننا، وينظرون بأعيننا. ويسيرون بيننا آمنين بميثاق الأخوة فى الأرض أو فى الدين، أو فى اللغة أو فى الجنس ويزيد الأمر بشاعة : أن الذين هم هدف للتدمير والتمزيق والنفس لا يكادون يتوهمون أن ميدان الثقافة والأدب والفكر أخطر ميادين هذه الحرب الخسيسة الدائرة على أرضنا من مشرق الشمس إلى مغربها ، ولا أن معارك الثقافة والأدب والفكر متراحبة لا تحد بحدود ، ولا أكثرها يأتى مؤقتا توقيتا دقيقا إما قبيل حركات النهضة والإحياء ، وإما معها ، وإما فى أعقابها ولا أن الأمر صار أخطر مما كان منذ سبعين سنة ولا أن هذه المعارك ليست فى حقيقتها أدبية أو فكرية أو ثقافية، بل هى معارك سياسية، تتخذ الثقافة والأدب والفكر سلاحا ناسفا لقوى متجمعة، أو لقوى هى فى طريقها إلى التجمع ، ولا أن أمضى سلاح فى يد عدونا هو سلاح الكلمة الذى يحمله رجال من أنفسنا ينبثون فى كل ناحية ، ويعملون فى كل ميدان وينفثون سمومهم بكل سبيل، ولا أن بعض هؤلاء الرجال يأتون ما يأتون عن علم علم ، وبعضهم قد أخذ من غفلته ، فهو ماض فى طريقه على غير بينه "

    ***

    نعم..

    كان ميدان الثقافة هو الميدان الذي عبث فيه القوميون – و أظن أن القارئ معي الآن في أنهم عملاء للاستعمار والشيطان معا- فزيفوا وعي الأمة..

    كانوا يخدعون الأمة فيطلون المعدن الرخيص بقشرة ذهب زائفة يخدعون بها الأمة..

    ***

    ولولا غيبة الفكر الإسلامي الذي غيبته القومية ما كان لقشرة الذهب الرقيقة التي تغطى المعدن الرخيص أن تخدع خبيرا، قد ينخدع بها البسطاء والسذج والعامة، حين يحتال المحتالون عليهم فيبذل المساكين أنفس ما يملكون مقابل ما لا قيمة له، بل إنهم في الغالب يستدينون ، ليكتشفوا بعد فوات الأوان أنهم فقدوا كل شئ، لا ليصلوا إلى نقطة الصفر، بل دونها، حين يطالبهم الدائنون بسداد الديون، أما أعلى الأصوات دفاعا عن المعدن المزين المغشوش فهي أصوات مجموعة من الصبيان استأجرهم المحتال و أجزل لهم العطاء كي يروجوا بضاعته المغشوشة.

    خدش واحد يكسر القشرة الرقيقة كان كفيلا بكشف عملية النصب والاحتىال لكن أصوات الغلمان المستأجرين غيبت العقل و أضاعت الحرص ودفعت إلى الهاوية.

    نعم.. خدش واحد..

    ***

    لا أقصد مما أقول إلا ما فعلته الحضارة الغربية معنا، وما الغلمان المستأجرون إلا بعض كتابنا ومفكرينا فمهما اختلفت أسماؤهم من قوميين أو اشتراكيين أو ماركسيين أو حداثيين أو تنويريين فهم نفس الشئ....

    وسؤال واحد كان كفيلا دائما بكسر القشرة المزيفة البراقة لنكتشف الخدعة.. لكننا بين الخيانات والعمالات والضجيج والتشويش لا نسأله..

    نعم.. عرّضوا أي بناء فكرى من الحضارة التي يطرحها علينا الفكر القومي التغريبي للسؤال الأول وسوف يبدأ البناء في الانهيار على الفور.

    ***

    لنأخذ على سبيل المثال دعاوى حرية المرأة..

    ولنخدش القشرة البراقة المزيفة بسؤال يقول: أي امرأة؟ هل هي الزوجة أم الأم أم الإبنة أم الجدة؟..

    سوف نكتشف على الفور أن دعاوى حرية المرأة لا تقصد أي واحدة من هؤلاء!! وهن جميع أنماط النساء اللائى نعرفهن..!!. يبقى نوع واحد لا نعرفه والحمد لله..

    تنكسر القشرة ويطفح المعنى على الفور ليتضح أن الدعوى لا تقصد إلا امرأة في عمر الإغراء، خلال عقد أو عقدين من عمرها، وهى لا تقصد حقها في الطهر بل في العهر، ولا تقصد حق أبنائها في أم فاضلة ولا أمها في ابنة بارة، ولا زوجها في زوجة رؤوم عفيفة تصون أولاده وبيته، كل هذا غير مطروح على الإطلاق. المطروح فقط تعهير المرأة، ولتسقط مؤسسة الأسرة إلى غيابات الضياع ولترتفع نسبة الطلاق إلى أربعين في المائة في بعض بلادنا وليتشرد الأطفال وليصدق الحديث النبوي الشريف فيصبح الحر قيظا والولد غيظا، فكل ذلك هين مقابل أن تتعرى المرأة وتتحرر!!..

    على إحدى القنوات الفضائية كانت أستاذة جامعية، سافرة، من الداعيات لتحرير المرأة، تتحدث عن الموجات الثلاث لتحرير المرأة عبر قرن مضى، وكانت تؤيد الموجة الأولى وتتحفظ على الثانية وتعترض على الثالثة، وكانت تكتشف الحقيقة فتصرخ: هل ظللنا مائة عام نناضل كي نتعرى.. لماذا لم نفعل ذلك منذ البداية.. وما كان أسهله؟!..

    ***

    قشرة أخرى.. وخدش آخر.. وسؤال..

    الغلمان، صبيان المحتال، طالما نظروا إلينا بتعال وازدراء ونحن ننادى بالاحتشام والعفة..

    أنتم أيها الإسلاميون منغلقون متحجرون لا تفكرون إلا في الجنس.. أنتم لا تعرفون سمو الفكر ولا تعدد ما يمكن أن يدور بين رجل وامرأة دون أن يكون الشيطان ثالثهما إلا في عقولكم .. ( تجاهل الفسقة أنه حديث نبوي شريف).. وتعالت هتافات الغلمان وضوضائهم.. ثم تحولت الضوضاء بعد ذلك – تحت رايات الأمم المتحدة – إلى قوانين تلزم وتعاقب من لا يطبقها حول حرية ممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج.. ولم ينخفض صوت الغلمان درجة واحدة.. وراحوا يروجون للعهر باسم الحرية الشخصية ونسوا اتهاماتهم لنا و أصبح العهر حقا يحاربوننا عليه.

    في الموجة الثالثة كان النداء لترويج حرية الشذوذ..

    انشرخت القشرة.. وكانوا هم الدعار والداعرات الذين ملأت الفاحشة وجدانهم ودنست أرواحهم طيلة الوقت..

    إلا أننى أريد أن أذكركم هنا يا قراء: أن هؤلاء الفاسقين المنافقين، عندما اتهموا المسلمين بأنهم لا يفكرون إلا بالجنس، وعندما ادعوا لأنفسهم العفة والترفع والتسامى، في نفس الوقت واللحظة، لم يكونوا يزنون فقط، بل كانوا يلوطون أيضا، وراجعوا سيرهم الشخصية، ( راجعوا شذوذ الأزواج الثلاثة لأروى صالح.. وكانوا قوميين) و ما أريد أن أثبته هنا، أنهم لم يُخدعوا فخُدِعوا، بل شاركوا في مؤامرة شيطانية هائلة، كانوا يدركون منذ بدايتها نهايتها، وكانوا يرومون منها نقض عرى الإسلام عروة بعد عروة.

    كانوا – جلهم- يدركون منذ البداية، لكنهم لفرط خستهم استتروا خلف الإسلام ولبسوا عباءته وادعوا أنهم يقولون ما يقولونه حين يقولونه انطلاقا من الدين الصحيح.

    ***

    قشرة أخرى ولمعان آخر: الديموقراطية: حكم الشعب وبالشعب وللشعب، تنكسر القشرة، فإذا بالديموقراطية المزعومة ليست إلا حكم العملاء والخونة والغلمان للشعب بمعونة أجهزة الأمن، التي حلت محل بوارج المستعمر..

    نعم .. أجهزة الأمن التي اقتصرت وظيفتها الأولى على ما كانت تقوم به جيوش الاحتلال من قهر للأمة وتنكيل بالشرفاء وسحق للأبطال وتمجيد للخونة.

    نعم .. انكسرت قشرة الديموقراطية المزيفة فإذا أخشى ما يخشونه هو إجراء انتخابات حرة نزيهة في أي بقعة من بقاع عالمنا الإسلامي لأنهم يعلمون – رغم التشويه والتزوير و ادعاءات الباطل – ماذا ستختار الشعوب.. و إذا أقرب المقربين إليهم المزورون والعملاء و أما عدوهم من حكامنا فمن يفكر في انتخابات حرة.

    حكم الشعب بالشعب وللشعب..

    اختارت شعوبهم اللواط فأرادوا فرضه علينا..

    اختارت شعوبهم نهب ثرواتنا واحتلال بلادنا وتسفيه أحلامنا وضياع ديننا فأرادوا من شعوبنا الانصياع لإرادة شعوبهم.

    ونكتشف بعد أن صدقنا الخدعة والفرية أنهم يقصدون من حكم الشعب وبالشعب وللشعب : حكم الشعب المسلم بالشعب الصليبي والصهيونى ولمصلحة الشعب الصليبى الصهيونى.

    ***

    قشرة أخرى ولمعان آخر.. القومية والوطنية..

    ويتصايح الغلمان الخونة عبيد المحتال بالصياح والأناشيد والأهازيج التي تمجدهما.. وتعليها ولا تعلى عليها بحيث يكون أي صوت معارض أو كاشف: خيانة للوطن.. وما هو خيانة بل هم الخونة.. فإن ألقيت بسؤال وحيد تمزقت كل دعاواهم كبيت العنكبوت..

    والسؤال يقول: في عالمنا العربي والإسلامي.. لماذا لم تُمجّد إلا وطنية الأقطار بالحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو.. وخنازير العلمانية الذين يسبحون بحمد أي كاتب غربى ويكادون يسجدون أمامه تراهم يستعيدون حدود سايكس بيكو عندما يكون الكاتب أو المفكر أو الداعية مسلما.. فتجد خنزيرا من مصر يحتج على ندوات الشيخ على الجفرى في مصر وتجد خنزيرا سعوديا يحتج على دعوة عمرو خالد لإلقاء محاضرات في جدة.

    لماذا لا يغنى الغلمان الخنازير لوطن بحدود الشام.. أو للدولة العربية الكبرى.. ولن تبلغ بنا الآمال أن ندعوهم للتغني بدولة حدودها الإسلام..

    ***

    وبالرغم من ذلك كله لم يكف الغلمان عن التصايح أبدا..

    تنكشف الخدعة وراء الخدعة.. والجريمة بعد الجريمة .. والفضيحة تلو الفضيحة.. لكن أحدا لا يلقى القبض على عصابة الغلمان و أسيادهم أبدا.. وتظل الدائرة تدور..

    ***

    الأمثلة السابقة، نموذج لما حدث في كل القضايا الأخرى..

    في الحرية والإخاء والمساواة والديموقراطية والحداثة والاستنارة والتحضر..

    كانت القشرة البراقة الخادعة تخطف الأبصار وكان الغلمان – صبيان المحتال المأجورين – يذهلون العقول.. وكانت الأمة تفقد كل ما تملك مقابل سراب حسبته الأمة تحضرا، و مقابل احتيال محتال وخديعة غلمان.. وكانت تستبدل ببيتها المكين.. بيت عنكبوت..

    ***

    نعم..

    كانت رحى المعركة كلها تدور في ميدان الثقافة..

    وهو ميدان قد يظن المسلم المطحون أنه ميدان لا يهمه على الإطلاق.. قضية لا تهمه.. ومع ذلك فقد يموت غدا بدليل يستقى منها.. أو بقانون يعتمد عليها..

    ***

    قد.. لا يهمك هذا الميدان أيها القارئ..

    وقد هذه تعنى شكا..

    أما اليقين الذى لا شك فيه فهو إذلالك و إهدار كرامتك وسحق مشاعرك وتشريد أهلك واحتلال أوطانك و وتسفيه دينك.. وكل ذلك بسبب هذه القضية التى لا تهمك على الإطلاق..

    ***

    ولنبدأ طرح القضية التى نقلها إلينا غلمان القوميين والحداثيين والعلمانيين و أدعياء الثقافة والتنوير من عباد الغرب والشيطان..

    والقضية قضية لغوية.. وهى تنحصر فى التساؤل عن العلاقة بين اللفظ ومعناه أو كما يقول الحداثيون: العلاقة بين الدال والمدلول، ثم يتطور السؤال إلى: هل سبق اللفظ المعنى أم سبق المعنى اللفظ؟!!..

    ما هى العلاقة بين الصوت الذى ينطلق من الحنجرة واللسان والفم وبين ما يعبر عنه هذا الصوت.

    هل وجدت الأشياء أولا ثم أطلقت عليها الأسماء؟ ولماذا إذن لا تتشابه الأسماء فى اللغات جميعا؟. أم أن اللغة وجدت أولا بحيث أن مدلول اللفظ يكون كامنا فيه؟..

    ***

    ألم أقل لك منذ البداية أنها قضية لا تهمك.. لكننى سأستميح عذرك لأستبيح صبرك..

    ودعنى أطرح عليك هذا السؤال الذى يطرحه جهابذة عباد الشيطان:

    لو أن الناس جميعا اتفقوا على إطلاق اسم: " لكب" على الكلب، هل كانت صفات الكلب ستتغير؟ أو أنهم أطلقوا اسم: " رشجة" على الشجرة.. أو أى اسم آخر.. لو أنهم سموها: " ذئبا " أو "كلبا" أو "ماء" فهل كان الأمر سيختلف. ثم: هل تمثل كلمة "الشجرة" الشجرة نفسها ، أم أنها تعنى غيابها؟ تعنى أننا عجزنا عن الإتيان بالشجرة فأتينا بكلمة بدلا منها، وبهذا يتضافر الحضور والغياب. ويصل هؤلاء إلى أن الناس اتفقت اعتباطيا على معنى كل لفظ، و أنه لا توجد علاقة على الإطلاق بين اللفظ ومعناه. و أن المجتمعات البشرية هى التى أعطت المعنى لكل لفظ.

    لن نسوق إليهم الآن حجتنا اليقينية أن الله سبحانه وتعالى علم آدم الأسماء كلها.. هم أقل و أضأل من أن نسوق إليهم دليلا من القرآن الكريم.. ثم أننا نريد أن نكشف منطقهم من خلال منطقهم ذاته.

    لكن تذكر أننا لو احتفظنا بالمرجعية الإسلامية ما كان لنا أن نضل كل هذا الضلال.

    ***

    الفصل بين اللفظ ومعناه، أو بين الدال والمدلول كان بدايات أفكار البنيوية والتفكيكية التى انتشرت فى بدايات القرن العشرين على يد فلاسفة الغرب مثل دريدا وسوسير ورولان بارت وجاك كوهين وياكوبسون وغيرهم. بدأت بفصم عرى لا يتصور أن تنفصم، لكن هذا الانفصام كان نتيجة حتمية للفلسفة الإلحادية، ذلك أن الإنسان لا يتبوأ مكانه السامى إلا بإيمانه بالله. فإذا فقد الإيمان بالله ضاع، وتحول إلى مجرد حيوان، ووجب علينا أن نناقش الأصوات المنطلقة منه- من الحيوان- ولكان منطقيا أن نشك فيما إذا كانت هذه الأصوات المختلفة تعبر عن أى معنى.

    كان منطقيا أن يتلو الكفر بالله الكفر بالإنسان أيضا.. ليكون مجرد حيوان..

    وكان منطقيا أن تسقط كل القيم.. فالقيم لا تستمد قيمتها إلا من الله ومن كتبه ومن رسله.. و إلا فماذا يجعل الصدق خيرا وهو قد يضر؟ وماذا يجعل الكذب شرا وهو قد يفيد.. وماذا يجعل القتل جريمة وانتهاك الأعراض عارا والظلم سبّة؟!..

