والد الشهيدة آيات الأخرس
مهاتفة مع والد الشهيدة آيات الأخرس
بقلم د.محمد عباس
الشعب ٣١-٥-٢٠٠٢
هل كان الألم سيكون أكثر لو أنهم شقوا صدرى وفتحوا قلبى ووضعوا جمرة نار فيه؟
هل كان الألم سيكون أكثر؟..
على الطرف الآخر من الهاتف كان الشيخ محمد الأخرس.. والد الشهيدة آيات.. والتى يرفض القردة والخنازير تسليم رفاتها الطاهر إليه حتى الآن..
على الطرف الآخر كان..
وكنت أحمل على كاهلى مليارا وربع مليار عار..
كنت أسأله عن حاله وكأننى لا أعرف..
وكأننا لا نعرف..
وكأنكم لا تعرفون..
وكان الخزى يحاصرنى..
مليار وربع مليار خزى..
وكان الرجل يجيب:
- الحمد لله.. صابرون صامدون..
وبعد صمت دوّى سكونه فى أذنىّ أعلى من أى صوت آخر جاءتنى كلماته..
هل قلت جاءتنى كلماته؟
كيف إذن يكون مجيء النار المتقدة بلهيب الجمر المتأجج..
هل قلت جاءت كلماته..
كيف إذن يكون مجيء صوت انطلاق رصاصة عندما يطرق أزيزها أذنيك..
نعم.. صوت رصاصة..
لكنها ليست أى رصاصة..
بل بالذات تلك الرصاصة التى تخترق جسدك أنت كيف يكون دويها فى أذنيك أنت؟
هل قلت كلماته..؟..
نعم.. كانت كلماته..
وكان يقول:
- كانوا هنا منذ الثالثة صباحا حتى الحادية عشرة ظهرا..
وسألته كأننى لا أعرف، وكأننا لا نعرف، وكأنكم لا تعرفون يا مليارا وربع مليار عجز..
سألته:
- من هم؟!..
وجاءتنى كلمـــــــاته:
- الصهاينة.. كانوا هنا.. قلبوا كل شئ فى البيت.. وعدا الإهانات فقد اعتقلوا شقيقها الأكبر والأوسط.. قبل الفجر جاءوا.. وكانت مكبرات الصوت تسبقهم: "آل آيات الأخرس : محظور عليهم التجول".. وكانوا يريدون هدم البيت.. وربما يفعلون..
يا الله يا الله يا الله.. واحد.. اثنين.. ثلاثة.. أربعة..
لم أكن أنا من يتكلم..
كان هو:
- أربع دبابات ومدرعتين تحاصر المنزل..
كان هو الذى تكلم..
وكنت أنا الذى أسمع الدوى و أسمع الهدير و أسمع الأبواق..
وكان يحاصرنى مليارا وربع مليار عار..
ومليارا وربع مليار خزى..
ومليارا وربع مليار عجز..
وطال الصمت..
طال وثقل على القلب..
واشتعل القلب..
كأنما شقوا صدرى وفتحوا قلبى ووضعوا جمرة نار فيه..جمر نار فيه.. مجمرة نار فيه..
حطّ على كاهلى حمل الصمت الثقيل فناء به ولم يكن لدىّ من سبيل إلا أن أقطع دوىّ الصمت بصمت الكلام..
نعم.. لم يكن لدىّ من سبيل إلا أن أقطع دوىّ الصمت بصمت الكلام..
ليس فى العبارة خطأ..
فقد ثقل علىّ الصمت المشحون بالمعنى.. الصمت الصارخ بالمعنى.. ولم يكن لدى من سبيل إلا أن أقطع توتر هذا الصمت الحاد كحد السيف حين راح بلا صوت يطعن ضمائرنا فتنزف وتنزف وتنزف ولم يكن لدىّ من سبيل إلا أن أتفوه بكلام لا معنى له.. لا غاية منه إلا الهروب من الصمت المشحون الحاد..
نعم ..
كان علىّ أن أهرب من الصمت الصارخ إلى الكلام الأخرس..
قلت لوالد آيات الأخرس:
- هل أستطيع أن أفعل أى شئ..
كيف لم يقتلنى العار قبل أن أنطق بها.. ليس عارا واحدا بل مليارا وربع مليار عار..
ومليارا وربع مليار خزى..
ومليارا وربع مليار عجز..
