مقدمة كتاب الوعي ينزف من ثقوب الذاكرة

 

المقدمة

***

لو أنك يا أمة آمنت حقا لما كان هذا الحالُ حالَـَك..

أصلحى عقيدتك يا أمة فإن هذا السواد حالِـك..

إننى أكاد أفهم الآن - فى عذاب لا يوصف -  بصيصا من معنى الآية القرآنية "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"..

تلك هى الأمانة يا أمة.. الأمانة التى عجزت عن حملها السماوات والأرض..

الأمانــة .. العقيــدة..

عقيدة لا إله إلا الله ..

تلك التى اصطفانا بها الله وميزنا على العالمين..

لا إله إلا الله..

تلك هى الفاصلة بيننا وبين الآخرين..

فهل حافظنا عليها بحقها..

لا والله..

ولكم كان يرعبنى أن أتهم واحدا بالكفر فأبوء به..

لذلك اقتصرت على اتهام المنهج والفكر لا الأفراد ( لم أتجاوز ذلك إلا فى أزمة الوليمة.. وكنت بحمد الله على صواب)..

كنت أقترب من هذه المنطقة برعب وحذر..

الآن ينفجر فىَّ اللغم يا أمة رغم الحرص والحذر..

فبعد الحضيض الذى وصلنا إليه لم يعد ثمة مناص من المفاصلة: إما إيمان وإما كفر.. ذلك يا أمة أن الداء وبيل..

والنار تكوينى أتساءل:  هل سلمت عقيدتك يا أمة عندما زاغت قلوب ظالميك الذين مرق بعضهم من الإيمان مروق السهم من الرمية؟!..

إننى أعلم أننى بهذا التساؤل أفتح بابا لنار من نيران الأخدود على نفسى، ولكن مرحبا بها، لا والله .. ليس لكى يقال شجاع.. ولكن خوفى يا رب منك أكثر من خوفى منهم..

 ثم أننى وحق جلالك وعزتك يا رب: لا أطلب منك ميثاقا أن أجاهد فيك بشرط ألا أوذى..  لكنى أسألك العفو ثم لا أبالى على أى جنب كان فى الله مصرعى..

يا أمـة ..

لست أدعى لنفسى الصواب والحكمة.. كما أننى لن أخدعكم أبدا لأدعى أننى وحدى اكتشفت طريق النجاة.. فما أنا إلا بقايا من أعظم و أنبل وأرقى حضارة فى الدنيا.. حضارة لا إله إلا الله.. نعم بقايا من  مزقة شراع تمزق.. وشظية سفينة تحطمت.. ومزقة الشراع تدرك أنها وحدها لا تدفع السفينة أبدا ثم أنه لا سفينة.. وشظية الخشب تدرك أنها لا يمكن وحدها أن تكون سفينة أبدا ثم أنه لا شراع.. بك يا أمة يلتئم الصدع ويرتق الفتق وتعود المزق شراعا والشظايا سفينة نأوى إليها فتعصمنا من جبال الماء.. من الطوفان يا أمة.. كل واحد منا معلق بشظية أو يمسك مزقة من شراع.. بك يا أمة.. بكم يا قراء.. حينما يدرك كل واحد منكم أنه مزقة وشظية.. وحين يجاهد كى يقترب من الآخرين كى تعود السفينة سفينة والشراع شراعا.. بك يا أمة.. وبكم يا قـراء..

العقيدة يا أمـة..

كيف بكم يا ناس.

كيف بكم وقد تركتم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حتى تجبر حكامكم فأذلوكم وفسق مترفوكم  فأهلكوكم  وضل مثقفوكم فأضلوكم .. وتحالفت أضلاع المثلث ما بين الجبار الظالم  والمترف الفاسق والمثقف الضال المضل وتكالبوا عليكم من خلال أجهزة الإعلام  كى يستنزفوا الوعى ويشوهوا الذاكرة ويطفئوا نور العقيدة  حتى أننى أظن الأمة تحتاج من جديد إلى رعيل تتعقب به أضلاع المثلث  المدنس، كذلك الرعيل الصالح الذى أخذ فى قرون الإسلام الأولى يتعقب أصحاب الأحاديث الموضوعة الذين كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأننا نحتاج إلى صياغة عصرية تقلد كتب الجرح والتعديل كى تكشف لنا من يزيفون وعينا ..  فتصف كاتبا بأنه فاسق لا تقبل مقالته، والآخر بأنه كذاب لا تقبل روايته، والثالث بأنه سكير لا تقبل شهادته، والرابع بأنه لص لا ترجى أمانته، والخامس بأنه خائن لا يؤتمن حكمه، والسادس بأنه شاذ، والسابع أنه مجرم والثامن بأنه ضعيف العقل والتاسع أنه شيطان والعاشر  بأنه يجمع بين هذه الموبقات جميعا، وهكذا دواليك..