    أدى الكفر بالله، وجحود نعمته علينا بتعليمنا الأسماء إلى فصم العري بين اللفظ ومعناه.. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد.. لأن الحضارة المادية الملحدة التى عبدت المادة والعلم والعقل من دون الله ما لبثت أن اكتشفت قصورها جميعا وعجزها عن تلبية احتياجات الإنسان أو تقليل شقائه.

    وهكذا أدت الفلسفات الإلحادية فى النهاية إلى سقوط الأرباب التى اتبعها أسلافهم فى القرن التاسع عشر لعبادتها من دون الله: المادة والعلم والعقل.

    ولقد أدت العملية التفكيكية فى نهايتها إلى تجاوز الكفر بعالم الغيب إلى الكفر بعالم الشهادة! وسيطرت الفلسفة الألمانية وتكفلت ظاهرية هوسيرل وتأويلية هايدجر وجادامر برفض أى سلطات مرجعية، وكما يعبرون هم فقد انفرط عقد العالم بعد أن فقد كل شئ الإحالة إلى مرجع ثابت وموثوق به.

    يرى ميشيل فوكوه أن كل عصر معرفى جديد يزيح العصر المعرفى السابق، وفى مرحلة معرفية سابقة تمت إزاحة المقدس من مركز الوجود ليحل محله العلم والعقلانية، أما فى المرحلة الأخيرة فقد أزيح العقل لتحل محله اللغة، ليصبح الشك وانعدام اليقين هو الحقيقة الوحيدة المطلقة، ويصبح لا ووجود حقيقيا لأى شئ خارج إطار اللغة.

    لكن اللغة نفسها مراوغة والعلاقة بين اللفظ والمعنى فيها علاقة اعتباطية..

    إذن: فقد انتهى كل شئ..!!..

    ***

    أعرف أن الكلام صعب وغامض، بل أعرف أكثر من ذلك أن صعوبته لا ترجع إلى عمقه، بل إلى أنه هراء، سفسطة مجانين ، قد تبدو منهم هنا وهناك لمحات مبهرة كما تبدو من أى مجنون، نعم هراء أحمق مجنون يريدون منا أن نستبدله وهو الأدنى بالذى هو خير، أناس طمس الله على قلوبهم و أعمى بصائرهم فلا يفقهون، لكن المهم هنا، أن هذه الفلسفات النظرية تنجم عنها تطبيقات عملية نتلظى بنارها ونكتوي بنيرها.

    ***

    الخطير فى الأمر.. الخطير جدا.. أن هذه الفلسفات والأفكار لا تدور فى فراغ.. بل إنها أشبه بدائرة التوصيلات الكهربائية والإليكترونية التى تشتريها مع أى جهاز كهربى تشتريه مع الجهاز فى كتيب يشرح تحول النظريات إلى تطبيقات. وهو كتيب لا يفهمه إلا الخبراء، وبالنسبة للشخص العادى فإن كلماته ورسوماته أشبه بالشفرة، لذلك فما من أحد منا يراجع خرائط التوصيلات الكهربائية والإليكترونية تلك – لجهاز تليفزيونه على سبيل المثال!. إنك تقتنى الجهاز واثقا فى أن من وضع هذه الرسوم لم يخدعك من ناحية، ومن ناحية أخري فإنك غير محتاج بالضرورة لفهم تلك الرسوم والخرائط كى تستطيع تشغيل أو مشاهدة جهازك التليفزيونى.

    العلاقة يا قراء بين الفلسفات النظرية والتطبيقات العملية لها تشبه تماما ذلك المثل الذى طرحته عليكم.. تشبهه وتكاد تتطابق معه إلا فى شئ واحد.. وهو أنك لم تقتن جهازا للتلفاز بل قنبلة موقوتة ستنفجر فيك وتقتلك وتدمر بيتك وتشرد أهلك.. ومن هنا وجب عليك الرجوع إلى الرسوم لاكتشاف الخطر.

    ***

    فلنتناول على سبيل المثال أحد التطبيقات العملية للفلسفة السابقة وللقضية اللغوية التى بدأنا بطرحها. تلك القضية الغامضة المكتوبة برموز كالشفرة لا يفهمها إلا مختص.

    قلنا أنه لا وجود لشىء خارج اللغة ( والعبارة تبدو فى الظاهر بريئة، ويبدو أن معناها يفوق قدرتنا على الفهم، أو أنها بلا معنى، والواقع أنها بعد فك رموز شفرتها تعنى إنكار الذات الإلهية والأنبياء جميعا، كما يتضمن معناها فى ذات الوقت الكفر بالعلم والعقل) . كما قلنا أن ارتباط المعنى باللفظ هو ارتباط اعتباطى لم يرسخه إلا اتفاق الناس عليه آمادا طويلة، و أنه لذلك يمكن أن يتغير، لكن بشرط أن نفرض قطيعة معرفية مع الماضى كله، وهذا لا يعنى إلا الكفر.

    كان هذا هو رسم الدائرة الإليكترونية الغامض الصعب والآن لننتقل إلى التطبيق.

    إذ يترتب على ذلك أن كلمة الشذوذ الجنسي مثلا تحمل معنى اعتباطيا لفعل كريه يحتقره الناس، لكن هذه الكراهية والاحتقار لا تنجم من الكلمة ولا من الفعل بل من اتفاق اعتباطى طال عليه الأمد حتى أصبح كالحقائق الراسخة وما هو بحقيقة وما هو راسخ، لقد اكتسبت الصفة معانيها السلبية المهيمنة المهينة عن طريق استخدامها المستمر والمتكرر لإهانة الشواذ والتنديد بهم حسب قيم دينية و أعراف اجتماعية ومنتجات ثقافية تفرض معايير معينة، وترى الكاتبة الأمريكية الشهيرة جوديت باتلر فى كتابها: "مشاكل الجنوسة" أن على الشواذ والسحاقيات أن يصفعوا المجتمع بالكلمة بصفة متكررة ومستمرة، لأنهم بذلك سينجحون فى تغيير الأعراف المتحجرة وتفكيكها وتحطيمها، وبذلك تفقد كلمة شاذ " GAY" أو سحاقية : " LESBIAN " قدرتها على الإهانة، وربما يصل الأمر، كما يقول الدكتور عبد العزيز حمودة إلى استعمال هذه الصفات فى سياق المدح..!!

    ***

    هل رأيتم يا العلاقة بين الرسم المشفر والتطبيق..

    وهل جال بخاطرك أن هذه العبارة البريئة الموجزة: " لا وجود لشيء خارج اللغة" يمكن أن تسفر عن هذا التطبيق البشع.. إباحة الشذوذ وتمجيده..

    ***

    لن نتكلم الآن عن علاقة ذلك بقيام الغرب بالضغط على الدول القومية لتعيين وزير شاذ أو رئيسة تحرير سحاقية، لن نتكلم عن ذلك فالعلاقة واضحة، لكننا نتكلم عن أمر آخر، أمر يدخل فى صميم همومنا.

    ***

    ذلك أنه إن كانت تلك القضية اللغوية والخلفيات الفلسفية قادرة على قلب المعنى بهذه الطريقة، وإن كانت حققت نجاحات هائلة فى بلادهم، كما حققت نجاحا لا ينكر على أيدى القومييت والحداثيين والعلمانيين والتنويريين والتغريبيين فى بلادنا، إذا كانت قد نجحت فى ذلك، فلماذا لا تنجح أيضا فى وصم العمليات الاستشهادية بالعار والإثم الشديد، وفى اعتبار الجهاد معصية نظامهم الشيطانى الكبرى التى تستحق كل وسائل السحق والمحق.

    نعم .. إن كانت قد نجحت فى ذلك فلماذا لا تنجح فى تحويل الحق إلى باطل والباطل إلى حق..

    نعم.. لم تكن تلك أفكارا هائمة فى الفراغ بل كانت رسم الدائرة الإليكترونية الجهنمية المشفرة..

    نعم.. و ما قالته جوديت باتلر فى مجال يقوله بوش فى مجال آخر.. وما نادى به دريدا يطبقه شارون ممتطيا نفس الفكرة والمنهج.

    ***

    كل ذلك منطقى – بمنطق الشيطان – بالنسبة لهم ولتاريخهم الدينى والسياسي والاجتماعى. لكنه بالنسبة لنا كارثة ومصيبة وداهية وخيانة للأمة وتفتيت لها، فلماذا ساقنا القوميون إلى هذا المنعطف الوعر.

    يقولها فلاسفة الغرب بوضوح أنه لا سبيل للتقدم إلا بالقطيعة المطلقة مع التراث، أما كتابنا الجهابذة كأدونيس وجابر عصفور والغذامى وكمال أبو ديب ، وصبيانهم كصلاح عيسي والغيطانى والقعيد، وكل كتاب السلطة، فيرون أن مجتمعاتنا لم تنضج النضج الكافى بعد، لذلك فهم يراوغون – بل يكذبون - فى إيصال المعنى إلينا. وبدلا من تلك الجملة الصريحة الواضحة القاطعة الناطقة بالكفر فإن القوميين والحداثيين فى عالمنا الإسلامى يستعملون جملا أخرى من نوع: "تحطيم القوالب المتحجرة الثابتة لمنظومة القيم البالية". وما يقصدون إلا القرآن والسنة. إلا الإسلام.

    ***

    يصرخ الدكتور عبد العزيز حمودة فى كتابه المرايا المقعرة : أن هذا هو الرعب القادم، بل الرعب القائم، رعب فقدان الهوية كلها.. رعب ينتقل بنا من تفكيك اللغة إلى تفكيك الوطن.. ومن سيولة الأفكار إلى انهيار الأمم..رعب التلاشى والفناء تحت وطأة ضربات ساحقة غادرة .. بالتآمر مع حداثيينا..

    ***

    نعم..

    هذا ما أريد أن أصل إليه..

    كان القوميون عندنا منذ زمان طويل يمهدوننا لتقبل منهج غريب علينا ، منهج شاذ وخطر، نبت من فلسفات شاذة ومريضة، كافرة ملحدة، ليس بالله فقط، بل بالإنسان أيضا، فلسفات ليس لها مبادئ ولا قيم، فلسفات لا تعرف العقل ولا المنطق، ولم تسمع عن العدل والرحمة والإنصاف، فلسفات لم تقتصر على التعامل مع الإنسان كحيوان بل كشيطان مريد. فلسفات مجرمة أنبتت شخصيات مجرمة كشارون وبوش ( ودعنا من حكامنا القوميين الآن)...

    لم تكن وظيفة رواد القومية والحداثة والتغريب إلا تلك.. وما منحوا الشهرة والمجد والانتشار الذائع إلا من أجل أن يقوموا بهذا الدور.. وكانت المخابرات الأمريكية هى التى تمول كل ذلك ..

    كان الإسلام هو العقبة الكئود أمام القومية و الحداثة.. وكان عليهم أن يفرضوا القطيعة بيننا وبينه كى ينفردوا بنا..

    تلك القطيعة كانت تهم الغرب للسيطرة علينا .. كما كانت تهم حكامنا أيما اهتمام.. ذلك أنها كانت تعفيهم من المسئولية التى وضعها الناموس الإلهى لضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

    ***

    فى كتاب: " حصوننا مهددة من داخلها" يكشف الدكتور محمد محمد حسين أمر القوميين الحداثيين والعلمانيين والمستغربين ودعاة التنوير والثقافة، يكشف دسائسهم التى يلقون عليها حجبا كثيفة من الرياء. والنفاق ، حين يندسون بين صفوف الأمة، يتظاهرون بالغيرة على إسلامنا وعلى عروبتنا ، حين تنطوي ضمائرهم على فساد العقيدة وحين يعملون لحساب العدو الذي يستعبدنا ولحساب الصهيونية الهدامة التي لا تريد أن تبقى على بناء قديم .

    يصرخ الدكتور محمد حسين: هؤلاء هم أخطر الأعداء ، وهم أول ما ينبغى البدء به في تطهير الحصون وتنظيف الدار ، لأن الأعداء والمارقين ظاهر أمرهم لا يخفون، وهم خليقون أن ينفروا الناس ، فهم كالمريض الظاهر يتحاشاه الناس ولا يقتربون منه . أما هؤلاء فهم كالمريض الذي لا يظهر المرض على بدنه ، فالمخالطون لا يحتاطون لأنفسهم في مخالطته .

    ويتهم الدكتور حسين أعداء الأمة هؤلاء من المنافقين والضالين والمضللين بأنهم يزينون للأمة الباطل زاعمين لها أنه هو سبيل النهضة ، ويوهمونها أن كثيرا من عاداتها الصحيحة الأصيلة هى من أسباب تخلفها وضعفها ، ويزجون بها فيما رسمته عصابتهم من قبل وما قدرته من طرق ومسالك " .

    ويستطرد الدكتور حسين فى مرارة عاتية:

    وأنبه إلى ما انكشف لي من أهدافهم وأساليبهم التى خدعت بها أنا نفسي حينا من الزمان مع المخدوعين ، أسأل الله أن يغفر لي فيه ما سبق به اللسان .والقلم . وإن مد الله في عمري رجوت أن أصلح بعض ما أفسدت مما أصبح الآن في أيدي القراء (…) وقد كان مصابى هذا في نفسى وفي تفكيري مما تجعلني أقوى الناس إحساسا بالكارثة التي يتردى فيها ضحايا هؤلاء المفسدين ، وأشدهم رغبة في إنقاذهم منها ، بالكشف عما خفى من أساليب الهدامين وشراكهم (…) ..

    ويكشف الدكتور حسين أن هؤلاء المنافقين قد اشتراهم الغرب كي يكونوا حراسا على أوطاننا التي حولوها إلى سجون. فيقيموا فيها معبدا يسبح كهنته بحمد آلهتهم التي يعبدونها من دون الله . وينكل بالذين ينبهون النائمين والغافلين والمخدوعين ..

    ***

    تحت رعاية القوميين الذين تحولوا إلى الحداثيين – عبدة الشيطان - كنا ننتقل من الإيمان إلى الكفر تحدونا سياط أجهزتنا القومية قبل سياط سياط شارون وبوش. كانوا يقيمون دعائم مملكة الكفر.. وكانوا قد تسلحوا بمقولة قاطعة خدعوا بها الأمة فاستجابت أو رضخت.. ذلك أنهم وهم يقيمون مملكة الكفر منعونا من استعمال السلاح الوحيد الذى كان يمكن أن يحمينا من مكرهم .. ألا وهو الحكم عليهم بالكفر.. و أصبح التكفير رجعية وتخلفا، وأصبح التخلف جمودا، و أصبح الجمود أصولية، و أصبحت الأصولية تطرفا وأصبح التطرف إرهابا.. و أصبح الاستشهاد انتحارا كما أصبح الطفل الذى يحمل حجرا يهدد الأمن والسلام العالميين أما استخدام الطائرات والدبابات فى سحق المدنيين فهو دفاع مشروع عن النفس.

    لكن.. لماذا نرفض كل ذلك وقد اقتنعنا من قبل بالقطيعة مع التراث .. وباعتباطية العلاقة بين اللفظ والمعنى..؟!!

    ***

    إننى أريد أن أعود هنا إلى نقطة هامة.. وهى أن القارئ العادى، وحتى المثقف، عندما يقرأ شيئا من تلك الأبحاث التى يروجها الحداثيون كقضايا لغوية أو فكرية أو فلسفية، فإنه فى أغلب الأحوال ينصرف عنها، تحت راية أنه علم لا ينفع وجهل لا يضر، فإذا حاول الفهم، فإنه فى أغلب الأحوال لن ينجح فى الفهم، ليس لقصور فى عقله، ولكن لأن الحداثيين فى بلادنا كما ذكرت يكذبون، يتحدثون بمنطق العصابات التى تتحدث بشفرة لا يفهمها إلا أفراد العصابة، فإذا حدث أن سمع حديثهم شخص من خارج العصابة فإنه لن يفهم أبدا ما يعنونه. هذه الآلية الخبيثة المجرمة تمكنهم من التسلل إلى قلب الأمة كما يتسلل الصدأ إلى الحديد. فى سرية، وفى خفاء، دون إعلان، ودون فهم، ويستمر الأمر على ذلك المنوال حتى ينهار البناء فجأة.

