الشهيد محمد الصوابي

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ)

***

الشهيد محمد الصوابي

بقلم د محمد عباس



***

محمد الصوابي الديب، وهو بطل من أبطال فلسطين، والكفاح المسلح في القناة ، كان مطلوبا للقبض عليه عام 1954، ويصف زميله وصديقه المستشار عبد الله عقيل [1][1] ما حدث له، فقد  بقي  محمد الصوابي فترة من الزمن، متخفياً عن الأنظار، يسكن المقابر، ويجاور الأموات، حتى هداه الله إلى الالتجاء إلى جوار رجل شهم كريم، وعالم أزهري كبير، هو مفتي الديار المصرية آنذاك،  العلامة الشيخ حسنين مخلوف .

والشيخ حسنين مخلوف ليس شخصا عاديا، و إنما مجاهد يختزل فيه ضمير أمة، وعرفت مكانته المؤسسات  العلمية، فدعته للعمل بها، فكان عضوًا مؤسسًا لرابطة العالم الإسلامي بالسعودية، وشارك في تأسيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، واختير عضوًا في مجلس القضاء الأعلى بالمملكة العربية السعودية. وحظي الشيخ بتكريم الدولة في مصر، فمنحته جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية سنة (1402هـ = 1982م) ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وامتد تكريمه إلى خارج البلاد، فنال جائزة الملك  فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة (1403هـ - 1983م)

***

طرق محمد الصوابي الديب باب الشيخ حسنين مخلوف،  وذهب الخادم إلى الشيخ ليخبره عن الطارق فيقول: إنه شاب طليق اللحية، رث الثياب، ويريد مقابلتك. يروي  الشيخ مخلوف بنفسه ما حدث فيقول الشيخ : تعجبت من ذلك وظننت أنه عابر سبيل.. دخل الشاب المنزل، ولم أقابله في البداية، بل أعدَّ له الخادم طعام الغداء، فأكله بشهية وكأنه لم يأكل منذ مدة طويلة.. بعد الغداء ظننت أنه سينصرف، إلا أنه أصرَّ على مقابلتي وألحَّ في ذلك، فذهبتُ إليه وما إن رأيته حتى ظننتُ أنه سيطلب صدقة، فقد كان رثَّ الثياب تبدو عليه شدة التعب. بدأ حديثه بأن عرَّفني على نفسه.. محمد الصوابي الديب طالب بكلية الشريعة بجامعة الأزهر.. ولقد اهتز بدني وأصبت برعشة عندما قال لي: "إنه كان من متطوعي الإخوان المسلمين في حرب فلسطين والقناة"، فقد كان الإخوان المسلمون في ذلك الوقت سنة 1954م في أوج محنتهم، نظر الشاب إليَّ في هدوء - الحديث للشيخ مخلوف-  وقال بصوت منخفض ولكنه قوي: "أنا في محنة وأحتاج إليك، فأنا مطلوب القبض عليَّ، وقد مكثت أكثر من شهر هارباً متخفياً في المقابر نهاراً، ثم أخرج في الليل لأقتات الطعام... لقد كرهت الحياة بين الأموات وأريد أن أعيش بين الأحياء فهل تقبلني؟".

يقول الشيخ حسنين مخلوف: سيطر الذهول على نفسي تماماً، ولم أفق إلا عندما قال الشاب: ما رأيك؟.. استأذنت منه وذهبتُ إلى أولادي.. الدكتور علي وابنتي زينب، والذهول مازال مسيطراً على نفسي... لاحظ أولادي ذلك على الفور فسألوني: "مالك يا أبي.. حصل إيه؟".

أخبرتهم بالقصة، وفجأة وجدت نفسي أردد قائلاً: إنه صادق... إنه صادق... إنه صادق.

