عبد الرحمن يوسف القرضاوي

 

الشاعر عبد الرحمن يوسف الــ..!!

 

1/2

بقلم د محمد عباس

 

هذا مقال أراني الله فيه عجائب قدرته، إذ بدأته أنتوى أمرا، وأقصد اتجاها ثم شاء الله أن أسير في عكسه، والله يفعل ما يشاء.

مكثت شهورا وأنا أنتوي الكتابة عن شاعر مجيد في شعره السياسي، عرفته عندما أهداني جل دواوينه صديق عزيز، ومنها عرفت موقعه على الشبكة العنكبوتية فشاهدت رسمه وعاينت سمته وسمعت إلقاءه وصوته. ومنذ ذلك الحين لم تسعفني الحادثات على التفرغ له، و إن كنت قد تابعت الكثير من أعماله على الشبكة، وقليلا على الشاشات الفضائية، أما المدهش فقد كان احتفاء بعض القنوات المصرية به.

واليوم أصطحب القارئ معي لنجول في عالم هذا الشاعر محتفلين به قدر ما نستطيع، مدركين ومذكرين أن أعظم الأحداث عند أسلافنا كان أن يولد في القبيلة شاعر، ومدركين أن الشاعر كتيبة صواريخ!، رجوت أن يكون خليفة للصحابي الجليل حسان بن ثابت رضي الله عنه و أن ينطبق عليه ما قاله حبيبي وسيدي ومولاي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه : (إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما ينافح (يدافع) عن رسول الله ) [أحمد والترمذي]، وقال له : (اهج -يعنى المشركين- وجبريل معك) [البخاري]، وقال له (: (اهج قريشًا، فإنه أشد عليهم من رشق النبل) [مسلم].

فرحت بالشاعر إذن أيما فرحة خاصة عندما بشرتني أشعاره الأولى بأنه يدافع بشعره عن الإسلام، عن الله، وعن النبي صلى الله عليه وسلم. فلنحتفل بشاعرنا عبد الرحمن يوسف إذن، وليدرك القارئ الكريم أنني لا أصحبه إلى واحة للشعر بل ميدان آخر لمعركة هائلة، ليست مجرد معركة الفكر والعقيدة، بل معركة الوجود الإنساني ذاته. أصطحب القارئ إلى جحيم من المعاني وبراكين  يندفع منها سائل منصهر بلون الدم وكتل متمزقة ككتل أشلائنا البشرية المتناثرة في كل نقاط التماس بين وحشين غادرين وعدو مزدوج، أقصد بين طواغيت الداخل وطواغيت الخارج، ولا تشغلن بالك أيها القارئ في التساؤل عن أيهما أخطر، فليسا إلا تجليا لشيء واحد، والعلاقة بينهما عضوية ووثيقة، وموقف هذا الطاغوت من الأمة والدولة والناس، هو ذات الموقف العنصري الاستشراقي من الهنود الحمر وسكان استراليا الأصليين، والأمة المسلمة التي أبادها الروس، نعم، حملة إبادة سيقوم البعض القليل جدا منا بالمقاومة ضد محاولات إفناء الأمة وهدم الدولة وسحق الهوية، ولمجرد المقاومة سيتهم هذا البعض المجاهد النبيل بالإرهاب، ولسوف يطارد ويروع ويقتل أو يحاصر سواء كان الكفاح بالسلاح، بالفر والكر أو بالقلم والفكر، سوف يقاوم البعض، عندما يفشل الحكام وتولي الجيوش الدبر، وينهزم الجمع ، تحت قيادة رؤساء وملوك ما وضعوا إلا ليتضعوا وما تركوا إلا لينهزموا وإلا ليورطوا أمتهم في حرب خاسرة على الدوام، عندما يحدث ذلك، يتصدى أبطال للمقاومة بكل أشكالها المادية والمعنوية، ولولا هؤلاء الأبطال لاكتملت الهزيمة  الشاملة في معارك الهزائم  التي يصفها الشاعر عبد الرحمن يوسف في ديوانه الأخير"اكتب تاريخ المستقبل" بقوله:

" النـَّصْـرُ بـأنْ تـَجـِـدَ الـقـَائِــدْ . . . !

لا أنْ تـَقـْضِـي عَطـَشـَـاً أوْ تـَحْـتَ القـَصْـفِ

بـِحَـرْبٍ مِـنْ طـَـرَفٍ وَاحِـدْ !"

إن الشاعر يكتشف ويكشف أن القائد خائن والرئيس عميل و الأمير ضئيل والملك ضليل.

" هي الخيانة "

هِيَ الخِيَانـَـة ُ ..  قـَدْ أمْـسـَــــــتْ مُجَـسَّـمـَـة ً

                             في ذي القِيـَـــادَة ِ خِصْيـَانـَــــا فـخِصْيـَانـَـــا

هِيَ الخيانـَـة ُ.." ضَبْـط ُ النـَّفـْـس ِ" منطِقـُهـَا

                            و تـَجْـلـِـبُ الذُلَّ خـُسـْـرَانـَـــا ً فـخـُسـْـرَانـَـــا 

 

يدرك الشاعر في جلاء ويرى دون خفاء دور ولاة أمورنا، ذلك أن مهمة القائد هنا ليست مواجهة العدو ولا رفع شأن الأمة، بل مهمته هي سحق الأمة ورفع شأن العدو، مهمته أن يحول شعبه إلى قطيع من الحيوانات والعبيد. يقول الشاعر في ديوانه "لا شيء عندي أخسره" :

أنـــَــا عَـبـْـدُالـمَـأمـُــــورْ ...

و أَبـــِــي عَـبـْـدُالـمَـأمـُــــورْ...

و كـَذلـِــكَ جـَــدِّي الأَكـْبـَـــرُ كـَــانَ

– كـَمـَـــا يـَــرْوي لـِــي جـَـــدِّي الـعـَاشـِــــرُ –

في الـمـَاضـِـــي ...

عـَـبـْـدَالـمَـأمـُــــورْ ...!!!

إن الشاعر يكشف سر المأساة والكارثة التي تحيق بنا..ذلك أن الفرد توقف عن أن يدرك سمو موقعه كعبد لله الواحد القهار واستبدل الأدنى بالذي هو خير.  أصبح  الفرد المسلم عبدا للمأمور لا  للآمر.. نعم.. للمأمور.. فالطاغوت هو الآخر عبد للأجنبي.. وهو ثور خوار إن واجهته القوة وطاغية جبار إن واجهه ضعف.. وهو لا يترفع عن رذيلة مهما كانت خستها إلا إن ردعه الخوف..

خـَضــَــعَ   الجبَــــَــان ْ...!

لمــَّـا  انـــْتـَفــَضــْنــَــا  اسْـتـَسْلــَمَ  الجَبـــَّـــار ُ

مـَذ ْعـُـــور َ  الجـَنــَــــان ْ!

إن الشاعر المصدوم قد مزق الأغلال التي كانت تستر الحقيقة وتخفي بشاعتها فيصرخ:

لعن الله السياسة... وقصورا للرئاسة

ساكن القصر دواما... أكثر الناس نجاسة.

***

يؤكد الشاعر طيلة الوقت أن المشكلة تقبع في في القيادة، حيث يقول ذلك في مقدمة ديوانه الثالث "في صحة الوطن" – "دار التوفيق"  الصادر عام 2004، في هذا الديوان يمد الشاعر يده فيقبض على منطقة الألم،  فالطاغوت الشيطان قد مسخ كل من حوله وحولهم إلى أداء عكس واجبهم تماما كما يمسخ السرطان خلايا الجسم السليمة لتؤدي عكس واجبها فتهدم الجسم بدلا من أن تبنيه وتقضي عليه بدلا من أن تفديه.. يقول الشاعر في قصيدته " قـَانــُـــونُ  الـدَّوْلـــَــــةِ..!"

أدِّ   الـسـَّـــــــــلامَ   لـِحَـضــْــــــــرَةِ   الـضـُبـــَّــــــاطِ 

يَـتـَجَـمـَّـلــُـــــــونَ   بـِسَـائــِـــــــــــر ِ  الأنــْـــــــــواطِ

ألـْــق ِ الـسـَّـلامَ . . .  و  قــُــلْ   تـَقــَــدَّسَ   سِـرُّكـُــمْ

فـُقـْـتــُــمْ  جَـميــَـعَ   الـرُّسْــــل ِ  و  الأسْـبـَــاطِ  ! ! !