    ***

    تعامل القوميون والحداثيون فى بلادنا مع القراء كما تعامل الباطل مع الحق فى القصة الشعبية المتوارثة المشهورة.. حين كان الحق والباطل على سفر وكانا لا يملكان إلا بعيرا واحدا فاختلفا على من يركبه.. واتفقا على الاحتكام إلى أول من يلتقيان به.. وظلا يسيران حتى لقيا رجلا سليم النية خالى الطوية – تماما كقرائنا – وهنا سارع الباطل إليه ليسأله:

    - ما رأيكم يا شيخنا: من الذى يمشى.. الحق أم الباطل؟..

    و أجاب الرجل على الفور:

    - - طبعا الحق هو الذى يمشى..!!

    وخسر الحق القضية..!!

    خسر الحق القضية كما خسرتها الأمة حين حكم القوميون عليها بأن الغرب هو البذى يركب والإسلام هو الذى " يمشى:"!!..

    نعم.. تعامل حداثيونا وقوميونا مع الأمة بهذه الطريقة.. و أخفوا عنها طول الوقت الخلفيات الفلسفية الإلحادية لفكرهم وللقضايا التى يطرحونها ، بل تعمدوا الكذب الصريح والتضليل الواضح فى أحيان كثيرة، تعمدوها مثلا عندما خلطوا ما بين الحداثة كفلسفة كافرة مجرمة علينا أن نحاربها جميعا، وبين التحديث كهدف علينا أن نسعى جميعا إليه.. وتعمدوها عند الخلط ما بين العلمانية والعلم.. وبين التشريع الإلهى والبشرى .. وبين التحرير والتعهير.. وبين التنوير والتزوير.. وبين القومية والإسلام..

    كانت السلطة تساعدهم وكان الغرب يسيدهم كما يسيد العدو كل خائن لأمته: قارنوا مثلا الفارق فى التعامل من السلطة ومن الغرب معا مع شخصيتين: مع الشيخ عمر عبد الرحمن فك الله أسره والدكتور نصر حامد أبو زيد قبح الله وجهه.

    وراجعوا أيضا كيف كان ساطع الحصري قاسما مشتركا أعظم في البلاد العربية.

    ***

    كان الاستثناء الهائل الذى زلزل القوميين و الحداثيين هو القضية التى عرفت بأزمة الوليمة.. كانت كالدخان الذى يخرج الثعالب من الجحور.. وربما تقبع القيمة الحقيقية لهذه القضية، فى أنها كشفت للناس الشفرة التى يستعملونها ، جعلتهم يتحدثون إلى الناس بنفس الألفاظ التى يتحدثون بها إلى بعضهم البعض.. إلى أفراد العصابة.. وهكذا تم كشفهم الاكتشاف الكامل والنهائى.. ووضحت للناس أن ما يحملونه فرحين ليس جهاز تلفاز أو لعبة إليكترونية سيسعدون بها بل لغما شديد الانفجار سيدمرهم.. أسقطت تلك القضية الأقنعة عن الوجوه الشائهة.. و أدرك الناس لأول مرة أن حرية الفكر لم تكن تعنى أبدا حرية الفكر.. ولا حتى حرية الكفر.. بل كانت تعنى التآمر على إيمان الناس وتحويلهم إلى الكفر.. ومن لم يتحول أبيح دمه..

    تورط القوميون جميعا فكشفوا من أنفسهم ما لم تكن الأمة على يقين منه..

    أنهم كفرار – إلا من رحم الله-.

    وفهم الناس لأول مرة أن الإبداع يعنى أشد الألفاظ بذاءة وسوقية.. و أن الإبداع يزيد كلما وجهت هذه الألفاظ البذيئة والسوقية إلى مقدساتنا.. فإذا وصل الأمر إلى سب الذات الإلهية والسخرية من الرسول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، و إلى إهانة القرآن الكريم فقد وصل إلى عالم الذرى ..

    أدرك الناس المعنى وفهموا الشفرة واكتشفوا أنهم لا يتعاملون مع مبدعين ولا مفكرين ولا فلاسفة و إنما مع حثالة بشرية مرتدة خائنة وعميلة وسافلة ومنحطة..

    ***

    بعد هذا الانفجار توالت الاكتشافات..

    و راحت رموزهم تسقط رمزا خلف رمز.. فى فلسطين وأفغانستان والشيشان وكشمير و.. و.. و..

    سقط وهم الديمقراطية وتبدى وجهها دون قناع كمسخ مشوه مروع ومقزز ورهيب ..

    سقطت فكرة العدالة البشرية عندما أسفرت عن ظلم وحشى مجنون ..

    سقطت منظومة ادعاء حقوق الإنسان عندما سحقت حقوق الإنسان بمباركة فلاسفة العالم ومنظماته الدولية..

    ولم تسقط منظومة القومية العربية فقط بل سقطت المنظومة الغربية كلها تحت حوافر الغبى المجنون جورج بوش، وهو يبيح لنفسه ما حرمه الله سبحانه وتعالى على نفسه، الظلم، نعم سقطت المنظومة والمجنون الغبى يعلن الحرب على الإسلام ويريد منا تعديل القرآن إن لم يمكن إلغاؤه، سقطت والغبى المجنون يعتبر الوحشية رقيا والقتل تحضرا، والاستهانة بأرواح مئات الآلف حضارة، سقطت والغبى المجنون يدعم السارق ضد المسروق منه، والجلاد ضد ضحيته، وأيقظ الغبى المجنون ما كانت آلات إعلامهم الجبارة قد نجحت فى إيهام العالم به من أن القيم البشرية المطلقة قد حلت محل المقدسات جميعا..

    كنا نظن أن الطغيان الوحشي المجنون حكر على قادة القومية العربية و أساطينها

    لكن هذا الغبى المجنون أبى إلا أن يكشف انتماءهم إليه، تماما كما تمتد أفكار قوميتهم إلى الحضارة الغربية، اعتبرهذا الغبى المجنون ا- الذي لا يمثل نفسه بل يمثل الحضارة الغربية كلها - اعتبر العالم معرضا للخزف فراح يجوس فيه ويحطم أو أنه تصرف كقرد تسلل إلى متجر فراح يبدل أماكن لافتات الأسماء دون أن يبدل معها الأشياء فإذا الشجاعة جبن وإذا الجبن شجاعة وإذا الديموقراطية ذات أنياب.. و إذا الشجرة " رشجة" و إذا الكلب " لكب أو بكل" ..!!

    ***

    لقد علم الله آدم الأسماء كلها وهذا الغبى المجنون على رأس صف طويل من الحداثيين يحسبون أنهم قادرون على تغيير تلك الأسماء التى علمناها الله..والغبى المجنون لا يفهم أنه ليس له إلى ذلك من سبيل إلا إذا استطاع أن يأتى من المغرب بالشمس التى يأتى بها الله من المشرق..

    ***

    نعم فى خلال ثلاثة أعوام سقط ما ظل الغرب – وحداثيونا – يضللونا به ثلاثة قرون..

    ***

    يعترينى الرعب و أنا أتأمل حكمة ربى سبحانه وتعالى..

    ***

    هل كان يمكننا بمجهودنا ولو أنفقنا كل ما نملك أن نكشف زيف الغرب وخيانة عصابات القوميين و الحداثيين كما حدث فى الأعوام الثلاثة الأخيرة.. والمعجز أن هذا الكشف والتعرية قد تمت بأفعال الغرب نفسه و وبيد الحداثيين أنفسهم..ابتداء بالوليمة ومرورا بأفغانستان وانتهاء بفلسطين.. حين جعل الله كشفهم فى فعلهم وهو القادر على أن يجعل تدميرهم فى تدبيرهم.

    ***

    يا قراء: إن ما يفعله بوش وشارون ليست مجرد تصرفات مجنون فقد عقله و إنما هى النتيجة لفكر شاذ وفلسفات مريضة و أفكار مجرمة تعتمد كلها على الكفر بالله..

    ونفس هذا الفكر الشاذ والفلسفات مريضة و الأفكار المجرمة هى تماما ما راح القوميون ينثرونها فى أمتنا كالوباء..

    نعم يا قراء.. خدعنا القوميون وخانونا..

    ولم يكونوا يناقشون قضايا: العلم فيها لا ينفع والجهل بها لا يضر..

    لقد تآمروا علينا وخانونا.. وكان المنهج الذى حاولوا ترويجه طيلة الوقت هو نفس المنهج الذى اتبع لتبرير الاستعمار و الإبادة والظلم.. كما اتبع لنزع سلاح الأمة الوحيد فى المواجهة: ألا وهو عقيدتها وهويتها..

    ***

    لا تندهشوا إذن يا قراء مما يقوله شارون وبوش فقوميونا لم يكفوا عن استعمال نفس المنهج. والقاع الذى نهبط الآن إليه هو مكان المجزرة الذى يقودنا حداثيونا - بمنتهى الخيانة والخسة- منذ قرنين على الأقل إليها.

    ***

    س16:ما تحليلك في أن أشد المشاكل وأكبرها تحدث بين الأشقاء العرب الذين ينتمون الى أصل واحد ودين واحد ولغة واحدة ومصير واحد؟

    إنني أستميح القارئ عذرا رغم علمي أنني قد أطلت أن أتناول على سبيل المثال النظام المصري كنموذج للدولة القومية.. متذكرا في مرارة كيف ضربت ليبيا والسودان، وبمرارة أشد كيف وقفت مع اليونان ضد تركيا في المسألة القبرصية.

    ***

    أتناول ثورة 23 يوليو، كي أثبن أن الفكرة القومية كلها كان محكوما عليها بالفشل حتى لو تيسرت لها كل أسباب النجاح..

    سوف نسأل سؤالا واحدا:

    - هل كانت ثورة 23 يوليو ممكنة؟!..

    نعم، ذلك هو السؤال الذي لم نتطرق أبدا – فيما أعلم- إليه..

    ***

    لن نحاسب ثورة 23 يوليو إذن من خلال كل ما نسب إلىها من انتصارات وانكسارات، ولا من مظالم وجرائم أو إنصاف وعدل. ولا نحن سنحاسبها عن تحقيق أهدافها، فقد تقصر الأعمار فلا تتسع لأمر جليل.

    سوف نحاسبها بمعيار آخر، ولكى نصل إلى هذا المعيار سوف نتعسف فنفترض افتراضات مذهلة، سنفترض على سبيل المثال أن كل ما نسب إلى الثورة من جرائم لم يحدث، ولا أيضا هزيمة 67، وسوف نفترض أيضا تضاعف الإنجازات الإيجابية، وسوف نفترض أكثر من هذا كله أن جمال عبد الناصر لم يمت – أويقتل – عام 1970. وبعد كل هذه الافتراضات سوف يكون من حقنا أن نوجه السؤال:

    - هل كانت القومية العربية التي تبنتها ثورة 23 يوليو ممكنة؟!..

    و أعنى بالسؤال: هل كان يمكن للقومية العربية، مع كل هذه الافتراضات، أن تحقق الأهداف التي قامت لتحققها؟‍.

    سوف نتجنب الأنياب البارزة المتلمظة لذئب التفاصيل مرة أخرى.. وسوف نصل إلى غايتنا مباشرة: هل كان يمكن للقومية العربية في وجهها المصري أن تحقق – في إطار رؤيتها النظرية وفلسفتها – الانتصار في معركتها تلك، بل هل كان يمكن أن تصل إلى نوع من التعايش المقبول بالحد الأدنى من القوة والكرامة.

    لو افترضنا أن مصر كان يمكنها الانتصار على إسرائيل، فهل كان يمكنها الانتصار على أمريكا؟ وعلى الدول الأوروبية مجتمعة؟‍

    ***

    كيف لم يدرك رائد القومية العربية أن القومية كلها فكرة غربية ومنهج صليبى..

    كيف لم يدرك أن الصراع هو ما أنبأنا به المصطفي صلى الله عليه وسلم، و أن الغرب سيحاربنا كافة، و أن علينا أن نتجمع كافة لكى نستطيع مواجهته والانتصار عليه.. كافة.. ليس تحت راية وطنية ولا قومية و إنما تحت راية الإسلام.

    ***

    بدت لى المسألة في غاية الوضوع فرحت أتساءل في ذهول : " كيف لم يرها؟"..

    لم تكفنى الكتب فلجأت إلى رفاقه..

    السيد حسين الشافعى، نائب جمال عبد الناصر ورفيقه فا جأنى بإجابة لم أتوقعها أبدا حين قال:

    - سوف يثبت التاريخ أن القومية العربية كانت شتلات الصحوة الإسلامية التي ستنهض لمواجهة الغرب.

    والحقيقة أننى لم أقتنع.

    سمعت أيضا من السيد أحمد طعيمة وزير الأوقاف السابق- وهو من الضباط الأحرار- والذي يقرر أن تصرفات الأحزاب السياسية مع عبد الناصر هى التي حولته من شخص يترسم خطى عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى طاغية.. لكنه امتدح إسلامه و إخلاصه كثيرا

    استمعت أيضا إلى اللواء جمال ربيع، أحد ضباط الثورة..

    كان الرجل حادا جدا وهو يدين القومية العربية وجمال عبد الناصر .. كان الرجل حادا حتى أنه أخرجه من زمرة المؤمنين...

    - ألا تظن أن أحاديث التعذيب في عهده مبالغ فيها؟.. و أن الخلاف لم يكن بينه وبين الإسلام، و إنما بينه وبين بعض المسلمين؟..

    وهنا صرخ الرجل:

    - قم.. تعال إلى جوارى.. ضع يدك على ظهرى..

    ووضعت.. وليتنى ما وضعت.. لم تخف ملابسه من على ظهره كله تلك التضاريس المرعبة للندبة الهائلة المتصلة فكأنما افترسه وحش مسعور..

    اقشعر شعر رأسى هولا.. منعت صرخة وكبحت دمعة ودوى في أذنى طنين كأنه أنين المعذبين وآهات المكروبين.. ومن خلف الدمعة والصرخة والطنين كان يأتينى صوته:

    - هذه آثار التعذيب المتبقية بعد نصف قرن..

    قال اللواء جمال ربيع أن الثورة والقومية العربية كانت نكبة..

    ولقد اتفق معه - لدهشتى وأساى - الوزير أحمد طعيمة رغم اختلافهما حين قال:

    - قد بكيت طويلا لأننى شاركت في الثورة التي وصلت بالوطن والأمة والنظام إلى ما صاروا إليه، ليتنى ما شاركت فيها، ليتنا ما قمنا بها.

    ***

    - هل كانت القومية العربية التي تبنتها الثورة ممكنة؟.

    أحد الأصدقاء، وهو كاتب كبير، ومفكر بالغ العمق، ووطنى من الطراز الأول، ومثقف حقيقى واسع الاطلاع، راح يتساءل أثناء حوارنا:

    - كيف تسأل إن كانت ممكنة أم غير ممكنة بينما هي قد قامت فعلا، ووجدت على الساحة وكان لها تأثيراتها الكبرى؟.

    قلت للصديق:

    - دعنى كي أوضح نفسي أبدأ بطرفة، إذ يحكى أن شابا ذهب إلى شيخ المسجد ليسأله: يا مولانا: هل تنفع الصلاة بغير وضوء؟ وأجابه الشيخ على الفور: لا يا بنى.. لا تنفع أبدا، وهنا فاجأه الشاب: يا مولانا، لقد جربت بنفسى: عملتها ونفعت!!..

    لقد قام هذا الشاب بكل حركات الصلاة، وربما يكون من حق كل من شاهده أن يقسم أنه صلى، إلا أنه في الواقع لم يصل!!.. كذلك ثورة 23 يوليو وفلسفتها القومية، مارست كل طقوس الثورة لكنها في الواقع لم تقم.

    دعنا من الرمز المكثف الآن من أن الصلاة لا تصلح دون وضوء، وكذلك الثورة ما كانت لتصلح دون وضوء، ودون مرجعية إسلامية كاملة ومهيمنة، فالأمة لن تحررها إلا الأيدى المتوضئة.

    قلت للصديق أن ثورة يوليو 52 قد قامت على خلفية قصور شامل في إدراك التاريخ من ناحية، وواجبات العقيدة من ناحية أخرى.