هبط الصمت ساد الصمت خيّم الصمت أنّ الصمت ناء الصمت ناح الصمت فاض الصمت هتف الصمت صرخ الصمت نطق الصمت بلا صوت: "اخسأ".. دائما كنت تستطيع لكنك لم تفعل.. كنتم تستطيعون فلم تفعلوا .. وردد فراغ الصمت دوى الكلام فإذا بصدى كلمة " اخسأ" يتكاثر ويتكاثر ويتكاثر حتى بلغ مليارا وربع مليار : " اخسأ" … فلكل واحد ممن لم يفعلوا شيئا كلمة: اخسأ"..
اخسأ .. اخسأ .. اخسأ..
***
لو أنهم شقوا صدرى وفتحوا قلبى ووضعوا جمرة فيه؟
هل كان الألم سيكون أكثر؟..
***
- ادعوا لنا..
كانت هذه آخر كلمة فى المهاتفة..
كتمت الصرخة:
- ولا هذه أيضا يا أبا آيات الأخرس.. فمثلنا لا يستجاب لهم دعاء..
وضعت المسماع و أنا أتخيل أن ألسنة لهب الجمر المتأجج فى قلبى ستمتد إلى المسماع فينصهر..
***
حتى كلمة التقريع والتأنيب التى ظللنا خمسة قرون نبكت بها أنفسنا لم يعد من حقنا أن نقولها:
"ابكوا كالنساء ملكا لم تحافظوا عليه كالرجال"..
لم يعد من حقنا أن نقولها..
فآيات الأخرس كانت امرأة..
لم تجلس لتبكى بل ذهبت تجاهد وتستشهد وجلسنا نحن القواعد نجاهد بالعويل والدموع والألم لا ينتظر منا أبوها إلا دعاء يعلم ونعلم أنه لن يستجاب..
***
كان سمعى قد تدنس بالأزيز والهدير والصوت العبري..
وهو دنس احترت كيف أتطهر منه..
ووسط الدنس رحت أقول لنفسى أن ما يحدث الآن مع أسرة الشهيدة آيات الأخرس هو خطة مرسومة للتنكيل بأسر الشهداء كى يجعلوا كل راغب فى الاستشهاد يفكر ألف مرة فيما سيحيق بأسرته بعد استشهاده..
أبناء القردة والخنازير يحاولون تدمير الجذور بعد أن قطعوا الفروع وقطفوا الثمر..
وهى خطة لا يواجهها المليار وربع المليار إلا بصمت العار وعار الصمت وخزى العجز وعجز الخزى..
***
عام 67 هزمنا يا آيات..
وخدعنا محمد حسنين هيكل.. أو لعله كان – وما يزال- مخدوعا هو الآخر عندما قال – ربما ليخفف وطأة العار والخزى- أن طائراتنا لو لم تدمر على الأرض لدمرت فى الفضاء خلال أيام قليلة ولما اختلفت النتيجة..
كان يحسبها طائرة لطائرة وتدريبا لتدريب وصاروخا لصاروخ وقنبلة لقنبلة ودبابة لدبابة..
لم يحسبها يا آيات يا حبيبة القلب عقيدة لعقيدة..
لم يحسبها يا آيات لو أن المليون مجند – أو حتى نصف المليون- فى سيناء والجولان والضفة، حتى بعد تدمير كل الطائرات ونسف كل الدبابات، لو أنهم حاربوا كما حارب أهلك يا آيات فى جنين..
وكما حاربت أنت نفسك يا آيات..
ما يدميني الآن يا آيات.. ما يعيينى.. ما يقهرنى.. ما يخزينى أن أقل القليل من حكامنا كان جديرا بأن نقطف يا حبيبة القلب ثمرة استشهادك.
الكلب الشرس المجرم شارون لعب لعبة بالغة الخطورة.. كان كلاعب ألعاب خطرة يسير فى سيرك على حبل مشدود.. وكانت أقل حركة تقوم بها دولنا أو جيوشنا كفيلة بإسقاطه ليسقط إلى الأبد خيار الغطرسة والعنف.. وليبدأ العد التنازلى لنهاية إسرائيل..
ما يدمينى يا آيات أن دولنا وحكوماتنا لم تقف على الحياد.. بل كانت تنصر شارون وتناصره.. أما جيوشنا فقد كانت تحمى حدود إسرائيل كي يتفرغ جيشها لكم..
***
ذلك ما يشعل النار فى قلبى يا آيات.. ويا أبا آيات..
فهل..
هل كان الألم سيكون أكثر لو أنهم شقوا صدرى وفتحوا قلبى ووضعوا جمرة فيه؟
هل كان الألم سيكون أكثر؟؟؟!!!
***
***
***
تعليقات
إرسال تعليق