العسكري الأسود

 العسكرى الأسود

عرض وتقديم د محمد عباس

نشرت في الشعب وفي الأسبوع وفي كتاب بغداد عروس عروبتكم منذ 25 عاما

العسكري الأسود، رواية دامية ليوسف إدريس لم يفكر أحد أن يحولها إلي فيلم سينمائي، رغم أن الإنسان في يوسف إدريس قد جبن عن المواجهة الكاملة، فقدم روايته بما يفيد أن أحداثها قد وقعت في عهود سابقة…

أبطال الرواية القصيرة الدامية هم : الراوي والدكتور شوقي، وهو طبيب اعتقل وتعرض للتعذيب لكنه الآن يعمل رئيسا للراوي فى أحد مكاتب الصحة، وعبد الله التومرجى وعباس محمود الزنفلي : العسكري الأسود..

ولست أنقد العمل الأدبي، و إنما أترك لكم الحروف والكلمات والجمل شواظ نار تحرق، و أمام جلال الألم الوحشي المجنون لا أجرؤ ولن أجرؤ على التعليق…

الراوي يعمل طبيبا مع الدكتور شوقي  في مكتب حكيمباشي المحافظة:  شوقي ذو الصفات الغريبة التي يقر أنه لا يفهمها.. إن عبد الله التو مرجى يلقي  في بداية الرواية بجملته القنبلة التي قلبت كل شيء رأسا إلى عقب :

- ده خلاص يابيه . . . الراجل بقي يهبهب زي الكلاب ويعوي زي الديابة..

ويتساءل الراوى عن الذي يعوي كالذئاب ويهبهب كالكلاب، فيقول التومرجى عبد الله:

إنه عباس محمود الزنفلي :  العسكري الأسود …

ويشير حيث  يرى الراوى( يوسف إدريس ) الدوسيه الضخم الخاص به إلى مكتب رئيسه وزميله الدكتور شوقي…

يتحدث الراوى عن شوقي: الصامت . . . الغريب . . . الكئيب ... يحاول هو والزملاء استخلاصه من الحالة التي انتابته بعد خروجه من السجن، فليس شوقي من تدفعه بضعة شهور من السجن للتنازل عن آرائه، إنه واثق أن شوقي ليس كذلك، رغم أنه يقابل كثيرا من زملاء السجن  الذين كانوا متحمسين و قد خرجوا وقد طلقوا السياسة والوطنية وكل ما يمت إليهما بصلة..

***

… شوقي ليس شوقي، وذلك البريق في عينيه كان قد اختفي وكأنما اجتث من جذوره، بل لم يبق لعينيه حتى اللمعة التي تميز كل كائن حي، ليست عينا شوقي فقط ما تغير، الصوت أيضا، وثمة نظارة، ليست النظارة الطبية بل تلك التي تركب للخيل لكي لا تري إلا في اتجاه واحد…  عصي هو على أي محاولات للفهم…  هل تغير ؟؟ لاح لهم أنه لم يتغير… ولكنه أصبح بالتأكيد إنسانا آخر غير شوقي الذي عرفوه… إنه يخاتل وينافق ويكذب باستمرار وبلا سبب وبطريقة ساذجة مكشوفة تدفع للاشمئزاز، وحتى يسرق المرضي.. إنهم يكتشفون أنه يسرق أيضا زملاءه في بيت أطباء الامتياز… هل هذا هو شوقي الزعيم والبطل المكافح… لا أريد أن أسرد كل ما كان يفعله شوقي في سنة الامتياز أو بعدها . . . العيادات التي افتتحها والنصب والابتزاز والنظرة الأفعوانية الغريبة التي كان ينظر بها إلي المرضي والناس، قاطع عائلته بعد التخرج  وأبي أن يساعدهم بمليم، وكيف  …، ومن  …،  … والطريقة البالغة الشذوذ التي تزوج بها والتي حصل بها على الدبلوم، و … سعي حتى عين في هذه الوظيفة في مكتب حكيمباشي المحافظة، لا ولا بأي أسلوب وحشي كان يعامل رواد المكتب، وخاصة رواده من العساكر طالبي الإجازات، شاهدت مرة عسكري يبكي أمامه بدموع حقيقية، يستحلفه ويرجوه ألا يكتب أنه متمارض حتى لا يحاكم ويخصم من مرتبه أيام، ولا يفعل الرجاء والإلحاح، ولا تفعل الذلة والدموع أكثر من أن تجعل شوقي يبتسم وتومض ملامحه في غبطة، خطورتها أنها كانت حقيقية أيضا . . . كنت أرفض أن أصدق أن بضعة شهور من السجن تحيل إنسانا مهما كان من النقيض إلى النقيض... كان الواقع يؤكد لي أن شيئا هائلا خطيرا قد حدث...أنظر إلى شوقي وأدقق فيه وفي شخصيته فأحس وكأنه مجروح، لا ليس جرحا صغيرا في الصدر أو الرأس وإنما جُرِحَ جرحا شاملا من قمة رأسه إلى أظافر أقدام  شخصيته وأن ما أمامي ليس شوقي ولكنه الندبة الضخمة التي تخلفت عن الجرح . . .