خـُصِيـَــتْ   جـُيـُــوشُ   الحـَــقِّ   قـَبــْــلَ   أوَانـِهــَــا

و الـفِـكــْـــرُ . . . مـَعـْهــُــودٌ   إلـــى   لــَـــوَّاطِ  ! ! !(...)

نـَـمَـــــط ُ  الـطـُّغـَــــاةِ  الـحَـاكِـمـِـيــــنَ  بـِلـَيـْـلِـنـَـــا

يَـنـْـفـِــــــي  دَوَامَـــــــا ً  سَـائِــــــــرَ  الأنـْمـَـــــــاطِ

نـَمــَــــط ٌ  عـَـقِـيـــــمٌ   ،  مُـسْـتـَـبــِــــدٌ  ،  أرْعــَــــنٌ

و  يَـقــُولُ : " إنَّ  الـنـَّهـْــجَ   ديمُـقـْـرَاطـِــي "! ! !

ثم ما يلبث أن يصرخ وقد برح به الخفاء ضد هذا الطاغوت المتأله، فيصرخ  في قصيدة "إلــــى   الأبــَـــــدْ . . . !"

يـَحـْـيــَــــا  الـرَّئِـيــــسُ   لـلأبــَـــدْ !

يـَحـْيــَــا هـُـــوَ  الـفــَـرْدُ  الصَّـمـَـــدْ !

لــَــــــهُ   صِـفــَـــــاتُ   رَبـِّـنــَـــــــا ،

لـَـكِـنـَّــــهُ . . .  لــَـــهُ   وَلــَـــــدْ ! ! !

إن الشعب كله  مأسور أما الحاكم فقد تحنط فوق كرسيه.. إنه يهتك كل شيء في شعبه وفي أمته ابتداء بالإيمان والعقيدة وليس انتهاء بالشرف والعرض.

***

يقول الشاعر تحت عنوان غير موفق هو "الهاتك بأمر الله" .. قلت لنفسي أن الهتك يتم بأمر الشيطان لا بأمر الله سبحانه و تعالى علوا كبيرا، وقلت لنفسي أنه كان على  الشاعر أن ينزه لفظ الجلالة عن الاقتران بمثل هذا، لكنني سرعان ما عدت ملتمسا للشاعر سبعين عذرا فقلت لنفسي : اعذريه وليكن في فضاء الإبداع متسع. يقول الشاعر:

يــَـــــــا مــَـــــــنْ لـعـِـرْضــِـــــــــي هـَـتــَـــــــــــــكْ

فـَـقــَـــــــــــــــــــــدْتَ شــَـرْعـِـيـَّـتــَـــــــــــــــــكْ!!

مـِــــــــــنْ رُبــْـــــــــــع ِ قــَــــــــــرْن ٍ كـَئِـيــــــــــــــب ٍ

لـَعـَنـْـتـُهــَــــــــــــــــــــــا طـَـلـْعـَـتــَــــــــــــــــــــــــــكْ(...)

مــَـــــــــــــــــعَ الـعــــَـــــــــــــــدُوِّ كـَـلِـيــــــــــــــــلٌ

لـَـكــِــــــــــن ْ بـِـشـَـعـْـبـــــــــــــي فــَتــَـــــــــكْ ! ! !

ســَــــــــــــــــوَادُ قــَلـبــِــــــــــــــــكَ بــَـــــــــــــــــادٍ

فـَاصـْـبــُـــــــــــــغ ْ بــِـــــــــــــــهِ شـَيـْـبـَـتــَـــــــــــكْ(...)

سـَـجــَـــــــــــــدْتَ لــلـغــَــــــــــــرْب ِ دَوْمــَـــــــــــا ً

مـُسـْـتـَـبـْـــــــــــــــــــــــدِلا ً قـِبـْـلـَـتـــَــــــــــــــــــــــك ْ (...)

***

في تعبير جميل يتحدث الشاعر عن شعره في ديوانه الرابع :"لاشيء عندي أخسره-بدون ناشر:ولهذا مغزاه ومعناه" فيقول: "حاولت تحرير شعري من كل أغراض الناس وشهواتهم وجاهدت ما استطعت أن يعبر عما في نفسي وقلبي وعن الناس دون أي كذب أو تجميل أو نفاق، ومهما كانت العواقب.. ثم يستطرد:"لقد حولت حياتي كلها إلى حالة شعرية"

هزت هذه الكلمات أوتار قلبي، أسلمتني إلى شجن جميل، هل يستطيع الشاعر أن يذوب في المعنى، أن تتلاشى ذاته أو تكاد، أن تكون الحالة الشعرية شيئا أشبه بالروح الطاهرة الخالدة بعد أن تطهرت من أدران المادة والجسد، وهل يستطيع أن يمحو الفاصل والتناقض بين اللفظ والمعنى. كنت أغار على الشاعر، فما أن ألمح بقلبي جملة ركيكة إلا وحاولت القفز عليها، وما أن أتعثر في معنى متهافت حتى أكاد أن أتعامى عنه، وكنت أقرع نفسي كل حين و آخر:

-    ماذا تريد من الشاعر في دواوينه الأولى؟ هل تريد أن تقارنه بفطاحل الشعراء بعد أن اكتملت تجربتهم ونضجت شاعريتهم، هل تريد منه أن يكون كشوقي وحافظ والبارودي والمتنبي؟ هل تريده كجرير والفرزدق والحطيئة  والخيام ومحمود حسن إسماعيل؟ هل تريده كالعلامة محمود شاكر في القوس العذراء؟ هل تريده كأمل دنقل وصلاح عبد الصبور والسياب والبياتي ( في الشاعرية لا في العقيدة)؟ هل تريده منافسا لأحمد مطر ومظفر النواب، هل تريده كمحمود درويش وسميح القاسم ( حاشا لله بعد مواقفهم الأخيرة)..

كنت أتساءل هذه التساؤلات مستنكرا رغبتي في أن أحمل الشاعر ما لا يطيق، ربما بعد عشرين عاما أو ثلاثين من صقل تجربته يكون مثلهم أو حتى يتفوق عليهم. إن الشاعر من مواليد 18 سبتمبر 1970، وقد يكون هذا العمر في الزمن الغني القديم عمر نضج واكتمال، لكنه في ظل الضحالة الثقافية السائدة يكون عمر أطفال لم يزالوا.

فليكف  قلبك إذن عن الخفقان خوفا كلما صادفك في الشاعر ضعف أو نـــبـــوّ، أو كلما اعترضك عوار في لفظ أو هبوط  في معنى أو خلل في الوزن والموسيقى، كف عن هذا الشعور ولتقرأ قراءة محايدة أو حتى مُحِبــّة، ولكن لا تعتبر كل نقطة ضعف هي ضعفك أنت وكل سوأة هي سوأتك أنت، فتسارع بتغطيتها بدلا من كشفها، كُـــف عن ذلك واقرأ قول الشاعر في قصيدة "ارْحــَــــــلْ" :

خـَـــرَسٌ أصــَــابَ بـَـلابــِــــلا ً فــــي أرْضـِـنـَـــا

و الـكـَـلــْــبُ قــَـدْ مـَــلأ َ الحَـيــَـــاة َ نـُبَـاحــَـــا !(...)

مـَـا أنـْجـَبـَــتْ سـَـنـَــوَاتُ حُـكـْمـِــكَ فـَـارســَــا ً

بـَـلْ كـَانَ حَـمْـلُ الأرْض ِ مِـنـْـكَ سِـفـَـاحـَـا ! ! ! !

***

سوف ينفذ الشاعر عبد الرحمن يوسف من بعض الحصار المضروب حوله، وهو حصار مفروض رغم أنه شاعر وليس إرهابيا!.. وهو يقاوم بالكلمة لا بالقنبلة.. بالحرف لا بالسيف.. بالنغم لا باللغم..   بالعزيمة والإخلاص لا بالألغام والرصاص.. سوف يفلت الشاعر من حصار المنابر الرسمية التي حولها الأوغاد إلى أوكار لصوص.. والعجيب فعلا أن جل هذه الأوكار لم تهدر دمه  بل لم تناصبه العداء.. لكن الطاغوت القاهر سوف يسلب حياتها دفئها حتى يجمده الصقيع:

يـَـنـْـتـَابـُـنـِـــــي  الـصـَّـقِـيــــــــعْ ...