قلت لأولادي: إنني متأكد أن هذا الشاب ليس من الشرطة أو المباحث، جاء ليختبرنا، بل إنني موقن أنه يقول الصدق فهو صادق... وأضفت: إنني لا أستطيع أن أرد مستجيراً في هذه المحنة، وأنا موقن أنه مظلوم، وقد قررت قبوله، ولكن الذي يقلقني هو ما ستفعله بكم أجهزة المباحث والدولة كلها إذا اكتشفوا وجوده بيننا، حيث هناك قانون أو فرمان جمهوري صدر في ذلك الوقت، يعاقب كل من يتستر على أي من الإخوان المطلوب القبض عليهم بالأشغال الشاقة لمدة خمس عشرة سنة، قال ابني علي ـ بعد فترة صمت ـ: افعل ما تراه من الناحية الإسلامية والله يتولانا جميعاً، ويضيف الشيخ حسنين مخلوف فيقول: خرجت مع ابني علي إلى الشهيد الصوابي، وعرَّفته بابني علي، وأخبرته بأننا قررنا قبوله عندنا، وأنه يشرفني ذلك.. ارتسمت أمارات الراحة والاطمئنان على وجه الشهيد.. ومازلت أذكر ابتسامته المضيئة على وجهه حتى الآن.

ويواصل الشيخ حسنين مخلوف روايته:

وسيطرت الدهشة على وجه الشهيد عندما قال له ابني الدكتور علي: "لابد من أن تولد من الآن بشخصية جديدة وتدفن شخصيتك الحالية"، ويضيف الدكتور علي مخلوف الذي يعمل رئيس قسم أمراض النساء والولادة بطب عين شمس: كان في اعتقادي أنه لا يمكن إخفاء الشهيد محمد الصوابي الديب، وبخاصة في منطقتنا التي كانت تشتهر بكثرة ضباط البوليس الذين يسكنونها، فكان الحل أنه لابد من أن يولد الشهيد الديب بشخصية جديدة تماماً.. وأن أحسن طريقة لإخفاء أي شخصية هو أن تظهره بشخصية جديدة، وتكون جميع تصرفاته طبيعية، أما الهروب والاختفاء عن أعين الشرطة والناس، فإنها طريقة فاشلة ينكشف أمرها دائماً، عاجلاً أو آجلاً.

واتفقنا على أن يعمل الشهيد سكرتيراً لوالدي الذي كان فعلاً في حاجة إلى سكرتير، فقد كان مفتياً للديار المصرية في ذلك الوقت، وكانت ترد إليه استفسارات دينية كثيرة، بالإضافة إلى أنه يكثر من تأليف الكتب، واحترنا في الاسم الذي نطلقه عليه، وأخيراً قال والدي للشهيد: أنت صادق في جميع تصرفاتك وأقوالك، فاسمك منذ الآن "صادق أفندي"، وضحكنا جميعاً.

وفي اليوم التالي كان الشهيد محمد الصوابي الديب شخصاً آخر تماماً، نظيف المظهر، حليق الذقن، وهو أبيض اللون، واسع العينين، متوسط الطول، نحيف الجسم.

ويقول الشيخ حسنين مخلوف: إن الخطة التي تم وضعها لإخفاء الشهيد نجحت تماماً، فقد أذعنا على كل أفراد الأسرة أنه جاء لي سكرتير جديد اسمه "صادق أفندي"، ولم يعرف بالسر سوى أربعة أشخاص: أنا وابني الدكتور علي وابنتي الدكتورة زينب، وزوجة ابني الدكتورة سعاد الهضيبي، التي لم تتردد في الترحيب بالشهيد رغم أن والدها المرشد العام للإخوان المسلمين حسن الهضيبي وجميع إخوتها في السجن.

ويضيف الشيخ حسنين مخلوف: إن الشهيد محمد الصوابي الديب أو صادق أفندي، كان فعلاً سكرتيراً ممتازاً، وعاونني كثيراً في عملي، وبخاصة في الكتب التي أخرجتها في ذلك الوقت، وكان الشهيد يصحبني دائماً، في كل مكان أذهب إليه، وقد اعتبرته فعلاً سكرتيري الخاص.