يصرخ الراوى ( يوسف إدريس ) :

-  يا للسخرية، لقد كنا بالأمس نعمل، وأملنا مؤكد أننا سننقذ الشعب كله، فإذا كل منا اليوم غير قادر أن ينقذ نفسه…

ينتبه الراوي من  الذكريات على صوت التومرجى عبد الله  وهو ينصحه بترك حالة المريض الذي يهبهب كالكلاب ويعوي كالديابة إلى الحكيمباشي فمشكلته معقدة…  لكنه يتناول الملف من على مكتب شوقي ويشرع في قراءته:

 رحت أقلب صفحات الدوسيه الكثيرة … أكثر من مائتي صفحة في أولها شهادة ميلاد، وتوافق مضحك أن أجد أن عباس محمود الزنفلي صاحبها وصاحب الدوسيه قد ولد في نفس العام الذي ولدت فيه، والذي يسبق مولد شوقي بأشهر، كنت أتصور صاحب الملف عجوزا أو على الأقل في الأربعين، فإذا به لدهشتي من نفس جيلنا الحائر التعس، مضيت أقلب الصفحات . . خدمته نصفها الأول كله جزاءات تتراوح بين الخصم والتكدير وتقارير تمس السلوك رغم الشهادة المرفقة بالمسوغات والتي يقر فيها اثنان من الموظفين أنه حسن السير والسلوك - ثم فصول أخري تتعدد فيها حركته وتكثر التنقلات والانتدابات، وينتهي بذلك الخطاب المتوج بشعار مجلس الوزراء الذي يطلب نقله إلى حرس الوزراء… ومن تلك الصفحة لا خصومات ولا إنذار وإنما تفاجأ بقرارات بالعلاوات، ثم أمر بترقيته إلى رتبة أومباشي، بعدها قرار آخر بترقيته استثنائيا إلى شاويش، ثم صورة من خطاب شكر وتقدير من وزير الداخلية… ثم صورة من قرار آخر بمنحه نوط الواجب من الدرجة الثانية " تقديرا للجهد المشكور الذي بذله في أداء واجبه والتفاني في خدمة مصالح الدولة العليا"…

وآخر الخطابات كان خطابا أرسلته المحافظة إلى الحكيمباشي تطلب فيه توقيع الكشف الطبي على نفس عباس محمود الزنفلي لإثبات عجزه الكامل تمهيدا لفصله من الخدمة . . . وما كدت أنتهي من إغلاق الصفحة الأخيرة حتى كانت أذني تلتقط أخريات الحوار الذي دار بين شوقي والتومرجي، والأخير يقول وكأنه يهم بإطلاعه على سر :

عارفشي حضرتك عباس محمود الزنفلي يبقي مين ؟

وقبل أن ينطق شوقي أو يسأل، وجدت عبد الله يقول :

- ما هو ده اللي كانوا بيسموه العسكري الأسود يابيه… حضرتك ما سمعتش عليه والا إيه ؟

كنت رغم كل ما كتبته الجرائد عن العسكري الأسود لا أكاد أصدق احتمال وجوده الحقيقي، بل حتى لم أكن قد صدقت عبد الله وهو يؤكد لنا أن عباس هذا هو العسكري الأسود…ويصمت شوقي فيرد هو على التو مرجى :

- جايز . . .

إنما العسكري الأسود كان بالنسبة لنا شيء تاني . . . شيء غير الحاجات الجنسية والكلام الفارغ اللي سمعت عليه . . . شيء تاني خالص..