في  وطــَنـِـــــي  الـمَحْـكـُـــوم ِ

بـِالـكـُرْبــَــــاج ِ  و الـمـُذيــــعْ ...

***

لابد أن نلاحظ أن هذه الدواوين كلها كتبت قبل 25 يناير.

يتراوح مستوى الشاعر في قصائده من قصائد متواضعة المستوى إلى أخرى ينافس فيها مفارقات أحمد مطر اللاذعة أحيانا والتي تحرق القلب أحيانا أخرى، كما تنافس بعضها الآخر شاعرية نزار قباني. ويمتلك الشاعر فضيلة التواضع وأنه ليس متيما بنفسه، بل إنه يعترف بنفسه بتباين مستوى قصائده فيقول في مقدمة ديوانه الأول:

" فبعض القصائد واضح فيها ضعف التمرس في صنعة الشعر , ورغم ذلك وضعتها في هذا الديوان لارتباطها بحدث حزين أو سعيد ، أو لأنها تعبر عن مرحلة من مراحلي العمرية والشعرية ، أو لحاجة في نفسي قد لا أحب أن أفصح عنها !!".

من نماذج الشعر المتواضع هذه القصيدة الغزلية (نعم.. فالشاعر يكتب في الغزل أيضا) فيكتب في قصيدة حـُــبٌّ فــَــوْقَ العـَــادَةِ :

و إنْ  فـَكـَّرْتُ في شـَفـَتـَيـْكِ  تـُشـْعِـلـُني انـْحِـلاليـَّة ْ

و لـَمْـسَــة ُ  كـَـفـِّــكِ  المَـلـْسَـاءِ غـَابـَاتٌ  مَـدَاريـَّة ْ

تـُعِـيــدُ  جَـمـيــعَ  أخـْلاقي  لسِـيرَتِـهـَــا  البـِـدَائِـيـَّة ْ

كَأنـِّي  لـَمْ  أعـِـشْ  يَـوْمـَـا ً  بـِـدَائِــرَةٍ  حَــضـَاريـَّة ْ

وكانت هذه القصيدة من نوع القصائد التي أقول لنفسي بعد قراءتها : لكن الشعر انفجار وجدان وليس معادلة رياضية، ولا فسيفساء لفظية ولا منظومة سجعية.

ولكن في نفس الوقت توجد قصائد أخرى يصل فيها الشاعر إلى ذروة عالية من تضافر اللفظ والمعنى والموسيقى في كيان عضوي يشبه الكائن الحي الذي ينبض ويتنفس وينمو ويتألم ويسخر كما تسخر تلك القصيدة الحية: قصيـــــدة مـِسـْبـَحـَـــة ُ الـرَّئـِيـــسْ . . . !:

فــي لـَيْـلــَــةٍ مــِــنْ حـَالـِـــكِ الـلـيـْــــلاتِ . . .

صـَلـَّيـْــــتُ ثــُــمَّ نِـمـْـــتُ فــي سـُبـَــــاتِ . . .

وَجـَــــدْتُ سِـبـْحـَــة َ الـرَّئِـيــــس ِ فــي يــَدي . . .

قـَـــرَّرْتُ ذِكـْــــرَ الله ْ. . .

أمـْسَـكـْـــتُ بـالـحـَبـَّـــــاتِ . . .

وَجـَدْتـُنـِــــي أقــُـــولُ : " ذاتـِـــي

ثــُــمَّ ذاتـِــي ثــُـمَّ ذاتــِــــي . . ." ! ! ! ! ! ! !

و بـَعـْـدَهــَـــــا كــَــــرَّرْتُ وِرْدَا ً آخــَــــــرَا ً . . .

فـَقـُلـْتـُهــَـــــــا : " لـَذ َّاتــِــــــي . . . "

كـَرَّرْتـُهــَــــــا ألـْفــَــا ً مــِـــنَ الـمـَـــرَّاتِ . . .

ثــُـــمَّ انـْـتـَبـَهــْـــــتُ فـَجــْــــــأة ً . . .

و قــُلــْـــــتُ : " ذَاكَ حـُلـْـــــمُ لـَيــْــــل ٍ

سـَـــــئٍّ مــَــــا أقـْبـَحــَـــــهْ . . .

هـَلْ يـَمْلـُكُ الـرَّئِـيـسُ – أصـْلا ً– مِـسـْبـَحــَهْ . . . ؟؟؟

***

وأيضا قصيدة (اعتذر عما فعلت)  من أبدع و أعذب ما كتب الشاعر وهي غير منشورة في ديوان بعد، وقد كتبها ردا على الشاعر الفلسطيني العلماني محمود درويش الذي كان كما وصفه بحق بعض الفلسطينيين :  كان مناضلا ولم يعد كذلك.

اعـتـَـــذِرْ عـَمـَّـــا فـَعَـلـــــت !

أُريدُ ادِّخارَ قليل ٍ منَ الجُهدِ كيْ أسْتطيعَ عُبورَ الطريقْ ...

أُريدُ اقتطاعَ مَسَاحَة َ قلبٍ

تمَكننِي بثَّ بعض ِ الموَدَّةِ نحوَ صَديقْ ...

أُريدُ الحِفاظ َعَلى قطعَةٍ منْ مَرَايا الفؤادِ

لتعْكسَ بعضَ البريقْ ...

أُريدُ الدِّفاعَ بسَطر ٍ مِنَ الشعر ِ حر ٍ

لأقهرَ عصْرَ الرَّقيقْ ...!

* * *

القصيدة بالغة القوة معنى ومبنى وقد تخلصت من كل عيوب القصائد السابقة، ولقد عانيت عناء شديدا في الاستشهاد ببعضها، وكنت أتمنى أن تتسع المساحة لنشرها كاملة  لكنني أكتفي بنشر أولها و آخرها حيث يقول الشاعر:

أُريدُ دُموعاً منَ القار ِ أبكي بها في ليَالي الظلامْ ...

أُريدُ رِدَاءاً منَ الصَّمتِ يسْترُ عرْيَ الكلامْ ...

أُريدُ دَوَاءاً لتشفى القصِيدَة ُ حِينَ تصابُ بدَاءِ الجذَامْ ...

أُريدُ أرَاكَ – و أنتَ الكبيرُ – تبادِلُ تِلكَ الجَمَاهيرَ

بعضَ احترَامْ ...

أُريدُ أرَاكَ بمَقهى صَغِير ٍ بيوْم ٍ لكيْ أتجاهلَ أنكَ فيهِ ...

لأنَّ عِقابكَ عِندِيَ ...

ترك السلام..

***

بدأت شهرة عبد الرحمن يوسف منذ أعوام قليلة ثم تألق بعد أن أصبح الشاعر الرئيسي لحركة كفاية.

ولقد شعرت بكثير من نبوّ الراحة بسبب ارتباط الشاعر بحركة كفاية، وصحيح أن هذه الحركة بقيادة الدكتور عبد الوهاب المسيري هي حركة أخري لا تشبه ما سبق ولا ما سيلحق. فالدكتور المسيري منحها قيمة لن تتكرر، ووجها إسلاميا لم يستمر بعده، إنها كانت قبل الدكتور المسيري، وأصبحت بعده مسجد ضرار تمنيت لو أن الشاعر نأى بنفسه عنه.

قلت لنفسي: لعل علاقته بالعلمانيين في كفاية هي التي جعلت الحصار حوله غير مكتمل.. وهي التي منعت أوكار الحداثيين من إهماله أو اغتياله..

وباتت في حلقي غصة.. ونهش القلق قلبي.

***

انتابتني غصة أخرى وأنا ألاحظ سيطرة بعض الرموز الصليبية والجاهلية على شعر الشاعر وعلي أخيلته ووجدانه. وتذكرت الحملة الهائلة التي شنها أستاذ الأساتذة وجهبذ العلماء الأستاذ محمود شاكر في كتابه الهائل أباطيل و أسمار، حيث يقول في بعضه:

(...)ولكن الشيء العجيب المحير، هو أن كثيرا من رواد الشعر الحديث في السنوات الأخيرة، قد أوغلوا في استخدام هذه الألفاظ الأربعة، وقليل من أشباهها، في شعرهم، وهم جميعا مسلمون!! (...)