    لم تفطن الثورة إلى قاعدتين أساسيتين لم يكن لقيامها أن يصح بدونهما: أننا كما يقول القرآن أمة واحدة، و أن أعداءنا يقاتلوننا كافة، و أنه يجب علينا أن نقاتلهم كافة.

    كان مد العرب الحضارى قد توقف وقوتهم قد استنزفت في الانتصار على الصليبيين والتتار، وكان يمكن أن يكون مصيرنا كمصير الهنود الحمر و أهل استرإلىا الأصليين ( فوحشية استعمار القرن الخامس عشر بالظروف العالمية المحيطة لم تكن كوحشية استعمار القرن العشرين) لولا أن قيض الله الدولة العثمانية.. الدولة العثمانية التي ساعدت القومية العربية في القضاء عليها وابتلعت ثورة 23 يوليو الطعم واعتبرتها رمزا للجمود والتخلف.. وكانت في ذلك متطابقة تطابقا مذهلا مع وجهة نظر أعدائنا... لقد امتصت الدولة العثمانية الهجمة الشرسة للقوة الغربية المفعمة بالحقد والوحشية والرغبة في الانتقام، بل وحققت الكثير من الانتصارات ، و كبحت سرعة الانهيار، و أجلت احتلال بلادنا ثلاثة قرون على الأقل.

    لو أن المسألة كانت تنحصر في هزيمة 48 و إسرائيل لكانت مصر بالثورة وحتى بالقومية العربية كافية لهزيمتها.. لكنها كانت حربا شاملة لم تدرك الثورة أبعادها فلم تستعد لها كما يجب.

    لم يكن الأمر يتعلق بعام 67 ( حيث الهزيمة المذلة المهينة) ولا بعام 48 ( حيث الهزيمة الأكثر إذلالا ومهانة) بل كان يتعلق بألف وخمسمائة عام من المواجهة، ظلت لنا فيها السيادة والانتصار ألف عام ثم بدأت الهزائم. ولم تكن 67 و 48 إلا امتدادا لما حدث في31( عمر المختار) وفي 29 ( ضم طاجكستان المسلمة إلى الاتحاد السوفيتى) وفي 25 ( ضم جمهورية تركمانستان وجمهورية أوزبكستان إلى الاتحاد السوفيتى) وفي 24( إلغاء الخلافة) وفي 22( استشهاد أنور باشا وهزيمة المسلمين في آسيا الوسطى التي احتلها الروس البرابرة) وفي 20( غورو يغزو دمشق صائحا: ها قد عدنا يا صلاح الدين).. وفي 17( وعد بلفور واحتلال القدس وبغداد) وفي 16 ( الروس يقتلون 150000 مسلم في قيزغيزيا) وفي 16( سايكس بيكو) ، وفي 1911 ( احتلال ليبيا- إيطإلىا) وفي 8( احتلال فاس بالمغرب- فرنسا) وفي 3 ( احتلال موريتانيا- فرنسا) وفي 1899( احتلال الكويت- بريطانيا) وفي 1892 ( احتلال مسقط والبحرين- بريطانيا) وفي 1890( احتلال تركتستان الغربية-روسيا) وفي 1882 ( أحمد عرابى) وفي 1881 ( الفرنسيون يحتلون تونس ويذبحون 60000 جزائرى مسلم) وفي 1878( احتلال سمرقند وبخارى وطشقند- روسيا) وفي 1878( احتلال إريتريا- إيطإلىا) وفي 1887 أيضا ( احتلال البوسنة والهرسك- النمسا .. وولاية بيساربيا-روسيا)) وفي 1864( احتلال القفقاس- روسيا) وفي 1866 (احتلال إمارات الخليج- بريطانيا) وفي 1858( البحرية الإنجليزية والفرنسية تقصف جدة فتقتل المئات) وفي عام 1840( فصل الشام عن مصر) وفي عام 1839( الألمان يطردون العثمانيين من بلجراد) وفي 1839( احتلال عدن- بريطانيا) وفي 1830( احتلال الجزائر- فرنسا) وفي 1830( الجيش الهولندى يذبح 200000 مسلم في إندونيسيا بعد استيلائه على الفليبين) وفي عام 1827( أوروبا تحطم جيش محمد على في ثلاث ساعات في نافارين) وفي 1827( انفصال إلىونان عن الدولة العثمانية) وفي1820( احتلال مسقط-بريطانياوفي عام 1809 ( الأسطول البريطانى يدمر رأس الخيمة) وفي عام 1807( حملة فريرز) وفي 1799( احتلال مصر- فرنسا) وفي عام 1774( احتلال شبه جزيرة القرم وبحر أزوف والمناطق الشمإلىة للبحر الأسود ثم سلوفينيا-روسيا) وفي عام 1724( احتلال مناطق بحر قزوين-روسيا)وفي عام 1699: (انفصال المجر و أوكرانيا وترانسيفإلىا عن الدولة العثمانية) وفي عام 1687 (انفصال المجر وقبلها مقاطعة كييف) وفي 1683 (تحالف ألمانيا والنمسا وفك الحصار العثمانى على فيينا) وفي عام 1658 (هزيمة آخر ثورة للمسلمين في الأندلس حين أصدر فيليب الثانى أمرا بذبح كل مسلم فوق سن الرابعة عشرة) وفي عام 1569 (صدور فرمان بتحريم الشعائر الإسلامية وتنصير المسلمين) وفي عام 1529 (حرق المسلمين الذين تنصروا بتهمة عدم التنصر الكامل) .. وفي عام 1517( انتهاء الخلافة العباسية رسميا ) وفي عام 1492 (آخر ملوك غرناطة يتركها ذليلا باكيا كالنساء ملكا لم يحافظ عليه كالرجال) و… و… و…

    ***

    لو أدركت ثورة 23 يوليو أن معركتها مع الحضارة الوثنية التي تتستر بالصليب لاختلفت حساباتها..

    لو أدركت أنها مواجهة شاملة بين الإيمان والكفر لاختلف الأمر..

    لو أنها توضأت لقبلت صلاتها..!!

    نعم.. فأي ثورة أو حركة لا تضع في حسبانها شمول المعركة وهيمنة العقيدة إنما هي صلاة.. لكن بغير وضوء..

    ***

    كان هذا وجها من أفضل وجوه القومية في العالم العربي.. أو قل: أقلها قبحا وبشاعة.

    س17:كيف تفسر محاولة إنشقاق من بعض الأقليات عن دائرة القومية العربية مثل محاولات كالتي تحدث في المغرب والجزائر ومصر؟

     

    السبب هو أن الإسلام كان هو الخيط الذي يجمع الأشتات جميعها، فلما نزعوه تناثرت القطع وراحت تصطدم ببعضها البعض..

    لقد تساءلت قبل ذلك إذا كان من حق العرب أن ينفصلوا عن الدولة الإسلامية الأم لأنهم عرب.. فلماذا لا يجوز للأكراد لأنهم أكراد.. وللبربر والأمازيج والنوبيين و.. و ..

    الكارثة العمياء والداهية الدهياء أن فكرة القومية العربية كانت تمهيدا للتربة كي تتقبل بعد ذلك فكرة القومية الإسرائيلية..‍‍

    ***

    لقد تركنا عدالة الإسلام المبهرة الذي جعل الأقباط في مصر يرحبون بالفتح الإسلامي، وبعد ما يقرب من ألف عام جعلت أهل البلقان يأخذون نفس الموقف.

    تركنا مرجعية الإسلام وادعينا العروبة فافتقدنا حتى مروءة الجاهلية الأولى..

    إذ يروى التاريخ أن أبا جهل عندما أراد قتل النبى محمد صلى الله عليه وسلم ووقف على بيته هو وشباب قريش ينتظرون خروجه ( - صلى الله عليه وسلم - ) لقتله ، قال أحد هؤلاء المشركين : ندخل عليه بيته ونقتله وهو نائم في فراشه، فقال أبو جهل: ثكلتك أمك هل تريد أن يتحدث العرب ويقولون أن أبا جهل يروع بنات محمد 0 فانظر إلى الفرق بين أبى جهل وبين ما تفعله أجهزة أمننا ..

    نعم.. في الجاهلية كان لديهم من العرف ما يسمح لمن يريد أن يجير ليحمى الضحايا من مثل ذلك العذاب ..

    ما الذي وصل بنا إلى هذا الحال..

    دعونى أحكى لكم حزينة..

    نبيلة وحزينة..

    رائعة وحزينة..

    كنا هملا في التاريخ بعد أن بادت حضاراتنا فأكرمنا الله بالإسلام فإذا نحن خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر..

    برسالة الإسلام بلغت البشرية نضجها.. انتقلت من التجسيد والتحريف إلى التجريد والإيمان.. في قمة السامية التي منحنها الله وفضلنا بها على العالمين.. فعندما يؤمن الواحد منا بالله يرى كل شىء من خلاله.. الحياة والممات والنسك.. لا يصبح ما لقيصر لقيصر بل لله السماوات والأرض وما بينها.. لا يصبح الدين لله والوطن للجميع.. بل لله الأمر كله..

    وعندما واجه المسلمون أقوى قوة في ذلك الزمن.. عندما اصطدم الجيش الإسلامى في غزوة مؤتة بالجيش الرومانى.. ثلاثة آلاف مقابل نيف ومائتى ألف.. كان ذلك عام 8 هجرية.. بعدها بخمسة أعوام فقط.. كان الجيش الإسلامى يحارب على جبهتين أقوى إمبراطوريتين في العالم في نفس الوقت فقضى على الفرس قضاء تاما أما الرومان فقد هزمهم في موقعة إلىرموك هزيمة فادحة وانسحب "قيصر" قائلا كلمته التي احتفظ بها التاريخ: {عليك يا سوريا السلام.. سلاما لا لقاء بعده}.. وتذكروا أن المسلمين لم يكونوا قط .. لا في هذه المعارك ولا في جميع المعارك التي انتصروا فيها بعد ذلك أكثر عتادا أو أشد قوة.. لم ينتصروا بالعتاد ولا بالقوة بل بما وقر في قلوبهم..

    لقد كان أعداؤهم أكثر تقدما منهم بما لا يقاس.. ولقد نقلوا عن أعدائهم سرّ قوتهم.. نقلوا عنهم التكنولوجيا لكنهم لم ينقلوا عنهم الانحلال والشرك.. ولم يفقدوا إحساسهم لحظة أنهم الأرقى والأسمى.. أنهم الأعلون.. عكس ما نفعله نحن الآن تماما..

    في "حطين" كان عدد جيش "صلاح الدين" اثنتى عشر ألفا.. وبعد الإمدادات والأعراب وصل عدد الجيش إلى 24 ألفا.. وكان عدد الصليبيين أكثر من ستين ألفا وكانوا أيضا أكثر عتادا وأشد تقدما وقوة.. وانتصر المسلمون انتصارهم الساحق.. نفس الأمر في "عين جالوت"..

    لم تغفر الحضارة الغربية الصليبية للإسلام أبدا.. لم يتركونا في حالنا أبدا.. لكن "لويس التاسع" عندما انهزم وأسر في مصر.. اكتشف بعد الإفراج عنه -كما يحدثنا الدكتور محمد الغتيت- أن هذه الأمة لن تهزم أبدا بالمواجهة المباشرة.. وظل "لويس التاسع" الذي جعلوا منه قديسا في القدس أربعة أعوام يضع خطته لمواجهة المسلمين عبر التاريخ بعد أن أدرك أن المعركة ستتواصل جيلا بعد جيل.. اكتشف الرجل وكان على صواب أن المسلمين ينتصرون بإيمانهم.. برسوخ عقيدة الجهاد فيهم.. بإدراكهم أن الدنيا لا تساوى عند الله جناح بعوضة .. بإيمانهم أن ما عند الله خير وأبقى.. بيقينهم أن الهزيمة كلمة لا توجد في قواميسهم وإنما إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة ..انظروا ماذا يفعله أربعة آلاف من المسلمين الشيشان في ثانى أكبر قوة في العالم.. وذلك جرح ينزف في القلب لكن هذا ليس مجال الحديث عنه..أدرك "لويس التاسع" أنه لا يمكن مواجهة هذه الأمة إلا بتفريغ دينها من مضمونه ومحتواه..

    إننى مضطر للإيجاز المخل.. لكن من عهد لويس هذا بدأت ثلاثة حركات متصلة أشد ما يكون التواصل.. كل منها مهدت للأخرى وشدّت من أزرها وساعدتها.. تلك الحركات هى الاستشراق والتبشير والاستعمار..

    بعد فشل حملة لويس التاسع ولمدة قرنين كان الغرب الصليبى يستجمع قوته ويتهيأ للانقضاض..

    وكنا نحن المسلمين قد فقدنا قوة اندفاعنا الحضارية في مواجهة الغرب الصليبى والتتار(والحملتان كان يحركهما نفس الهدف للقضاء على الإسلام لكن كتب التاريخ تخفي عنا ما هو ثابت بالوثائق من تآمرهما المشترك للقضاء على الإسلام).

    كنا مثخنين بالجراح بعد أن أعطينا العالم أنبل حضارة في التاريخ وبعد أن خضنا كل بحار العلوم..

    ومع انتفاضة أوربا وهزيمة المسلمين في الأندلس ابتدأت موجة عاتية كادت تبيد المسلمين جميعا كما أبيد الهنود الحمر.. وكان ميناء جدة قد حوصر تمهيدا لهدم الكعبة والاستيلاء على رفات الرسول صلى الله عليه وسلم لولا أن قيض الله دولة إسلامية هى الدولة العثمانية لوقف سرعة انهيارنا.. أجلت الدولة العثمانية انهيارنا ثلاثة قرون.. أجلت شِقّ الاستعمار ثلاثة قرون لكن التبشير والاستشراق كان يؤتى أكله.. كنا ننهزم من داخلنا.. وكنا نقرأ تاريخنا بعيون المستشرقين..

    كنا نستلب.. نفقد منهج ديننا شيئا فشيئا.. كنا نُروض كالعبيد.. مسخوا ديننا وشوهوه.. تركوا القشرة الخارجة واستلبوا القلب والعقل والضمير..

    عندما صرخ حسين الشافعى في شهادته على العصر أن المخابرات المركزية الأمريكية زرعت الرئيس السادات كعميل لها منذ عام 1960 كنت أقول لنفسى أن الكارثة أبعد من هذا بكثير.. كنت أستعيد قول جلال أمين.. أن الحكام العرب يخونون قضية أمتهم منذ خمسة قرون.. بل ذهبت إلى أبعد مما ذهب إليه جلال أمين.. لم يكن الحكام العرب وحدهم.. بل جل حكام المسلمين.. وليت الأمر اقتصر على هذا وإلا لأمكن للأمة أن تعالجه.. كانت بعض نخبة الأمة قد أصيب .. أصبحت عبدة لمفاهيم المستشرقين.. وكان الغرب يشجع بل ويتآمر كى يضع تلك النخبة الخائنة في الصدارة لكى تتولى مقاليد الأمور..

    أدرس ما حدث في القرن التاسع والقرن العشرين.. حين أكمل الغرب حركتى التبشير والاستشراق بالاحتلال المباشر.. حين استطاع بقوة الدبابة والمدفع.. أن يغير النخبة القائدة في كل بلد إسلامى.. قرّبَ الخونة وأعدم الأبطال.. ونحّى منهج الإسلام تماما.. ثم راحوا ينشرون من أكاذيبهم وضلالاتهم ما ينزع الإسلام من قلوبنا ويبغّضه إلى عقولنا..

    نجحوا..

    فقدنا كنزنا وأخذنا وباءهم عندما نحينا الإسلام عن صياغة أمرنا.. كان كخيط العقد فرطنا فيه فانفرط أمرنا..

    ظللنا ألف عام أقوى أمة وأنبل أمة وأشجع أمة وارقى حضارة..

    لم نضعف بالإسلام أبدا بل ضعفنا عندما تخلينا عنه..

    ولست بمدع أن كل عصور تلك الفترة كانت عصور خير.. بل كان بعد الخير شر وبعد الشر خير حتى أتى هذا الشر الذي نعيش فيه الآن ولا نعلم حتام يدوم..شر أسود خالص بلا بصيص ضوء إلا الأمل في وعد الله..

