محمد الشعراوي
محمد الشعراوي
شجعني أخي الحبيب المثقف الأستاذ أمين القاياتي على نشر هذه الواقعة التي ظلت أعواما وراء أعوام بل عقودا وراء عقود جمرة في ضميري، وكنت أعتبرها غير قابلة للنشر بسبب بشاعتها.
سوف أطمس التفاصيل التي يمكن أن تشرح أو تفضح أطراف الحكاية، فلا الأسماء نفس الأسماء ولا الوظائف.لكنني أعاهد الله ألا أغبر من صدق أحداث الرواية وألا أقول إلا ما قد علمته ورأيته.
كان محمد الشعراوي (ليس اسمه) طبيبا مسيحيا من الصعيد أسلم، وجوبه بموقف حاد تمخض عن طرده وحرمانه من الميراث فهرب إلى القاهرة فقبض عليه بتهمة الانضمام إلى جماعات إسلامية وتكفيرية، وفي السجن عذب عذابا مروعا. ثم أوصى به ما أرمز له بالشيخ شعراوي لكنه ليس هو بل شيخ في مستواه. خرج من السجن وعين في مستشفى كنت أعمل فيه في القاهرة، وكان مديره شخصية بالغة القوة على علاقة بكل مستويات السلطة حتى قيل أن وزير الصحة كان يوسطه عند السلطة لقضاء حاجاته. قيل أنه كان كادرا أمنيا هاما وقيل أنه كان حلقة هامة للربط بين أجهزة الأمن والجماعات. وانقسمت الآراء حول حقيقة انتمائه و توجهه الحقيقي.
حكي لي محمد الشعراوي شخصيا عن تفاصيل تعذيبه، بنفس نقية بريئة لا تحمل حقدا.
وكان لدينا في المستشفى عامل لنقل أن اسمه فريد الأطرش (ليس اسمه) ، كان به نوع من البله يجعله مثار الضحك والسخرية، وكان جسده غير متناسق بصورة عجيبة، فهو طويل جدا، ومنحن،و تصل يداه الطويلتان إلى ركبته وهو واقف. وكان حجم كفه هائلا.
ويوما كان محمد الشعراوي بعد التحاقه بالعمل بأيام جالسا في مكتبي، وحدث قدرا أن فريد الأطرش دخل لشأن ما، وكان عندما يقف أمام أحد رؤسائه يرتجف رغم ضخامته. كان يرتجف، ولم ير محمد الشعراوي الجالس معي، والذي انتفض في رعب شديد بل قفز من مقعده وهو يهتف: فريد بيه.. فريد بيه.. أهلا وسهلا.. تفضل بالجلوس مكاني، واشرب أنت الشاي الذي كنت سأشربه!
ذهلت!! ضرفت فريد على عجل لأسأل محمد الشعراوي عن هذا الموقف فقال وهو يرتجف: فريد بيه هو الذي كان يعذبني في السجن ويا لقسوة تعذيبه وضخامة كفه.
كنت أتعاطف معه كزميل في محنة جوبه بقسوة وعدم تفهم ولا رحمة من المجتمع، وكنت أعامله معاملة خاصة، وفجأة علمت أن رئيس العمل نقله من المستشفى حيث كان يحظى بالطعام والسكن إلى مكان بعيد ليس فيه مبيت ولا طعام. وقال رئيس المستشفى أنه اكتشف عجزا خطيرا في أمبولات المورفين التي كانت موجودة في عهدته كنائب تخدير.
انقطعت أخباره عني لفترة حتى فوجئت به يطرق بابي ليقول لي كلمة واحدة:
- أنا جعان!
أخرجت ١٠٠ جنيه أعطيها له (كان الجنيه يساوي دولارا) لكنه رفض قائلا: سآخذ منك عشرة جنيهات فقط آكل بها. رحبت به وقلت له ألا يتردد في الحضور إليّ في أي وقت ليطلب ما يشاء.
في زيارة تالية سألته عن الصدام بينه وبين رئيسه وعن الشائعات حول تبديد المورفين، فقال لي أنه مظلوم فيها، وأن الرئيس الأعلى كان يرسل نائبه ليأخذ منه أمبولات المورفين لأن أحد أصدقائه مصاب بالسرطان ويحقن بها. في البداية لم أكن أمانع، ولكن بعد زيادة الأمبولات خفت ورفضت وطلبت التوقيع باستلام الأمبولات، فتعرضت لضغوط كان منها نقلى من المستشفى حيث لا طعام ولا سكن، وفي نفس الوقت كان حجم العجز عندي قد وصل إلى ٢٠٠ أمبول، وهي كمية تكفي للحكم عليّ بالمؤبد غير الفضيحة والعار. توسلت إليهم أن يسددوها على تذاكر المرضى كما كانوا يفعلون لكنهم رفضوا، وأنا الآن تحت تهديدهم الدائم: لو تكلمت سأسجن سجنا مؤبدا.
كنت متعاطفا معه إلى حد كبير، وزاد إلحاحي عليه كي يقبل مني نقودا أكثر، لكنه رفض قائلا:
- أنت الشخص الوحيد في هذه الدنيا الذي يصدقني ويتعاطف معي وما زال يحترمني، وذلك أهم من أي عطاء تعطيه لي.
حاولت بمختلف الطرق لكنه كان مرعوبا من السجن من تهديدهم.
تباعدت زياراته، وبدأت أسمع عن تدهور حاله وسيطرة مجموعة سيئة من حثالة الناس عليه، وأن حاله تدهور حتى أدمن المخدرات. حاولت الاتصال به لكنني لم أعرف مكانه.
وبعد أسابيع وربما شهور، سمعت أنه مات.
هل كنت أستطيع أن ألقى الله يوم القيامة دون أن أروي لكم هذه الواقعة؟
د محمد عباس
تعليقات
إرسال تعليق