ولكن هذا الضرب من الشعر، قد تولى منذ قديم بعض صبيان المبشرين الترويج له، والإكثار من التلويح بأنه الجديد الذي لا جديد غيره، وأكثروا في ذلك الصخب واللجاجة في الصحف والمجلات،  وكلما نشأ ناشئ منهم، قام له من يبني عليه ويمتدحه ويذيعه بشعره، حتى يجتذب إلى تقليده آخرين، وتفشت الكلمات وطال عليها بعض الأمد فلما جاء الاعتراض عليها، التمسوا تفسيرا لهذه الألفاظ المقلدة التي لا صدى لها في نفوسهم فقالوا هي "رمز" فإذا سألتهم رمز لماذا؟ ولم كانت هذه الأربعة دون غيرها هي الرموز؟ لم يحيروا جوابا، إلا كالجواب الذي أسلفنا ذكره، بما فيه من المغالطة فالأمر كله مبني على تقليد مجرد، لا قيمة له، فالمقلد لا يفلح أبدًا، وإنما يفلح من جاءه الإحساس بالشيء من قرارة نفسه، وقليل ما هم في كل من يتكلم.

***

يتناول الشهيد – إن شاء الله- سيد قطب الأمر نفسه فيقول:

إن الإسلام يتسامح في أن يتلقى المسلم عن غير المسلم ، أو عن غير التقي من المسلمين ، في علم الكيمياء البحتة ، أو الطبيعة ، أو الفلك ، أو الطب ، أو الصناعة ، أو الزراعة ، أو الأعمال الإدارية والكتابية .. وأمثالها . وذلك في الحالات التي لا يجد فيها مسلماً تقياً يأخذ عنه في هذا كله ، كما هو واقع من يسمون أنفسهم المسلمين اليوم ، الناشئ من بُعْدِهم عن دينهم ومنهجهم وعن التصور الإسلامي لمقتضيات الخلافة في الأرض - بإذن الله - وما يلزم لهذه الخلافة من هذه العلوم والخبرات والمهارات المختلفة .. ولكنه لا يتسامح في أن يتلقى أصول عقيدته ، ولا مقومات تصوره ، ولا تفسير قرآنه وحديثه وسيرة نبيه ، ولا منهج تاريخه وتفسير نشاطه ، ولا مذهب مجتمعه ، ولا نظام حكمه ، ولا منهج سياسته ، ولا موجبات فنه وأدبه وتعبيره … إلخ ، من مصادر غير إسلامية ، ولا أن يتلقى عن غير مسلم يثق في دينه وتقواه في شيءٍ من هذا كله.

إن الذي يكتب هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة . كان عمله الأول فيها هو القراءة والاطلاع فـي معظم حقول المعرفة الإنسانية .. ما هو من تخصصه وما هو مـن هواياته .. ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره . فإذا هو يجد كل ما قرأه ضئيلا ًضئيلاً إلى جانب ذلك الرصيد الضخم - وما كان يمكن أن يكون إلا كذلك - وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره . فإنما عرف الجاهلية على حقيقتها ، وعلى انحرافها ، وعلى ضآلتها ، وعلى قزامتها … وعلى جعجعتها وانتفاشها ، وعلى غرورها وادعائها كذلك !!! وعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن يجمع المسلم بين هذين المصدرين في التلقي !!! 

***

هل تنبه الشاعر لذلك المنزلق؟ وهل استطاع أن يحمي نفسه أم انزلق؟!

يجيبنا على السؤال شعره.

في قصيدة "الأ ُمــَّـــة ُ و  الـدَّوْلــَــة ُ" ينفجر ألم الشاعر وينفجر أيضا ألمنا معه.. و ألمنا عليه:

لـَيـْــلٌ  يـُقِـيــــمُ  ، . . .  و  أ ُمـَّــة ٌ  مُـسْـتـَعْـبـَـــدَهْ  !

و حُـكـُومــَـــة ٌ. . .   أفـْكـَارُهــَـــا   مُـسْـتــَـــوْرَدَهْ  !

أ ُنـْمـُــــوذَجُ   الحُـكــْـم ِ " الـمُـعَـلـْمـَــن ِ"  سـَائـِــــدٌ

و  الـشـَّعـْــبُ  صـَــارَ   كـَفـَـأرَةٍ   فـي   المِصْـيـَــدَهْ !

نعم.. أمة مستعبدة وأفكار مستوردة وفأرة في مصيدة و أفكار غير محددة، من المؤكد إذن أن الشاعر الذي يدين هذا يؤمن بعكسه، لكننا سرعان ما نكتشف أن الداء أصعب والخطب أشمل والداء وبيل، إن المسئولية ليست مسئولية القيادة الخائنة فقط، بل مسئولية الشعب الفأر، ثم ما نلبث في قصيدة تالية في نفس الديوان أن نكتشف  أن الداء قد تسلل حتى إلى الترياق، وأن مضاد الفيروس قد أصابه الفيروس. إن الشاعر نفسه يحمل في بعض قصائده نفس الداء الذي تحمله السلطة: الأفكار العلمانية المستوردة.

***

في الديوان الثالث للشاعر( في صحة الوطن-دار التوفيق) يكتب الشاعر قصيدة طويلة بعنوان (في صحة الوطن) لكنه يؤكد في حاشية في أولها أن " هذه القصيدة ليست مذهبي أو وجهة نظري في المهازل التي تحدث في أوطاننا، و أغلب ما فيها مجرد رصد لما حدث وانعكاساته على الإنسان البسيط، لذلك لا مجال لاتهامي بالعمالة للأجنبي أو الفسق فضلا عن الإلحاد، وكل ما في هذه القصيدة مقصود متعمد، حتى الأخطاء اللغوية، التي هي نتيجة لتأثير الخمر على الشارب المسكين"

ونحن نسلم للشاعر بهذا كله، ولسنا على درجة من السذاجة أو الجهل تدفعنا للخلط بين الشاعر والسارد، لكننا في الوقت نفسه لسنا مغفلين وجهلة كي نهمل إيحاءات الرموز التي حذر منها العلامة محمود شاكر. تلك الرموز التي تجعل الوضوء منتقضا بالنجاسة والإيمان ملتبسا بالكفر أما الرجس فهو مكنون في النفس الممزقة بين الروح والحس.

في الصلاة الرابعة لقصيدة صلوات ملحد يقول الشاعر:

هَـرَبْـتُ  مِــنْ  مَـسْـجـِـدي  خـَوْفـَـاً  مِــنَ  الـحَـبـْـس ِ

و الـكـُفـْــرُ  يَـمـْــزِجُ   مـَاضِـيـــهِ  عَـلـــى   أمْـسِـــي

أعـْــدُو . . . و  يَـدْفـَعـُنــي   الإيـمـَـانُ   مُـنـْطـَـلِــقـَــاً

كـَـيْ  أسْـتـَقِـــرَّ   بــأرْض ِ  الـكـُفـْــر ِ  و  الـرِّجْــس ِ

هَــذا  الـوُضـُــوءُ  عَـلــى  الأطـْــرَافِ   مُـنـْـتـَـقِـــضٌ

جـِسْـمِـي  طـَهـُـورٌ ،  و ذَاكَ  الـرِّجْــسُ فـي  نـَفـْسـي

أغـْـلـَقـْـتُ  مِــنْ  سَـطـْـوَةِ  الـسُّـلـْطـَـان ِ صَـوْمَـعَـتـي

أنـَــا  الـمـُشـَـــرَّدُ   بَـيـْــنَ  الـــرُّوح ِ  و  الـحِـــسِّ  !

وهنا لا بد أن نقول بأسى أن كاتب الشعر عن تلك الروح المشردة بين الروح والحس قد كتبت في الغزل بطريقة فجة والمذهل فيها أن أشعاره الغزلية أكثر حسية – وربما وقاحة- من أشعار نزار قباني و إن فاقتها الأخيرة في الشاعرية.

انظر مثلا إلى قوله:

أدمنت شفاهك دانية.. أمست لي كالكرم المقطوف..

أدمنت شفاهك أمنية .. تقبيلا أو نطقا لحروف..