    إننا نُحْكمُ الآن بفكر الغرب وحضارة الغرب وحقد الغرب على الإسلام والمسلمين..

    إن إعلامنا وتعليمنا وسياستنا مكرسة كلها ضد الإسلام ولصالح حضارة الغرب..

    ولقد ابتدءوا بالتغريب فلم يأخذوا منه إلا قشور الانحلال التي سمح لهم بها الغرب ثم انتقلوا من التغريب إلى التغييب..

    في هذا الجو لم يكن للإسلام أن يستسلم.. أبدا لم يكن له ذلك.. وحاول بعض أبنائه الجهاد في سبيل الله.. أخطئوا وأصابوا .. لكنهم كانوا إلى الصواب أقرب.. وإننى لا أملك حتى في الخطاة فيهم إلا قول الإمام على كرم الله وجهه أنهم قوم طلبوا الحق فأخطأوه.. وأن النخب الحاكمة في جل عالمنا الإسلامى – وعلى رأسهم القوميين - قوم طلبوا الباطل فأصابوه..

    ماذا فعلت السلطة التي لم تنشأ إلا بالاستعمار في الاتجاه الإسلامى..؟..

    ماذا فعلت بنا سلطة القومية العربية..

    نصبت المشانق..

    زورت الانتخابات..

    أوصدت كل الأبواب..

    ولقد تصرفت أجهزة الأمن في جل عالمنا الإسلامى كما لو كانت فرقا بقيت من جيوش الصليبيين لتستأصل ما بقى من شأفة الإسلام..

    بلا عقل ولا ضمير ولا خلق.. وثمة سؤال لم يطرحه أحد ولم يجب عنه أحد: هل يذهب قادة الأمن للحصول على دورات تدريبية في أمريكا؟.. وإذا كان ذلك يحدث فترى بالله عليك ماذا يمكن يزرعوا في أدمغتهم ضد الإسلام وأهله.. إننا لا نملك أى مرجع لذلك.. ولعله من الأسرار.. لكن "كاريمان حمزة"[5][5][8] تهتك جزءا من السر عندما تخبرنا عن التكوين الثقافي لقادة الإعلام في بلادنا.. عندما يصل الأمر لحد المهزلة.. ولا يعرف المسئول الكبير عن الإعلام في بلادنا أن العشرة المبشرين بالجنة قد بشروا من الله عن طريق رسوله فيقترح عليها أن تضيف إليهم عاطف صدقى ( لعله الآن يختار عاطف عبيد) .. لنا الحق أن نتصور أن ما يزرعه الصليبيون في أدمغة قيادات النخبة التي نصبوها على جل عالمنا الإسلامى هو كل هذا النفور من الإسلام والازدراء للمسلمين الذي نراه ونعاينه.. لقد غسلوا مخهم.. وضعوا في وجدانهم أن الإسلامى وحش.. أنه ليس بشرا .. وأنه لهذا يجب أن يعامل بمنتهى القسوة والعنف.. وأن القسوة والعنف معه لا تنتقص من قيمتهم الإنسانية.. وتلك أفكار لا تجوز لهم حتى ولو كانوا صليبيين فكيف تجوز لمسلمين..

    كيف جازت للقوميين العرب..

    لقد بلعنا الطعم..

    هم يخافون الإسلام وعلمونا أن نخاف نحن أيضا منه..

    وهم منطقيون في خوفهم من الإسلام.. فهو الحضارة الأرقى وهو القادر على كبح جماحهم كما فعل لألف عام..

    أذكر حادثة فاجعة نشرتها الصحف.. عن مجرم كان يخطف الأطفال ليعملوا في " فرن " يملكه .. بدون أجر.. والمذهل أن الرجل نجح في إقناع الأطفال أن يهربوا كلما سمعوا بوق سيارة للشرطة..

    كانوا يهربون من الأمل الوحيد في إنقاذهم.. تماما كما نهرب نحن من الأمل الوحيد في إنقاذنا..

    إن ما قاله حسين الشافعى على قناة الجزيرة مذهل ومروع حين أشار كيف قامت الدولة بتلفيق التهم للجماعات الإسلامية.. بل واتهم سيد فهمى وممدوح سالم بأنهم كانوا خلف قضية صالح سرية وأن الأول كوفئ بتعيينه وزيرا للداخلية والثانى رئيسا للوزراء..

    إن الدولة القومية - وليس الإسلاميون - هى التي صنعت الإرهاب..

    أوصدت كل أبواب العقل والمنطق والحوار وأفسدت كل الأجهزة فلم يعد من الانفجار مناص..

    لقد كانت خطة الغرب أن تقف الدولة ضد الأمة [6][6][9]..

    ولقد نجحوا..

    انظروا كيف عومل في بلادنا- رائدة القومية العربية - عبدة الشيطان بكل رقة.. وكيف يعامل الإسلاميون.. انظروا إلى ذلك.. وقارنوا لتكتشف أن من يفعلون ذلك لا يمكن أن يكونوا إلا عبدة للشيطان..

    نحجوا في تشويه منهجنا الإسلامى وفي استنزاف وعينا حتى وافقناهم على ما فيه هلاكنا ودمارنا..

    وفي إطار نجاحهم ذلك اضطهد الإسلام والمسلمون.. وجاز لأجهزة أمننا في العالم الإسلامى أن تعاملهم بما تعرفون..

    إن مثل أجهزة الأمن هذه هى التي تقوض أمننا..

    إنهم يحطمون العمود الفقرى الذي يمكن أن يدافع عن هذه البلاد حين يحين أوان غزوهم الثانى لنا..

    إن الشباب الذي يربيه التلفزيون.. والذي يشوه إعلامنا وتعليمنا وجدانه..ولابسى القلائد الذهبية في أعناقهم .. لن يفتدى الوطن ولا الدين بحياته حين الوغى.. بل سيهربون إلى أمريكا وأوروبا.. أو سيبيعون الدين والوطن..

    أجهزة الأمن في العالم الإسلامى تقوم بالدور التمهيدى للغزو الكامل .. وتحطم تحطيما كل من يمكن أن يقفوا سدا منيعا في مواجهة ذلك الغزو والاستلاب ..

    لم تعد للإسلام دولة محورية تحميه.. وليس هناك من دولة تستطيع القيام بهذا الدور إلا مصر..

    لقد كانت خطة الغرب هى التركيز الكامل على تركيا لسحقها عسكريا وعلى مصر لسحقها فكريا ولقد نجحوا.. ولم تكن مصر الحديثة منارة للتنوير بل لنشر الباطل في أرجاء العالم العربى.. ذلك مُرٌّ لكن علينا أن نعترف به.. نقلنا للعرب نظام دنلوب في التعليم.. ونظام محاكم التفتيش التي ابتدعها الصليبيون في التعذيب..

    ***

    ولقد حاولنا المقاومة قدر ما نستطيع .. وتحول الإيمان – في دفاعه عن نفسه – إزاء هجمة القومية والعلمانية والحداثة إلى كينونة كلية لا تكشف تفاصيلها كى تنجو من سهامهم .. كينونة لا يمكن مهاجمتها أو تدميرها إلا بتدمير الكائن البشرى ذاته .. ولقد فعلها سادتهم مع الهنود الحمر والاستراليين الأصليين وكادوا أن يفعلوها معنا لولا أن قيض الله لنا الدولة العثمانية فحمت نسلنا وأبقت على حرثنا .. اكتشف هؤلاء إذن أن موتنا أقرب إلينا و إليهم من كفرنا .. و أدركوا أن المواجهة فوق أنها مستحيلة فقد تطلق في الناس فورة النخوة الأخيرة ليقدموهم – القوميين - طعاما للكلاب.. لذلك أضمروا الكفر و أظهروا الإيمان .. لا يعترفون بحقيقة كفرهم إلا فيما بينهم .. أما معنا .. مع الأمة .. فقد قرروا ألا يواجهوا الإسلام مباشرة بل أن يخربوه جزءا فجزء.. لقد عجزوا عن سحقه في قلوبنا .. فليسرقوه إذن منها .. يسرقونه بالتسلل إلى بنوده وأركانه وتدميرها فلا يبقى في قلوبنا إلا هيكل بلا محتوى وشكل بلا مضمون .. وعندما يصلون إلى ذلك سيكون من اليسير عليهم اقتلاع بقاياه..إنهم يسوقوننا سوقا إلى إسلام آخر غير الذي نزل الأمين به على محمد صلى الله عليه وسلم .. إسلام لا نسلم أمرنا فيه إلى الله بل إليهم .. إسلام يتجرد من عقيدة الإسلام.. ولأنهم يدركون أن هذه الأمة لا تستطيع الحياة بلا دين فقد قرروا تقديم إسلام مزور إليهم .. إسلام كشف محمد جلال كشك عن تفاصيله حين أطلقوا عليه في أضابيرهم في مؤتمر انعقد في رأس الكفر وخليفة بريطانيا في محاربة الإسلام : في الولايات المتحدة الأمريكية اسم : "الإسلام العيسوى".. إسلام بلا جهاد.. إسلام يتراجع فيه المسلمون عن عقد بيعهم لأنفسهم مع الله بأن لهم الجنة .. إسلام لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يقوم اعوجاج السلاطين بالسيف ولا حتى باللسان .. إسلام لا يتدخل في السياسة ولا في نظام الحكم ولا في الاقتصاد ولا في مكافحة الظلم.. إسلام لا رأى له في تزوير الانتخابات ولا في التعذيب..إسلام لا دخل له بالكفر ولا دخل له بالإسلام أيضا .. إسلام يعطى الدنيا بما فيها لقيصر وبوش ولا مانع لديهم من تركنا نتخيل آخرة – لا يؤمنون بها- كما نشاء ما دمنا لا نحول بينهم وبين الدنيا .. إسلام منكفئ على نفسه في نطاق لا يؤثر ولا يتأثر .. إسلام كأساطير الأولين لا دور لها إلا في تسلية السادة وإلهاء الأمة.. وقد يحسنون إلينا بألا يفعلوا بنا ما فعله كمال أتاتورك في الإسلام والمسلمين.. لقد فعلها أتاتورك بالثورة والدم .. وبرغم نجاحه فقد كانت المحاولة فجة ومكشوفة .. وكان المرعب فيها أن تستثير رد فعل معاكس قد ينبه أمة غافلة مخدرة .. أمة تساق إلى المجزرة وهى فرحة بها نشوانة.. نجحت طريقة كمال أتاتورك إذن .. لكن مخاطرها أكبر.. فلماذا لا يحاولون معنا .. مع العرب.. أن يكرروا طريقة كمال أتاتورك لكن دون ثورة.. بل بالقومية العربية .. أن يستفيدوا من تجربة كمال أتاتورك نفسه.. أن يخمدوا الأصوات التي يحتمل أن تعارض حتى قبل أن تعارض.. أن يجندوا ولاة الأمر والكتاب والمفكرين والصحفيين والجيش والشرطة وأن يجردوا الأمة من كل سلاح ..

    أن يجندوا الرؤساء والملوك..

    يا إلهى ..

    يا إلهى..

    في العالم العربى كله لا يسمح بحرية تكوين حزب إسلامى..

    في العالم العربى جله فإن الإسلام إما محاصر وإما سجين ..

    يا إلهى ..

    يا إلهى ..

    في العالم العربى جله وقف القوميون وتحت يدهم الجيش والشرطة مع العدو ضد الأمة.. مع الشيطان ضد الله.. مع الصليبيين واليهود ضد محمد صلى الله عليه وسلم ..

    ***

    قوم يسيرون على هذا المنوال وبهذه الأخلاق كيف تتوقع من قوميات أخري أن ترضي بالبقاء معهم..

     

     

    هل حدث ذلك لأنه منذ ألف عام كان الناس قد انحرفوا وفسدوا لكن أساسيات الدين و أركانه كانت ما تزال صلبة وسليمة وكان النموذج موجودا ومن السهل الرجوع إلىه.. كانت كآلة تعطلت لكن كل رسومها الهندسية موجودة فكان من إلىسير إعادتها إلى أصلها.. الآن زيفت الرسوم علينا.. شوهت الرسوم.. نزفناها.. سقطت من ثقوب الذاكرة.. فنحن الآن حين نريد الإصلاح والعودة إلى سيرتنا الأولى لا نستطيع لأننا فقدنا النموذج الذي ينبغى أن نسير عليه.. ذروة سنام الإسلام وهى الجهاد معطلة ولا يملك أى واحد منا أى سبيل لإعادتها سيرتها الأولى.. الصلاة لم تعد تنهى عن الفحشاء والمنكر.. بل إنها في أحيان كثيرة تستعمل لها ستارا.. الحج أفرغ من مضمونه.. أما الصوم فقد أفرغ من التقوى والعظة والاعتبار وحُشِىَ بالمسلسلات والفوازير والرقص وأجساد العراة..

    كل هذا والدولة ضد الأمة..

    عندما كان الصليبيون يحاولون تبديل ديننا و تزييف وعينا كنا ندرك وكنا نقاوم وكنا ننجح..

    لكن ماذا نفعل إن كان ولاة أمورنا هم الذين اضطلعوا بالدور وكلاء عن الصليبيين..

    ماذا نفعل إن كانت أجهزة أمننا هى التي تحمى أمن عدونا ..

    ماذا نفعل إن كانت أجهزة إعلامنا تروج لهدمنا..

    لقد طُعِن قلبى وأنا أشاهد إلىابانيين يحتفلون بذكرى ضحاياهم في هيروشيما وناجازاكى كى لا تنسى أمتهم التاريخ أما نحن فـنـعـتـّم على شهدائنا وكأنهم عورة وما هم بعورة لأننا نحن العورة..

    وطعن قلبى أن المسئول الهمام يصافح باراك ويرفض مصافحة عرفات – أيا كان الرأى فيه..

    طعن قلبى فصرخت : ليس مسئولا بل وكيلا وعورة..

    وطعن قلبى ذلك الأغيلمة السفيه الذي أفرد الأهرام له صفحاته فراح يهاجم رمزا كبيرا وقيمة عليا تتمثل في الدكتورة نعمات أحمد فؤاد.. راح يهاجمها لأنها تنتقد خيانة للأمة تقودها الدولة في إهمال اللغة العربية وإنقاص درجاتها، وراح السفيه يسخر من استشهادها بقيمة مصر ودورها في الحفاظ على اللغة العربية منذ القرن الرابع الهجرى.. راح السفيه في سماجة لم أر لها مثيلا يرد في أسلوب مخنث رقيع : لكن القرن الرابع الهجرى لم يكن فيه ثانوية عامة..

     

     

     

    لقد وعدنا دعاة القومية حين بدءوا بالدعوة للقومية أنهم سيرفعون شأن اللغة لأنها عماد القومية..

     

     

    تحت دعاوى التحضر والاستنارة والقومية والوطنية خدعونا ..

    إن النطفة الأولى للفكرة الوطنية هى الانتماء إلى موطن، إلى بيت الأسرة والعائلة والقرية والمدينة والمحافظة والبلد..

    ما تراكم قائلين لو تعصب أهل القاهرة للقاهرة وأهل الإسكندرية للإسكندرية وأهل أسوان لأسوان وأهل المنوفية للمنوفية.. و أهل مصر لمصر و أهل المشرق للمشرق و أهل المغرب للمغرب؟!..

    أى قدر من التخلف سوف تتهمونهم به ..

    فكيف عميت بصائرنا..

    الفكرة القومية عصبية جاهلية للقبيلة والجنس والعنصر..

    لقد فقدنا حتى القومية حين رفعنا شعار القومية..

    تفتتت القومية لتصبح قطرية وهاهى ذى الأقطار توشك أن تتفتت..

     

     

     

    س18: في رأيك لماذا العرب يهتمون بتوطيد العلاقة مع الغرب إلى درجة الخضوع؟ هل هذا بسبب إفلاس القومية العربية؟

    نعم..

    و لأنهم منذ البداية عملاءه و أدواته.

    و أذكرك مرة أخري بقضية الوليمة، فعندما ثار شباب الأزهر، وخشي كتابنا القوميون مغبة اكتشاف الأمة لكفرهم.. هددوا على صفحات الصحف باللجوء إلى أوروبا..

    نعم.. يهتمون بتوطيد العلاقة مع الغرب لكل هذه الأسباب..

    ولسبب آخر أيضا..