تحددت الملامح الرئيسية لدور العسكري الأسود في حياة شوقي وزملائه . . . دوره الخطير الثاني الذي لا يمت بصلة إلى الإشاعات الجنسية التي أطلقتها بعض الصحف عليه حين انكشف أمره، وبعد زوال حكم الإرهاب وبداية مراجعة الجرائم التي ارتكبت في ظله، كان عمل عباس محمود الزنفلي هذا أن يضربهم  . . . يضرب بعضهم لكي يعترف، وآخرين لمجرد الضرب،  وهد الكيان بالضرب بمختلف أشكال الضرب، بالعصي، بالكرابيج، بالحذاء، بالنبوت، باليد العارية المجردة... ولم يكن أسود كما وصفته الصحف وأفاضت، كان فقط غامق السمرة ومن الصعيد، وكان مجرد مرآه بالهالة المحيطة به من أبشع القصص يثير الذعر في القلوب، كان طويلا أطول من قامة الكثيرين ولكنه ليس فارع الطول، وكان يبدوا دائما مزهوا بنفسه وبقوته حتى على زملائه…  إذا سلم على الواحد منهم ظل يضغط إلى يده- لمجرد الضغط- حتى يتأوه صارخا ويجثو . . . وحين يضرب كان من يراه لا يظن أبدا أنه يمت إلى الإنسان أو الحيوان بصلة، بل ولا حتى للآلة، فالآلة لا تبدو على وجهها المتعة المتوحشة وهي تضرب… ويا للحظات قدومه ودخوله العنبر ودوران مفتاحه في القفل، كانوا يعرفونها تماما وباستطاعتهم أن يميزوها عن غيرها حتى في الحلم، ويستيقظون -رغم خفوتها- على وقعها ومع كل دورة من دوراتها تدور دوامات سريعة في صدر كل منهم يسقط فيها قلبه ويهوي  . . . تري من عليه الدور؟…صوت خطواته وهو يجتاز الفناء الأسفل-  التسمع الرهيب لوقعها- ، آذانهم وكيف تعلمت، علمها الذعر الأعظم، أن تتركز فيها الحياة كلها ويتضخم دورها لتصبح كل العقل، ولتستطيع أن تميز بين الخطوات الذاهبة إلى زنزانة 7 في الدور الأول والأخرى المتجهة عبر الفناء إلى السلم حيث الدور الثاني…  ومن أول وقع لأول خطوة إلى أول سلمة عليها أن تعرف إلى أي دور في نيته أن يصعد فإذا اختار الدور عليها أن تدرك في ومضة خاطفة أي الزنازين يقصد، كي تعد نفسها إما إلى الرعب الهائل المقيم، أقصي درجات الرعب، وإما استرخاءة مرعوبة هي الأخرى وتنهيدة حمد لله…

ويا لخسة ضربه- ، في الحياة العادية حين يتشابك الناس ويتضاربون ليس هذا بضرب، فإحساس المضروب أن باستطاعته أن يرد الضربة يخفف كثيرا من وقع ما يتلقاه، والألم الذي ينتج عنها يتبخر في الحال ويستحيل إلى حافز يدفع صاحبه للهجوم والانقضاض، بالاختصار أنت لا تشعر بالضرب حين تكون حرا أن ترده  . . . أنت تشعر به هناك حين يكون عليك فقط أن تتلقاه ولا حرية لك ولا حق ولا قدرة لديك على رده... هناك تجرب الإحساس الحقيقي بالضرب، بألم الضرب، لا مجرد الألم الموضعي للضربة أو الألم العام الناتج عنها، إنما بألم آخر مصاحب أبشع... أقوي، ألم الإهانة، حين تحس أن كل ضربة توجه إلى جزء من جسدك توجه معها ضربة أخري إلى كيانك كله، إلى إحساسك وكرامتك كإنسان… ضربة ألمها مبرح لأنها تصيب نفسك من الداخل إصابة مباشرة لا يحجبها أو يخفف منها جلد أو لحم أو عظام أو حرية أو حق الإنسان أن يتصرف كالإنسان ويرد، وهذه كلها دروع لو تعلمون عظيمة.. إن حرية الإنسان، حقه أن يرفض أو يقبل أو يرد الاعتداء، جزء لا يتجزأ من جسده وكيانه ولحمه وجلده وأنسجته الواقية الحية… هي ليست ملابسه أو جدران بيته التي تحفظ عليه ماء حياته كإنسان، وتحميه، وهي التي إذا انتزعت منه لا يموت كما يحدث للسلحفاة إذا انتزع غطاؤها، ليته كان يموت، ولكنه يبقي إنسانا منزوع الحق في حماية نفسه والدفاع عنها، فما بالك إذا كان يرغم إلى أن ينتزع هو بنفسه هذا الغطاء،  وتجبره القوة الغاشمة على السكوت، إلى تلقي الألم والسكوت ،  حين يستحيل إلى كومة عارية من لحم خائف مذعور لا تستطيع أن تعض أو ترفس… عليها أن تتلقى الألم وتسكت عليه، والسكوت على الألم أشد إيلاما وإيذاء من الألم نفسه، خاصة إذا كنت أنت من تتولى إسكات نفسك  ... الضرب، هذا النوع من الضرب حين لا يبقي أمامك لكي تمنع ألمه وعاره إلا أن تحتمل وتصبر، أو تقتل نفسك وتنتحر، عمل لا يستطيعه ويقدر عليه معظم الناس… وحتى إذا قدروا … فقانون الحياة نفسه يرفضه ويمنعهم من إتيانه، إذ كيف يعقل وأنت في موقف تدافع فيه عن نفسك ووجودك أن تشرع في قتل نفسك ومحو وجودك ؟ بالعكس، إن أبشع ما في الأمر أنك لا تحتمل فقط وتصبر، ولكنك تزداد استمساكا بالحياة، وتصل بك حلاوة الروح إلى درجة مخجلة في شدتها وقوتها، وهكذا في مقابل كل ضربة هائلة الألم عارمة القسوة مهينة تتلقاها من الخارج، تنهال من داخلك وذات نفسك ألف طعنة… ألف طعنة….  ألف إحساس مخجل مهين تمزق أحشاءك وتذيب كماء النار روحك، لأنك لا تموت ولا تريد الموت ولا تزال حيا تتمسك ذليلا بالحياة…