وانظر أيضا قوله:

فـَاجَـأتـْـنــِــــــي  فــِــي  لـَـيْـلــَــــــةٍ   بـِـزيـــَــــارَة ْ

مِـثــْـــلَ  حَـقــْـــل ٍ  بــُـــور ٍ  حَـبَـانــــي  ثـِمــَــارَه ْ

قــُلــْـتُ :" أهـْــلا ً" ،  فـَأقـْـبَـلـَـتْ . . . و  تـَثـَنـَّــتْ

و اسْـتـَقــَــــرَّتْ  عـَلـــى   السـَّريــــر ِ  إثــَــارَة ْ  !

وَ  دَعَـتـْـنـِـــي   كـَأنـَّـنــِـــي   فــِــي   فِــرَاشـِــــــي

طِفـْلـُهَــــــا  أعْـطـَاهـَــــــا  سَـعِــيــــدَا ً  قــَــرَارَه ْ !

ثــُــــمَّ  ألـْقــَــــتْ  حِــذ َاءَهــَـــــا !  و حُـلـِـيـَّـــا ً! !

و رَمَـتـْـنـِـــــــي  بـِنـَظــْــــــرَةٍ   مَـكـــَّـــــارَة ْ ! ! !

فـَتـَقـَدَّ مـْـــــــتُ  و  انـْتـَصَـبــْـــــــتُ   وُقـُوفــَــــــا ً

مِـثــْــلُ  جَـيـْــش ٍ  يَـكـَــادُ  يَـبـْـــدَأ ُ غـَــارَة ْ . . . !

و  تـَحَـسَّـسْـــــتُ  فـــي  الـظــَّــــلام ِ  طـَريـقـِــــــي

ثــُـــــمَّ  أدْرَكـْــــــــتُ  غـَايَـتــِـــــــي   بـِجــَـــــدَارَة..

قد أردنـــا لــــقـــــاءنا هــــــمــــجــــيــــــــــــــــا..

فـــــــــــــأعــدنــا تـعـــريف معــنى الحضـــارة..

فــــامــــــتزجـــــنا وغمـــــدها ضـــــم ســـيفي..

وتحـــــــــاورنـــــــــا ..خـــــــــبرة ..وبـــكـارة..

***

أظن أن الأوفق ألا أكمل القصيدة لأنها وصف لفظي بشع لفعل كامل بكل تفاصيله فكأن القصيدة فيلم من أفلام العري لا يشذبها -حتى لذر الرماد- قيمة معنوية.. أتوقف عن الإكمال حياء.. واشمئزازا.. لكنني أنبه القراء أن هذه القصيدة ليست الأكثر بذاءة.

تساءلت في حزن وفي أسى: هل يجمع الشاعر قلبين في جوفه..

قلب صنديد وقلب عربيد؟

قلب مجاهد وقلب صائد؟!

فكيف كيف كيف كيف؟!

المحزن أن هذه القصيدة لم تأت في بواكير عنفوان الشباب والطيش والنزق، بل هي في الديوان الخامس: "على المكشوف الصادر عام 2006 عن دار الشاهر للنشر والتوزيع.

لشد ما أنا حزين.. ولشد ما انطفأت حماستي للشاعر..

أمن أجل هذا يرحبون به.

لكن..

في الجزء الباقي من المقال سيجد القارئ ما يجعل الحليم حيران..وما يجعله يدرك لماذ قلت في مقال سابق أن عبد الرحمن يوسف ليس الثورة.. بل هو الثورة المضادة..أما الثورة فهي أبوه!!

البقية في العدد القادم إن شاء الله



 

الشاعر عبد الرحمن يوسف الــ..!!

 

2/2

نعم .. لأن الثورة هي الإسلام والإسلام هو الثورة فإن  عبد الرحمن يوسف يمثل  الثورة المضادة وليس الثورة.. فالثورة هي أبوه!!..

أتساءل  في حزن وفي أسى: هل يجمع الشاعر قلبين في جوفه..

قلب صنديد وقلب عربيد؟

قلب مجاهد وقلب صائد؟!

فكيف كيف كيف كيف؟!

 انطفأت حماستي للشاعر..

أمن أجل هذا يرحبون به.

لكن..

فلنتابع باقي شعره

***

في (الـصَّـــــلاة ُ  الـخـَـامِـسـَــــــة ُ) من صلوات الملحد يقول الشاعر معاني بالغة الخطر:

تـُريــــدُ   فـَهـْـــمَ   كـَـلام ِ  الحـَــق ِ   يـَــا   وَلــَــدُ  ؟

تـَفـْسِـيــرُ  جـَـدِّكَ  ؟  أمْ  تـَفـْسِـيــرُ  مـَـنْ   وَفــَـدُوا ؟

لــَـوْ  أنَّ   رُوحـَــكَ   للأجـْـــدَادِ   مـَــا   خـَضـَعــَـــتْ

لـَمـَـا   وَجـَدْتَ  كِــلابَ  الأرْض ِ  قــَـدْ  عـُبـِــدَوا  ! ! 

هـَــذي  الـتـَفـَاسِـيـــرُ  - لـَــوْ  دقـَّـقـْــتَ -   بَـاطِـلـَـة ٌ

و جَـــذ ْوَة ُ  الـشـَّـــكِ  فـي   جَـنـْبَـيـْــكَ   تـَتـَقــِّـدُ ! !

***

يا رب.. لا تجعل دوري معه كدور الشهيد سيد قطب مع عبد الله القصيمي.

كانت كل المحافل تلهج بالثناء على المفكر السعودي الكبير عبد الله القصيمي.. ووحده انبرى الشهيد سيد قطب ليحذر من الرجل ومن فقر فكره ومن الكفر الذي يفوح بين ثنايا أعماله.. ولم تكد تمر سنوات قليلة حتى انفجر الكفر عاتيا وهمجيا ليجاهر الشاعر به بعد أن انقلب على دينه و أهله فاحتفل به الكفار في العالم أيما احتفال.. أما مصر التي احتضنته ورعته وحرسته ونشرت فكره.. فقد قتلت سيد قطب!.

عندما قررت أن أكتب عن الشاعر عبد الرحمن يوسف  كان دافعي إلى ذلك أمور كثيرة.. أولها أنه تشريف لأي كاتب أن يقدم شاعرا ويعرض بعض عمله، وثانيها أن واجب الكتاب الذي تخلوا عنه عندما تحولوا إلى كتبة هو أن ينقلوا الثقافة للناس فيعرضون ما يعرضون، ويفسرون الصعب ويسهلون الممتنع، وبهذه الطريقة يتثقف الناس ويعلو مستواهم الإدراكي،  ولقد كنت حريصا على ذلك في كتاباتي السابقة في صحيفة الشعب حيث قدمت كثيرا من الشعراء والكتاب العرب والأجانب في عروض مسهبة، الكتابة عن الشاعر عبد الرحمن يوسف إذن واجب علىّ أداؤه و أكون آثما إذا نكصت عنه.

السبب الثالث جاء عرضا، ولم يكن مقصودا.

لقد تكلمت عن الشاعر عبد الرحمن يوسف ولم أذكر بقية اسمه، فمن المعروف أنه لا يحب أبدا ذكر اسمه بالكامل، لكن الأمر أصبح مشاعا الآن بحيث لم يعد الإخفاء يجدي ولم يعد من الممكن أن يستمر.

أما اسم الشاعر بالكامل فهو:

عبد الرحمن يوسف القرضاوي.

نعم.. وليس تشابه أسماء.. فالشاعر نجل أستاذ العلماء وعالم الأساتذة الدكتور يوسف القرضاوي.

وكان هذا النسب يزيدني كما يزيد الشاعر تشريفا على تشريف.

قيل لي أن الشاعر لا يريد لاسم أبيه الضخم أن يكون واسطة بينه وبين الناس.. و أنه يريد من القراء أن يقيموه لشخصه لا لنسبه.

كان يمكن لهذا الأمر أن يستقيم مع أي أب آخر غير الدكتور يوسف، فكلنا يفخر بتأثيره علينا ،  بل والعكس صحيح، فإنه يشيننا ألا نكون قد تأثرنا به.

يوسف القرضاوي ليس شخصا ولا هو مجرد أب.. إنه جامعة عملاقة ومؤسسة هائلة تزيد من ينتمي إليها ولا تنقصه، بل ويفخر الناس بتأثيرها عليهم ولا يهربون منها.