تشرذمت يا أمة. فهل تعرفين يا أمة لم تشرذمت..

لأنك فقدت الدليل والمرجع..

اتبعتم هواكم.. وما دمتم قد اتبعتم هواكم فقد حق لكل واحد منكم أن يكون جزيرة معزولة.. هو مرجع نفسه.. لماذا تلومونه إذن حين لا يتفق مع آخرين هم مراجع نفوسهم.. فلماذا فقدت مقياسك ومرجعك يا أمة؟!..

لماذا فقد بعض كتابك عقولهم وضمائرهم فلم تقوّميهم..

تتركين وعيك ينزف وذاكرتك تستنزف وأنت سادرة فى خلافات واختلافات ما أنزل الله بها من سلطان..

ولماذا أطعتم أوثانكم وعصيتم الله.. نعم أوثان.. فآيات الأوثان لم تنسخ.. هل تلوت يا أمة قول الله:

{قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.

فتربصى يا أمة .. تربصى..

يقول الكاتب الفرنسى إبتين لامى : " إن مقاومة الإسلام بالقوة تزيده انتشارا، أما الوسيلة الفعالة لهدمه وتقويض دعائمه فهى تربية بنيه فى المدارس التبشيرية أو المسيحية، ونفث جراثيم الإلحاد فى صدورهم منذ نشأتهم من حيث لا يشعرون، فإن لم يتنصروا فقد أصبحوا لا مسلمين ولا مسيحيين"..

أما زويمر كبير المبشرين فى العالم الإسلامى فيتحدث عن هدفهم من عزل القرآن عن الناشئة وتشويه تاريخ الإسلام لتكوين مجتمع لا هو يهودى ولا هو مسيحى ولا هو مسلم فيقول: " ناشئة مضطربة مادية الأغراض لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقا فلا للدين كرامة ولا للوطن حرمة.."..

ويقول جب: " تغريب الشرق إنما يقصد به إلى قطع صلة الشرق بماضيه جهد المستطاع فى كل ناحية من النواحى..وإذا أمكن قطع صلة التفكير والعقيدة بين الماضى والحاضر، حتى إذا أمكن صبغ ماضى الشرق بلون قاتم مظلم يرغب عنه أهله فقدت شعوب الشرق صلتها بماضيها ففقدت بذلك أعظم جانب من حيويتها.. وبقيت عيالا على الغرب تتطلع إليه تطلع إعجاب وتقديس وعادة..وترى فى خضوعها له شرفا كبيرا.."..

لماذا تركت الجهاد يا أمة..

ألفان فى جروزنى مرغوا فى الطين ثانى أقوى دولة فى العالم.. ماذا لو كانوا عشرة آلاف.. ماذا لو كانوا مائة ألف.. ماذا لو كانوا مليونا.. وهل كان يمكن حينها يا أمة لا إله إلا الله أن ينتهكنا ذلك العالم الداعر كما يفعل الآن..

لماذا تركت الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يا أمة وتخليت عن الساحة لأضلاع المثلث المدنس .. لماذا تركتيهم  يخدعونك باستقطاب بعض شيوخ السلاطين حولهم ذرا للرماد فى العيون.. ثم يحاصرون بعد ذلك شيوخك الحقيقيين وعلماءك و رموزك وفقهاءك، حتى أصبحت كلمة الشيخ تعنى فى قاموس أضلاع المثلث المنكود تخلفا جديرا بالسخرية،  والفقيه كل دنايا النفس البشرية الجديرة بالازدراء.. والجرأة على الله والمقدسات تحضرا والكفر تنورا والعهر حرية المرأة.. يفعلون ذلك ثم يهاجمون بكل الضراوة السفيهة أعظم رموزنا.. وذلك كله مخطط يا قراء.. يدرُسونه ويدرّسونه فى أجهزة الأمن وأوكار المباحث.. إذ يظنون أنهم بذلك يفقدون مثل هذا الشيخ الكبير أو الفقيه العالم المثقف  بعض مهابة.. يظنون أن التجريح الشخصى يمكن أن يمنع مثله من المواجهة.. فإن لم ينجحوا فى ذلك فإنهم يأملون عن طريق كسر الهيبة أن يقللوا تأثيره على الناس..