والأبشع هو مرآه  … مرأى  الزنفلي عباس  … العسكري الصعيدي الأسود وهو يضرب،  ومنظره يستمتع بتخريب كائن حي وإنسان،  والمضروب يتحول أمامه إلى كتلة اللحم المذعورة التي تصرخ في فزع أعمي فلا يفعل مشهدها أكثر من أن يغريه بالضرب أكثر،  والتمتع بلذة الهدم أكثر،  فيمضي يضرب ويضرب سعيا وراء الفرحة الكبرى،  كمن هدم جزءا من بناء ويسعى بمتعة وحشية كي يأتي عليه تماما…

 الضرب،  ذلك النوع من الضرب، حين يتحول المضروب إلى أنقاض إنسان مذعورة،  أنقاض تتألم وبوعي تحس بنفسها وهي تتقوض إلى أسفل، وبإرادتها الخائفة تمنع نفسها من أن ترد…  ويتحول فيها الضارب إلى أنقاض إنسان من نوع آخر،  وكأنه إنسان يتهدم إلى أعلى،  يسعده الألم الذي يحدثه في ابن جنسه، ويستمتع بإرادة،  وبإرادة أيضا يقتل الاستجابة البشرية للألم في نفسه فلا يكف إلا ببلوغ ضحيته أبشع درجات التهدم والتقوض،  وبلوغه هو أخس مراحل النشوة المجرمة التي لا يستطيعها من المخلوقات جميعها ولا يستمتع بها غير الإنسان المنحط في الإنسان…

وكانوا يقولون أنه حين يضرب يفقد وعيه وصوابه ويصبح كالسكران أو المجنون إلى درجة لم يكونوا يجرءون إلى تركه وحده مع الضحايا، فيلازمه في عملية الضرب رقيبان عملهما التدخل في الوقت المناسب لانتزاع المتهم حتى لا يفتك به عباس الزنفلى … وكانوا لا يستطيعون استخلاصه إلا بصعوبة وإلا رغما عن أنف عباس، وأحيانا بالتكاثر عليه وشل حركته وتكتيفه… ولهذا كان الرقيبان يختاران دائما من عساكر أقوياء أشداء… ورغم هذا ففي مرات كان يحدث أن يثور عباس عليهما ويأبى تسليم الضحية وينهال عليهما ضربا إن حاولا منعه..