عاش صادق أفندي لمدة ثمانية أشهر كاملة مع أفراد أسرة الشيخ حسنين مخلوف كأنه واحد منهم، يأكل معهم ويعيش بينهم، حيث كان الشيخ يطلب منه دائماً الإجابة عن الاستفسارات الدينية الكثيرة التي ترد إليه باعتباره مفتياً للديار المصرية، وكان الشهيد يسكن في حجرة منفصلة بحديقة المنزل بها صالون ومكتبة كبيرة وغرفة نوم وحمام خاص، تم تخصيصها لصادق أفندي.

يقول الشيخ حسنين مخلوف: وفي أحد أيام صيف 1955م على ما أذكر، جاءني صادق أفندي وقال لي إنه يريد السفر إلى السعودية ليعمل هناك، وحاولت أن أثنيه عن ذلك، ولكنه أصرَّ وأخبرني أن هناك شخصاً قد أعد له الرحلة بالباخرة عن طريق السويس إلى جدة.

إن قلبي لم يطمئن واستعنت بابني الدكتور علي لإقناعه بعدم السفر، ولكن دون جدوى، وقال إنه يريد أن يكون نفيه هناك، ويستريح من القلق الذي يعانيه كهارب، رغم إجادته لشخصية صادق أفندي، وغادرنا الشهيد البطل بعد أن وعدنا بأن يرسل لنا برقية فور وصوله إلى السعودية لكي نطمئن، وأرسلتُ إلى المرحوم محمد سرور الصبان مستشار الملك سعود ليهيئ له عملاً عند وصوله إلى هناك، ولقد مضى على سفر الشهيد حوالي الشهر ولم تصل أي برقية تفيد بوصوله إلى هناك.

يقول الدكتور علي حسنين مخلوف: كانت الأسرة كلها قلقة، وبما أنني كنت أكثرهم هدوءاً، فقد حاولت دائماً أن أطمئنهم، ولكن دون جدوى، وضاع هدوء أعصابي في أحد الأيام عندما أخبرتني زوجتي الدكتورة سعاد الهضيبي أنها سمعت من إذاعة لندن أنه تم القبض على اثنين من الإخوان المسلمين في باخرة السويس، وهما في طريقهما إلى جدة، ولم تذكر الإذاعة أسماء، ولكننا شعرنا أن الشهيد محمد الصوابي الديب كان أحدهما.

ويبدو أن الشهيد محمد الصوابي نجح في الوصول إلى جدة،  وقد كشفت السفارة المصرية في جده شخصيته،  وقبضت عليه بطريقة غامضة،  وأعادته إلى القاهرة وأدخل السجن الحربي.

 

***

ويكمل الروايـة وهـبي الفيـشــاوي

ويروي وهبي الفيشاوي الذي عمل مديراً لمطبعة مصر جزءا من الحكاية فيقول: إن الشهيد محمد الصوابي الديب سجن معنا بعد القبض عليه في سجن رقم 4 بالسجن الحربي ، وكان زبانية السجن الحربي يعذبون الشهيد تعذيباً وحشياً، حيث وضعوه في زنزانة تسمى "زنزانة الركن" وهي مخصصة للتعذيب الشديد، وكانوا لا يتركونه ينام أبداً، وكان الشهيد أشدنا تعذيباً لا يرحمه مجرمو السجن حتى في أوقات الراحة.