كانت بنوة الشاعر لشيخنا العلامة تمنحني مزيدا من السعادة والشرف- لكنها لم تكن بأية حال دافعا-.

لكن هناك أمرا آخر له صفة الخصوصية كان يدفعني إلى التعجيل بالكتابة التي لم يؤجلها سوي سلسلة كتاباتي –وكتابي- عن الإخوان المسلمين، والتي حوت فصولها الأخيرة انتقادا شديدا للشيخ القرضاوي بسبب هجومه على الشهيد سيد قطب، ولم يدرك كثير من العلمانيين وقليل من السلفيين كم أحب الرجلين كليهما، و أن انتقادي للشيخ كان دافعه أنه لا يليق بي في كتاب عن الإخوان تتجاوز صفحاته الألفين أن أصمت عن انتقادات الدكتور القرضاوي العنيفة للشهيد، كان صمتي سيعني إقرارا بالموافقة أو على الأقل عجزي عن المواجهة، وعن ضعف دفاعاتي عن الشهيد. رددت علي شيخنا، الذي أتعلم منه و أعارضه، و أحبه الحب كله ثم أقسو عليه في المواجهة عندما أختلف معه، وفي المقالات الأخيرة، حدث فور نشرها أن أصيب بوعكة في الجزائر، واعتصر الألم قلبي، حتى لقد كبحت دموعي. ورغم أنني لا أسحب كلمة واحدة مما كتبته في الرد على شيخنا و أستاذنا وعالمنا إلا أنني كنت شديد الرعب من أن يحين أجله وهو غاضب مني أو ناقم علىّ، خشيت أن أكون قاب قوسين من الجنة فيدفعني غضبه علىّ عنها، قلت لنفسي أن الأمر ليس أمر معادلات رياضية يكون الأمر فيها بالحساب الدقيق، وخشيت أن أكون قد أخذت ذنوبه و أخذ حسناتي. وكنت أريد فرصة أقول فيها للقراء كم أحب هذا الرجل و أحترمه و أثق فيه، وقلت لنفسي أن هذه الفرصة المتاحة للكتابة عن الشاعر عبد الرحمن يوسف قد تكون تحية غير مباشرة.

أريد أن أكون واضحا في أمرين: أنني كنت سأكتب عن الشاعر سواء كان ابن الدكتور القرضاوي أم لم يكن، والأمر الثاني أن هذه الكتابة التي نويت منها أن تكون تحية للدكتور القرضاوي لم أقصد منها أن تكون اعتذارا بأي شكل من الأشكال.

أقول نويت أن يكون المقال تحية.. ولكن.. وتقدرون فتسخر الأقدار.. ذلك أن الأمر يوشك أن ينقلب إلى ضده، ويوشك الأمر أن يكون شكوى أقدمها ضد الشاعر إلى أبيه.

هل صحيح أن الشاعر يخشي أن يقدره الناس تبعا لأبيه أم أنه قدر أنه و إن كان ابن العلامة فإنه ليس من أهله.

***

كنت مندهشا ومنزعجا من علاقات الشاعر باليساريين ومن كثير من الألفاظ والمعاني التي يستعملها. فلنقرأ مثلا في قصيدته "الـبَـحــْـــثُ عــَــن ِ الـــــذ َّاتِ":

و أبْـحَــثُ  طـُــولَ  الـَّـلـيْــل ِ عَــنْ  نـُـور ِمِـشـْكـَـاة ِ

يُـنِـيــرُ طـَريــقَ الـعَـقـْـل ِ فـي الـبَـحْــثِ عَــنْ  ذاتـي

كأ ُسْـطــُـــورَةٍ  بَـلـْهـَـــــاءَ  تـَبـْــــــدُو خـَواطِــــري

و أبْـــدُو بـأ ُفــْــق ِ  الـحَــقِّ . . . نـَجْـــمَ  خـُرَافـَـاتِ

أعِـيــشُ  عَـلـى  مَــاض ٍ مِـــنَ  الـحُــزْن ِ هَــدَّنــِـي

و أسْـوَأ ُ مِــنْ  مَـاضِـيَّ . . . خـَوْفـي مِــنَ  الآتـي !

ثم واصل القراءة في ذات القصيدة:

بـِدَايَـــاتُ  هـَــــذا الـكــَـــوْن ِ أجْـهَــــلُ  شـَكـْلـَهَـــــا

و هَـيْـهَـــاتَ  أنْ  أحْـظـَــى  بـشـَكـْــل ِ الـنـِّهَـايـَــاتِ

فـَكـَيْـــــفَ  و جَـهْـلـــي  بـالـحَـقِـيـقــَــةِ  مُـطـْبـِــــقٌ

أ ُعَـانِـــقُ  فــــي الإظــْــلام ِ بَـعْـــــضَ  إضَــاءَاتِ ؟

ولنلاحظ هنا  ضياع اليقين في أتون فلسفة الشك التي انتشرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر كجزء شيطاني يهودي ماسوني من مخطط القضاء على منظومة الدين، ويتبناها العلمانيون حتى الآن.

وقبل أن يجابهنى العلمانيون بأنني أخرج عن أصول النقد و أن النقد يجب أن يكون من داخل العمل لا من خارجه أرد عليهم أنني لا أخرج عن أصول مدارسهم النقدية فقط بل ألفظها و أسحقها سحقا. ذلك أن هذه المقاييس هي مقاييس الحداثة التي تنفي الدين في النهاية نفيا شاملا. لقد جعلوا من نصوصهم و أصول نقدهم العلمانية الحداثية قرآنا لا يجوز الخروج عليه أو نقده كما لا يجوز لغيرهم تفسيره، فعلوا ذلك –قاتلهم الله- في الوقت الذي جعلوا فيه القرآن كتاب الله هدفا لطعنهم. وبمنتهي الصلافة والشر والوقاحة وضعوا شروطا لكي يعترفوا بنا كمسلمين، وكان فحوى هذه الشروط أن نقر بالكفر قبل أن يعترفوا بحقنا في أن نكون مسلمين. إن بعضهم وهو كافر بما أنزل الله يريد أن يحدد لنا شروط إيماننا، بل إن موقفهم قاتلهم الله ولعنهم هو نفس الموقف الصليبي المتعصب الذي صدر من بابا الفاتيكان وعصبته، من أن الإسلام دين إرهاب، ومن أن محمدا صلى الله عليه وسلم  لم ينشر سوى الإرهاب والجهل والخرافة والقسوة، وقد نشرها بالسيف، وأن الحد الفاصل الفارق الذي يفرق الإرهابي عن غير الإرهابي هو الإيمان بالقرآن، وتفصيل ذلك أن جميع من يصرون على أن القرآن كلام الله حرفيا هم الإرهابيون، و أن غير الإرهابيين هم الذين يقرون بعكس ذلك، الذين يقولون أن القرآن منتج ثقافي بشري يجوز تعديله بل يجب تعديله وتغييره. هذا ما يهمسون به أحيانا ويصرحون به أحيانا أخرى، حيث تقوم طلائعهم مثل نصر حامد أبو زيد والقمني و خليل عبد الكريم  بترويجه والدفاع عنه.. وتقوم الجوقة العفنة بالترويج لهم.

قد أحترم العلمانيين في الغرب لأنهم أبناء شرعيون لثقافاتهم وتواريخهم، أما العلمانيون في بلادنا فليسوا أبناء شرعيين لحضارتنا ،ما مخضتهم بطون نسائنا ولا آباء لهم عندنا، وهم نبت مستورد والفرق بين العلماني الغربي والعلماني المحلي كالفارق بين الحبيبة والعاهرة، الأولى تريد وتحب، أما الثانية فتبيع وتكذب.