****

 ولم يكن سكوت شوقي وعزوفه عن الحديث في السياسة أو مزاولتها مثلا بسبب عقدة نفسية تكونت له أو خوف… كان ما حدث لشوقي شيئا آخر، شيئا يشبه خروج الفراشة من دودة الشرنقة، أو تحول الخشب بفعل النار إلى رماد .. وشوقي الذي  دخل السجن لم يخرج منه، وإنما الذي خرج  شخص آخر له مزايا ومضار أخري، وأقول شخصا كنوع من التبسيط لا أكثر، فالذي خرج إلينا كان كائنا غريبا أخطر ما فيه أنه لا يختلف كثيرا عن شوقي الذي دخل، ولا عن ملايين البشر الذين كان يحفل بهم سطح الأرض حين انضم إليهم شوقي بعد خروجه، فهو يتكلم مثلهم ويغضب ويدبر أمور المستقبل ويحب، وحتي حين يتحاشي الخوض في مواضيع بعينها لا يختلف عنهم . . . الفرق لا يتضح إلا هناك وبعد طول دراسة  ومعاشرة واهتمام غير عادي بالموضوع . . . هناك حيث تدرك مثلما أدركت، أن الخلاف بين شوقي الجديد وبقية الناس يكمن عميقا، أعمق من طبقات التصوف، في الدافع ربما، هناك حيث تدرك أن شوقي وإن ظل في ظواهره بشرا، فهو في حقيقته لم يعد يمت إلى البشر ولا إلى أنواع الآدميين المتعارف عليها من عقلاء أو مجانين أو مرضي أو شواذ، باستطاعتك أن تقول عنه خرج ليكون نوعا جديدا قائما بذاته، إذ قد خرج ليحيا بدافع جديد تماما على الجنس البشري . . . فهو لا يحيا ليتكاثر أو يبقي أو يتطور، وإنما دافعه للحياة كان أن يهرب ويفر، وكأنه لم يعد يري في الجنس البشري كله سوي جن وعفاريت همها أن تنقض عليه وتعقره وتفتك به… هم جميعا شياطين، وهو وحده الإنسان… أو هم جميعا بشر وهو وحده الشيطان الذي يعادونه ويتربصون به ولن يهدءوا حتي يقضوا عليه . . .

ما أغربه من كائن فقد أمنه البشري وكأنما عقره كلب من نفس الجنس، وخيل إليه أنه نفذ بجلده من العقرة الأولي فجند نفسه وحياته ليتحاشي العقرة الثانية، وأصبح لا يري في البشر غير قطيع من ذئاب أو كلاب أو شياطين لا يستطيع أن يهرب من أرضها إلى كوكب آخر، أو يعتزلها في جزيرة نائية…  قطيع يتربص به في كل مكان عليه أن يلقي أفراده في كل وقت، ويحادثهم، ويربط مصيره بمصيرهم، وعليه أن يفعل هذا دون أن يبدو عليه الذعر… عليه أن يسير بينهم كما تمر بالمكان الذي يعج بالوحوش الخطرة ترتجف من الذعر، آذانك منتصبة تتلقي أوهي الأصوات، وكيانك كله مهيأ للجري في أي لحظة… ومع هذا فعليك أن تخفي كل ما بك، عليك أن تسير وتحيا دون أن يبدو منك أقل الخوف...تسير طبيعيا جدا مطمئنا جدا تؤكد نظراتك وتعبيراتك بأنك غير خائف أو مهتم وأنك مبتسم، وأنك فرحان أحيانا وغاضب أحيانا أخري، وأنك مثلهم بشر، أو مثل الكلاب كلب، بل حبذا لو بدوت أقوي وأقدر وأكثر ثقة بنفسك وقواك…  حياتك لا هدف لها ولا خطة ولا إرادة له فيها ولا يريد من خلالها أن يصل إلى أي مأرب بعيد أو قريب، إذ مأربه الوحيد أن يتجنب الخطر المتربص به كل لحظة، إنه يعرفك ويقيم معك الصداقة أو الزمالة إمعانا في الهرب منك، ويحاذبك أطراف الحديث ليلهيك عن نفسك، وينافقك أو يصنع معك معروفا لكي يرشوك، ويعمل في قومسيون طبي المحافظة لكي يفر من البوليس والمباحث حتي ولو كان الفرار إلى قلب البوليس… وهو لإدراكه أنه محاصر بالجنس الخطر في مكان وزمان يواجهه وحيدا، إذا صرخ أو استغاث فلن يخف أحد لنجدته بالعكس سيدركون جميعا أنه وقع ويلتهمونه حيا… لهذا فاعتماده الكامل على نفسه، هو أصدق أصدقائه، وصدره أنسب مكان لأسراره، وعليه أن يعمل جاهدا لكي يبقي أكبر جزء من نفسه بل بكل نفسه ورغباته وحذره وخوفه بعيدا جدا عن الأنظار، داخل نفسه … وعليه أيضا ألا يبدو وكأنه يخفي شيئا، حبذا لو بدا كثيفا لا يظهر منه شيء على الإطلاق  ...حبذا لو احتوي كل دنياه داخله واختفي بكل ما يحتويه عن الدنيا ….