    هو حنين ابن السّـفاح إلى أبيه..

    السفاح..بتشديد السين لا الفاء..

    أعني الزنا..‍‍..

     

     

     

     

    في كتابه القيم فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام يصرخ صالح العبود: ماذا أكسب القوميون العرب أمتهم؟ إنهم لم يكسبوها سوى الهزائم المنكرة والتبعية، إما للشرق الشيوعى الملحد و إما للغرب الصليبى المفسد وكلاهما مذلة ذميمة.

    وفي كتابه أزمة المجتمع العربى المعاصر يصف مدثر عبد الرحيم الطيب وهو أحد القوميين العرب حال القوميين العرب بعد الفشل المدوى لمشروعهم فيقول : "

    1- أما بعضهم فقد أضاع الوقت في التراشق بالتهم، وتبادل السباب، يبرئ كل منهم نفسه ويضع مسئولية ما حدث على أكتاف الآخرين، فانشغلوا ببعضهم وانصرفوا عن المعركة الأساسية.

    2- و أدرك بعضهم حقيقة الموقف فقام محاولا صد الهجوم ولكن بأسلحة قديمة صدئة بإلىة باذلا غاية جهده لسد الباب في وجه الأعداء لكن الأبواب كانت مثقوبة هالكة، والنوافذ هزيلة ركيكة، والسقوف خاوية متهتكة.

    3- وفريق ثالث كذب ما أبصرت عيناه ، ورفض أن يصدق هول ما حدث فراح يغالط الحقيقة ويمارى الواقع….

    4- شلت الصدمة فريقا آخر أصيبوا بِـعِـنـةٍ فكرية أجلستهم القرفصاء في قاع السفينة.

    5- وبين هؤلاء وهؤلاء قام فريق من الخائرين المنهزمين.. استهوتهم مظاهر من حضارة الغرب فراحوا يتسللون إلى سفن العدو: يزاولون البغاء الفكرى ويتاجرون فيه سرا وعلانية.. وأصبحوا كل يوم يأتوننا بجديد من زينة القوم.. مرة باسم الحضارة، ومرة باسم التحرر، ومرة باسم الفنون، لكنهم شأنهم في ذلك شأن البغايا، قد أخذوا إلىهم الأعراض دون الجواهر،والمظاهر دون اللباب، فظنوا أن الحضارة الغربية هى سيجارة وكأس(..) ثم أنهم، شأنهم في ذلك شأن البغايا، قد اختلفوا فيما بينهم، ورفعوا أصواتهم بالخلاف والنزاع، أخذت جماعة منهم تجرنا إلى فرنسا، وجماعة أخرى تجذبنا إلى انجلترا أو أمريكا، وجماعة ثالثة تحاول سحبنا إلى روسيا، وكل جماعة منهم تحاول أثناء ذلك إغراءنا وخداعنا عن أنفسنا والمساومة في أعراضنا.."

    ويقول الدكتور على جريشة : " يشير معرب كتاب لعبة الأمم إلى أن تسعين بالمائة من قادة حركة القومية العربية الأقحاح هم من خريجى الجامعة الأمريكية في بيروت كما يشير مؤلف الكتاب مايلز كوبلاند إلى أسماء زعماء القومية وكلهم من المسيحيين.

    وفي كتابه : الإسلام في وجه التغريب يتناول الأستاذ أنور الجندى[7][7][21]جذور المسألة التي تنقسم إلى مرحلتين: مرحلة بدأت منذ أسر لويس التاسع قرر فيها الصليبيون أنه لا قبل لهم بمواجهة المسلمين ماداموا متمسكين بالإسلام.. قرروا مواجهة الإسلام نظريا وتدميره فإذا ما تمكنوا من ذلك تمكنوا من قهر المسلمين.. وقد استمرت هذه المحاولة النظرية حتى عام 1830 حين انتقلوا بعدها لمواجهة مسلمين بلا إسلام فاكتسحوهم..

    لا يخبطها أنور الجندى خبط عشواء بل يعتمد على وثيقة سرية منسوبة إلى لويس التاسع نفسه وهو ما أرجو أن أعود إليه في كتاب أخصصه لنظرية المؤامرة على العالم الإسلامى .. كى أجيب على السؤال المعضل:

    كيف عميت بصائرنا ومتى..

    هل كان ذلك منذ تركيز الأمريكيين على كليتهم في بيروت في ثلاثينيات القرن الماضى.. هل كان فيما أسفر عنه تلاميذ هذه الكلية ومبشروها من نداءات القومية التي انتقلت إلى الأتراك والبلقان فكانت من أهم العوامل في هدم دولة الخلافة..

    هل كان ذلك مع محمد على ومبعوثيه الذين عادوا إلىنا مصابين بالجرثومة فنشروها بين شعوبنا؟..

    هل كان ذلك في الأخطاء الفادحة التي وقع فيها سلاطين الدولة العثمانية قبل ذلك بقرن..

    ثم كيف شملت الخديعة الأمة كلها ..

    إن التاريخ ملئ بالومضات لكنها ومضات تضئ أجزاء من غيابات الذاكرة فلا نرى إلا نمنمات وشذرات لا تكفي لتصور الصورة الكاملة..

    لقد ثار الشريف حسين – مثلا - يوم الإثنين الخامس من يونيو سنة 1916 وهجمت إسرائيل على مصر وسوريا يوم الإثنين 5 يونيو 1967 فهل كان ذلك صدفة من قوم يبنون حياتهم على الاحتفاء بالتاريخ والأساطير؟..

    تذكروا مدريد حين استدعونا لنتجرع كئوس المذلة والهوان في ذكرى مرور خمسة قرون على هزيمة العرب والمسلمين..

    كيف عميت بصائرنا وكيف شملت الخديعة الأمة كلها ..

    حتى واحد في حجم عقل وعبقرية وموسوعية محمد حسنين هيكل يبتلع الطعم ويقع في الخطأ.. ففي حفل تسليمه جائزة جمال عبد الناصر ألقى واحدة من أروع وأنضج تحليلاته ( لعلها تمسح آثار بعض مقالاته الأخيرة في مجلة الكتب وجهات نظر والتي بدا فيها " لورد " يتحدث بتعال وانفصال و بغير لغتنا ) إذ راح يتحدث عن حرب من نوع جديد لها هدف مزدوج، حرب تُحَوِّلُ الحلم إلى كابوس، حرب لم تتوقف منذ عام 48، حرب لا تستهدف الماضى فقط بل المستقبل أيضا، حرب من نوع جديد مستغنية بالكامل عن كل ما عرفه تاريخ الصراع من أشكال الحرب، حرب مستغنية عن بؤرة معينة تدور المعارك لاحتلالها أو لتأمينها، حرب مستغنية عن مسرح استراتيجى للعمليات بل مستغنية عن السلاح وقوة النيران أصلا، حرب استهدفت عام 56 نزع استقلال مصر لكن الأمة العربية قدمت درع فولاذ لحماية مصر فقرروا في حرب 67 نزع سلاح مصر باعتبارها درع وترسانة الأمة العربية، ولم تستسلم مصر ولا الأمة العربية بل خاضوا حرب 73 وهنا مشت قوى السيطرة إلى أبعد، فلم يعد طلبها نزع استقلال وطن ولا نزع سلاح أمة و إنما أصبح الطلب نزع إرادة أمة، في البداية كانت "الأرض مقابل السلام" .. ويفجر هيكل كعادته مفاجأته بأن هذا المصطلح قد تم صكه قبل حرب فلسطين 1948، ثم سجله بن جوريون عام 1955، لكننا بعد 1974عندما بدأت " الحرب من نوع جديد" بدأت أفكارنا تختلط مع تلاعبهم بنا فانتقلنا من النقيض إلى النقيض، وتحول مصطلح "الأرض مقابل السلام" إلى مصطلح الأمن مقابل السلام، ولم يعد التفاوض تحت بند أن يعترف العرب بحق إسرائيل في الوجود بل بأن تعترف إسرائيل بحق العرب في الوجود، ولم يعد تحت بند استعادة الأراضى الفلسطينية بل استكمال أرض إسرائيل!.. ولم يعد تحت بند منع الأسلحة الاستراتيجية في الشرق الأوسط ولكن تحت بند منعها في العالم العربى وحده..."

    يرثى محمد حسنين هيكل أيضا أطلال قيم كادت تندثر في ثنايا تحويل الحلم إلى كابوس.. قيم كالوفاء والعدل والحرية والتقدم والانتماء..

    إن عقل محمد حسنين هيكل الموسوعى يقع في خطأين منهجيين طالما دعوت الله أن يعافيه منهما كى يعز الإسلام به..!!

    والخطآن لا يفقدان تحليله قيمته ولا عمقه ولكنهما يفقدانه أى ثغرة للخلاص وأى سبيل للعلاج..

    الخطأ الأول أنه بنى تحليله على أن : " الحروب ضد الأمة لم تتوقف منذ حرب 1948.. والهدف نزع إرادتها.."..

    ماذا يسمى محمد حسنين هيكل غزو مصر سنة 1882 وحملة فريزر عام 1807 وغزوة نابليون.. و..و..و..و.. ماذا يسمى غزو العالم الإسلامى كله ..

    إننى أختلف مع أنور الجندى في تقسيمه للمواجهة إلى مرحلتين كانت أولاهما نظرية والثانية عملية، فالمواجهة العملية لم تتوقف قط منذ يوم مؤتة إلى يومنا هذا والحروب الصليبية لم تتوقف يوما واحدا لكننا وقد انثقبت ذاكرتنا نغفل من التاريخ مواجهة الغرب للعثمانيين كاستمرار للحروب الصليبية..

    لم تتوقف الحرب يوما واحدا .. ليس عبر خمسين عاما كما يقول محمد حسنين هيكل بل عبر ألف وخمسمائة عام وما حسبه أفعى هائلة تسد الأفق طولها خمسين عاما ليست إلا ذيل الفيل..!!..

    الخطأ الثانى الذي وقع فيه الأستاذ هيكل هو في حديثه عن قيم كالوفاء والعدل والحرية والتقدم والانتماء.. ذلك أن المنظور القطرى أو القومى لا يمكن أن ينشئ قيما كتلك..لا.. ولا حتى النظام العالمى الجديد .. بل على العكس.. وما كتابات جارودى وتشومسكى وتوينبى إلا مثالا على ما أقول..

    المنطقى مع القطرية والقومية والنظام العالمى الجديد هو عكس هذه القيم .. فالقيم المطلقة لا يمكن أن تنبع إلا من الدين والإيمان بالله.. بل إننا لا يمكن أن نفهم سر الوحشية المولعة بالإيغال في الدماء من الغرب تجاهنا دون أن نحيط بالأساطير التي تسربت إلى اليهود ية والمسيحية الصهيونية فجعلت من سفك دمائنا والوحشية تجاهنا عبادة لإلههم ظلام العبيد المولع بسفك الدماء..

    لقد أخطأ الأستاذ الكبير خطأين: وبقدر من التجاوز نستطيع أن نقول أنه في الخطأ الأول حوّل المطلق إلى نسبى.. وفي الخطأ الثانى حوّل النسبى إلى مطلق..!!

    إننى أعرف أن من الإجحاف توصيف الأستاذ محمد حسنين هيكل تحت راية القوميين أو الناصريين وأن من الظلم له أن ندمغه بالاستشراق والتغريب.. ولعله يحمل سمات من كل ذلك لكنه ليس أيا منها.. إنه جبهة قائمة بذاته.. وإن آراءه بالغة الدقة والعمق.. وإخلاصه لا شك فيه ووفاءه مضرب مثل.. لكن ثمة خطأ واحد في البداية وانحراف لا يكاد يلحظ في زاوية انطلاق الصاروخ الجبار جعلته يخطئ في النهاية هدفه بملايين الأميال.. ولو أننى مكانه لكنت أشد يأسا منه.. ذلك أن البصيص الخافت الباقى من أمله هو أن شعوبنا ستنهض وأن الحق سينتصر.. وهو هنا يفارق منطقه التحليلى العميق الذي يحتم أن تفنى أمتنا وتبيد لا أن تنهض وتنتصر.. فالخطأ أن الطبيعة وحتمية التاريخ لا تنصر الحق..

    ينصره الله…

    ينصره الله ..

    ينصره الله...

    وبإغفال هذه الحقيقة لا نتوه فقط بل ونضيع..

    نضيع ونبيد ونتلاشى كأمم كثيرة من قبلنا آخرها الهنود الحمر...

    لقد ألزم هيكل نفسه بالمنطق العلمى الصارم بمفهوم الغرب العلمانى المنفصل عن الدين..

    ومن ثم بدأت زاوية الانحراف وانحراف الزاوية..

    إننى لا أزايد بأى شكل من الأشكال على إيمان محمد حسنين هيكل وهو مسلم ومؤمن مادام لم يقر بغير ذلك ويصر عليه..

    لكنه يكرر الخطأ الفادح الذي وقع فيه بطل رائعة يحيى حقى: قنديل أم هاشم..

    إن الفكر العلمى احتمال صواب علينا ألا ننكر أى جزئية فيه بل وأن نتبعه بكل دقة لكنه بالرغم من ذلك يظل دائما احتمال صواب وليس الصواب..

    ثم أن انشطار المسلم ليفكر في أزمة أمة مسلمة بمنطق الغرب لا بد أن ينتهى إلى ما يريد الغرب..

    والمنهج العلمى الصارم مطلوب في دربه فإن عممناه هلكنا.. وعلى سبيل المثال فليس لقيم كالوفاء والعدل والحرية والتقدم والانتماء أى منهج علمى !!..

    ليس للاستشهاد ولا للميلاد ولا للموت أيضا أى منهج علمى..

    ولا خروج الناس يومى 9 و 10 يونيو تمسكا بالبطل المهزوم كان يخضع لأى منهج علمى..

    إن الغرب متسق جدا مع نفسه.. فالعدل عنده هو القوة.. والسعادة هى اللذة.. وما دون ذلك هراء وخداع وزيف.. ودعكم مما يقولون وانظروا إلى ما يفعلون..

    يتناول المفكر الإسلامى الهندى وحيد الدين خان في كتابه الإسلام يتحدى[8][8][22] ( الناشر : المختار الإسلامى) ما يسمونه بالمنهج العلمى وإلىقين الذي لا يتولد إلا بمعرفة الحقيقة بالتجربة والمشاهدة، ذلك المنهج الذي يناقض يقين القلب والحدس والروح، يقين ما وراء الحواس التي لا يمكن إخضاعها للتجربة، يقولون أن المنهج العلمى العلمانى حقيقى لأنه يرى الحقيقة ويجربها .. أما منهج الدين الذي لا يقوم على أى أساس علمى فباطل لأنه كله مبنى على قياس واستقراء..

    القضية التي يطرحها أولئك المنهجيون العلمانيون خطأ، لأنها لا تقوم على أسس علمية، ثم أنها تناقض نفسها، إنها لا تنفي وجود أشياء لم تجرب مباشرة كما لا تنفي القياس..

    يصرخ وحيد الدين خان أن التجربة لا تعد حقيقة لمجرد أنها شوهدت، كما أن القياس ليس باطلا لمجرد أنه قياس..

    إن إمكانية الصحة والبطلان موجودة فيهما على حد سواء..

    منذ آلاف الأعوام يستعمل الناس السفن الشراعية ويصنعونها من الخشب، كانت الحقيقة العلمية المبنية على المشاهدة تقضى بضرورة ذلك لأنه لن يطفو على الماء إلا ما هو أخف منه، وخرج على الناس من يقول أن السفن ستصنع ذات يوم من الحديد فأنكر الناس مقالته واتخذوه هزوا، اتهموه بالجهل، بالابتعاد عن المنهج العلمى للتفكير، وجاء أحد من يدعون منهج العلم التجريبى في جمع من الناس لكى يثبت لهم جهل الجاهل الذي ادعى أن الحديد سيطفو، أتى صاحبنا بإناء ضخم و ألقى فيه بنعل من الحديد فغاص، هلل الناس للعالم ونبذوا الجاهل، كانت تجربة علمية رآها الناس بأعينهم، وعلى الرغم من ذلك، كانت التجربة العملية التي شاهدتها العين باطلا لا حقيقة، فقد صنعت السفن بعد ذلك من الحديد فلم تغص في الماء وطفت، وثبت أن العالم المغرور كان جاهلا رغم تجربته العلمية التي – برغم مشاهدة الناس لها - عبرت عن باطل وخطأ لا يثير الآن سوى سخرية وتفكه..