لماذا تركتيهم يا أمة يسرقون صوتك ويزورون إرادتك، ثم لا يكتفون بهذا بل يجعلون الانتماء إلى أصغر مجالسهم تمنح حصانة للسارق والمنتهب فلا يطاله قانون، لماذا لم تصرخى فيهم أن العضوية فى بيت آل النبى لم تكن تمنح حصانة لفاطمة بنت محمد – صلى الله عليه وسلم – إذا هى سـرقت..

لم تترك لك  أضلاع المثلث المدنس يا أمة شيئا.. لا الدين ولا الدنيا..

وحتى حصنك الأخير : "القرآن" اجترءوا عليه..

***

يضم هذا الكتاب بين دفتيه خمسين مقالة نشرت بصحيفة الشعب المصرية قبل أزمة الوليمة، ولقد فوجئت أثناء إعداد الكتاب أن كل مقال منها كان  مناسبا للكتابة بعد الوليمة وكأنه يكتب خصيصا للرد على أدعياء الثقافة والتنوير، كما أن المقالات الأربع  المنشورة عن قضية الوليمة نفسها، كانت تصلح جميعها دون أزمة الوليمة لتكون الامتداد الطبيعى والخاتمة المنطقية لخمسين مقال نشرت عبر عام..

نعم، كانت المقالات أشبه بدراسة نظرية، ثم جاءت أزمة الوليمة كتطبيق عملى يثبت صواب  الدراسة النظرية.

إننى أهدى هذا الكتاب إلى الأمة كلها  ثم أخص بالإهداء  طلبة جامعة الأزهر..  قلب الأمة ووعيها العصى على التزييف .. أولئك الذين انتفضوا غيرة على دينهم.. ليدفعوا الثمن من دمائهم .. فى نقطة تحول حاسمة سيذكرها التاريخ.

كما أهديه أيضا إلى السابقين الصالحين، الذين حاولوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فتعرضوا للتشويه.. ثم للحصار المفروض عليهم  من أضلاع المثلث المنكود ، وأخص من هؤلاء : العلامة محمود شاكر الذى حمل الراية فى القرن العشرين.. و أشهد أنه حملها باقتدار، وحاولت أن أحملها بعده فقصر جهدى، فقصرت، لم أسع سعيه ولم أفر فريه ولم أجاهد جهاده، ولم أعط لراية دينك يا رب حقها، فاعف عنى واغفر لى عجزى  فقد حاولت وحق جلالك ما أستطيع..

لقد واجهوا العلامة محمود شاكر بمنتهى البطش والعنف، أغلقوا المجلة التى كان يكتب فيها، وحاصروه وحاولوا تشويه صورته ثم حبسوه، وهم يتبعون معى نفس الوسائل والطرق، إذ يبدو أن الممنوع هو إيقاظ الأمة كى تتنبه لحجم حجم المؤامرة التى تحاك لها.

لكننى واثق أنهم إن نالوا منى .. وخلا الثغر الذى أقف عليه .. فسوف يتقدم من يسد الثغر ويحمل الراية.. راية الدفاع عن عقيدتنا وعن إيماننا وعن مستقبلنا وعن ثقافتنا الحقيقية .. ثقافتنا التى لا تقرأ تاريخنا بأعين أعدائنا.. ثقافتنا التى لا تستنزف وعينا.. ولا توسع من ثقوب الذاكرة.. ثقافتنا التى تعلم الناس أن معاداة الإسلام الآن وحصار الإسلاميين ليس مجرد خطيئة دينية، وإنما هو خيانة وطنية أيضا، فبعد انهيار دعاوى القومية، وحصار أقطارنا الإسلامية قطرا بعد قطر، لم يعد لنا سوى الإسلام هوية، ووطنا ودفاعا وسلاحا..