***

وتقول الدكتورة سعاد الهضيبي ابنة الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين وزوجة الدكتور على حسنين مخلوف : ذهبت يوماً إلى السجن الحربي لكي أسلِّم والدي بعض الحاجات، وعقب خروجي من مكتب مدير السجن حمزة البسيوني، شاهدت الشهيد محمد الصوابي الديب وهم يقومون بتصويره لعمل بطاقة اتهام، وكتمت صرخة كادت تنطلق منِّي، وأسرعت إلى المنزل وأخبرت زوجي بما شاهدته، فصاح قائلاً: "رحنا في داهية"، وأعد زوجي د.علي حقيبته التي سيأخذها معه إلى السجن، فقد كنا نتوقع في كل لحظة أن تأتي الشرطة العسكرية والمباحث العامة للقبض علينا.

***

ويقول الدكتور علي مخلوف: كنت خائفاً على والدي الشيخ حسنين مخلوف، فهو قد تجاوز الستين من عمره، ولا يستطيع أن يتحمل أهوال السجن الحربي، ولذلك كنت أنا وزوجتي لا نفارقه ليلاً أو نهاراً، متوقعين في أي لحظة مداهمة الشرطة لمنزلنا.

***

ويقول العلامة الشيخ مخلوف: لم أكن أتوقع أبداً أن يتحمل الشهيد محمد الصوابي الديب هذا التعذيب الذي لا يصدقه عقل من أجلي، لم أكن أتوقع أن يضحي بحياته من أجلي، حقاً هذه هي تربية الإسلام الحق.

***

في مذكرات الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي  يتحدث عن الشهيد فيقول:

" بقي سؤال مهم لم يجب عنه محمد الديب،  وهو: أين كان يقيم طوال المدة التي اختفي فيها قبل سفره، وهنا خشي الأخ محمد أن يضار الشيخ مخلوف بسببه،  وأن يناله أدنى شيء من أذى أو إهانة، ولهذا رفض أن يجيب عن هذا السؤال،  وكلما رأوه صامتا بالغوا في تعذيبه،  وهو مصر على السكوت،  ومن المعروف: أن الإنسان قد يصبر على الضرب الأول وإن اشتد وطال،  ولكن أقسى الضرب وأوجعه هو الضرب الثاني،  أي الضرب والجسم مجروح ومشَّرح من آثار الضرب السابق،  فهنا يكون الضرب شيئا لا يطاق،  وهذا ما حدث لأخينا الديب،  ولكثير من إخوانه المعذبين،  حتى قال الإخوة الذين شاهدوه: إن جسمه قد بات كتلة من الجراح والدم والقيح والصديد،  وكانوا إذا أرادوا أن يأخذوه من الزنزانة إلى مكاتب التحقيق،  يتحيرون في توصيله،  لأنه لا يستطيع أن يمشي،  ولا يستطيعون هم أن يحملوه،  لأنه كومة من الجراح،  وأخيرا لم يجدوا إلا (عربة القمامة) يوضع فيها،  وينقل عليها،  وما هي إلا أيام،  حتى تفاقمت جراحه،  وتضاعفت آلامه،  وفاضت روحه إلى بارئها،  تشكو إلى الله ظلم الإنسان لأخيه الإنسان،  والمصري لأخيه المصري! وكان الذين يموتون تحت التعذيب،  يلفون عادة في بطانية من بطاطين السجن،  ويحمله بعض الجنود،  ثم يذهبون في صحراء العباسية ليحفروا له حفرة،  ثم يواروه التراب،  لم يغسل،  ولم يكفن،  ولم يصل عليه أحد،  ثم يكتب أمامه: أفرج عنه يوم كذا!! وبذا يبرأ السجن من عهدته..

***

أيها القارئ..

هل تحتاج إلى فسحة من الوقت للبكاء واجترار الألم؟..