أكرر القول أن إقرارنا بالكفر شرط لاعتراف النخبة العلمانية الدنسة  بحقنا في الإسلام.. على كافة المستويات.. في السياسة والثقافة.. في الحرب والسلم.. وفي كل تفاصيل الحياة,  ولتلاحظ أن هذا الموقف، الموقف البابوي، هو نفس موقف الغرب منا، و أن الشروط هي ذات الشروط، و أن النخبة الخائنة، ونخبة المثقفين اليساريين العفنة، وهي ليست إلا الطابور الخامس، تؤيد ذلك وتشجع عليه، بل وتفعل ما هو أكثر، لقد نصّب الصليبي واليهودي والمشرك طواغيتنا حكاما علينا، ونصّب هؤلاء الطواغيت نخبة المثقفين حرسا علينا و أعطوهم مفاتيح المدينة ، ولأن يلج كاتب ميادين الشهرة والنشر والاحتفاء دون معونتهم وإذنهم أصعب من أن يلج الجمل في سم الخياط. إنهم بالطبع لا يفعلون ذلك مباشرة، ولكنهم عن طريق وسائل النشر والنقد والإعلام والشهرة، لا يقرظون عملا إلا إذا احتوى على اجتراء على الثوابت وامتهان لألفاظ الذات الإلهية وسب للرسول صلى الله عليه وسلم و إنكار للمعلوم من الدين بالضرورة، وترك الإجماع للخروج بمفهوم جديد للدين، يمحو رسمه ويبقي اسمه.

لقد بلغ انزعاجي مبلغا عظيما عندما قرأت قولا للشاعر في أحد لقاءاته: " أنا لا أعتقد أن فهمنا - نحن المسلمين - للإسلام يعتبر فهما صحيحا ! ! ! لقد تراكمت المفاهيم الخاطئة . . . و استمرأ الناس الخلل في الأولويات الدينية بحيث صار الدين مخدرا . . . لا باعث نهضة . . . و محرك التحرر . . . !

آآآآآآآآآآآآآآآآآه..

أنت الذي تقول ذلك يا ابن من حمل على عاتقه تصحيح المفاهيم الخاطئة وهداية الناس..

أنت يا ابن القرضاوي من يقول هذا التعبير الماركسي الفج – مهما تأولت وفسرت-: " صار الدين مخدرا .. لا باعث نهضة .. و محرك التحرر"..

وا أسفا عليك.. ولهف قلبي على أبيك في مصيبته فيك إن صدقت هواجسي وظنوني.

لا أخفي على القارئ أنني شديد الانزعاج من نماذج كجمال البنا وجهاد عودة وعبد الله القصيمي، وعشرات النماذج الأخرى التي أعرفها لكن لا يليق التصريح بها ما لم تجاهر.. فمع هذه النماذج تدرك الأجهزة المختلفة ومنها أجهزة الأمن أنها أمام صيد سمين ثمين.. فتتقدم  لتلقي شباكها حول ذلك المنتمي لشخصية إسلامية كبري،  وتضع أمامه مجموعة من العراقيل كي تردعه عن السير في طريق ما  ومجموعة الجوائز كي  تدفعه للسير في الطريق الذي تريده أن يسير فيه.. تماما كما كان بافالوف يعمل بحيواناته فيعلمها بالثواب وبالعقاب أن تسير أنى شاء أو أن تتجنب السير حيث ما شاء.. فلكأن هذه الأجهزة وهؤلاء العلمانيون الأشرار يفعلون ما كان يفعله الشيطان أو الساحر العجوز في الأساطير الشعبية..  عندما يشرعون في تعليم السحر لأحد  ممن أضلوه عن دينه فاتخذ إلهه هواه، تقول الأسطورة أن الشرط الذي كان الساحر العجوز يضعه أن يذهب من يريد تعلم السحر فيتوضأ باللبن ويدنس المصحف ويكفر بالله. فتلك هي القاعدة الأساسية لتعلم السحر.

شياطين الثقافة في بلادنا يفعلون نفس الشيء.. اذهب واخرج عن الإسلام أو على الأقل تجرأ عليه وسوف نمنحك صك الاعتراف والمال والشهرة والمجد وفرص النشر الواسعة والاحتفاءات الهائلة في الاحتفالات التي لا تنقطع.

صرخت: اللهم احم عبد الرحمن يوسف القرضاوي منهم.

***

في قصيدة : "خـَـلـْـــفَ  الـقـُضـْبـَـــان" يقول الشاعر:

كـُلـَّمـَـــا  أدْنـُــــــو  مِـــــــنَ  الـحَـــــقِّ  ابْـتـَعـَـــــــدْ

و انـْجَـلـَـــى  الـلـيْــــلُ  و عَـقـْـلـِـــي  مـَـــا رَقـــَــــدْ

وفي قصيدة "أمــَـــامَ  الـمـِـــــرْآة ِ" يقول:

وَحـْـدِي . . . و أطـْيـَـافُ  أحْـبـَابـي عَـلى  الـشـُّـرَفِ

و الـشـَّـكُّ  يَـغـْــزُو  يَـقِـيــنَ الـقـَلـْـبِ  فـي  صَـلـَــفِ

وفي قصيدة "الـبَـحــْـــثُ عــَــن ِ الـــــذ َّاتِ" يقول :

بـِدَايَـــاتُ  هـَــــذا الـكــَـــوْن ِ أجْـهَــــلُ  شـَكـْلـَهَـــــا

و هَـيْـهَـــاتَ  أنْ  أحْـظـَــى  بـشـَكـْــل ِ الـنـِّهَـايـَــاتِ

فـَكـَيْـــــفَ  و جَـهْـلـــي  بـالـحَـقِـيـقــَــةِ  مُـطـْبـِــــقٌ

أ ُعَـانِـــقُ  فــــي الإظــْــلام ِ بَـعْـــــضَ  إضَــاءَاتِ ؟

***

ربما أدرك أن الشاعر لا يعبر عن نفسه في عمله الفني الإبداعي، لكنني في نفس الوقت أملك من الخبرة ما أميز به بين الظل والأصل. كما أن ما يهمني في الشاعر هو المجاهد وليس الفن من أجل الفن، ما يهمني فيه أنه كتيبة رماة، أو صواريخ تنطلق منها كلمات الحق عند سلطان جائر فيدخل الشاعر الجنة.

وليس الأمر أمر اقتناعات شخصية من حق كل واحد أن يختارها دون التفات لسواه، و إذا كان الشاعر يقول أنه منح نفسه كلها للشعر حتى أصبح حالة شعرية، أفلا نملك أن نقول أن علينا أن ننذر أنفسنا كلها لله كي نكون حالة إيمانية.

الأمر ليس اختلافات مشروعة في الرؤى بل خللا لا يستقيم الأمر معه أبدا، فالإنسان لا يمكن أن يكون كاتبا مبدعا ولا حتى مثقفا دون أن تكون له وجهة نظر شاملة في الحياة ينتظمها خط واحد متسق. وأنى للإنسان الذي فقد بوصلة حياته أن يعرف الشرق من الغرب أو الشمال من الجنوب. و أني لمن يجهل بدايات هذا الكون ونهاياته ومبرراته أن يعرف بداياته هو نفسه ونهاياته ومبررات تصرفاته  في حياته.

هل يمكن مثلا أن نتصور عمر الحمزاوي في شحاذ نجيب محفوظ يقوم بعمل استشهادي، أو أن كمال أحمد عبد الجواد – في الثلاثية- يشكل جماعة إرهابية؟  أو أن ميرسو، بطل رواية الغريب لألبير كامي يتزعم جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان، وهل يمكن أن نتصور "ليبولد بلوم " بطل رواية عوليس للكاتب الأيرلندي الشهير جيمس جويس رئيسا لعصابة صهيونية إرهابية؟ وهل يمكن أن نتصور كتّابا كصلاح عيسى أو جمال الغيطاني أو يوسف القعيد يضحون بوظائفهم ووضعهم من أجل قضية عليا أو مبدأ أسمى؟. وهل يمكن أن نتصور واحدا كفؤاد علام يتوب ويئوب فيسارع بالاعتراف طالبا تطبيق القصاص عليه كي ينجو من عذاب الآخرة؟!.

أريد أن أقول أن المثقف، والمبدع بصورة أولى، يملك تصورا شاملا للكون، ومن هذا التصور تتحدد مواقفه، و أن الشاعر، أو الإنسان الذي لا يعرف بداياته من نهاياته، الذي لا يعرف من أين جاء ولكنه أتى عندما وجد أمامه طريقا فمشى، لا يملك مقدرة اتخاذ موقف، وعليكم أن تخبِّروني ماذا يرغم هذا الإنسان الضائع على القيام بعمل قد يفقد فيه حياته.

أريد أن أقول أن معرفة البدايات والنهايات، بل اليقين بها هو الذي يجعل لتصرفاتنا معنى وقيمة.

