ذكريات نصف قرنية!


ذكريات نصف قرنية!

أبتعد عنكم قليلا كي أقترب كثيرا، يبدو ما ستقرؤونه اليوم منفصلا لكنه متصل!

كان ذلك منذ أربعين عاما،وكنت أدلي بشهادة وطُلب مني تقرير عن مؤسسة ما،أحد المتهمين كان مدير شركة طبية كبيرة. كان دائما فخورا بجدّه الصوفي حيث يوجد مسجد باسمه فيه مقبرته في حي راق في القاهرة. كان في القضية متهمون كبار.أثبتُّ جرائم كثيرة ليس فيها شك، بالأدلة وشهادة الشهود ومنهم العاملون في شركة الرجل والأماكن التي ورّد فيها أجهزته، وأساتذة الجامعة الذين كانوا مسئولين عن هذه الأجهزة. كانت الأدلة يقينية وكان الناس واثقون من الحكم. جاء المتهمون بأكبر المحامين في مصر آنذاك ومن أذكرهما الآن هو الأستاذ أحمد الخواجة والأستاذ محمد كمال عبد العزيزالذي كان مرشحا ليكون مرشدا للإخوان. حاول المحامون تجريح شهادتي فرددت عليهم بعنف ووجهت حديثي لرئيس المحكمة (وكان قاضيا شهيرا هو الذي حاكم عصمت السادات) قائلا أن واجب المحكمة حماية الشاهد(فيما بعد، سيقول أشرف السعد معلومات صادمة عنه،وعلى الهواء). قلت لرئيس المحكمة أن هذه القضية فيها ملابسات عجيبة، وأخرجت له بعض المستندات التي حصلت عليها أثناء الفحص، قرأها باهتمام هو والعضوين، ثم نهرني فجأة قائلا: الشاهد يتكلم ولا يقدم مستندات فلا تمسك أوراقا. رئيس النيابة فقط هو الذي يمسك المستندات. قلت له أن هذه القضية لها جانب جنائي وجانب سياسي وجانب ديني لذلك فإن أحداثها غريبة. ومن أغرب ما فيها ما نشرته الصحف من أن أحد كبارالمتهمين استضاف في بيته ثلة من كبار القوم منهم رجل عدالة كبير وهو الذي كان مسئولا عن القضية كلها، وكان ضيف الشرف في الحفل فضيلة الشيخ شعراوي (وكان قد سمع مني تفاصيل القضية، خاصة أن مدير الشركة وآخرين كانوا من محبيه) وبعد المأدبة رفعوا أيديهم إلى السماء ضارعين إلى الله أن تحكم أنت بالبراءة في هذه القضية! صرخ رئيس المحكمة غاضبا منذرا: ما تقوله كلام خطير جدا عليك ما لم تثبته. قلت له أنا لست رئيس نيابة ولا ضابط شرطة كي أقدم أدلة رسمية، لكنني أقول لك ما نشرته الصحف، صرخ في دهشة: هل نشرت الصحف هذا؟ قلت أجل. قال: هل معك الصحيفة التي نشرته؟ ونظر إلى الملف الذي أمرني بتنحيته جانبا، آمرا: هات تلك الصحيفة. وأعطيتها له. فأخذ يطالع المنشور باهتمام شديد ثم عرضه على عضوي اليمين والشمال فطالعوه بنفس الاهتمام، وفجأة قال الرئيس وهو يعطيني الصحيفة: ألم أقل لك أن الشاهد لا يمسك أوراقا. كانت مرافعة النيابة بليغة جدا وأذكر أن رئيس النيابة بدأ مرافعته بقوله: الآن حصحص الحق... وكان ثمة يقين من أن أحدا من المتهمين لن ينجو، لكن حكم المحكمة كان البراءة للجميع من جميع التهم. وكان للقضية شق إداري غير الشق الجنائي، وفيه توثقت علاقتي كثيرا بالمستشار الدكتور أحمد رفعت خفاجي، ولكم كان عظيما هذا الرجل. وعندما أردت لقاءه للمرة الأولى سألت مساعديه بعد محاولات فاشلة، فهو غير موجود دائما. وكان مرؤوسوه ضائقين من صرامته. قال لي أحدهم: تريد أن تضمن لقاءه تعال بعد صلاة الصبح ستجده سحب كرسيا وجلس على السلم يراقب حضور الموظفين من أصغر الخدم حتى المستشارين. ظننت الرجل يسخر مني لكنه أكده وكانت بداية لعلاقة وثيقة مع هذا المستشار العظيم، وتبنى القضية التي أسفرت عن فصل المتهمين. هناك تفصيل صغير كنت أود ألا أقوله، لكنها شهادة أمام الله، والإسلام حجة علينا ونحن لسنا حجة عليه،والواقعة مازالت تؤلمني وتدهشني. فالمستشار محمد كمال عبد العزيز كان  يدافع عن أحد المتهمين لنفترض أنه "س" وهو مدير كبير في أحد الأقسام، لكنه يقوم بعمل فني غير الإدارة في نفس المكان ولنطلق عليه "ص" علما بأن "س" هو بنفسه "ص". كان "س" كمدير قد كلف "ص" كخبير (أي تعاقد كمدير مع نفسه كخبير) بعمل فلم يقم به واختلس أمواله. فوقف المستشار الكبير يدافع عنه قائلا أن القانون لا ينظر إلى الأسماء بل إلى التهم،وبغض النظر عن أن "س" هو بنفسه ص فإن ذلك لايهم المحكمة، مايهمنا نص القانون. "س" كمدير يقع تحت ولاية المحكمة. و"س" هذا لم يختلس، لكنه كلف "ص" وهو الذي اختلس، ولأن المحكمة لا ولاية لها على "ص" فلا سبيل أمام المحكمة إلا أن توصي "س" الذي لم يرتكب ذنبا ولم يختلس يفسخ التعاقد مع "ص" الذي اختلس. 