***

وتقول الدكتورة سعاد الهضيبي: تعجبنا جميعاً عندما مرت الأيام ولم تداهم الشرطة بيتنا كما كنا نتوقع، وفي أحد الأيام ذهبت لزيارة أبي المرحوم حسن الهضيبي بالسجن الحربي، وسألته عن محمد الصوابي الديب الذي كان يعرفه لأنه من الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى أن بلدته "شبين القناطر" مجاورة لبلدة أبي وهي "عرب الصوالحة" بالقليوبية، فهز والدي رأسه بطريقة تدل على الأسى، وأخبرني أنه من الشهداء، وأضاف أبي قائلاً: لقد تعجبت له أن الذين كانوا يقومون بتعذيبه كانوا لا يسألونه إلا سؤالاً واحداً فقط وهو: "أنت كنت فين؟"، فلا يجيب إلا بآيات من القرآن الكريم، حتى كسروا عموده الفقري وبرزت عظامه وضلوعه، وكان ممرض السجن "التمرجي" يخرج من مكان تعذيبه وفي يده صفيحة مليئة بالدم.

***

يا قراء..

إنني عاجز عن أي تعليق..

تقتصر مهمتي الآن على النقل..

دون أي تعليق..

دون أي تعليق..

دون أي تعليق..

***

يقول وهبي الفيشاوي: إن بعض الإخوة المسجونين الذين كانوا يقومون بتوزيع الطعام علينا، كانوا يخبروننا بأحوال السجن والمعذبين فيه، وفي أحد الأيام أخبرني أحدهم أن جِراح الأخ محمد الصوابي الديب فادحة جداً ومتقيحة، وأن حالته قد ساءت لدرجة أن الحشرات تسري بين جروحه، وأنه قد امتنع عن الطعام بعد أن مُنع عنه الماء، ولم تمض سوى أيام قليلة على هذا الحديث حتى أطفئت أنوار السجن الحربي كلها في إحدى الليالي، وشاهدت من ثقب زنزانتي حراس السجن الحربي يحملون ملفوفاً داخل بطانية ويضعونه داخل سيارة جيب مغلقة، وشعرت أنه الشهيد محمد الصوابي الديب، وقلت في نفسي استرحت وفزت بالجنة إن شاء الله.

***

يصرخ الدكتور يوسف القرضاوي في مذكراته:

  ومن ذا سيحاسبهم؟ ولقد شهدنا أيامنا الأولى في السجن الحربي،  وكنا في سجن رقم (4) واحدا من هؤلاء الذين قضوا نحبهم تحت التعذيب،  ملفوفا في البطانية السوداء، ومحمولا على عاتق بعضهم،  شهدنا ذلك بأعيننا،  إذ كانت الأبواب مفتحة دون أن يشعروا،  ثم سرعان ما أغلقوها بعصبية وانفعال،  ولقد قتل عدد من الإخوان بهذه الطريقة البشعة،  منهم الأخ محمود يونس من عرب جهينة،  والأخ علي الخولي الموظف بأخبار اليوم،  وآخرون،  ومما أذكره: أن أحد الشباب جيء به إلى السجن بعد فترات التحقيق والتعذيب الأولى،  وكان جو السجن هادئا نسبيا،  ولكنهم حققوا معه بشيء من القسوة الزائدة،  وكان الشاب قويا أبيًّا مفتول الذراعين،  صبورا على التعذيب،  واثقا بنفسه،  مؤمنا بربه،  وهذا النوع من الرجال يغيظهم ويثيرهم،  ويبدو أنهم ضربوه ضربة كانت قاتلة،  أذكر أن اسمه فاروق أبو الخير،  وأنهم مزقوا الصفحة التي كتب فيها،  واعتبر كأن لم يدخل السجن الحربي،  ولم يمر بعتبته قط.

***

يقول الدكتور توفيق الشاوي في كتابه "مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي"، دار الشروق :

إن هؤلاء يظنون أنهم يستغلون أموال القوى الأجنبية ونفوذها للبقاء في السلطة، وينسون أنها هي التي تستغلهم وتخدعهم، وقد رأينا كيف استغل زعماء الثورة العربية الكبرى ما قدمه لهم "لورنس" من ذهب بريطانيا، ومن وعود كاذبة بدعم استقلالهم عن تركيا، بل ووحدة العرب بعد انفصالهم عنها، وتبين أن بريطانيا هي التي خدعتهم واستغلتهم؛ لتنتصر هي وحلفاؤها على الدول العثمانية وتستولي على الأقطار العربية وتمزق وحدتها.