فلنتابع كيف يصل أبطال الرواية أخيرا إلى بيت عباس محمود الزنفلى … الجلاد ولنقرأ ما كتبه يوسف إدريس عنه:

….. لا تستطيع زوجته » نور   رغم الأسئلة الملحة ومحاولات التذكير أن تحدد بالضبط ماذا حدث، أو متي ؟ كل ما لاحظته أول الأمر أن عباس كان حين يذهب عنه الأصدقاء والزوار ويصبح البيت خاليا إلا منه ومنها يذهب عنه المرح والضحك الذي كان غارقا فيه، ويستمر منكس الرأس إلى أسفل، سادرا في حزن مفاجيء لا تعرف سببه يبقي هكذا بالساعة والساعتين لا يتحرك ولا يحدثها ولا يغير من وضعه،  إنما كان يحدث بين كل حين طويل وحين أن يرفع رأسه فجأة مستلا من صدره تنهيدة عميقة ثم يعود رأسه يسقط ويعود الي الحزن الشارد الذي كان فيه حتى طال الامر وواتتها الجرأة إلى سؤاله عما به فلم تظفر منه بجواب أو بقصص لابد كسر فيها ذراع واحد من الساسة أو هشم أسنان آخر ببونية ، لا تعرف نور كيف أو متي جاء اليوم الذي فطنت الي الحقيقة التي دوخها اكتشافها،  أن عباس لم يعد عباس، لقد أصبح رجلا آخر لم تره أبدا ولم تعرفه..

وقبل أن تكمل زوجة عباس القصة ونعرف منها كيف مرض مرضه الاخير وماذا بالضبط حدث له فوجئنا بشيء روعنا حقا، ارتعبت، بل بلغ رعبي حدا كاد يدفعني لترك المكان والجري بكل قواي، فما فوجئنا به كان صرخة،  أو هكذا ظنناها أول الامر،  ولكنها لم تلبث أن طالت وتغير نوعها وتحولت الي ما يشبه العواء،  ولو كنا في غابة أو حقل لما روعنا ولحسبنا العواء لذئب،  ولكنا كنا في قلب القاهرة،  وداخل بيت،  والعواء عواء ذئب ولكنك تدرك أنه صادر عن رجل وعن رجل لا يمزح أو يحاول إخافتك ولكنه يعوي حقيقة ويعبر بعوائه عن أشياء مكتومة داخله تنقطع نفسه وهو ينتزعها إلى هيئة عواء متصل مستمر لا يمكن أن تفرق بينه وبين العواء الحقيقي لذئب..

وعلى حين غرة فوجئنا بالدكتور شوقي يندفع من الصالة  نحو حجرة عباس الزنفلى فاندفعنا خلفه ، واجه الدكتور شوقى عباس الزنفلى، العسكرى الأسود، ليصرخ فيه:

- ما تستعبطش… ما تعملش انك ناسي… مش فاكر العنبر ؟   مش فاكر علق الساعة خمسة ؟ مش فاكر دور تسعة ؟   مش فاكر النبابيت ؟  مش فاكر الكرباج ؟ مش فاكر الدم ؟ فين كرباجك وديته فين ؟ فين صراخك يا وَحْش فين ؟ فين نعل جزمتك الحديد؟ فين كفك ؟ فين صوابعك ؟ فين النار فين ؟ بص لي وانطق واتكلم وصرّخ  زي زمان .. سمعني صوتك  ... صرّخ يا عسكري ياسود ... بص لي وانطق واتكلم واصرخ...  ماتعملش ناسي... وان عملت أفكرك... حالا أفكرك...

ولا أعرف كيف استطاع شوقي في تلك الومضة المتناهية الصغر من الزمن أن يخلع جاكتته وقميصه،  ويرفع فانلته ويكتشف ظهره،  ويا لهول ما وقعت عليه أبصارنا…  لم يكن في ظهره مكان واحد له شكل الجلد أو مظهره..  كل جلده كان ندوبا بشعة تمتد بالطول والعرض وتتجمع في هضاب مندملة وتكشف عن مناطق غائرة،  في قاعها تكاد تبدو عظام الضلوع… مشهد بشع يجعل القشعريرة تسري في جسدك،  لا لمجرد مرآه وانما لتساؤلك عن القسوة المتوحشة التي أحدثت كل ما تراه…  لكأن ذئبا مجنونا أو غولا قد أعمل أنيابه وأظافره في ظهر شوقي نهشا وتقطيعا وفتكا…  في جزء من الثانية كان قد فعل هذا، فعله وهو يستدير ليواجه عباس بنظره وصراخه لا يكف :

- إذا كنت نسيتني فمش ممكن حتنسي… مش رح تنسي اللي عملته…  دلوقتي افتكرت ؟

وكما بدأ الدكتور شوقى فجأة كفّ فجأة عن عرض ظهره واستدار وهو يصرخ :

- لازم تفتكر كويس ما تنساش،  أنا مش ناسي،  ولا حد ناسي، ولاحد حينسي،  انطق واتكلم واصرخ وقول انك فاكر،  انطق..