ولا معنى ولا قيمة لمن يفقد حياته وهو يواجه السلطان الجائر بكلمة حق بينما هو في الأصل لا يؤمن بالله أو يشك في وجوده، بل إن الفعل الاستشهادي يفقد منطقه وعقله ليصبح جنونا مطبقا، و إرهابا بلا مبرر، نعم، جنون مطبق،  وتلك هي نظرة الصليبيين واليهود والمشركين وخدمهم من علمانيينا  إلى المجاهدين منا، سواء بالقلم أو بالدم.

وبصورة أخرى أريد أن أقول أن الهجوم على الطاغوت  واستنكار الظلم والقسوة والتعذيب والتزوير والخيانة لا يمكن أن يكون له معنى إلا إذا رجعنا إلى مرجعية مطلقة تجعل من الظلم والقسوة والتعذيب والتزوير والخيانة أمورا شائنة وكريهة.

ما الذي يجعل الصدق نبيلا والكذب وبيلا إلا أن الله أمرنا بالصدق وحرم علينا الكذب. هل يمكن للقيمة الإنسانية المجردة أن تصل إلى هذا، بالطبع وفي الواقع مستحيل، أعني من هذا كله، أن الضائع الذي لا يعرف البدايات ولا النهايات ليس لديه أي مبرر لأن يهجو السلطان أو أن ينتقد فعله، لأنه لا مقياس لديه يمكن القياس عليه، وهذا المقياس ليس إلا اليقين بالله، ومنه، من الله تنبع كل قيمة نبيلة في هذا الوجود، ومنه، من الله، نستمد المقياس، وبدونه لا معنى لشيء ولا مقياس لشيء وبدونه كل شيء مباح. وبدونه يصبح الطاغوت على حق ويصبح المجاهدون حمقى فقدوا حياتهم من أجل لا شيء، وبدونه يصبح بوش المجنون حكيما وعاقلا لأنه دمر العالم كي يسيطر على البترول لبلاده.

نعم إذا فقدنا المقياس وغام أمام أعيننا اليقين فلا معنى لشيء ولا قيمة لشيء ولا مبرر لشيء.

***

لقد تحدثت كثيرا عن الحصار المفروض حول الشاعر، الآن أدرك أنه كان شبح حصار، بل إن بعض القنوات التلفازية الرسمية استضافته، كانت الغواية على أشدها، وكان قد حصل على تأشيرة مؤقتة للدخول بعد أن استعمل ألفاظا ما كان له أن يستعملها.

***

إنني أريد أن أؤكد أن في الديوان ومضات إيمان مبهرة، و أنني لا أشكك ولا أشك في إيمان الشاعر، ولكنني أرى حجم الغواية فأحذّر.

ربما يتساءل القارئ الآن عن النماذج التي جعلت من هذا المقال مقالا أراني الله فيه عجائب قدرته، إذ بدأته أنتوى أمرا، وأقصد اتجاها ثم شاء الله أن أسير في عكسه، ولقد نكصت عن الاستشهاد  بمعظم هذه النماذج، نكصت عنها بسبب الحياء أحيانا والخجل أحيانا، لكنني في معظم الأحول كنت أتغاضى عل الشاعر يملك تأويلا يبعده عن مرمى النار في الدنيا وعن جحيمها في الآخرة، وكنت أقول لنفسي لعلها نزوات  أو نوبات سرعان ما تزول، كما كنت أقول دع الباب مواربا فلربما يأتي غدا كي ينكر أو يستنكر ما قال، وتجاوزت – في هذا الإطار- عن هنات وكبائر، وأغمضت عيني عن غزل غير عفيف يتفجر بالرغبة المسعورة في تحرير المرأة من أزرار ملابسها – على حد قول الشاعر!- و أغمضت عيني عن  استعمال ألفاظ لا يستلزمها السياق كاتهام الحاكم الطاغوت أنه يطعم أهله البراز، أو كاستعمال كلمة (عرص) وهي كلمة دارجة ( والحق أنني لا أعلم معناها ولكني أتصور أنها بذيئة) ،  وكذلك المبالغة والتكرار الشديد في تشبيه العلاقة بين الحاكم والطاغوت والشعب بعلاقة شذوذ، ولأنكي تجسيد التشبيه بصورة تدعو للتقزز والخجل.

لن أحاسب الشاعر على أي من ذلك.. ولن أحاسبه حتى على أنه في جرأة طائشة سمى موقعه :"الرحمن" وليس موقع عبد الرحمن مثلا.. قد أتجاوز عن ذلك كله وعن ما هو أكثر منه.. ولكن واقعة واحدة لا أستطيع تجاوزها أبدا.. ولا أستطيع أن أسامحه فيها أبدا.. رغم أنها تمثل الذروة الطبيعية لما قبلها.. والنهاية المنطقية لمقدمات سبقت واجتراءات اقترفت.. لكنها في هذه المرة فاقت وفاحت بحيث لا يمكن تجاوزها أو تبريرها بأي شكل من الأشكال.

 ولكن هل يجوز أن يقول في صفحة 68 من ديوانه الرابع لا شيء عندي أخسره :

هم أقنعوك بأن الأرض قد سجدت..

من تحت إستك ..إست الواحد (الأ...)..

هل كان يليق في هذا السياق أن يرتكب الشاعر إثما لا أعرف كيف يواجه به ضميره.. والناس وأباه..

وكيف يواجه الله به يوم القيامة..؟

 هل كان يليق أن يضيف كلمة(الأحد) بعد كلمة (الواحد ) في بيت الشعر السابق.

يا إلهي..

الواحد الأحد..

وفي هذا السياق

هذه الجرأة في اقتحام الألفاظ البذيئة مجاورة للفظ الجلالة..

أنا أعرف أنه يقصد الطاغوت بكلام"الواحد الأحد"..  وحتى في إطار هذا القصد فإنني لا أستسيغ مهاجمة الطاغوت بهذه الطريقة..

ولكن كيف يمكن استساغة هذه الجرأة الوقحة بترداد ذلك اللفظ في حضرة لفظ من ألفاظ الجلالة.. وكيف يتأتى لقلب اقترف صاحبه هذه الخطيئة أن يخشع.. وكيف يتسنى لذلك الصاحب أن يركع.

***

عندما وصلت إلى هذا الجزء في قراءتي اشتعل قلبي بالإشفاق على شيخنا الكبير القرضاوي .. وخفق قلبي الحزين المجروح بالتعاطف معه، لقد كان جزءا مما أريد بعد تحية الشاعر أن أحيي أباه العظيم..

ولكن ها هو ذا كله يتلاشى فما الداعي لنشر المقال إذن.

و غلب علىّ ألا أنشر هذا المقال فقد انهارت الكثير من ركائزه.. لكنني سرعان ما أدركت أن نشره– للتحذير- أوجب.. تحذير الشاعر حتى يعود إلى صوابه مدركا عمق الهوة التي وقع فيها.. فإن لم يعد عن غيه فتحذير الناس منه.

وفجأة وجدتني أصيح دونما صوت:

-    والله إن كان يقصدها لأنكلن به كما نكلت بحيدر حيدر..فإن كان سيدي وحبيبي ومولاي سيقطع يد فاطمة لو سرقت فاطمة فما أولى بي أن أقطع لسان من يجترئ على الذات الإلهية حتى لو كان ابن القرضاوي.

ولقد خشيت أن أنكص عن كلمة حق، حبا في شيخنا الكبير و إكراما له ومراعاة لخاطره، لذلك عدلت عن النكوص وكان واجبا عليّ نشر المقال..

***

الأمر يتعدى حدود الواقعة كي يكون رسالة لكل مبدع ولكل مثقف ولكل مسلم.. يتعداها لكي يشمل نقطة جوهرية هامة لا يتسع هذا المقال لها، هذه النقطة هي مروق الأبناء من الإسلام مروق السهم من الرمية.. وخصوصا أبناء و أقارب كبار الإسلاميين.. ليس مجرد المروق بل واتخاذهم قواعد لقصف الإسلام نفسه.

***

كنت في المسجد الحرام.. ذهلت من الآية فكأنما لم أقرأها قبل ذلك في حياتي أبدا، فرحت أتلوها و أكرر تلاوتها  و أنا أبكي و أنتحب :

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (17)الأحقاف..

والآن..

كأنني أرى الدكتور يوسف القرضاوي يبكي وينتحب..

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

بعد مائة عام..!!