كان المستشار رفعت خفاجي ثائرا وغاصبا من لي عنق المنطق بهذه الصورة الصارخة، فكتب حيثيات عنيفة جدا يهاجم فيها المحامي ويسخر منه ومن سلوكه المدمر في الدفاع، ويقول أنه يرى عكس ما ذهب إليه المحامي فيوصي بفصل المدير "ص"   "س" وأن يستمر "ص" في الوظيفة إذا شاء المحامي. وهذا ما حكمت به المحكمة فعلا.

***

بعد عشرة أعوام قابلني مدير الشركة ضاحكا معاتبا وقائلا : والله أنا أحبك وأحترمك رغم أنك جعلتني أعيش أسود أيام حياتي وأنا مهدد بالسجن وأنت واقف أمام المحكمة تشهد علينا. قلت له: لقد انتهي الأمر كله الآن وسقط احتمال تجديد القضية أمام محكمة الجنايات، وأنت تتكلم دائما عن جدك وعن الدين، والآن أشهد الله عليك أنني أطلب منك الحقيقة. لا أنكر أن هذه القضية هزت يقيني بأشياء كثيرة،أخطرها ذلك التعارض بين صوابين: صواب استنتاجاتي وصواب حكم المحكمة وتأكيدكم أن ذلك لم يحدث. هذه شهادة لله وربما لن نلتقي بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة. قال الرجل: كان تقريرك كله صوابا. ذهلت. قلت له: فكيف عمّيتم أم تعاموا؟ قال : مثلا قطعة الغيار باهظة الثمن التي قلت أنت وقال أساتذة الجامعة معك أنها لم تركب في الجهاز. هي أصلا لم تكن تالفة، وإنما استوردناها من الخارج وبعناها لمكان آخر وحصلنا على ثمنها. وعندما تأزمت الأمور عثرنا على قطعة تالفة، وحطمناها وكهناها وأتينا بشهود غير مختصين شهدوا مجاملة بأنهم شاهدوا القطعة الأصلية تتحطم وشاهدوا تركيب القطعة الجديدة. سألته والأجهزة الطبية باهظة الثمن التي استوردتموها من انجلترا والحقيقى أنها أجهزة  هندية مغشوشة بأقل من عشر الثمن.قال هي بالفعل أجهزة هندية، فذهبنا بها إلى شركة لطلاء المعادن فحفرت عليها الشعار الإنجليزي فانتهى الأمر. وأخذ الرجل يسرد علىّ تفاصيل إخفاء الحقيقة وأنا في ذهول حزين. وسألني في النهاية باسما: لماذا لم تلتفتوا إلى المشتروات من القطاع العام؟ قلت له لأنه صعب جدا أن تحدث فيه سرقة. قال: بل كان جزءا رئيسيا من الاختلاسات من القطاع العام. سألته: كيف؟ قال: لنفترض أننا في حاجة لشراء 100 جهاز تكييف. سنذهب إلى مدير عمر أفندي لنعرف مواصفات الأجهزة التي عنده، فننشر إعلانا بمواصفات أخرى ليست متوفرة عنده بعد أن نتفق مع من سيورد الأجهزة، ونعقد اجتماعا بيننا وبين عمر افندي ومورد الأجهزة، ويدخل عمر افندي المناقصة فيكسبها حسب الاتفاق معنا، ولأن هذه المواصفات ليست موجودة عنده فإنه يطلبها بالأمر المباشر من الشخص الثالث الذي اتفقنا معه. ويكون السعر هو الضعف ونقتسم الزيادة.

***

لم أرو لكم هذه الأحداث فضفضة ولا قضاء على الوقت، لكن لأبين لكم اصطدام اليقينيات، وكيف يضل سعيك في الحياة الدنيا وأنت تظن أنك تحسن صنعا.

رويتها لأقول لكم أن من يقول أنه نبي قد يكون متنبئا كذابا، وأن القاضي قد يكون من قضاة النار وأن العالم قد يكون في حقيقته من عبدة الشيطان وأن الملك قد يكون جلادا وعميلا وخائنا بل وكافرا، وأنك لا تستطيع أن تحكم على الأمور بظواهرها دون إمعان العقل لا الشك.

رويتها لأقول لكم أن التقوى والصلاح والعدالة لا تقاس بدرجة الوظيفة أو حجم العمامة. وأن من تظنه أعلم الناس قد يكون جاهلا ومن تظنه صادقا يمكن أن يكون كاذبا ومن يتصنع الرحمة قد يكون جلادا.

وفي هذا الصدد أتذكر كلمة تاليران (وزير نابليون له): لم أكن أظن أن رجلا كبيرا مثلك إلى هذا الحد، عظيما مثلك إلى هذا الحد، يكون كذابا مثلك إلى هذا الحد، وضيعا مثلك إلى هذا الحد.

ولعل هذه الفقرة الأخيرة تكون حلقة وصل بين ما كتبته وما أنوي أن أكتبه، بمشية الله.

هذه هي الخلفية الفكرية التي شاركت في تكوين اقتناعاتي، وفصلى الحق عن الباطل، والدفاع عن الحق، وعبور أساليب  الخداع واكتشاف الصدق من الكذب والحق من الباطل والشر من الخير

فإلى حديث قادم


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

بعد مائة عام..!!