وروعت لما حدث… للطريقة التي كان شوقي يصرخ بها،  للصوت العالي المزعج،  للهدير،  للصراخ وكيف ظل يعلو،  وللكلمات المفهومة وقد بدأت تصبح غير مفهومة أو متبينة ثم كيف،  لعلوّها بدأت تفقد شكل الكلمات ويصبح كل ما يصدر عنه آخر الأمر مجرد خيط متصل طويل مكون من أشياء لاندري إن كانت حقدا أو أنينا أو تألـمـا وبكاء،  وكيف بدأ خيطها يتلوي ويستحيل إلى شيء يشبه العواء،  بل إلى عواء حقيقي،  عواء مرتجف مستغيث لا يحتمله بشر  ...

والشيء المخيف أن كل هذا كان يصدر عن الدكتور شوقي مثلما صدر فى البداية عن عباس ،  وأننا كنا أنا وعبد الله والزوجة قد أصابنا الشلل لا نعرف ماذا نفعل،  ومنظر الدكتور شوقي يجعلنا نؤمن ألا قوة في الوجود تستطيع أيقافه،  لا عن الصراخ والعواء ولا عن قتل عباس الزنفلي،  ولا عن قتل أي منا لو أراد..

أما عباس فقد ظل يسكب على شوقي نظراته الميته ولا يتحرك له جفن،  ولكن  ما كاد صراخ شوقي يستحيل الي عواء حتي رأينا كأن بارقة إدراك قد تحركت فوق سطح العيون الميتة،  أعقبتها في الحال اهتزازات عاصفة لم تلبث أن تكشفت عن نظرة ذعر راحت تتعمق وتتعمق وتصبح رعبا هائلا مقيما، رعبا جعل الحياة تدب أيضا في عباس الجالس، المكوم نصف جالس،  فبدأ ينكمش على نفسه وينكمش،  ويزحف  بعيدا الي آخر الفراش،  ويصغر حجمه ويتكور.. ولم أكن أتصور أن الانسان في انكماشه يستطيع أن يصل الي هذه الدرجة من الصغر،  الدرجة التي تكاد تعتقد معها أنه لو استمر ينكمش بنفس السرعة لتلاشي حالا واختفت الكرة الانسان عن الوجود،  وربما رعبه هذا وانكماشه هو الذي جعل شوقي يطارده ويتقدم في اتجاهه ويتضخم كلما رآه ينكمش،  ويقترب كلما ابتعد، مطاردة لم يوقفها الفراش فقد ارتقاه شوقي واستمر يتعقبه ويصرخ فيه ويعوي ولا يكف عن تقدمه وعوائه إلا حين فجأة فتحت الكرة البشرية الملتصقة بالحائط،  والتي لم يعد لها مجال  للتراجع،  فتحت فمها وأطلقت ذلك العواء المزعج الذي أخافنا ونحن في الصالة،  عواء اختلط بعواء شوقي وعلا حتي أسكته،  وحتي أوقفه في مكانه لا يتكلم أو يصرخ أو يصدر عنه صوت…  عواء مرعوب أول الامر يستغيث،  ثم باك،  ثم عال مجنون مرتفع.. ثم فوجئنا بما لم نكن نتوقع أبدا.. بالعواء ينقلب الي هبهبة كهبهبة الكلب،  وبالكرة البشرية تنفرد ويمتد منها فم طويل وينفتح وينغلق في كل اتجاه ويهبهب : "هاو هاو هاو " .. وامتد الفم مرة وكاد يقضم كتف شوقي،  وجزع الاخير وبدا وكأنما قد عاد الي وعيه،  وفي قفزة كان قد غادر مكانه فوق الفراش ليصبح بعيدا عن الفم الطويل المفتوح إلى آخره…  ولم تنقطع الهبهبة،  بل حدث ما هو أكثرحين أطبق الفم المفتوح على يد الزوجة القريبة منه وبدأ يلوكها بين أسنانه ويضغط كمن يهم بالتهامها واحتملت الزوجة قليلا وهى ترجوه أن يتركها،  ولكننا وجدناها فجأة- وكأنما أدركت أن يدها على وشك أن تتمزق- تطلق صرخة أعلى من كل عواء وهبهبة، تعقبها بصرخات سمعنا على أثرها دق الجيران على الباب،  بل فوجئنا ببعضهم وقد اقتحم