والذين يظنون أنهم يستغلون مساعدات الدول الكبرى ينسون أن ما يقومون به لاقتلاع جذور الفكر الإسلامي، والقضاء على التيار الإسلامي؛ هو هدف استراتيجي لأعدائنا؛ لأنه يسهل لهم تنفيذ مخطط استراتيجي طويل المدى يحرمون فيه شعوبنا من الوحدة حتى يستغل الاستعمار الأجنبي ثرواتها، ويفرض سيطرته على دولها أطول فترة ممكنة".

***

يا قراء..

إنني أعيد تذكيركم أنني إذ أكتب إنما أحاول أن نستنبط معا قانونا واحدا يفسر لنا حجم الهزائم التي تعرضنا لها..

جميعنا يقول أن ولادة السفاح لإسرائيل عام 48 كان نتيجة منطقية لمؤتمر وسياسات تبلورت في مؤتمر بال عام 1898.. والآن أسأل: هل ما يتم الآن في مصر – على سبيل المثال – قد تم التخطيط له وزرع بذوره منذ خمسين عاما..

و أذكر مصر على سبيل المثال فقط، لكنني أقصد العالم الإسلامي كله..

نعم..

 أريد أن نستنبط معا إذا ما كانت المقدمات تتناقض مع النتائج أم أن الأخيرة هي النتيجة الطبيعية للأولى، وكوننا لم نر لا يدل إلا على حجم الخديعة والتزوير..

و أريد  أن نتساءل معا عن موقف محمد على ( باني مصر الحديثة؟؟!!)  ضد المسلمين، وحل النقراشي – عميل بريطانيا -  جماعة الإخوان – هل لاحظتم يا قراء أن حلها قد تم والمعارك محتدمة في فلسطين عام 48 ، و أن نفس هذا القرار اتخذه بطل القومية العربية جمال عبد الناصر عام 54، و أن نفس هذا الموقف يتخذه الآن بإصرار أشد ومجاهرة أكبر الرئيس مبارك الذي يفاخر دون خجل  أنه لولاه ما جاءت أمريكا إلى الخليج عام 91، كما يفاخر دونما خجل أنه أول من حذر من الإرهاب..

و أريد أن أقارن بين لجوء عبد الناصر إلى الاتحاد السوفيتي عام 56 والانشقاق الذي حدث بين مصر والسعودية آنذاك، فقد كانت الأخيرة تسير في الفلك الأمريكي، وبين لجوء ولي العهد الأمير عبد الله إلى روسيا الآن ومصر تدور في الفلك الأمريكي.. ندور نصف الدائرة مع تبدل الأدوار..

و أقول لنفسي أننا إزاء هذا وذاك لا نحتاج – لكي نفهم -  إلى علوم السياسة والاجتماع بل إلى القليل جدا من علوم الحيوان والصيد.. ذلك أن صائد الجاموس الوحشي يعرف أنه عندما يروع القطيع من الجاموس فإنه ينفر ويتفرق ويجري بأقصى سرعة حول نصف دائرة واسعة، ويدرك الصائد ذلك، فيظل يسير الهوينى في خط مستقيم، لا يزعجه اختفاء فريسته ، واثقا أنها ستلف دورة واسعة لكي تعود إليه في خطه المستقيم، لاهثة مستنزفة عاجزة ، تنتظر من الصياد- شارون وبوش- أن يلقي بأنشوطته حول أعناقها وهي تنظر إليه في استسلام غبي يائس..

فهل فهمتم الآن يا قراء سياسة حكامنا؟!..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

بعد مائة عام..!!