    في بداية القرن العشرين كنا نملك تليسكوبا ضعيفا راقبنا به الكون، رأيناه، فكان تصورنا عنه بالغ الاختلاف عما رأيناه بعد ذلك بعقود باستعمال تليسكوب قوى.. كانت التجربة تنفي التجربة وتصمها بالزيغ والبطلان.. ويعلم الله ماذا سنرى بعد عشرات العقود الأخرى عندما نكتشف تليسكوبا أقوى..

    التجربة والمشاهدة إذن ليستا وسيلتى العلم القطعيتين والعلم لا ينحصر في الأمور التي شوهدت بالتجربة المباشرة، لقد اخترعنا الكثير من الأدوات للملاحظة الواسعة النطاق وللدراسة، ولكن الأشياء التي نلاحظها بهذه الوسائل كثيرا ما تكون أمورا سطحية ومتغيرة بتغير درجة دقة وتقدم الوسائل التي نلاحظها بها، أما النظريات التي نتوصل إلىها بناء على هذه المشاهدات فهى أمور لا سبيل إلى ملاحظتها، والذي يطالع العلم الحديث يجد أن أكثر آرائه تفسير للملاحظات و أن هذه الآراء لم تجرب مباشرة وإنما تم الوصول إلىها بالقياس.. ذلك أن بعض الملاحظات يدفع العلماء إلى الإيمان بوجود بعض حقائق لم تثبتها التجربة المباشرة، إن أى عالم من علماء عصرنا لا يجرؤ أن يخطو خطوة علمية واحدة دون الاعتماد على ألفاظ مثل القوة أو الطاقة أو الطبيعة أو الجاذبية أو الإشعاع أو الموجات الكهرومغنطيسية.. لكن أى عالم على ظهر الأرض لم ير مباشرة القوة أو الطاقة أو الطبيعة أو الجاذبية أو الإشعاع أو الموجات الكهرومغنطيسية..!!.. إن هذا العالم لا يستطيع تفسير هذه الألفاظ وما تعنيه إلا بالاستنباط والقياس.. وهى نفس الطريقة التي يصل بها المؤمن إلى الإيمان بالله….!!!! كلاهما قد صاغ كلمات تعبر عن وقائع معلومة لكى يبين عن علل غير معلومة .. كلاهما لا يستطيع أن يرى أو يمسك ما آمن به.. وكلاهما يؤمن إذن بما لم ير.. يؤمن بعلل غير معلومة.. علل غيبية..

    إلىست تلك هى التهمة التي طالما واجهنا بها المتشدقون بالنهج العلمى الرافضون للغيبيات؟!..

    أجل، في معظم الأحوال لا يرى العالم الحقيقة مباشرة بل يصل إلىها بالقياس والاستنباط والاستنتاج. والعلم الحديث لا يجرؤ على الادعاء أن الحقيقة محصورة فيما علمناه من التجربة المباشرة. إن ذرة الهيدروجين عبارة عن نواة تحتوى على بروتون واحد ومدار يدور فيه إلىكترون واحد ، تلك حقيقة لا يجرؤ أى واحد من البشر على إنكارها، رغم أن أى واحد من البشر لم يرها قط.. !!.. ولا حتى بأقوى مجهر في العالم..

    يقول الدكتور إلىكسيس كاريل: " إن الكون الرياضى شبكة عجيبة من القياسات والفروض، لا تشتمل على شئ غير معادلة الرموز التي تحتوى على مجردات لا سبيل إلى تفسيرها " ..

    ويقول الدكتور ا. مانديرا: " إن الوقائع المحسوسة هى أجزاء من حقائق الكون، غير أن هذه الحقائق التي ندركها بالحواس قد تكون جزئية وغير مرتبطة ببعضها البعض، فلو طالعناها منفصلة عن أخواتها فقدت معناها مطلقا، أما إذا درسناها في ضوء الحقائق الكثيرة التي علمناها مباشرة أو بالاستنباط فإننا سندرك حقيقتها.."

    ثم يستطرد مانديرا قائلا: " إننا نرى أن الطير عندما يموت يقع على الأرض، ونعرف أن رفع الحجر على الظهر صعب، ويتطلب جهدا، ونلاحظ أن القمر يدور في الفلك ، ونعلم أن الصعود إلى الجبل أصعب من النزول منه، ونلاحظ حقائق كثيرة كل يوم لا علاقة لإحداها بالأخرى في الظاهر، ثم نتعرف على حقيقة استنباطية هى قانون الجاذبية ، وهنا ترتبط جميع هذه الحقائق فنعرف للمرة الأولى أنها كلها مرتبطة إحداها بالأخرى ارتباطا كاملا داخل النظام، وكذلك الحال لو طالعنا الوقائع المحسوسة مجردة فلن نجد بينها أى ترتيب، فهى متفرقة ، غير مترابطة، ولكن حين نربط الوقائع المحسوسة بالحقائق الاستنباطية فسنخرج بصورة منظمة للحقائق "..

    إن الجاذبية لا يمكن رؤيتها قطعا، وكل ما شاهده العلماء لا يمثل في ذاته قانون الجاذبية، و إنما هى أشياء أخرى، اضطروا لأجلها منطقيا أن يؤمنوا بوجود هذا القانون..

    إن نيوتن .. مكتشف قانون الجاذبية .. يتحدث عن اكتشافه قائلا: " إنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها ولا إحساس وهى تؤثر على مادة أخرى، مع أنه لا توجد أى علاقة بينهما"..

    يا قراء ..

    يا علماء ..

    يا محمد حسنين هيكل ..

    هل ينكر منكم أحد قانون الجاذبية؟!..

    الجاذبية.. تلك النظرية المعقدة غير المفهومة.. والتي لا يوجد أى سبيل إلى مشاهدتها مباشرة .. نعتبرها اليوم – جميعا – حقيقة علمية بلا جدال..

    لماذا ؟!..

    لأنها تفسر بعض ملاحظاتنا ..

    ليست الحقيقة العلمية إذن هى ما علمناه مباشرة بالتجربة.. بل هى اعتقاد يقينى في وجود حقيقة لا نراها تربط وتفسر ما نراه..

    حقيقة لا نراها تربط وتفسر ما نراه ..

    ماذا تسمون إنسانا لا يؤمن بنظرية الجاذبية..

    الحقيقة التي لا نراها ولكنها تربط وتفسر ما نراه ..

    ماذا تطلقون على الكافر بها والذي يعلن أنه لن يؤمن بها إلا إذا رآها..

    ماذا تطلقون على الأحمق الذي يرفض الربط بين تجلياتها وظواهرها ونتائجها..ويعتبرها غيبا يتنافي الإيمان به مع المنهج العلمى..

    أى قدر من الاتهامات الهائلة يمكن أن نواجه به هذا الأحمق الغبى المأفون ..

    هل تسمح لى أيها القارئ وهل يغفر لى الله تجاوزى إن أنا استبدلت كلمة الله بكلمة الجاذبية..

    يا قارئ..

    هب أن واحدا اشمأز قلبه فقال أنا لا أومن بقانون الجاذبية ، أو حتى قال : أنا أومن به كأمر واقع لكننى ما دمت لا أفهمه لن أرتضى أحكامه.. سوف أعقب عليها.. سوف أسقطها وسأصنع قانونى الخاص الخاضع لتجربتى العملية..

    هبوا أن ذلك الرجل الذي قرر ألا يتحكم قانون الجاذبية فيه خرج إلى شرفة بيته.. في الطابق العاشر أو العشرين.. ثم قرر أن يتحدى القانون الذي لا يفهمه.. فخطى في الهواء ليمشى –ضد قانون الجاذبية -نحو السحاب..

    ماذا سيحدث؟!..

    لن يموت على الفور..

    سوف تكون هناك ثوان يسقط فيها..

    في هذه الثوانى سوف ير ما لم يره أبدا.. وسوف يحس بما لم يحس به أبدا..

    ما بين التحدى والهلاك ثوان.. ليست كمثلها ثوان..

    يا أمة..

    يا قارئ..

    يا محمد حسنين هيكل..

    لو أن واحدا منا.. قال لنفسه أنه لا يؤمن بالله.. أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر.. ولو أنه قرر أنه حتى وإن آمن فإنه لا يفهم.. ومن أجل ذلك سيسقط أحكام الله.. سينشئ أحكامه الخاصة الخاضعة لمنطقه.. هبوه فعل ذلك.. ثم انطلق في حياته يمنطقها بمنطقه.. وهو يظن أنه بين السحاب يوشك أن يمسك النجوم..

    هذا التعيس.. في هذه اللحظة.. يكون قد بدأ سقوطه.. سقوط يستمر أربعين أو خمسين أو ستين عاما..

    فما أربعون أو خمسون أو ستون عاما إزاء الأبد..

    أهى أكثر من ثوانِ؟؟!!..

    ثوان .. نسقط فيها من أرحام أمهاتنا .. فيلتمع الضوء لحظة .. ثم نسقط في غياهب القبور..

    أوتنكرون علىّ إن قلت لكم أن عمر أى واحد فينا إزاء الخلد القابع في الغيب.. ليس إلا لحظة كمثل تلك اللحظة و ثوان كمثل تيك الثوانى؟!..

    ثوان يتبعها الخلد أبدا .. إما في جحيم وإما في نعيم ..

    و لكن عميت بصائرنا..!!

     

     

    كلاب للأعاجم هم ولكن...

    على أبناء جلدتهم أُسُودُ...[9][9][23]

     

     

    وانظروا مثلا إلى واحد آخر يتنكر لكل تاريخنا ويسفه ديننا ، كان الوقت قد مضى، والحنظل قد أثمر.. كان القومية قد أدت دورها وهدمت دولة الإسلام الواحدة.. فأسفر التنين عن أنيابه وظهر الخبئ.. فالقومية التي طالما أغوى أقرانه الأمة بها قد أدت دورها وحان الحين للانقضاض عليها.. ولقد مرت القومية بطورين.. امتد أولهما قرنا من الزمان من ثلاثينيات القرن الماضى حتى ثلاثينيات هذا القرن.. ابتدأ بالهجمة الصليبية - على لبنان حين لم يكن ثمة لبنان- فمن خلال الجامعة الأمريكية خرج شياطين التبشير الداعون إلى القومية.. لم يعلنوا عن حقيقة مرامهم في البداية .. بل ادعوا العكس.. قالوا أن الثورة على الدولة الإسلامية الأم فيه إحياء للعرب وللعروبة وللقومية والإسلام.. وأنه لا انتصار للإسلام إلا بذلك.. خدعونا فانخدعنا.. طيلة ذلك القرن كانت القومية صنو للإسلام وطريقا أرحب إلىه.. بعد انهيار الدولة العثمانية أسفروا عن وجههم القبيح.. بدأ الطور الثانى الذي مات في يونيو 67 ودفن في حرب الخليج فإذا بنا بلا قومية وبلا إسلام .. بدأ الطور الثانى في ثلاثينيات هذا القرن فإذا بالقومية مناقضة للإسلام بل وللعروبة أيضا .. وراح سلامة موسى: مسيلمة الكذاب، سيد المشركين ورائد المنافقين يهدم في القومية لصالح الانتماء لأوروبا.. طالب بإلغاء الفصحى ونادى بالكتابة بالعامية وكتابة اللغة العربية بحروف لاتينية.. لم تعجبه صلاتنا فابتدع صلاة جديدة يقول فيها :

    يا الله : نحن بلإلىص فارغة املأنا بنعمتنا السماوية..

    يا ألله : أنت الوابور ونحن العربات، جرجرنا لملكوت السما..

    يا رب : أنت الحنفية ونحن الجرادل ..

    هل كان الكلب يسخر منا أم من الله ؟!..

    نبح الكلب.. نبج الكلب ..

    فانظروا إلى نبيح واحد من الكتاب تعليقا على هذا الهراء الفاجر وفي مجلة كانت تصدر في مصر.. :

    " ويدل هذا الشىء على شدة عناية سلامة موسى بالمعنى على حساب اللفظ.. وهى عناية كان يتوخاها عامدا، لأن المعنى عنده مقدم دائما على اللفظ.. فالأدب كما قال مرة ليس حلويات يمضغها العاطلون الناعسون و إنما هو كفاح، وبهذا الأسلوب المستنير، عاش سلامة موسى للحياة وأعطى خير ما عنده لبنى وطنه.."..

    إننى أريد أن أنبهك أيها القارئ أن معظم الكتاب العلمانيين وهم جل ما تواجهك

     

     

     

    يقول الشيخ مصطفي صبرى: شيخ الإسلام للدولة العثمانية سابقا في كتابه : موقف العقل والعلم و العالم من رب العالمين وعبادة المرسلين[10][10][24]: " أضعنا الدنيا و أضعنا الفرصة فأصبحنا ألعوبة في يد الدول الكبرى.."

    ثم يواصل :

    " إن دولة الترك المسلمة التي دفاعها بسيفها عن حياض الإسلام ضد أعدائه يستغرق الثلثين من تاريخها وتندرج في ذلك عند التحقيق أدوار الحروب الصليبية الموجهة ضد البلاد الإسلامية بالنسبة إلى تلك الأدوار في ردها على أعقابها.. هذه الدولة كان آخر سلاح حاربتها به الدول الوارثة لضغائن تلك الحروب ، نشر الإلحاد القائم على العلوم والمبادئ المادية بين أبنائها المثقفين ونشر المبادئ القومية بين العناصر المندرجة تحت لوائها..(..) وكفي السلاحان في القضاء على الدولة التركية المسلمة.. وكنت لما كنت في بلادى كافحت هذين السلاحين على طول فترة انتقال الحكم فيها إلى أيدى الملاحدة، وكان ظنى عند مغادرة تركيا مهاجرا إلى بلاد العرب التي جاء نور الإسلام إلىنا منهم، أنى أستريح من مجاهدة الملاحدة ، لكنى وجدت الجو الثقافي بمصر أيضا مسموما من تيار الغرب، فشقّ هذا على نفسى أكثر مما شقّ علىّ موقف تركيا الجديدة من ذلك التيار، كما شقّ وقوفي على أن إخوانى العرب يفضلون تركيا هذه على تركيا القديمة المسلمة، فرأيتهم توغلوا في تقليد الغرب وسابقوا الترك في الافتتان به.. والانقلاب الثائر في تركيا حصل عندهم في شكل هادئ."..

    ثم يبدى الرجل جزعه وعجبه مما يحدث في مصر بلد الأزهر التي ما يزال دستورها يقرر أنها بلد إسلامى فيقول : " حالة عجيبة، لا من ناحية العمل بأحكام الشريعة الإسلامية وقوانينها فحسب، بل ومن ناحية الاعتقاد والاعتراف بأصول الدين الملخصة في الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر.فالدين بكلا ركنيه الأساسيين مقذوف به في نظر الأوساط المثقفة المصرية بيد العلم الحديث الذي لا يؤمن بغير ما ثبت بالتجربة الحسية، إلى عالم الأساطير لا فرق بين مصر و تركيا الحديثتين في غلبة الإلحاد علي الديانة إلا من حيث أن الانقلاب اللاديني تأسس في تركيا جبراً من الحكومة مفاجأة من عهدي مصطفي كمال، و في مصر بالنشر و الدعاية المدسوسة من حملة الأقلام و المحاربة من الحكومة المرتبطة هي الأخرى بمحاباة من الغرب الذي هو رأس هذه الفتن المدبرة في المملكتين، فإنجلترا انتهزت فرصة كون تركيا في عداد الدول المغلوبة في الحرب العالمية الأولي، فساومتها بواسطة مصطفي كمال، الذي وجدته أنصع أهل لهذه المساومة، علي الاحتفاظ باستقلالها، في مقابل التنازل عن الخلافة، والتجرد عن الدين، والمشي في السياسة الدولية من وراء الإنجليز، كأنها مولي العتاقة لها، وتسني انتشار الإلحاد في مصر تحت حماية الإنجليز من غير ثمن مقابل يذكر.