فهل رأيتم قائدا يدمر أسلحة جيشه قبل أن يخوض المعارك إلا إذا كان متحالفا مع الأعداء.. وشريكا فى المؤامرة..

نعم .. المؤامرة..

يقف الجهابذة منهم ليتحدثوا عن تفاصيل المؤامرة التى قام بها الغرب ضد الاتحاد السوفيتى حتى انهار وتفتت.. وكيف أنفق الغرب على مؤامرته تلك ألف مليار دولار.. فلا ينكر من السامعين أحد.. بل ويتبارى كل منهم فى إضافة المزيد.. ويتحدث العالمون ببواطن الأمور عن المؤامرة التى حاكتها أمريكا ضد بريطانيا وفرنسا فى حرب السويس كى تحل امبراطوريتها الفتية محل امبراطورياتهم المتهاوية، فلا ينكر عليه أحد ما ذهب إليه بل يقدمون المزيد من التفاصيل.. يتحدثون عن مؤامرات الغرب على جنوب شرق آسيا والصين واليابان وأمريكا اللاتينية فلا ينكر منكر..

إلا الإسلام والمسلمين.. ما أن يتصدى أحد لكشف فكرة المؤامرة حتى يسلقونه بألسنة حداد. نفس الألسنة التى تبارت فى إضافة المزيد ووشى التفاصيل الدقيقة للمؤامرات ضد أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية.. نفس الألسنة تعوى عواء ذئاب حين نتحدث عن المؤامرة ضد الإسلام، يصرخون: هؤلاء المتأسلمون الظلاميون غير القادرين على التكيف مع العالم.. لا يكفون عن الحديث عن المؤامرة..

نعم.. هناك مؤامرة هائلة نرى ونحس آثارها تحيط بنا كأذرع الأخطبوط.. هناك مؤامرة على الأمة وعلى الأوطان وعلى الدول وعلى الصناعة والتجارة والزراعة والحرب.. وعلى الثقافة..

ولقد كانت معركة الوليمة إحدى هذه التجليات، كما أن دخول البورصة مجال الثقافة وتكوين الشركات العملاقة التى تذوب فيها حدود الأوطان لتعبر حدود القارات، وتتغير الولاءات،  دليل آخر.

منذ أعوام تسيطر علـىّ فكرة تأصيل نظرية المؤامرة، والفكرة يقين لكن المراجع قليلة، وإننى أدعو القراء والكتاب والمهتمين كل فى مجاله أن يمدونى بما يمكننى من إنجاز هذا الكتاب. راجيا منهم المراسلة على موقعى على شبكة الإنترنت: www.mohamadabbas.com أو على بريدى الإليكترونى: mohamadabbas@usa.net

نعم.. هناك مؤامرة تحاك لنا منذ أكثر من ألف عام، مؤامرة تستهدف انتزاع الدين من قلوبنا، لنساس بعد ذلك كقطيع من الخراف يندفع نحو المجزرة وهو فرح بها نشوان.

وليس لنا ولا أمامنا إلا الإسلام.. لا لنحميه بل ليحمينا..

 إننا لا نختار الإسلام لأنه يحل لنا مشاكل الدنيا، بل إننا نتجاوز شعار: "الإسلام هو الحل"  لكى نقول : بل حتى  لو لم يكن الإسلام هو الحل لمشاكل الدنيا فلا اختيار لنا سـواه..

نعم .. ليس ثمة اختيار إلا الإسلام..و أن سياستنا وحياتنا يجب أن تسير فى هذا الاتجاه..وكذلك ثقافتنا.. ثقافتنا التى تقدس ربنا فلا رب لنا سواه.. ولا منتهى لنا إلا عنده.. ثقافتنا المؤمنة.. ثقافتنا التى لا تبجل كتابا فى الدنيا كما تبجل كتاب الله.. ثقافتنا التى  تحترم ديننا ونبينا وأسلافنا الصالحين .. وتعتز بهـم .. وتتيه فخارا على العالمـين..

تعليقات

  1. اللهم نشكوا اليك ضعف قوتنا وقله حيلتنا وهواننا على الناس
    ليس لها من دون الله كاشفه

    ردحذف
  2. ربنا يبارك في عمرك دكتور محمد....اللهم استعملنا ولاتستبدلنا

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتابي: الجزء الأول

أيهم أولى بالاتباع: علماء السلاطبن فقهاء الخليج أم هؤلاء.