الحجرة ودخل… أكثر من رجل وامرأة وفي أذيالهم أطفال…  ورغم وجودهم  ووجودنا لم يجرؤ أحد على الاقتراب  من عباس وانتزاع يد الزوجة من الفم المطبق عليها،  ولم ينقذها إلا عودة الفم للهبهبة وزوال إطباقته… ووقفنا جميعا وقد انضمت الزوجة الدامعة الينا،  وبيننا وبين الفراش مسافة نترقب ما يحدث .. نترقب عباس وقد بدأ يضرب الفراش ويهبهب ويعوي ويغرس أظافره وأنيابه في قماش المرتبة ويمزقه،  ويمضغ القطن،  ويزداد هياجه.. يبدأ بضرب وجهه بكفه كمن يلطم،  ويعمل أظافره في جلده تجريحا وتمزيقا..  ونحن ننظر إليه ونعتقد أنه في الدقيقة التالية سيهدأ فلا يهدأ،  وكل ثانية تمر تزيده هياجا إلى درجة أرعبتنا وجعلت كلا  منا يفكر في مغادرة الحجرة،  لولا أن عباس أهوي بفمه على لحم ذراعه النحيلة التي كانت تبدو من كم الجلباب الممزق،  وظل يضغط وينظر إلينا بعيون ملتهبة تحترق،  ويضغط ولعابه قد غطي  الذراع العارية  ومن كثرته بدأ يتساقط ويسيل وهو لا يكف عن النهش والضغط وكأنما هو لا يحس أو يتألم،  أو كأنما الألم يدفعه الي مزيد من الهياج وغرس أسنانه في اللحم..  وكان لابد أن   يحدث ما حدث، وأن تدير النساء وجوههن، وأن ندير وجوهنا معهن، ما عدا شوقي فقد لمحته لا يستدير، وإنما يظل يتفرس في وقفة مستمتعة مريضة بما يراه، وحين عدنا مرة أخري نواجه عباس تبين أننا لم نكن قد تحاشينا الكثير باستدارتنا، فقد وجدنا وجهه قد ارتفع عن الذراع حقيقة، ولكن الدم كان يتساقط من فمه ويختلط بلعابه،  إذ بين أسنان الفم التي كانت قد انفرجت عنها الشفاه كانت هناك قطعة لحم مدماة، القطعة التي كان قد نجح في نهشها من ذراعه، ذراعه التي كانت لاتزال في مكانها فوق ركبته، ومكان العضة فيها قد أصبح جرحا متهتكا بشعا، وكان عباس الزنفلي لا يزال رغم وجود قطعة اللحم بين أسنانه يعوي ويهبهب بصوت مكتوم، وكأنه ينزف من صوته والدم قد بلل عواءه وخنقه

*   *   *

الغريب أني كنت في تلك اللحظة بالذات قد اكتشفت أن على الحائط المجاور للفراش بروازا فيه شهادة معلقة، حروفها تلمع تحت الزجاج المتسخ، والأغرب أني وجدت نفسي أترك كل ما يدور في الغرفة وأنهمك في قراءة ما في الشهادة، ولم تكن شهادة . . كانت براءة نيشان الواجب من الدرجة الثانية، فيها نفس الكلمات التي قرأتها في نفس الملف، والتي كان بصري قد ألغي كل شيء حوله وتوقف عندها، وبالذات عند كلماتها :" تقديرا لتفانيه في خدمة مصالح الوطن العليا" ..

*   *   *

وفيما عدا هذا كفتني بضع جلسات مع شوقي أن أؤمن أن الحالة التي رأيته عليها وملأتني بالأمل كانت كصحوة ما قبل الموت، وأن ما حدث له من تغيير والكائن الجديد الغريب الذي أصبحه طريق لا يمكن الرجوع منه، لا يمكن أن يعود الجلد الطبيعي مكان الندبات التي يحفل بها ظهره.. أجل ..أدركت ما فاتني إدراكه طوال سنين.. أدركت أن شوقي وقد فقد أمنه البشري مرة لن يعود أبدا مثلنا مرة أخري…

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

بعد مائة عام..!!