    نعم، إن تركيا الحديثة أخسر صفقة وأسوأ عاقبة من مصر التي أدركت ما يضمر الإنجليز من البغض العميق نحو المسلمين فأخذت تقابل البغضاء بالبغضاء وتكرهها بكل قوتها على أن تكف أيديها عن مصر في حين أن تركيا دخلت في حماية الإنجليز ووصايتها وكفرت بنعمة الله التي كانت لها حين كانت دولة إسلامية.

    ولقائل أن يقول: تجلو الإنجليز بعد الحرب العظمى الثانية عن مصر، لأنها بلغت رشدها في الابتعاد عن الدين،ولم تعد تحتاج إلى شيطان الوصاية"..

    فهل أدركت أيها القارئ عمق الكارثة وفداحة الخطب..

    كارثة شرذمة العالم الإسلامى وتفريق أمته دولا..

    تخيل أن كل دولة من دول مجرى النيل – على سبيل المثال- تفعل في النيل في أرضها ما شاءت..

    ثم تخيل

    لقد عاشت أوروبا (الوسط والمتوسط) مع بقية حوض المتوسط لعدة قرون تحت ظل الدولة الرومانية التي قادتها نخبة عرقية (رمانية) إقطاعية، كرست سيادة المركز على الأطراف والسيطرة على مقدرات وثروات الخارج لصالح الداخل، وفي

    زمانها كانت روما «عشيقة العالم» كما كان يقول الرومان، فيما العالم ملحق بسيط. وبعدما انهارت الدولة الروماينة تحت ضربات قبائل الشمال لم يكن هناك من هو أكثر استعداداً لوراثتها من الكنيسة الكاثوليكية. فقد كانت هي الكثر تنظيماً وسط فوضى البرابرة، والمؤسسة الوحيدة صاحبة المشروع القادر على امتصاص القبائل الشمإلىة، وكانت النهاية تمثل «ممكلة الله على الأرض» و«بوابة الخلاص» كما نظر لها أوغسطين. وهكذا أعيد قيام الشكل الابمراطوري الأوروبي (الامبراطورية الرومانية المقدسة) الذي كان يخضع أولاً لسلطة الكرسي البابوبي وشكبته الكنسية الهائلة ثمّ لملوك وأمراء الاقطاع ثانياً. وكان لقيادة الكنيسة لمشروع الحروب الصليبية، ومن ثمّ فتح طريق الغزو إلى الشرق، ثمّ التجارة والترجمات، أن أطلق عصر النهضة ونمو المدن (الدويلات) التجارية الايطإلىة. وفي عصر النهضة وجهت أولى السهام إلى روح الكنيسة وأخلاقها وقيمها وهيمنتها، وبدأت _ كما يقول المؤرخون الغربيون _ عملية عقلنة المسيحية (تومس الاكويني كان الأشهر) التي مهدت الطريق للثورة البروتستانتية، التي لم تكمل المعركة ضد روح الكنيسة فقط ولكنها خاضت حرباً ضروساً ضد جسم الكنيسة كذلك.

    ولا نريد أن ندخل في الجدل الايديولوجي حول من صنع الآخر: البرجوازية صنعت البروتستانتية أم الأخيرة هي التي أقامت جسم الطبقة البرجوازية الحديثة وأعطتها ايديولوجيتها. فالمهم، أن انهيار سلطة الكنيسة ومن ثمّ كسر إطار الدولة الرومانية المقدسة أدى بعد سلسلة من المذابح (أهمها حرب

    الثلاثني عاماً) إلى قيام الكنائس المستقلة والمقاطعات المستقلة من حولها _ أو بها _ كما أطلق عنان البرجوازية الناشئة نحو النهب الخارجي، بما في ذلك استعمار الأميركيتين واستعباد الأفارقة ونهبهم والتجارة _ مع _ ثمّ استعمار الشرق الأقصى. ولم تبدأ الدولة الحديثة في تحديد شكلها النهائي أو حتى شبه النهائي إلاّ في القرن التاسع عشر، بعد هزيمة نابليون وتحرك طموحات الطبقة الجديدة نحو توحيد أسواقها الداخلية وبناء جيوش كبرى وأنظمة أكثر تعقيداً قادرة على خوض الصراع حول (الخارج) وأسواقه ومستعمراته وثرواته. وحتى إذا فُهم من ذلك أن السياق التاريخي الذي أقام الدولة القومية الغربية كان سياقاً منطقياً، تحمل كل مرحلة منه في أحشائها التي تليها، فلا يجب أن يغيب عنا أيضاً أن هذه الدولة القومية قد قامت ليس على وحدة العرق، بل على سيطرة العرق الأقوى في معظم الحالات. ومشاكل مثل تدهور الشمال البريطاني الاقتصادي (اسكتلندا) لصالح الجنوب (انجلترا)، ومثل إيرلندا الشمإلىة والباسك وكورسيكا وقبرص وهيمنة الأقلية الروسية البيضاء في الاتحاد السوفياتي، كلها أمثلة على ذلك. ولكن ما حدث في بلادنا كان غير ذلك، على كل المستويات. فلم تعرف بلادنا دولة النخبة الطبقية ولا العرقية ولا دولة الهيئة الدينية الفوقية. وبعد الخروج من عصر القبائل ودحر الفرس والروم، عرف العالم الإسلامي دولة الشرع، دولة القانون بكل مساويء بعض حكامها وأمرائها. صحيح، ولكن حتى في تلك الفترات، كان أعتى الحكام والسلاطين حريصاً على شراء موقف الشرع مهما كان زائفاً ومتملقاً أو جباناً، لأن شرعية النظام كانت في وقوفه على أرض الشرع الإسلامي. ولم يكن هذا الشرع حكراً على نخبة طبقية دينية «مؤسستية» بل كان بإمكان رجل من الموإلى أن يصبح فقيهاً كبيراً يقف أمام السلطان، وكان بإمكان تاجر صغير في بغداد أن يصبح أعظم فقهاء زمانه وتحتشد حوله الأمة بأعظم مما احتشدت وراء أي سلطان أو حاكم. كانت الأمة هي مستودع الشرع والشرعية معاً. ولم تعرف بلادنا داخلاً خارجاً فكل ما هو داخل حدود الدولة هو داخل، وبالتإلى لم يكن هناك مركز _ باملعنى الأوروبي _ يهيمن على الأطراف ويمتصها. وعندما كانت بغداد هي حاضرة العالم، كان إلى جانبها عشرات الحواضر من قرطبة إلى خرسان ومن المدينة إلى بخاري وسمرقند. وعلى مر الزمان الإسلامي لم تفرز بلادنا طبقات اجتماعية _ اقتصادية، وبالتإلى لم يعرف تاريخنا صراع الطبقة الجديدة ضد الاقطاع والكنيسة، بل أن كنيسة أوغسطين ذاتها لم يعرف التاريخ الإسلامي مثيلاً لها قط ولا بأي صورة من الصور. وحتى في أسوأ مراحل الحكم العثماني، كان العرب، علماء ووزراء ونواباً وضباطاً شركاء في السلطة والحكم كما هم الأتراك. ولم يبدأ الصراع العرقي داخل الدولة العثمانية إلاّ عندما تقدم المشروع الاستعماري الغربي نحوها وبدأت النخبة التركية المتغربة عملية تحويل الدولة العثمانية إلى ما يشبه الابمراطورية الرومانية. وكان هذا بالطبع بعد إزاحة عبد الحميد السلطان الذي لم يظلم كما ظُلم من النخبة العربية المتغربة!

    كيف إذن دخلت الفكرة والدولة القومية إلى العقل والواقع في منطقتنا وباقي العالم الإسلامي؟

    فرض دولة التجزئة على بلادنا:

    والإجابة ليست بتلك السهولة. ولكن المهم في المسألة أن انحدار القوة المدنية والعسكرية وجمود الفكر في العالم الإسلامي الذي بدأ بعد القرن السابع عشر الميلادي، وأن كان يعود لأسباب كثيرة تراكمت منذ القرون الهجرية الأولى. هذا الانحدار قابلته الحيوية المتصاعدة لأوروبا ثمّ تبلور المشروع الاستعماري الغربي. وي حين اخترق الاستعمار معظم أنحاء العالم بسهولة نسبية إلاّ أن الجدار الإسلامي، رغم تراكم اضعف، كان ما يزال صلباً قوياً قادراً على المقاومة، والمقاومة لأكثر من قرنين كاملين. ومع تزايد الخلل في ميزان القوى كان لهذا الجدار أن ينهار، إلاّ أن انهياره لم يتم إلاّ عبر عملية في غاية التعقيد والشمول. لقد نجح المشروع الاستعماري الغربي أولاً في استلاب قطاع واسع من نخبة العالم الإسلامي لصالح مرجعيته الثقافية والحضارية، ثمّ نجح ثانياً في تمزيق العالم الإسلامي بالقوة، قوة السلاح والجند والاحتلال الدموي، من معارك ساحل عمان إلى ليبيا ومصر إلى الحرب الأولى. ثمّ نجح ثالثاً في زراعة دولةالكيان الصهيوني في قلب العرب والإسلام كضمان لديمومة التجزئة والتبعية والألحاق والهيمنة.

    لم تكن الدولة القوميةالمعاصرة في العالم الإسلامي مطلباً جماهيرياً، ولم تكن نتاجاً لتطور سياق تاريخي وعوامل داخلية في بلادنا، بل كانت جزء من مشروع استعماري غربي عالمي، فُرضت بالعنف وقوة السلاح وسُلمت مقإلىدها، بشكل صوري قبل وبعد مرحلة الاستعمار المباشر، لنخبة متغربة فرضت سلطتها على الجماهير في معظم الأوقات بالعنف، عنف الدولة الغربية عن السياق التاريخي وقوتها المركزية الممثلة بأجهزتها وأدواتها القمعية.

    والذي لابد أن يغيب عنا، أن الاستعمار الغربي الذي ارتضى وأراد تشكيل نظام الدولة القومية في أنحاء العالم الإسلامي الأخرى، رفض ذلك وقاومه في المنطقة العربية، وفرض على العرب حاجزاً آخر بينهم وبين وحدتهم القومية هو حاجز الدولة الوطنية الصغيرة المحدودة، رغم أنهم كانوا أكثر الأعراق انسجاماً، ليس فقط بالمقارنة بدول العالم «الثالث» الأخرى بل أيضاً بدول أوروبا القومية ذاتها. وذلك لسبب بسيط، أن هذا الحوض العربي هو خزان العقيدة والتاريخ والحضارة ولابد أن يمنع بكل الوسائل من تشكيل قوة كبرى قادرة على جمع شتات الأمة من جديد وعلى الصمود أمام مشروع الهيمنة الغربية.

    ولكن مالا شك فيه أن دولة الكيان الصهيوني كانت ولا تزال تمثل ركيزة الهجمة الغربية الأساسية في المنطقة. فهنا تنتصب دولة وفكر ونظام وشعب، جميعها تمثل جزء لا يتجزأ من المشروع الغربي ذاته. يمتد من نشوء الكنيسة البروتستانتية وإحياء النص التوراتي في أوروبا الحديثة، وعودة اليهود إلى السوق

    والسلطة في المجتمع الرأسمإلى، إلى حين التقاء أهداف المشروع الصهيوني بالمشروع الاستعماري الغربي. سياق طويل يجعل من العبث الفصل بين الهيمنة الاستعمارية والألحاق والتبعية للغرب وبين الكيان الصهيوني. وبالطبع، لم يكن ممكناً قيام هذا الكيان بدون هزيمة الجدار الإسلامي الأخير (الدولة العثمانية) وبدون تشكيل النخبة المتغربة المرتبطة بالخارج في بلادنا وبدون قيام دولة التجزئة.

    ولدي هنا ملاحظة جديرة بالاهتمام...

    وكما حارب الإسلام العصبية الوطنية، حارب العصبية القومية أيضاً؛ لأن إثارتها من عوامل الفرقة بين المسلمين.. يقول الله تعالى: ((يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم..)). ويقول النبي النبي صلى الله عليه وسلم: « ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى » ويروي « ابن عساكر « أن « قيس بن مطاطية » جاء إلى حلقة من الصحابة وقال: هؤلاء – مشيراً إلى الأوس والخزرج – نصروا هذا الرجل [يعني النبي النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لأنه عربي وهم عرب، وبدافع القومية العربية قام الأوس والخزرج بنصرة النبي النبي صلى الله عليه وسلم ونصرة الإسلام] ثم استطرد هذا الرجل يقول: فما بال هذا وهذا؟ مشيراً إلى غير العرب من المسلمين، كبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي!! فقام « سعد بن معاذ » رضي الله عنه، وأمسك بتلابيب الرجل وساقه إلى النبي النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، هذا الرجل، يقول هذا الكلام. فغـضـب النبي النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا الناس فخطبهم وقال: « أيها الناس، إن أباكم واحد، وإن أمكم واحدة، كلكم لآدم، وآدم من تراب، وليست العربية في أحدكم بأب ولا أم إنما هي اللسان! فمن تكلم بالعربية فهو عربي ».

    وهكذا قضى النبي النبي صلى الله عليه وسلم على مفهوم « القومية العربية » بالمعنى العرقي؛

    عصبيات لغوية،

    يفوق عدد المسلمين ( 1300 ) مليون، عدد المؤمنين بأي دين آخر على وجه الارض. ( الكاثوليك في المرتبة الثانية، 950 مليون ).

    كانت الدولة العثمانية تلم شمل معظم المسلمين … وكانت الدولة الصفوية في إيران والدولة المغولية المسلمة في الهند تلم شمل الباقين… وفي نفس الوقت بدأت الضربات الهائلة للإمبراطوريات الثلاث … فككوا الدولة العثمانية إلى ثلاثين دولة هى: رومانيا بلغاريا إلىونان ألبانيا يوغسلافيا المجر قبرص تشيكوسلوفاكيا مصر الأردن السعودية جيبوتى الصومال ليبيا تونس الجزائر المغرب موريتانيا سوريا لبنان العراق السودان الكويت الإمارات العربية عمان قطر البحرين إلىمن فلسطين…

    فككوا دولتنا ثم راحوا هم يتوحدون..

    ولعلنا نضيف إلى هؤلاء جمال البنا، صلاح عيسى، جمال الغيطاني وخليل عبد الكريم ومراكز كمركز الدراسات الاستراتيجية في الأهرام.

    إن من يتبرا من دينه ، مسلما كان أو مسيحيا ، لنصرة عروبته ، ما أوشكه أن يتبرأ من عروبته نصرة لدينه ، إذا تبدل حال بحال .

     

     

     

     

    [1][1] -الشكر والعرفان لعديد من الكتاب والمفكرين الإسلاميين الذين رجعت إلىهم في هذا البحث، ونقلت منهم العديد من الاستشهادات والنصوص، على رأسهم الشيخ محمد الغزالى، الدكتور عبدالله عزام، الأستاذ جلال كشك، رجاء جارودي، فرانسوا بورجا، و الأستاذ محمد قطب.

     

    [2][2] - يعتمد هذا الحوار اعتمادا رئيسيا على كتابات الدكتور عبدالله عزام، والشيخ محمد الغزإلى والأستاذ محمد قطب، وقد اعتمدت أيضا على مواقع متعددة على الإنترنت، لم يتسن لي للأسف ذكر أصحابها لعدم وجود معلومات كاملة عنهم.

     

     

    [3][3] - عبد الله عزام.

     

    [4][4] - النزعات الكيانية. مرجع سابق- جذور الحركة الإسلامية في تركيا. مصطفي أوغلو. الزهراء للإعلام العربى- صفحات من الماضى القريب. أبو خلدون ساطع الحصرى. مركز دراسات الوحدة العربية- العرب والأتراك . الدكتور سيار الجمل. مركز دراسات الوحدة العربية- التكوين التاريخى للأمة العربية. الدكتور عبد العزيز الدورى. مركز دراسات الوحدة العربية- النزاعات الأهلية العربية. د. محمد جابر اأنصارى و آخرين. مركز دراسات الوحدة العربية- العلاقات العربية التركية. حوار مستقبلى. مركز دراسات الوحدة العربية.

    تعليقات

    المشاركات الشائعة من هذه المدونة

    كتابي: الجزء الأول

    بعد مائة عام..!!